أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - هيبت بافي حلبجة - نقض لودفيغ فيتجنشتاين















المزيد.....


نقض لودفيغ فيتجنشتاين


هيبت بافي حلبجة

الحوار المتمدن-العدد: 7941 - 2024 / 4 / 8 - 10:25
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


من الجمال أجمله إن فيتجنشتاين لم يؤلف سوى كتابين وموضوع بسيط وهو كونفرانس حول الأخلاق بثلاثة عشر صفحة ، ونشر الكتاب الأول في فترة حياته بعنوان الرسالة ، رسالة منطقية فلسفية ، ونشر الكتاب الثاني بعد وفاته بعنوان تحقيقات فلسفية ، وفي هذا المؤلف تغيرت نظرة فيتجنشتاين حول بعض الأسس الأصلية التي إعتمد عليها في مؤلفه الأول ، سيما في علاقة اللغة بالواقع ، لذلك لابد أن نتخطى هذا الأمر بإيجابية ونركز فقط على تلك الأسس التي لامناص منها في إدراك المنظومة الفكرية لديه :
المقدمة الأولى : يقول فيتجنشتاين في بدايات مؤلفه الرسالة ، تراكتاتوس ، إن العالم هو ماعليه من الحال ، إن الكون هو الحقائق المتحققة فعلياٌ ، هو الحال والأحوال المركبة مابين الذوات والصفات ، مابين المسند والإسناد ، مابين المحمول والموضوع ، فماذا يعني هذا :
من جانب ، إن العالم ليس هو تلك الأشياء التي نتصورها ، هو ليس تلك مفردات الأشياء ، أو تلك الموضوعات المنفصلة أو الذوات الخاصة بذاتيتها ، إن الكون ليس شؤوناٌ ، هذا وذاك ، أو أموراٌ مؤتلفة من فرديات متباعدة ، لإنه أمور مؤتلفة في حالتها الحال ، إن العالم هو ذاك العالم في حاله وليس حال الأشياء في العالم .
من جانب ثاني ، إن الكون هو مختبر بنيوي متكامل كامل ، تام في حده وحدوده ، أو يمكننا القول إنه مختبر فيزيائي بالتعبير الحالي ، لإنه حال ، أحوال ، أي إنه كل تلك الأشياء التي نعتقد إنها سواء في الحال المشترك أو في حال الشيء نفسه ، ليست إلا رؤيتنا المتقطعة البشرية عن تلك الأحوال ، ليست إلا تعبيراتنا اللغوية عن الكون في حاله .
من جانب ثالث ، إن الأحوال تتعلق فقط بالوجود الموجود خارج التصور البشري ، الوجود الموضوع خارج الوعي البشري ، أي إن كل وجود مفترض داخل الوعي البشري لايرضخ لقاعدة الأحوال لإنه لايعبر أصلاٌ عن مضمون الحال ، أما الوجود الموجود خارج التصور البشري فهو الكون في حقيقة حاله ، ولايمكن أن نفصل بينهما لإنهما صادقان في تأصيلهما .
ومن جانب رابع ، إن الأحوال تلغي مضمون الجوهر والعرض ، لإن هذه الأخيرة تتأسس على محتوى الصفات والعلاقات في منحى إن الشعاع يذهب من سين إلى عين شرط أن تكون سين غير عين و أن تكون عين غير سين ، وشرط أن تكون حقيقة سين غير حقيقة عين وأن تكون حقيقة عين غير حقيقة سين ، بينما رؤية فيتجنشتاين تؤكد إن الكل هو الكل نفسه .
المقدمة الثانية : يقول فيتجنشتاين إن هذه الأحوال هي ، إما أحوال ممكنة ، وإما أحوال مستحيلة ، وربما من الأنسب القول ، إن الأحوال هي إما ممكنة وإما غير ممكنة ، والممكنة هي التي تتمتع بشرط الإمكان التحقيقي ، أي أن تكون قابلة للتحقق الفعلي ، وغير الممكنة هي التي لاتتمتع بهذا الشرط ، أي لعدم توفر الإمكان التحققي ، نضرب مثالاٌ لتقريب المفهوم إلى الأذهان ، حينما تراقب نافذة جارتك فتراها تارة مغلقة وتارة مفتوحة ، فالأحوال الممكنة ، من حيث المبدأ ومن حيث التحقق الفعلي ، هي أن تكون تلك النافذة مفتوحة أو أن تكون مغلقة ، أما الأحوال غير الممكنة أن تطير هذه النافذة أو أن تسبح ، فما معنى ذلك التصور :
من جانب ، إن الشيء ، إن النافذة تتقيد بالضرورة ، وحتماٌ ، لا بطبيعتها الخاصة من حيث هي نافذة ، إنما بحيث هي من الأحوال ، هي من أحوال العالم ، وضمن هذا التصور هي تستطيع أن تحقق ما هو مقيد بشرط الإمكان التحققي ، وخارج هذا التصور هي لاتستطيع أن تحقق أي نوع من الأحوال .
من جانب ثاني ، يبدو إن المعيار الحقيقي لهكذا تصور هو الإنسان ، بما يراه ، بما يدركه ، بما يتصوره من العلاقة الفعلية مابين الشيء وذلك الشرط ومابين تلك الأحوال التي تتماهى معه ، وقد يتبادر إلى الأذهان إن المعيار الفعلي هو الكون نفسه كون مفهوم الأحوال ينتمي إلى ذلك العالم الذي تنتمي إليه النافذة ، هذا من حيث التجريد صحيح في محتوى النسبة لكن ، وهذا هو السؤال الأصلي ، من هو الذي يقرر إن تلك النافذة مفتوحة أم مغلقة ، وهل الكون نفسه يستطيع أن يتأكد من حال إن تلك النافذة مغلقة أم مفتوحة .
من جانب ثالث ، إن شرط التحقق في موضوع الأحوال الممكنة قد لايتحقق ، أي إن شرط الإمكان يمكن ألا يتجاوز حدود الإمكان نفسه ، فقد لاتفتح جارتك نافذتها أبداٌ ، أي تبقى مغلقة كما هي ، وهذا مايخلق إشكالية على صعيد الكون نفسه ، فكيف يمكن لفيتجنشتاين أن يتحقق ، في علاقته مع الكون ، أن يحدد تلك الأحوال الممكنة ، لإن ليست كافة القضايا هي واضحة في أحوالها مثل حالة النافذة ، أن تكون مغلقة أو أن تكون مفتوحة .
المقدمة الثالثة : إذا أدركنا حقيقة موضوع الأحوال لدى فيتجنشتاين ، يمكننا أن ندرك بيسر موضوع الحقائق وموضوع القضايا ، لإن الحقائق والقضايا تستند ، في تصور فيتجنشتاين ، إلى التأصيل الفعلي لتلك الأحوال ، فالحقائق إما أن تكون أو ألا تكون ، إما إنها قد تحققت ، وإما إنها لم تتحقق ، فهي تعتمد في جوهرها على تلك الأحوال الممكنة ، فإذا كانت تلك النافذة مغلقة فعلياٌ فهذه هي حالها وهي حقيقتها ، وإذا كانت مفتوحة الآن فعلياٌ فهذه هي بدورها حالها وحقيقتها ، وأما القضايا فهي ، لدى فيتجنشتاين ، إما أن تكون صادقة أو أن تكون كاذبة ، كالقضايا من نوع القول الحكمي بمعنى أن نقول بصدد تلك النافذة إنها الآن مغلقة ، فإذا كانت الآن ، الآن تحديداٌ ومن حيث منطلق مفهوم الأحوال ، مغلقة فالقضية صادقة ، وإذا كانت الآن مفتوحة فإن القضية كاذبة بالضرورة ، لإن الحال يكذبها . وهذا يفضي إلى نتيجتين متميزتين على صعيد موضوع اللغة :
النتيجة الأولى ، إن اللغة لايمكن لها إلا أن تكون صادقة لإن الأحوال ، ومن ثم الحقائق ، ومن ثم القضايا ، في خواصها العملية ، لابد لها من أن تكون صادقة ، فإذا كانت كاذبة فكيف يمكن أن تكون لها خواص عملية ، واللغة ، حسب فيتجنشتاين ، ليست إلا التعبير التكويني الأصيل لما هو متحقق من الأحوال ومن ثم الحقائق ومن ثم القضايا .
النتيجة الثانية ، إن اللغة ، كتعبير ، كمعنى ، كمحتوى ، كفكر ، لايمكن لها إلا أن تكون مركبة لإن الواقع الذي يحدد أصالة تلك الأحول هو مركب بالضرورة ، ولولا هذه الخاصية الإستثنائية ، حسب فيتجنشتاين ، لما إرتقت اللغة إلى مستوى العلاقة مابين الشعور ومابين الفكر ، وإلى مستوى العلاقة مابين الخيال ومابين المتخيل .
المقدمة الرابعة : يستند فيتجنشتاين ، في موضوع الأحوال وصديقاتها من الحقائق ومن القضايا ، إلى مفهوم الإمكان الفعلي ، الإمكان الذي يمكن أن يتحقق ، الذي يملك شرط تحققه في الإمكان كما بينا سابقاٌ ، فسواء تحقق أم لم يتحقق ، فالنافذة يمكن أن تكون مغلقة ويمكن أن تكون مفتوحة ، وسواء كانت مغلقة أم مفتوحة فإن لهذه القضية معنى ، والمعنى يكافىء مضمون الصدق والكذب في موضوع النافذة لإن الإحتمالين يتعادلان من حيث مضمون التحقق ، لذلك لهما معنى ، في حين ، وبالمقابل ، أكد فيتجنشتاين ، إن كافة موضوعات الميتافيزيقيا ، من حيث غياب خضوعها لأي معيار تجريبي ، لأي معيار تحققي ، لأي معيار إمكاني ، هي موضوعات لا معنى لها ، والذي لامعنى له هو يوازي تماماٌ الغياب المطلق لذلك الإمكان الفعلي ، أي الذي لامعنى له يتنافي مع موضوع الصدق والكذب معاٌ ، أي الذي لامعنى له لايمكن أن يكون صادقاٌ ولايمكن أن يكون كاذباٌ ، إنه بكل بساطة ووضوح لامعنى له ، والذي لامعنى له لايمكن أن يصدر بحقه محتوى القضية ، سواء في صدقها أم في كذبها .
المقدمة الخامسة : لكي ندرك تلك المقدمات الأربعة على حقيتها ، من الأساس والجوهر أن نشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهي إن فيتجنشتاين مايز ، من حيث التأصيل ، مابين الإمكان الفعلي ومابين الإمكان المنطقي ، أو بالأصح والأدق مايز مابين عدم الإمكان الفعلي ومابين عدم الإمكان المنطقي ، زاعماٌ إن عدم الإمكان الفعلي لقضية ما لايلغي إمكانية تحققها في أي حال قادم ، في حين إن عدم الإمكان المنطقي لقضية ما يلغي أية إمكانية لتحققها ، أي ، وفي التأصيل الفكري لديه ، كل ما له من معنى هو بالضرورة قد تحقق أو قد يتحقق دون أية إمكانية لنفي هذا الأصل ، في حين كل ماله ليس من معنى هو بالضرورة خارج معيار التحقق ، أو التحقق من صدقه وصحته ، فالنافذة في وضعيها مفتوحة أم مغلقة تمتلك المعنى أي قد تكون مفتوحة وقد تكون مغلقة ، وتحقق أي من الفرضين لايلغي أية إمكانية لتحقق الفرض الثاني ، في حين إن تطير أو تسبح ليس لها معنى ولايمكننا البتة من التحقق من مصداقية هذه القضية وهكذا تكون خارج فرضية الإمكان ، ومن هنا تحديداٌ أكد فيتجنشتاين : إن كل المسائل الفلسفية ، هي بحكم الضرورة مسائل خارج حدود الإمكان ، خارج مجال التحقق ، خارج مجال المعنى ، لذا يدعي فيتجنشتاين إنه ، بهذه الطريقة ، قد حل كافة المسائل الفلسفية ، وأفرغها من محتواها الإفتراضي .
المقدمة السادسة : وهذه المقدمة مؤتلفة من عدة جوانب متوافقة متشابكة وهي ثلاثة :
الجانب الأول ، يؤكد فيتجنشتاين إن : هذا الذي لايمكن الحديث فيه ، ينبغي الإلتزام بالصمت . مامعنى هذا ، أي إن الذي لايمكن الحديث فيه هو بالضرورة فارغ من المحتوى ، وهذا هو شرط المحتوى ، إذ كيف يمكنك الحديث عن هذا الذي دون وجود محتوى له ، والذي لامحتوى له لامعنى له ، والذي لامحتوى له لايمكن أن يؤلف حالاٌ من الأحوال ، فهو بدون حال ، والكون ليس إلا حالاٌ من الأحوال ، وهكذا فإن الإله ، أو فكرة الإله ، لايمكن الحديث فيها ، فينبغي إلتزام الصمت لإن ليس لها محتوى ، كما إنها ليست حالاٌ من الأحوال ، وليست لها معنى .
الجانب الثاني ، يؤكد فيتجنشتاين إن : حدود فكري هي حدود لغتي ، إن حدود إدراكي لهذا الذي هي حدود ماتمليه علي اللغة الموازية ، فبمقدار ماتسمح به اللغة أدرك حقيقة هذا الذي ، إذ لايمكنني أن أتحدث عن هذا الذي خارج محدداتي اللغوية ، وإلا عدا الأمر وكإنها وضع هيولاي خالي من التفاصيل ، مجرد من أية علاقة أرتباطية ، مجرد من أي إستنتاج في حدود الإمكان . وهكذا فإن هذا الذي هو خارج محددات اللغة هو لامعنى له ، ولاحال له .
وهنا من الضروري القول إن هناك الكثيرون الذي يعتقدون إن فيتجنشتاين قد عبر عن اللغة وكأنها وسيلة تعبيرية عن الفكرة ، كإنك تستخدم السيارة في النقل ، في حين إن فيتجنشتاين ينظر إلى اللغة وهي جزء بنيوي من حال الكون ، فلا إنفصال ، من هذه الزاوية ، مابين أنت ، والكون والحال ، واللغة والفكر .
الجانب الثالث ، يؤكد فيتجنشتاين ، حينما أرسل مؤلفه رسالة منطقية فلسفية إلى الناشر ، إن كتابي هذا يتضمن قسمين ، الأول هو هذا الكتاب ، والثاني وهو الذي لم أكتبه ، وهو الأهم ، ولاينبغي أن ندرك من هذا القول وكإن الكتاب مكون حقيقة من قسمين ، كلا ، هو في حقيقته هذا المكتوب ، والذي هو مابين يدي الناشر ، وأما القسم الثاني فهو تعبير مجازي ليشير إلى إن هذا القسم الأول هو يمثل العلاقة التأصيلية مابين فيتجنشتاين ومابين اللغة ومابين ماهو خارج التحقيقي ومابين ماهو خارج حدود الإمكان ومابين ماهو خارج حدود الأحوال .
المقدمة السابعة : والآن وصلنا إلى النقطة المركزية في فلسفة فيتجنشتاين ، إلى حقيقة محتوى اللغة ، إلى حقيقة حدود اللغة ، هنا ميز فيتجنشتاين مابين قول الشيء ومابين إظهار الشيء ، مابين قول حدود اللغة ومابين إظهار حدود اللغة ، مؤكداٌ إن مايظهر لايمكن أن يقال ، لنضرب مثلاٌ لو كنت مع صديق وقلت له إنك تملك بندورة حمراء ، وسألك عن اللون الأحمر ، فالضرورة تقتضي أن تذهب به إلى حيث البندورة وتشير إلى اللون الأحمر ، وتقول له ، هذا هو اللون الأحمر ، وتترجم ذلك على صعيد اللغة ، إن اللغة لايمكن أن تعبر عن حدودها ، لإن حينها يمكن القول ، هذا داخل في اللغة ، وهذا خارج عن اللغة ، وهذا مستحيل إذ كيف يمكن للغة أن تعبر عماهو خارج عنها .
لكن ماعلاقة هذا بالميتافيزيقيا وبالمسائل الفلسفية ، يؤكد فيتجنشتاين ويضرب مثالاٌ على ذلك ، لو كان لديك كأساٌ فارغاٌ وعدة ليترات من الماء فإنك لايمكن أن تحصل على أكثر من حدود هذا الكأس ، كما إنك مهما أضفت إليه من الماء فإنك لن تستطيع أن توسع من حجم هذا الكأس ، وهكذا فإن تلك المسائل لاتستطيع أن تتجاوز حدود اللغة كما لايستطيع الماء أن يتجاوز حدود الكأس .
لكن ماذا يقصد فيتجنشتاين من هذا الإفهوم ، إن أية قضية ، كي تكون صادقة أم كاذبة ، أي لها معنى ، لابد من تكون في حدود التماثل مابين اللغة ومابين المحتوى ، وهذا التماثل هو الذي يفضي إلى العلاقة البنيوية مابين دلالة تصور فيتجنشتاين إن الكون ليس إلا أحوالاٌ ، ومابين دلالة تصوره إن من لاحال له ليس له معنى ، وهكذا فإن هذا التثليث ، الكون هو حال ، المحتوى ينبغي أن يظهر لا أن يقال ، حدود اللغة هي حدود المحتوى ، يجعل من القضية ، قضية لها معنى ، صادقة أم كاذبة ، قضية لها معنى في مضمون أحوال الكون ، وهذا لاينطبق على تلك المسائل الفلسفية ، مثل قول ديكارت ، أنا أفكر إذن أنا موجود ، أو قول سقراط ، أعرف نفسك بنفسك ، كما لاينطبق على تلك المسائل الذاتية ، مثل الحلال والحرام ، مثل هذا رائع وهذا سخيف ، مثل هذا شجاع وهذا بخيل .
نكتفي بهذا ونعترض بالقادم :
أولاٌ : لاشك إن النقطة الأصيلة والأصلية التي تتمحور حولها فلسفة فيتجنشتاين هي موضوع الأحوال ، فبدون تلك الأحوال لاكون ، كما لاقيمة للمعنى ، كما إن القضايا ، سواء كانت كاذبة أم صادقة ، لن تكون لها معنى ، كما إن في غياب تلك الأحوال تنفرغ المحتوى من كافة مقوماتها ، ومن هنا كان السؤال الجوهري ، ماهي حقيقة هذه الأحوال حسب تصور فيتجنشتاين ، لنضرب المثال التالي :
لنفرض إن لدينا ساعة جدارية ، فيها مؤشر واحد فقط يدل من حيث الأصل إلى الثواني ، وهذه الساعة مرقمة من الصفر حيث الرقم أثنى عشر ، إلى ستين حيث ذات الرقم أثنى عشر ، أي لدينا رقم واحد ، أثنين ، ثلاثة حتى دلالة الرقم ستين ، ولنفرض إن هذا المؤشر يشير فقط إلى مضاعفات الرقم ثلاثة ، أي ينطلق من الرقم صفر إلى ثلاثة ، ستة ، تسعة ، حتى الرجوع إلى الأصل ، حيث ستون ، ولنفرض الآن إن هذه الساعة لم تكن مرقمة أبداٌ ، فيقفز هذا المؤشر ثلاثة سنات ثم ثلاثة حتى النهاية ، ولنفرض الآن تلك السنات الموازية للأرقام واحد ، أثنين ، أربعة ، خمسة ، سبعة ، ثمانية ، حتى التاسع والخمسين ، قد إنمحت تماماٌ ، فماذا نشاهد الآن في موضوع الأحوال ، إن المؤشر يقفز من الصفر السابق إلى حيث كان الرقم ثلاثة ، وهكذا .
وهكذا نرى بوضوح إن الكون هو الذي يفرض أحواله علينا ، وعلى كافة الكائنات الأخرى ، وهذه تعد من أجمل تصورات لفهم الكون ، وأجمل بكثير من تلك التي لدى هيجل وديكارت وكانط والديانات الإبراهيمية ، لكن الشيء الذي لم يدركه فيتجنشتاين هو إننا ، نحن أيضاٌ ، من تلك الأحوال ، نحن جزء منها ، نحن منها ، كما إن كافة الكائنات وغيرها منها ، وإذا طبقنا الآن نفس المبدأ الذي طبقه فيتجنشتاين على اللغة ، من المستحيل إن تحدد اللغة حدودها بنفسها وبمفرداتها من الداخل ، فمن المستحيل أن نحدد حدود الأحوال ونحن في داخلها ، كما ، ومن جهة ثانية ، يؤكد فيتجنشتاين ، إن حدود اللغة ينبغي أن تظهر لا أن تقال ، فإن حدود الأحوال ينبغي أن تظهر لا أن تقال ، وإظهار حدود الأحوال يعني إنها قد تحققت بالفعل ، وهكذا نكون إزاء تناقضات جسيمة تقتضي من فيتجنشتاين أن يعيد أسس تصوراته من جديد .
ثانياٌ : في الأصل ، لقد أبدع فيتجنشتاين في موضوع الأحوال ، ثم أبدع في موضوع تلك القضايا ، وهي لديه على ثلاثة أنواع ، قضية لها معنى صادقة ، قضية لها معنى كاذبة ، وقضية ليست لها معنى ، كما أبدع حينما صنف كافة المسائل الفلسفية والميتافيزيقية ضمن تلك القضايا التي ليست لها من معنى ، لكن ورغم ذلك فإن القضايا ، وحسب تصوره الخاص ، والشيء الذي لم يدركه ، هي على أربعة أنواع ، من حيث ماذهب إليه ، قضية لها معنى صادقة ، قضية لها معنى كاذبة ، قضية ليست لها معنى ، وقضية لاتتحقق .
لنضرب مثالاٌ على ذلك ، عنصر الحديد وتكافؤه إما رقم أثنين وإما رقم ثلاثة ، أي يمكن أن يكون على الشكل الأول أو على الشكل الثاني ، لكن ومن حيث المبدأ لايمكن أن يكون على شكل ثالث ، والتكافؤ الذري مرهون بالوزن الذري ، والسؤال هو لماذا لايوجد شكل ثالث له ، لإن طبيعته ، لإن وزنه الذري ، لإن تكافؤه يفرض ذلك بحكم الضرورة ، وإذا أخذنا هذا الشكل الثالث المفترض في موقع حكم القضية ، لقلنا إنها ليست قضية صادقة ، ولاقضية كاذبة ، ولا قضية ليست بدون معنى ، إنما هي قضية لاتتحقق .
لندقق في كل ماقلناه ، وأستعدنا مثال النافذة ، فإذا كانت النافذة مغلقة وقلنا إنها مفتوحة فإنها قضية كاذبة ولها معنى ، وإذا كانت النافذة مغلقة وقلنا إنها مغلقة فإنها قضية صادقة ولها معنى ، وإذا قلنا إن النافذة تطير وتسبح فهي ليست قضية ليست لها معنى كما يعتقد فيتجنشتاين إنما هي قضية لاتتحقق بحكم الضرورة ، بحكم الطبيعة طبيعتها الخاصة ، في حين إن القضايا الميتافيزيقية ليست مرفوضة بطبيعتها إنما هي مرفوضة في تأصيلها الأصلي ، لإنها أساساٌ غير موجودة ، فمثال إن الإله خلق الملائكة ليعبدوه ، قول مرفوض في كافة عناصره ، فلا الإله موجود ، ولا الخلق ممكن ، ولاوجود للملائكة ، ناهيكم عن سقوط المعنى عن العبادة ، في حين إن عنصر الحديد موجود فعلياٌ ، إما على هذا الشكل الأول ، أو على هذا الشكل الثاني ، ولايمكن أن يكون على ذلك الشكل الثالث المفترض بسبب وزنه الذري وتكافؤه .
وفي الأصل ، وفي المعنى الدقيق للقضية ، فهي دائماٌ صادقة ، ولايمكن إلا إن تكون صادقة ، لإن الطبيعة ومن ثم الكون لاتستطيع إلا أن تمارس ذاتها كما هي ، إذ كيف يمكن للكون أن يمارس ذاته بصورة كاذبة .
ثالثاٌ : في موضوع اللغة ، ففي مؤلفه رسالة منطقية فلسفية إعتقد إن اللغة تمتلك أساساٌ موضوعياٌ في الخارج ، وفي مؤلفه تحقيقات فلسفية ، وبينما كان في القطار مع شخص ، مدير إعمال خاصة ، قال له هذا المدير إن منطقة في أيطاليا حينما يعبرون عن سخافة شي ما يشيرون بيدهم من منطقة الحلق إلى خارج الذقن ، فبدل فيتجنشتاين رؤيته تلك زاعماٌ إن أساس اللغة يكمن في ماهو مصطلح مابين فئة معينة من البشر ، ولاشك إن هذا تصور ساذج لحقيقة اللغة :
فمن جانب ، إن اللغة التي تكونت عبر الآلاف والآلاف من السنين ، تكونت نتيجة الإحتياج والحاجة ، من بداية الشكل الحيواني للغة ، وعبر دلالة التعبير الصوتي ومن ثم الأشكال المتقدمة في الصراخ المشترك والحركة الموازية ، إلى بدايات أولية في ما يسمى بالتفاهم الحيواني .
ومن جهة ثانية ، إن المنطقة الجغرافية حددت المعالم الأولية للغة حسب معطياتها الخاصة ، لذلك نشاهد إن كل منطقة جغرافية متباعدة فيما بينها حددت تلك المعالم بطريقتها الخاصة ، سواء في أساس الجملة ، سواء في أساس القواعد ، سواء في موضوع الأبجدية .
ومن جهة ثالثة ، لاتوجد لغة مستقلة في تأصيلها ، فاللغة العربية كانت لهجة بشرية بسيطة ثم أتى الدين الإسلامي فأخذ كل المعالم اللغوية من اللغة السومرية الكوردية ، وإستبدت بكافة مفرداتها ، من ثم أتى من أتى لتنظيم هذه اللغة بطريقة قواعدية ، وأخطأ في ذلك ، مثال ماتسمى بالجملة الأسمية ، ومثال القول ، أنا الذي ذهب ، وهكذا فإن ثمت مفارقة جسيمة مابين اللغة التاريخية ومابين اللغة التي أسميها مصطنعة .
ومن جهة رابعة ، ومن ثم فإن اللغة كانت هي التعبير المرادف للفكر وللموسيقى ومن ثم لملاقاة محتوى الإسطورة ومن ثم الأديان ، ومن هنا كان رسول الإسلام ، حينما كان يقتبس من اللغة الكوردية ، كانت الصحابة تسال ، مامعنى هذا المصطلح .
ومن جهة خامسة ، ومن ثم بلغت اللغة إلى مابلغت إليه في الوقت الحاضر ليس نتيجة تلاقح مابين اللغات والثقافات فقط إنما نتيجة الوعي المواكب لحقيقة التجربة البشرية ، ومدى مابلغته من مرحلة متقدمة من المصطلحات النظرية .
ومهما كانت رؤيتنا حول اللغة فهي كانت ومازالت تتفتق نتيجة الإحتياج والحاجة ، لكن دائماٌ ضمن أرقى تعبير عن مضمون تلك الحاجة وذلك الإحتياج .
والآن ، وعلى الرغم من المصداقية الجزئية في موضوع قصة ذلك الكأس ، ثمت نقاط ضعف في مجمل تصور فيتجنشتاين لاتليق بمستوى مجالات اللغة سيما من زاوية الحركة ، ونوضح ذلك ضمن سياق هذين المثالين :
المثال الأول ، لو أقتنيت كتاب رسالة الغفران للفيلسوف الأديب أبو العلاء المعري لما كان بمقدورك أن تدرك مفرداته ومن ثم مراميه إلا بإستخدام قاموس من ذلك العصر .
المثال الثاني ، لو كنت تجيد عدة لغات على درجات متفاوتة ، الإنجيليزية ، الفرنسية ، الإيطالية ، الإسبانية ، لكنت حتماٌ تعبر عن ذاتك وكأنك أربعة أشخاص ، ولكنت مهيض الجناحين في تلك اللغة التي لاتستطيع الإبداع فيها ، بينما في تلك اللغة التي تستحكم فيها سوف تبدو كفيلسوف ، أو شاعر ، أو كاتب ، أو صوفي في تجربة إلهية .
وهنا ، قد يتراءى لبعضهم إننا ننتصر لتلك الفكرة ، فكرة فيتجنشتاين إن ، إن حدود فكري هي حدود لغتي ، وفي الواقع إن الأمر ليس معقداٌ بعض الشيء إنما أكثر ، وكأن ثمة مفارقة أكيدة و ضرورة تشابهية ، لماذا ، لإن اللغة نفسها هي ، من إئتلاف الحاجة والإحتياج ، ومن طبيعة الفكر نفسه ، أي هي حالة فكرية ، تطور فكري ، حالة قواعدية ، وهي في التأصيل جزء من الفكر ، وقواعد أية لغة هي خصوصيات الفكر ومنطق ثقافته .
وهكذا ، فإن مثال ذلك الكأس ليس صحيحاٌ إلا بشرطين ، الأول أن يستجيب ذلك الكأس للقواعد الخاصة للماء فيتمدد ويزداد حجمه هنا وهناك ويتقلص أبعاده هنا وهناك لإن ثمة إندثار للمفردات اللغوية كما حصل الأمر في اللغة الكوردية القديمة ، والثاني إن تتماهى الحدود مابين الكأس ومابين الماء ، ولم تعد حدوداٌ كما تصوره فيتجنشتاين .
رابعاٌ : في التحليل النهائي نشاهد إن التصور الأصيل لدى فيتجنشتاين ، وإن الفكرة الأصيلة لديه ، هي التمايز مابين ماهو متحقق ومابين ماهو ليس متحققاٌ ، مابين الذي تحقق كأحوال ومابين الذي لايتحقق كأحوال إفتراضية ، مابين الذي تحقق فله معنى ومابين الذي لايتحقق فليس له معنى ، مابين الذي تحقق وله إظهار حدود اللغة ومابين الذي لايتحقق وله قول حدود اللغة ، أي :
حينما يقول ، حول ذلك الذي لايمكن الحديث عنه فينبغي الإلتزام بالسكوت ، فيعني حول ذلك الذي لايمكن أن يتحقق ، ولم يتحقق ، فينبغي الإلتزام بالسكوت ، فليس له معنى ، وهو ليس حالاٌ من الأحوال .
وهكذا ، إذا تجاوزنا فيتجنشتاين إلى مابعده ، وخلصنا وإقتضبنا ، فنحن إزاء ، الكون ، وأحواله ، وماهو متحقق ، وهذا التثليث قد يكون على غرار ما ، قد يكون على شكل ما ، قد يكون على وضع ما ، لكن من المستحيل أن نؤكد إنه ، أي هذا التثليث ، هو على ذلك الغرار المعين ، وطالما نحن نجهل ذلك ، وطبقنا قاعدته التي أشرنا إليها ، فينبغي ، ومن حيث الدلالة ، أن نلتزم بالصمت ، أي حول هذا الذي لايمكن الحديث عنه كان من المفروض أن يلتزم فيتجنشتاين بالصمت . وإلى اللقاء في الحلقة الواحدة والستين بعد المائة .



#هيبت_بافي_حلبجة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقض محي الدين بن عربي
- نقض القوانين الهرمسية الكونية السبعة
- نقض مفهوم الجهاد في الإسلام
- نقض إسبينوزا
- نقض موضوع ـ المحلل ـ في الإسلام
- نقض هيجل
- نقض تحريم التبني في الإسلام
- نقض الدين والفلسفة
- نقض ذبح إبراهيم لإبنه في النص الإلهي
- نقض اللاوعي الجمعي لدى كارل يونغ
- نقض وجود الجنة ومحتواها في الإسلام
- نقض مفهوم الدين لدى فراس السواح
- نقض موضوع الزنا في الإسلام
- نقض إطروحات علي حرب البائسة
- نقض المنظومة الفكرية لدى ألبير كامو
- نقض مفهوم الكون لدى هولباخ
- نقض وجود الإله
- نقض محنة سيدنا إبراهام لدى كيركجارد
- نقض سورة الفاتحة في النص الإلهي
- نقض مفهوم السلوك البشري لدى روبرت سابولسكي


المزيد.....




- الخارجية الصينية تعلن استضافة ممثلين عن فتح وحماس لإجراء محا ...
- كتائب -القسام- توجه رسالة ملخصة بصورة إلى أهالي الرهائن الإس ...
- الدفاع الروسية تكشف إنجازات الجيش على الجبهة خلال الـ24 ساعة ...
- إسرائيل تتحدى عالما مصريا
- بايدن يحث الكونغرس على تشديد الرقابة على الأسلحة النارية في ...
- الصين تعلن عن اختراق في محادثات -فتح- و-حماس- واتفاق على -ال ...
- قوات -الناتو- تتدرب في غابات لاتفيا على صد هجوم مفترض
- -يرتدون فساتين نساء غزة-.. صورة متداولة لجنود إسرائيليين تثي ...
- مصر.. عالم أزهري يرد على ميار الببلاوي بعد انهيارها بسببه
- الدفاع المدني في غزة: أكثر من 10 آلاف مفقود تحت أنقاض المبان ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - هيبت بافي حلبجة - نقض لودفيغ فيتجنشتاين