أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ادريس الواغيش - فضاءَاتُ الطفولة في “أيْلَة“














المزيد.....

فضاءَاتُ الطفولة في “أيْلَة“


ادريس الواغيش

الحوار المتمدن-العدد: 7961 - 2024 / 4 / 28 - 08:32
المحور: الادب والفن
    


في البَدْءِ كان جمال الطبيعة وخلق الله، ثم جمال الفضاء في بيت الأسرة والجلوس حول البرّاد والصّينية بالقرب من ساقية العرصة، وظلال الصّلصال فوق الألواح المُعلقة على حيطان “المْسِيد“ في الجامع، والنظر إلى أبعد مدى مُمكنٍ من كديات تاونات في جبال الريف، ثم رسم خرائط شبكة الطرقات على مقاسات أقدامنا الحافيات، قبل أن يظهر أمامنا بياض مدرسة ابتدائية في سيدي عبد الرّحمن، وبعدها ظهر شيء مختلف في حياتنا، تجلى في قبح أعمال بعض الناس في الدّوّار والقبيلة، واعوجاج في سلوكاتهم اليومية. لم نكن نعرف ما معنى الغد، ولا نخطط له، كنا نكتفي بما نعيشه في حاضر يومنا، لا ما يخبئه لنا غدنا، وإن كنا نؤمن كما غيرنا باليوم الآخر والقدر خيره وشرّه.
في فضاءات “أيلة“انبثقت ملامح شخصيات كثيرة من جيل قريتنا الصغيرة، وفيها بدأت مرحلة التأسيس للغد، وما بعدَ الغد، قبل أن تتمدّد سلالة قريتنا من الجيل الرابع والخامس وتنتشر في أنحاء كثيرة من شرق الأرض وغربها. لم نكن ننحني برؤوسنا بحثا عن بياض الرّيال أو الدّرهم، كنا نحرص على أن تظل الرّؤوس دائما مرفوعة في كبرياء للاستمتاع بزُرقة السماء، واستنشاق الهواء أو رؤية سحب الخريف، وهي تمرّ في انتظام تباعا قادمة من جهة الغرب، لكي تمر مغمضة العينين إلى حتفها النهائي في جهة الشرق، تتلوها قطرات فصل الشتاء وزخات المطر الرّبيعي، كي تستفيق سنابل القمح من سباتها، وتنتصبُ في مزارع ربيعنا. قريتي تعرفني كما أعرفها، أعزّها بكل قبحها وجمالها، فيها كنت أبدأ روتيني اليومي صباحا بشرب نصف غلاية من الشاي، وأكتفي بأكل خبز الشعير والزيت والزيتون، قبل أن أختفي بين غابات البطم والزيتون والخروب والتين بحثا عن بيض الطيور وفراخها. كنت مُدمّرًا صغيرًا، وحشٌ آدميٌّ لا تُغتفر جرائمه، ألم أقل لكم أنه واجب عليّ اليوم أن أحجّ إلى بيت الله الحرام وأطيل في الصلوات الخمس، عسى أن يغفر الله لي ما تقدّم وتأخّر من تلك الذنوب والآثام والمعاصي.
كنت أرى جمال قريتي بكل الألوان، بُنّية في الخريف، رمادية في الشتاء، خضراء في الربيع ثم صفراء في الصيف. أربعة ألوان مختلفة تتناوب على عيوننا في كل سنة، وكنا نستمتع بجمالها وروعتها، بدءا بعملية الحرث وانتهاء بالحصاد وعملية الدّرس. كل فصل من هذه الفصول الأربعة تتبعه قصص حُبٍّ وحكايات غرام، تنتهي في الغالب بقصص حُبّ فاشلة أو أعراس في الصيف، إن نجحت ووصلت إلى آخر أطوارها، وللأعراس الصيف في قريتي طعم آخر، يختلف عن باقي طقوس أرض الله الواسعة.
في “أيلة“ قليل مني، معجون بأجزاء تتكاثر فيّ بفاس. وفي تلك القرية الصغيرة المعلقة في مقدمة جبال الريف تمتزج الأرواح بالأتربة، الأموات بالأحياء، الوقائع الحقيقية بالحكايات والأساطير، الحاضر بالماضي، قبل أن يصبح مُجرّد حنين ونوستالجيا. ولأنني مشيت حافي القدمين في طين مسالكها الضيقة، وقفزت بكل حذر، وأنا صغير كالجدي في غدران ورغة وعلى كدياتها المسنّنة في الصباحات الباكرة، كما في المساءات المتأخرة من أعراس الصيف، حتى هدّت ركبتيّ صعودا ونزولا، تمكنت من معرفة خبايا الأمكنة وأسرارها جيّدا. كنت أعرف لغات قريتي وصمتها، وعدد التواءات الطرقات والمنعرجات فيها، كما كان يعرف سيدنا سليمان منطق الطير ولغة الحيوانات. وقريتي “أيلة“ أيضا كانت تعرفني، كما كنت أنا أعرفها. أخاطبها بحميمية مفردات قاموسها الفوضوي، وأكاد أجزم أنها كانت تسمعني.
عشت فيها امتلاء خارقا بالسعادة والشقاء، كنت أترجّل حافيَ القدمين لأقطف ما أحبه من الفاكهة المشتهاة، وأتعمّد شمّ رائحة القمح أواخر فصل الرّبيع والتراب الطازج مِلءَ الرّئتين، عندما تهبُّ علينا تباشير هطول المطر الخريفي. وحين أدقق اليوم نظراتي في براري “أيلة“ ومسالكها الوعرة، أستحضر شقاوة طفولتي والمراهقة، أشعر برغبتها الكبيرة في مخاطبتي. حفظت أسماءها في كل الأمكنة، وما فوقها عن ظهر قلب: أشجار التين والكروم، ألوان الطين والحجر، تسلقت كثيرا أشجار الصفصاف والبطم والخروب فيها كسنجاب طائش، وصعدت أعالي الجبال ومنحدراتها الحادة بحرفية الماعز الجبيلي المتهوّر، ولم تسلم مني أشجار الزيتون والبلوط والدّفلى، تفنّنت في امتصاص العنب الحلو والحامض من أثداء الدالية طريًّا، حفظت أسماء الفقهاء المتعاقبين على مسجدها الطيني، وعدّدت خطوات العابرين والمغرمين في الطرقات والأمكنة: قبر الماء، المحيز، عين حمزة، السوياق، الطلاقة البيضا، أونة، الصّفّاح، مرج كايزة...إلخ.
شربت من مياه عيونها وينابيعها، سبحت في بركات أصغر وديانها، وعمت في أعمق غدران نهر ورغة العظيم، القادم إلينا في كبرياء شموخ جبال الريف. اصطدت السمك باليد والصنارة والعصا، والقميص المُمزّق والشبكة التقليدية. كنت أعود في كثير من المرّات فرحا بما حققته من إنجاز وفتح مُبين، وبين يديَّ بضع سمكات صغيرات وأخرى متوسطات، إلا أن أمي رحمها الله كانت ترفض في كل مرة أن تضعها في المقلاة، وتقول لي أنني كنت قاسيا أكثر من اللازم باصطياد تلك السمكات النحيفات. كانت تتأذّى من رؤية ذلك، وتلومني كثيرا على ما فعلت، وترى بعاطفة الأمومة الطافحة فيها أن في ذلك اغتصاب لحياتها، وأنني لم أتركها في مأمن، لكي تكمل نموّها الطبيعي في غدرانها. وها نحن اليوم قد هرمنا وتقدمنا في العُمر قليلا، كما بعض أشجار التين والزيتون هناك في “أيلة“، وازداد بياض البيوتات انتشارا، كما بياض شعر رؤوسنا وشواربنا، وازدادت الحركة في الطرقات.
كان البياض يقتصر يومها على حيطان المدرسة ودار “عبد السلام الغريب“ الكبيرة قرب الطريق المؤدية إلى طهر السوق وقنطرة الوادي “بين الويدان“ الصغير. وها قد كثر اليوم بياض المنازل في كل مكان، وكاد يغطي المساحات الفلاحية المزروعة بكاملها. هناك شيء ما أراه قادم في الأفق، يكاد يقترب منّي مع اقتراب هذا البياض، إنه قادم بخطوات متثاقلة، كما أكاد أراه بأمّ عينيّ من بعيد هناك...!!



#ادريس_الواغيش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسطينيُّ تَاونات
- جاسم خلف إلياس: التّـنظير الذي يَخلو من التّطبيق ناقصٌ، لا ي ...
- نوستالجيا: مَرْنِيسَة، ذاكِرَةُ زَمَانٍ وَمَكَان
- يذهبُ الكَان، ويَبقى الوَطن
- الكَانُ الإيفوَاري بنُكهَة مَغربية
- المِهرَجان التّاسِع للقصّة القصيرَة جدًّا في خنيفرَة يختتم أ ...
- صَابِر يستعرضُ بفاس ظروف ومُلابسات ترجمة كتاب «دراسَات صحرَا ...
- السّيدة لطيفة أخربَاش تُحاضر بفاس حَول التّضليل الإعلامي
- حِينَ يكُونُ الدّاعِمُ فِي حَاجَةٍ إلى دَعم...!!
- نوستالجيا: بين تاغنجا وصلاة الاستسقاء
- توحيدُ العَرب وإسعادُهم اختصاصٌ مغربي...!!
- جماعة فاس- سايس تختار ذروة حرارة غشت لتقليم الأشجار
- اللبؤات الجميلات... فخرُ المَملكة
- -شحات- الأهلي
- هذا الليل الحزين
- ثالوث المعرفة التنويرية في الغرب الإسلامي
- تاونات، من مدينة عبور إلى ملتقى للإبداع والثقافة والشعر
- قصة قصيرة: مُجرّد قِناع
- ندوة تناقش بفاس المغرب والأندلس من خلال إنتاجات لسان الدين ب ...
- نوستالجيا: تازة والبحث عن زمن صبي...!!


المزيد.....




- فتح باب الترشح لـ جائزة كتارا لشاعر الرسول لعام 2025
- الدفن عمل شاق.. تراجيديا الكتابة عند الحاجز في رواية -عبور ش ...
- أضبطه الآن .. تردد قناة Fox Movies لعرض الأفلام الأجنبية الا ...
- 20 مليون دولار ضاعت على الغناء.. موظفو حملة هاريس مهددون بعد ...
- حرب الروايات.. هل خسرت إسرائيل رهانها ضد الصحفي الفلسطيني؟
- النسور تنتظر ساعة الصفر: دعوة للثوار السنوسيين في معركة الجب ...
- المسرح في موريتانيا.. إرهاصات بنكهة سياسية وبحث متواصل عن ال ...
- هكذا تعامل الفنان المصري حكيم مع -شائعة- القبض عليه في الإما ...
- -لا أشكل تهديدًا-.. شاهد الحوار بين مذيعة CNN والروبوت الفنا ...
- مسلسل حب بلا حدود الحلقة 40 مترجمة بجودة عالية HDقصة عشق


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ادريس الواغيش - فضاءَاتُ الطفولة في “أيْلَة“