أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي الطوزي - طواف القيامة















المزيد.....

طواف القيامة


محمد علي الطوزي
مترجم وقاص وروائي


الحوار المتمدن-العدد: 7946 - 2024 / 4 / 13 - 14:22
المحور: الادب والفن
    


نور شاذ يدلف من زجاج النافذة، رائحة الرّطوبة والورق القديم تغشى الهواء. عالم لعين، وضيّق، حيث تقبع أسفار القدامى في رفوف حديدية، جنبا إلى جنب، في لؤم ونفاق ظاهر، مع الكتب المعاصرة. لم يستطع إلياس، أمين تلك المكتبة، غير الشّعور بالاحتقار العميق تجاه ذلك الفراغ، حتى ولو كان في السّنة الرابعة من وظيفته. كان بلاط الأرضية شاحبا، يميل إلى اللّون الرّمادي، على الطراز التقليدي في ابتذال. الطّاولات مصطفة في انتظام كئيب، تحذوها كراسي حديدية على الجانبين، ذات مقاعد خشبية. ضمن هذا الهيكل المتهالك في رتابته الراسخة، اعتاد الشبّان الجلوس على كراسيهم، يراجعون دروسهم الخاصة، دون أن يلمسوا أي كتاب من المكتبة. شباب يسعى إلى بؤس الأهداف داخل مدى الحياة، حتى يبلغوا الموت، فيعلقون، بشكل ساخر، في تابوت اللاشيء.
تطلّ على قاعة المكتبة مباشرة من الأعلى نافذة المدير الواسعة، بدت كعين ربّانية تطلّ على خليقته، وتراقب إلياس بصمت، في إشفاق ظاهر ربما، إذ كان كلاهما يدركان مدى بؤس هذا الصّمت.
تقدّم إليه فتى بخجل وتردّد، بدا على عينيه الإرهاق، توقّف تجاه المكتب، وهو يحمل كتابا ذا غلاف جلدي أسود، عليه زخارف حمراء وذهبيّة، تعرّف على الكتاب من الوهلة الأولى إنه "الملل والنِّحل" للشّهرستاني.
"مرحبا…" قال إلياس، سكت قليلا، منتظرا ردّ الفتى، إلّا أنّ المراهق حدّق بعينين شاردتين لبعض لحظات، قبل أن يجيبه:
-"مرحبا…سيّدي"
-"هل يمكنني مساعدتك؟"
-"نعم…نعم، أود أن أستعير هذا الكتاب"
تناول إلياس الكتاب، قبل أن يعطي للفتى ورقة تسجيل صغيرة، وقلم حبر أزرق. فانكبّ المراهق على الكتابة، يتمتم بشكل مبهم بينما يدوّن معلوماته. نصف دقيقة مرّت، ما كان يسمع فيها إلا صوت احتكاك رأس القلم على الورقة، بدا ذلك صمتا مزعجا، لسبب ما، كان أشد ثقلا على كاهل إلياس مما كان يتوقّع.
"إذا…" قال إلياس، بنبرة اهتمام مصطنعة، مما جعل الفتى يرفع رأسه عن الورقة، وينظر تجاهه مباشرة بعينين واسعتين، لكن بطريقة مبهمة، كأنه لم يتوقّع أن يحدّثه إلياس.
"نعم؟" أجاب الفتى بصوت خافت، لا يعلو عن الهمس.
-"أرى أنّه كتاب مثير للاهتمام، نادرا ما يأتي الزّوّار لاستعارة الكتب بشكل عام، فضلا عن استعارة مثل هذا كتاب القيّم"
-"آه…شكرا، على ما أظنّ…"
-"إذا سمحت لي أن أسألك…لِمَ اخترت هذا الكتاب؟"
صمت الفتى لوهلة، وقد بدا أنه يفكر بجديّة مفاجئة، كأنه رأى شيئا باطنيّا بذلك السّؤال، شيء قد تجاهله، أو حتى لم يلحظه. أجاب مبتسما بلؤم خفي "ربما أبحث عن طريقي إلى النّجاة!".
"النّجاة": ردّد إلياس الكلمة في ذهنه، وهو يحاول فك معناها بعدما غادر الشاب القاعة. دائما ما استقرَّ، في قرارة نفسه، أنّ النّجاة تأتي رفقة نهاية صاخبة، ولو كانت مؤقّتة، فهي لا تأتي إلاّ بعد انقلاب كارثي. جنون أبدي، نبوءة جديدة. الحاجة إلى النّهاية، في أقصى مداها، شهوة شديدة للهرطقة، والتي كانت تستبطنه منذ أمد، إنّها تفرز دخانا حارقا يؤجّجها هذا العصر. أعمدة هذا الوقت بدأت بالتّشقّق، والجنون شرع في التّسرّب مجدّدا، ونتائجها أشد قسوة. نوبات صرع تبعث عهدا جديدا من أنبياء اللّعنة، وهْم مقدّس سيعود بقوّة، والأرباب سيتعدّدون. أوثان ستقوم متصلّبة من أقاصي الأرض، بدع مثيرة ستنتشر تحت سقف المعابد. خلاص حقيقي من الحاضر، سندخل الغد عميانا. تنهّد إلياس بقوّة، في حماس شديد، وأخرج من حقيبته الجلدية كتابا أسودَ، رُسم بخطّ يده، وبسطه على الطَاوله، يقرأ كلَ حرف وكلَ كلمة بجنون شبه مقدّس… إنَ هذا العصر في انحراف، وملايين سيريدون نوعا من "الخلاص"، بيأس مناسب، سيركعون تلقائيَا للمسخ وراء السّور القديم.
وقف إلياس بعنف، قبل أن يغلق باب القاعة الفارغة، لاهثا. همجيّة مقدّسة تشعّ من عينيه، وابتسامته اتّسعت. انحطاط أبدي، يفيض ويسوي الأرض، أفول المنطق المغلق والقيم المعتادة، تُفسِح المجال لجيل جديد من الأنبياء اللّقيطين. ينشد طلسمات كتبة بابل بألسنة شاذة. "كما أعلاه كما أدناه" أعلن إلياس بصوت تملؤه نشوة ربّانية، وهو يحرّك يده اليسرى بتشنّج بينما يحمل كتابه الأسود باليمنى. لا شيء متصلبا، بل تتحرك الأشياء في تذبذب، بشكل أبدي.
لوهلة أولى، بدت الغرفة، أمام إلياس، محفلا خاصا به. صدمة عصبيّة تولّدت عن كلمات شاردة، يداه ترتعشان بقوة، بينما يضرب على مكتبه بقبضته اليسرى. رؤوس معلّقة تتراءى له، لقد كان له أن يرى القيامة قريبة، انهيار روحي في مشهد متردّ، ينبعث من كيان ظاهر في الأفق الفردوسي. سبعة رؤوس، تسعة وجوه، تزعق بشدّة، وصوتها الصّادح يقترب شيئا فشيئا. الأرض تحتها، ومزامير اللّعنة تُسمَع، أخطاء ربّانيّة بدأت في الظهور. في نظر إلياس، ذلك المسخ القديم، شاه هذا العالم، نتيجة وقحة للتّاريخ. سبعة منابر تحمل جثامين بشريّة، سيحدث أنّ المرء يرقُب الدّابة الهوجاء، متوقّعا رسالة أخيرة أو إعلانا مدوّيا، لكنّه، مع مرور الوقت، سيرى دورها الحقيقي كشاهد متعالٍ.
بعقل منتش، رفع إلياس يديه إلى الأعلى فجأة، وبدأ يخطو بحذر بين الطّاولات. في تناغم الفوضى، بدأ صوته الصّاخب ينشقّ عن حنجرته خالقا لحنا من آهات وكلمات زائفة. مزامير دون معنى، لكن بدت على وجه إلياس ملامح الانتصار، كأنما وجد لغة الحقيقة. تردّدت تلك المزامير برطانتها المبهمة، بينما تابع إلياس رقصته الشّاذّة. ضمّ يديه، استدار مرّتين، رفع صوته إلى حد الصّراخ تارة، و وانخفض إلى حد الهممة تارة أخرى. يخفض ذراعيه، ثم يرفعهما مجدّدا. ولا يزال اللّحن الخفي يخدّر وعيه، وحركاته ترسم ملامح آيات عقيدته المتغيّرة. كلّ دقيقة تمرّ، إلَّا وشعر إلياس أنّ عقله يخفّ تدريجيّا، وأن جسده، من خلال تلك الحركات، ينظمّ إلى محيطه، نحو كيان روحي واحد، مطيعا للحماقة الكونيّة؛ ككيان يحمل نبوءة وثنيّة. لقد أدرك تماما أنّه ظلّ لنور علىٍّ، بل هو رمز لشيء أشدَّ واقعيّة. من المضحك أنّ الجنون، في فترة ما، حمل معنى بيِّن الملامح.
طفقت الكتب تختفي شيئا فشيئا، الجدران تتقشّر، بينما إلياس يتحرّك بطريقة متشنّجة. بدأت الأصوات تعلو وتعلو أكثر، اتّسعت ابتسامته أكثر من المعتاد. لحن همجي لا يتجاوزه إلاّ رقص إلياس الثّمل. لقد رأى من نافذة محاذية له، أنّ العالم بدأ في فقدان نظامه، الشّمس تغيّر لونها كلّ ثانية، أعمدة مسودّة ضخمة ترفع السّماء، بينما الأرض باقية في نفس لونها الدّاكن. غثيان حارق ينبعث من جوفه.
"الآن سيكون يوما ملحوظا"، همس إلياس لنفسه.
كان العرق يتسرّب من جبينه، بينما تهالك على أحد الكراسي لاهثا. تناهى إلى سمعه فجأة صوت النّقر على الزّجاج، صوّب عينيه تجاه النّافذة العليا. انتصب واقفا، قبل أن يبدأ بالسّير في اتّجاه مكتبه في اضطراب. لقد كانت نظرة المدير مزيجا باردا من الخيبة والاحتقار مقترنا بغضب كظيم.



#محمد_علي_الطوزي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإرهاب الجمالي: آدام بارفري
- تحسين النسل؛ العلم المُيتّم : آدام بارفري
- الجذور الجديدة لمعاداة السامية: سلافوي جيجيك
- تاسوع الحمقى
- التّشدّق والمسالك الحارقة: سيلين، عزرا باوند
- الإرهاب الشعري: حكيم باي
- أرقى خدع النّظام: تيد كازينسكي
- هواتف السحر


المزيد.....




- “مين بيقول الطبخ للجميع” أحدث تردد قناة بطوط الجديد للأطفال ...
- اللبنانية نادين لبكي والفرنسي عمر سي ضمن لجنة تحكيم مهرجان ك ...
- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي الطوزي - طواف القيامة