|
في العقلنة المشوهة
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 7930 - 2024 / 3 / 28 - 14:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يرجع العديد من المفكرين نشوء المجتمع الحديث ، الى التبلور التدريجي لعملية يدعونها بعملية العقلنة Rationalisation . ويعود الفضل على وجه الخصوص ، في تطوير هذه الفكرة المركزية ، الى المفكر الألماني عموما ، والى السوسيولوجي الألماني المعروف Max Weber . يميز Weber بين عدة أنماط من السلوك الفردي : 1 ) السلوك التقليدي المرتبط بالأعراف والتقاليد والتراث ، وهو نمط السلوك الشائع في الحياة اليومية لمعظم المجتمعات . 2 ) السلوك الوجداني الذي تقوده الاهواء والانفعالات . 3 ) السلوك العقلاني من حيث القيمة ، وهو نمط السلوك الذي لا تقوده وتوجهه الدوافع والغرائز ، بل توجهه القيم العلمية والأخلاقية والدينية والجمالية ، التي تجعل الافراد ينذرون حياتهم من اجل تحقيق قيمة من القيم وترسيخها واشاعتها ، كمنافحة الارستقراطي عن شرفه ، والفنان عن مذهبه الفني ، والمناضل عن القيم الدينية او السياسية التي يؤمن بها . 4 ) الاّ ان السلوك العقلاني الحق ، هو السلوك العقلاني وفق غاية من الغايات العملية . وهذا السلوك يقتضي الملائمة القصوى بين الغايات والوسائل . وهذا الضرب من العقلانية ، يدعى بالعقلانية الاداتية الموجهة نحو تحقيق غايات نفعية مع اصطناع كل الوسائل الكفيلة للوصول الى هذه الغايات . والمثال النموذجي للعقلانية الاداتية ، هو سلوك صاحب المقاولة او المشروع الرأسمالي الذي يتوخى تحقيق اكبر قدر من الربح ، وكذا سلوك المخطط الاستراتيجي العسكري ، الذي ينظم جيشه بهدف تحقيق النصر في المعركة .ان عملية العقلنة بهذا المعنى تعني التنظيم ، والحساب ، والنجاعة او الفعالية . الاّ ان عملية العقلنة ، التي رافقت نشأت المجتمع الحديث ، بل تولد عنها النظام الاجتماعي الحديث ، هي عملية اجتماعية عامة تقوم على تنظيم مختلف العمليات الاجتماعية ، تنظيما حسابيا دقيقا ، بهدف تحقيق نتائج ملموسة وناجعة . وقد استندت هذه العملية ، الى فكرة فلسفية مفادها ان العقل هو الهيأة التي يتعين ان توجه كافة العمليات الاجتماعية ، وهذه الأخيرة تجد نفسها مضطرة للتخلي عن سيطرة التقاليد والتراث وقيم الماضي ، لتسلك وفق منطق الفعالية والحساب والمردودية . فكانت هذه العمليات الاجتماعية المختلفة ، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، مدفوعة حتما نحو الاستقلال الذاتي ، بهدف الخضوع فقط لمنطق داخلي ، قوامه النظام والحساب والفعالية . فمثلا لكي تنخرط المنشأة الرأسمالية في سياق تسيير وتدبيرمنهجيين لنشاطاتها ، فان عليها ان تنفصل كليا عن الخضوع للمجموعة العائلية . عملية العقلنة ترتبط اذن لا فقط بالحساب والصياغة الصورية والفعالية ، بل أيضا بنزع الطابع الشخصي عن العلاقات الاجتماعية ، أي اعطاءها طابعا عما يعبر عنه بصيغ قانونية ، ومن ثمة التوازن الضروري بين تقدم العقلنة ، وتقدم التشريع والقوانين ، مع إضفاء شمولي غير شخصي على هذه الأخيرة . وبعبارة أخرى ، فان العقلنة تعني تنظيم كافة مستويات الحياة الاجتماعية ، تنظيما تحكمه قوانين لا شخصية ، تنظيما يكون فيه كافة الافراد متساوين من حيث المبدأ ، في الخضوع لهذه القوانين ذات البعد الصوري . وتشكل البيروقراطية في هذا المنظور ، الفئة التي يوكل اليها امر تدبير وتسيير هذه العمليات المختلفة . تفترض العقلنة اذن حدا ادنى من العقلانية والصورية والمساواة امام القانون ، والتمييز بين الخصوصي والعمومي . لكن اذا كانت هذه العملية هي الصيغة السائدة في معظم مجتمعات الغرب ، فليس معنى ذلك انها الصيغة السائدة في معظم مجتمعات الغرب ، فليس معنى ذلك انها الصيغة الوحيدة القائمة ، بل هي الصيغة المهيمنة ، ومن ثمة صرامة القوانين وقدسيتها . اما في المجتمعات التي داهمتها الحداثة التقنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية بعنف ، ومن ضمنها المجتمعات العربية ، فقد حدث نوع من الامتزاج والاختلاط الشديد ، بين المعايير التقليدية ، والمعايير العصرية ، مما أدى الى تكوين مزيج خلاسي غريب . فمثلا الوظائف العصرية تختلط فيها بشكل واضح العقلنة باللاّعقلنة . فسائق تاكسي الذي يتعدى الذي يتعدى ما يسجله العداد ، ويقلب العلاقة مع راكبه الى استجداء ، ونواح ، وبكاء ، قد تقوده الى رواية قصته العائلية بكاملها ، نودج واضح للخلط بين الاجر والاستجداء . وموظف الدولة الذي يحول المصالح العمومية الى مصالح خصوصية ، أي الى ملكية شخصية يبيع خدماتها لقاء اجر إضافي يسمى قدحا رشوة مثال اخر على ذلك . وقد أظهرت البيروقراطية العربية قدرة هائلة في تليين العقلنة ، وتكييفها بإعطائها مضمونا ملموسا عبر الزبونية والمحسوبية والرشوة والنهب . وفي احسن الأحوال يقدم لك البيروقراطي العربي خدماته ( العمومية ) مقابل خدمات أخرى ، اذا كانت " تمتلك " انت الاخر قطاعا اخرا من قطاعات الدولة ، او من القطاع الخاص . وهكذا تصبح القوانين مساطر رخوة ، مطاطة ، تقص وفق المقاس الشخصي ، كما تتحول الملكية العمومية ، الى ملكية خصوصية ، وتصبح الرشوة والنهب والزبونية ممارسات " مشروعة " . كل هذه السلوكيات يتحقق فيها عنصر واحد من عناصر العقلانية الأداتية ، هي المنفعة والفائدة . لكنها منفعة فردية تنتفي فيها معايير الشمولية والصورية والتخطيط الحسابي العقلاني . انها اذن " عقلانية " فردانية فوضوية ، وهذا ما يجعلها تحقق فوائد على المستوى الفردي لا على المستوى الجماعي والعمومي . انها تقدم الافراد ولا تقدم المجموعة . ومن الأكيد ان هذا المزيج السلوكي ، هو تعبير عن صراع بين نمطين مختلفين ، نمط حداثي ونمط تقليدي ، ولكنه صراع ينتج نموذجا ثالثا هجينا ، غير ذي شكل محدد ، ويسهم في احداث نوع من التباطؤ في تراكم العقلانية الصورية التي لا يمكن بدونها ان يتحقق تراكم تاريخي إيجابي ..
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاجماع
-
الشعب الصحراوي او شعب الصحراء الغربية
-
المدعية العامة لمحكمة العدل الاوربية ، تهندس خارطة طريق لقرا
...
-
الحكم الذاتي في الصحراء
-
الفرق بين الشعب والرعايا
-
ماذا تحضر اسبانيا الدولة ، لنزاع الصحراء الغربية ؟
-
سيرورة انهيار الدولة القائمة
-
لماذا نحن متخلفون ولماذا هم متقدمون
-
المشروع الأيديولوجي العربي الإسلامي
-
الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية و الجمهورية الريفية
-
الاساطير الإعلامية الحديثة
-
سيرْ تْضِيمْ ، وسير حتّى ..
-
ماذا يحضر من مخططات ومشاريع للنظام المغربي ؟
-
هل تدعم فرنسا واسبانيا حل الحكم الذاتي في نزاع الصحراء المغر
...
-
برنامج حركة 3 مارس / إحدى وخمسين سنة مرت على ثورة فشلت من يو
...
-
الثورة المغربية . يوم ثار الثوار المغارية
-
الملك محمد السادس الغائب
-
ثمانية وأربعين سنة مرت على انشاء الجمهورية العربية الصحراوية
...
-
هل تبخر والى الابد ، مشروع الدويْلة الفلسطينية المنزوعة السل
...
-
نزاع الصحراء الغربية بين الجمهورية الموريتانية والنظام المزا
...
المزيد.....
-
بالأسماء.. أبرز 12 جامعة أمريكية تشهد مظاهرات مؤيدة للفلسطين
...
-
ارتدت عن المدرج بقوة.. فيديو يُظهر محاولة طيار فاشلة في الهب
...
-
لضمان عدم تكرارها مرة أخرى..محكمة توجه لائحة اتهامات ضد ناخب
...
-
جرد حساب: ما نجاعة العقوبات ضد إيران وروسيا؟
-
مسؤول صيني يرد على تهديدات واشنطن المستمرة بالعقوبات
-
الولايات المتحدة.. حريق ضخم إثر انحراف قطار محمل بالبنزين وا
...
-
هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأ
...
-
هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه
-
Polestar تعلن عن أول هواتفها الذكية
-
اكتشاف تأثير صحي مزدوج لتلوث الهواء على البالغين في منتصف ال
...
المزيد.....
-
في يوم العمَّال العالمي!
/ ادم عربي
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|