أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - جُثّةٌ في المرآة / بول فيرلين وآرثر رامبو: قراءة عرفانيّة جديدة















المزيد.....



جُثّةٌ في المرآة / بول فيرلين وآرثر رامبو: قراءة عرفانيّة جديدة


أسماء غريب

الحوار المتمدن-العدد: 7903 - 2024 / 3 / 1 - 18:13
المحور: الادب والفن
    


(1)
زيارةٌ برزخيّة
هاقد حلّ الانقلابُ الشّمسيُّ الشّتائيّ الّذي كنتُ أنتظره بصبر العارفين منذ شهور طويلة، فابتهجَ لمقدمه القلبُ والفكر، وانشرحتِ النّفسُ وانتعشَتِ الرّوحُ: أنظرُ إلى سماوات النّور في الأعالي فترتوي العين والبصيرة بمدد من السّكينة والطّمأنينة، ثمّ أخفضُ بصري وأنظر إلى سماواتي الدّاخليّة، فأرى الكواكب تتحرّكُ بين صعود ونزول، والمصابيح والقناديل تتناوب بين ضياء وإظلام، والأفلاكَ والنّجوم بين موتٍ وولادات جديدة معلنة بدايات عودة القلب السّائح في برزخيّات الأكوان إلى كهفه الأزليّ ليستريح من جولات الصّيف ويخزّنَ بركات الخريف المبشّرة بالكثير من المطر والحليب اللّدنيّ. أدخل إلى مكتبتي الرّقميّة وأبدأ في البحث عن كُتُب خزّنتُ بعضها منذُ الأشهر الماضية، وبعضها الآخر صدرَ مع مطلع عام 2024، فتُطالعني عناوين عدّة من قبيل: (أساطير في أصل النّار) لجيمس فريزر، و(الأدب والشرّ) لجورج بتاي، و(الولاية) لميشيل شودكيفيتش، وكتب أخرى كثيرة ومتنوّعة اخترتُ منها لقراءات شهر كانون الثّاني كتابيْن لميشيل أونفري وأعني بهما (اكتشاف اللذّة؛ شذرات قورينيّة) (1)، و(نفي اللّاهوت) (2). الحقَّ أقول إنّه لم يسبق لي أن سمعتُ بهذا الفيلسوف، فقد شغلتني عنه قراءات أخرى وكتابات كنتُ منهمكةً في تأليفها لفترة غير يسيرة من الزّمن، واليوم وأنا أقرأ كتابيْه هذين اكتشفتُ أنّه من الوجوه المتأثّرة بالفكريْن النيتشويّ والأبيقوريّ على وجه التحديد، ووجدتُ فيه ذاكَ الصّوت الباكي الدّفين الّذي يبحثُ عن طريق توصله إلى النّجاة لكنّه لا يجدها فيعتنقُ الإلحاد كسبيل وحيدة للخلاص من عذاباته الدّاخليّة. صوته الباكي هذا ليس من السّهل أن تسمعه، لأنّه مُقَنَّع بالفكر والثّقافة والفلسفة، لكنّك إذا أمعنتَ الغوصَ طويلاً في كلماته ستعثر عليه يئنُّ في صمتٍ تارة، وبحسرة وامتعاض تارة أخرى من هذا الإله الّذي لم يتّخذ موقفاً صارماً تجاه كلّ هؤلاء الّذين تاجروا ويتاجرون بفكرة الألوهيّة وإيديولوجيّات الدّيانات منذ الإنسان الأوّل إلى اليوم. ميشيل فيلسوف ملحد من نوع خاصٍّ لقد عرف الله في حياته حينما رآه في الصحراء الموريتانية وفي مساجد بنغازي وطرابلس، ورآه في باليرمو الصقليّة في دير الكابوشان وفي مياه القطب الشمالي المتجمدة عند ارتفاع سمكة سلمون يصطادها ساحر القبيلة، وليس هذا فحسب فقد رآه أيضا في الأقصر داخل تلك الغرف الملكيّة الموجودة تحت الأرض وفيها رجال برؤوس كلاب وجعران وقطط غريبة، وهو في كلّ رؤاه ورحلاته هذه لم يسبق له أن احتقر في أيّ مكان من هذه الأمكنة أيّ شخص يؤمن بالأرواح وبالرّوح الخالدة وبحضور الملائكة وبصواب أسس الرّقية والسّحر، وبمعجزات دم المسيح وبقيمة الأضحية الحيوانية، وبالأثر الخالد لملح البارود المصريّ، إلّا أنّه توصّل إلى ذاك الخيط الرّفيع الّذي يفصل الواقع عن الخيال، واستوعب جيّداً تلك الطّريقة العجيبة التي ينسج النّاس بها حكاياتهم الإيمانيّة عن الله لكي يتجنّبوا رؤية العالم وجها لوجه، فخلق العوالم الخلفيّة بالنسبة لميشيل، لم يكن فظيعا لولا أنّ ثمنهُ عظيم: نسيان الواقع، وبالتالي الإهمال المذنب للعالم الوحيد الموجود (3). إنّ البؤس الرّوحي يولّدُ التخلّي عن الذّات والتضحيّة بالنّفس، إنّه يساوي كما يقول ميشيل البؤسَ الجنسيّ والعقليّ والسّياسيّ والفكريّ وما عداه من بؤس آخر، وهذا يعني أن ميل النّاس إلى السّذاجة والتّصديق يفوق كلّ تصوّر، وإنّ رغبتهم بعدم النّظر لما هو بديهيّ وتطلّعهم إلى رؤية أكثر بهجة، حتّى ولو كان هذا العالم من جنس الخيال المطلق، وكذا استعدادهم لعدم التبصّر، لا تعرف حدودا. إنّهم يفضّلون الخرافات والخيالات والأساطير والحكايات الجديرة بالأطفال بدل رفع اللثام عن حقيقة العالم القاسية التي تجبر المرء على تحمّل بديهية مأساوية العالم. (4) وفي الوقت الّذي يقول فيه إنّ الإله سيدوم بدوام العقول التي تخلقه وبدوام منكريه أيضاً، أجدهُ يطرح في كتابه (اكتشاف اللذّة، شذرات قورينيّة) حلّاً ربّما فيه الدّواء الناجع لشفاء العقول من عصابها الدّينيّ، وذلك باعتناق مذهب المتعة واللذّة على طريقة أرستيبوس القورينيّ الّذي كان يصرّحُ بأنّ اللّذة الحسّيّة هي الخير الأسمى والهدف الوحيد الجدير بالاهتمام في الحياة دون الوقوع طبعاً في فخّ استعباد هذه اللذّة للإنسان. وجاء بعده أبيقور وعرّف المتعة وقال إنّها السّكينة الرّوحية الدّائمة(5). ولا أعرف لماذا ولا كيف أننّي وفي خضمّ تحليلي لكلمات ميشيل أونفري تذكّرتُ الصّوفي الهنديّ باجوان شري راجنيش وكتابه عن (التانترا: الروحانيّة والجنس) (6)، والكتاب الآخر (من الجنس إلى أعلى مراحل الوعي) (7)، ووجدتُ كيف أنّ هناك بونٌ شاسع بين الاثنين، وكيف أن أونفري مازال يضع قناع نوم عميق على عينيه ولا يرى كيف أنّ مذهب اللذّة والمتعة الّذي يتحدّثُ عنه كحلّ للعُصابات والرُّهابات الدّينيّة المنتشرة في الأرض قاطبة لم تمنع الإنسانَ من أن يمتهن لذّة من نوع آخر وأعني بها تحقيق أكبر قدر من المتعة والانتشاء المَرضيَّيْن عبر قتل الرُّضّع والأطفال والشيوخ والنساء في حروبه الإباديّة العجيبة على مرّ الأزمنة والعصور وتحت مسمّيات مختلفة؛ تارة تحت قناع التّبشير الدّينيّ وتارات أخرى تحت قناع الدّيمقراطيّة وتارات ثالثة تحت قناع محاربة الإرهاب. وإن كان هذا لا ينفي طبعاً عن الفيلسوف سعيه الحثيث عبر كتاباته إلى إيجاد صيغة مثلى توقظ الفرد من سكراته وهلوساته الدّينيّة ذات الطّابع الإيديولوجيّ والمذهبيّ. فاللّذة سلاح ذو حدّين، وقد يكون في العنف أيضاً نوعاً من المتعة لدى العديد من النّاس، وهذا يعني أنّه ثمّة خلل ما في المنظومة البشريّة كلّها، لا سيما وأنّ العدائيّة التي أصبح يُرَوَّجُ لها ضد الجنس خاصّة خلقت لنا إنساناً متعفّنا من الدّاخل، إنسانا لا يستطيع أن يحرّر نفسه من أيّ شيء ويعيش في صراع مستمر بسبب الحالة العصابية التي تسيطر عليه دائماً، ولا أحد يجرؤ أن يقول بأنّ كلّ هذا حدث بسبب ما ارتكبه من أخطاء فادحة مَن يسمّون بالزّعماء القديسين، والمعلّمين الواعظين، الّذين سدّوا الطّريق أمام كلّ محاولة لتفجير نهر الحبّ والسّعادة في أرض الإنسان! (8).
لم أتوقّف كثيراً عند كتابيْ ميشيل أونفري، وكان ما قرأتهُ كافياً لأرى بوضوح أزمة الفكر الإنسانيّ المعاصر، فقد اعتدتُ منذ زمن بعيد على كتابات فكريّة من هذا القبيل وخاصّة تلك التي تخوض فيما هو فلسفيّ ودينيّ، وتجمع بين ماهو إسلامويّ وفوبْيَاويّ، ولم أعد ألق للأمر بالاً وأصبح عندي نوعاً من الشّفقة على منْ يرمي بنفسه في هذا المجال من الكتابات الشّائكة لأنّها تبقى دائماً حمّالة لأوجه، ومواضيع غير جديدة ولا مجدية خاض فيها العديد من الفلاسفة ولم يخرجوا منها بنتائج تُغيّرُ حقّاً وحقيقة الفكر الإنسانيّ إلى ماهو أفضل وأسمى. لكنّي أذكر أنّني أنهيتُ كتابَيْ أونفري في يوم الاثنين 08 كانون الثاني 2024، وأذكر أنّني حينما خلدتُ إلى النّوم الهنيّ العميق، رأيتُ رؤيا عجيبة لا علاقة لها بتاتاً بما قرأته من كُتب إلى اليوم، أو هكذا اعتقدتُ في البداية. كان زائري من أصول فرنسيّة، هكذا قدّم نفسه. ظهرَ بشعر أشعث، ووجه مكفهرّ، وثياب رثّة، وأمامه جثّة متحلّلة لامرأة متوسّطة العمر وهو يُشير إليها بسبابته ويحاول مرتبكاً أن يقول شيئاً ما. رفعتُ إليه عينيّ وقلتُ لهُ؛ لا بأس عليكَ، اطمئنّ أيّها الرّجل، لماذا أنتَ هنا، ومن أنتَ؟ لم يقل لماذا هو هُنا لكنّه قال: أنا بول فيرلين!
انتهت الرّؤيا، وأفقتُ في ساعات السَّحَر الأولى، وأنا سعيدة جدّاً بهذا الباب الّذي انفتح من الغيب بطريقة عجيبة، لأنّني عرفتُ للتوّ مَن كان زائري في المرآة، إنّه شاعرٌ فرنسيٌّ من القرن التّاسع عشر، لكنّي لا أتذكّرُ أنّني قد قرأتُ شيئاً من أشعاره في سنوات الشّباب الأولى أو المراهقة. وهذا ما دفعنى إلى أن أقضي يومي كلّه في قراءة دواوينه باللّغة الفرنسيّة، وكم أدهشني جدّاً ما اطّلعتُ عليه فعرفتُ أخيراً لماذا جثّة تلكَ المرأة ولماذا زارني بعد قراءاتي لأونفري؟!
أن تكون عارفاً، يعني أيضاً أن تحاول أن تحافظ على لياقتكَ الفكريّة بالدّرجة نفسها التي تسعى فيها إلى الحفاظ على لياقتكَ البدنيّة عبر الرياضة والسّياحة الرّوحيّة، أيْ بكلمات أخرى أن تقرأ للفلاسفة الّذين يناقشون قضايا الوجود الإلهيّ، والخلق من وجهات نظر مختلفة بما فيها تلك الّتي تستند على نظريّات الإلحاد وما إليها، لأنّ شكوك هؤلاء تساعد وبدون أدنى شكّ على أن تبقى يقظاً ومتأهّباً لفهم ما يدور حولكَ، وما يعاني منه إخوتكَ في الفكر والإنسانيّة، ولا شكَّ ستندهشُ كثيراً من عمق تفكير البعض منهم، وستجد بعض المتعة في تتبّع مطبّات الرّحلة وأنت تراهم يسيرون نحو الله وإن بطريقتهم الخاصّة التي فيها الكثير من الأسئلة والحيرة والذّهول. ولأنّني قرأتُ أونفري في بدايات فصل الشّتاء، فكان لا بدّ لي أنْ أبحث في دواخلي عن بوادر تفجّر مناجم جديدة من الحديد الّذي به أسعى إلى أن أساوي بين الصّدفين وأنفخ فيه إلى أن يصير ناراً أفرغُ عليها قطراً وأجعل به بيني وبين المفسدين في الأرض سدّاً وردماً وليظهرَ الفكر البشريُّ المعاصرُ أخيراً نصّاً هو امرأةٌ قتيلة نخرها الدّود وبول فيرلين شاهداً على خرابه منذ زمن بعيد، وهو يحاول أن يسافر بي إلى الأسفل العظيم، لأجد نفسي وقد اجتمعت واتّحدت الأمكنة والأزمنة بين يديّ، وأصبح الشّرق والغرب والأمس واليوم شيئاً واحداً، وأونفري وفيرلين كلاهُما يتحدّثانِ لغةً واحدة لكنّها ذات رسائل وخطابات مختلفة ومتباينة بحسب الأرضيّة الّتي ينطلقُ منها كلٌّ منهما أديباً تحقّق له الفناء، وهو مقام لا يمكن بلوغه ما لم يُرْشَمْ المبدعُ بعهد الكلمة وميثاقها، فتنحفرُ في خزائن الرّوح بإزميلِ العشق الخالص علامات الخصوصيّة ويُصبحُ القلبُ جاهزاً للأسفار العرفانيّة الجديدة ويصدر خواره وأنينه معلناً بداية الاحتراق التّطهيريّ من الرّجس والدّنس، وهو احتراق بحثٍ أزليٍّ عن أرض اللّامستقر واللّازمكانيّة والأبديّة والتي فيها تتحرّرُ الرّوح من أغلالها وأصفادها وتُحقِّقُ معراج الوارثين من الأدباء العرفاء. وكيف لا يكون هذا المعراج كذلك وفيرلين قد أعلن لنا عن هذا الفناء عبر الرؤيا التي وقعت في نفس يوم وفاته (8 كانون الثاني) من خلال مشهديّة الجثّة القتيلة المتحلّلة، فكان أن عاينتُ في خطابهِ كيف تفنى النّفس ويتحوّلُ الأديبُ من حالة إلى أخرى تَحوُّلَ أرواح لا أشباح وإسرارَ أسرارٍ لا أسوار ورؤية جنان لا عيان وسلوك معرفة وذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سماوات المعنى والجوهر.

(2)
في دار سيلّيريو
للترجمة والنشر والتّوزيع

حينما ظهر بّول فيرلين وجثّة المرأة المتحلّلة أمامه، كان ذلك إعلاناً منه بموتِ الشّاعر عن نفسه، وموتِ النّاقدِ المتلقّي الأكاديميّ الرّسميّ، وهذا يعني أنّ كلّ مُؤَلِّفٍ لنصٍّ ما يموتُ بمجرّد أن يضع آخر نقطة خَتْمٍ فيه، وهذا يحدثُ لأنّ الكلمة هي ذاتها من تقتُلُ كاتبَها وتسعى بشراسة شديدة إلى إيجاد قناة خاصّة تسمح لها بالتجلّي والظّهور ولا يعنيها في هذا أنْ يستغرق منها الأمر حتّى المئات من السّنين أو المئات من الأيّام. والكلمة في تخلّصها من كاتبها، تسعى أيضا إلى قتل النّاقد الرّسميّ الأكاديميّ، فهيَ لا تعترفُ بتاتاً بسلطته الوهميّة، لأنّها تعرفُ أنّه عقل مزيّفٌ، لا يدخل إليها من أبوابها الشّاهقة ويكتفي بالنّظريّات الّتي تلقّنها فوق المقاعد المدرسيّة والجامعيّة لا أقلّ ولا أكثر(9)، ممّا يجعل منه في كثير من الأحيان المسؤول الأوّل عمّا قد يلحقُ بنصٍّ أو عملٍ ما مِن إفسادٍ أو إساءة أو تشويه أو تدنيس لنقاوته؛ ولأنّ النّاقد الأكاديميّ هو في الغالب بائعُ كلام، ويقتات ممّا يُدَرِّسُ أو يكتبُ من نظريّات، فإنّ الكلمة لا تؤمنُ به وتنفيه إلى الأقاصي البعيدة باحثةً عن قارئٍ يكون أوّلاً وقبل كلّ شيءٍ عارفاً باللّه أيْ بالحَرف، وقادماً من المستقبلِ قادراً على أن يجدَ طريقهُ إليها بعد أن تكون عظام كاتبِها الأصليّ قد تحوّلتْ إلى سمادٍ يُحيي زهرةً أو شجرةً أو حقلاً من القمح في أرضٍ أو عالمٍ يكون صاحبُ النصّ قد غادرهُ منذُ عشرات أو مئات أو آلاف السّنين.
أقول هذا وأنا أعرفُ أنّ الكلمة تُقصي أيضاً القارئَ المعاصر لزمان ظهورها لأنّها هي نفسُها عارفةٌ باللّه، لذا فهي ككلّ العرفاء الأحقّاء لا تتواضعُ لأحدٍ ولا تتسوّلُ أحداً. إنّها تُديرُ ظهرها لكلّ الانتماءات والتحزّبات والتجمّعات كيف ما كان نوعها، وبالخصوص الدّينيّة منها. والتّاريخُ يعلمُ جيّداً كيف أنّه ما من سلطة أفسدت الكلمة وألحقت بها جسيم الضرّر أكثر من السّلطة الدّينيّة الّتي أوّلتْ وحَرّفَتْ معانيها الحقّة وفقاً لما تمليه المصالح السّياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة وما إليها. ولأنّ الكلمة الحقّة تخلقُ نفسها بنفسها فإنّها تقضي العمر كلّه تنحتُ في العقل الكونيّ إلى أن تصل به إلى درجة تُمكّنه من تكسير كلّ القيود الدّينيّة والكهنوتيّة ليبلغ حريته العظمى في معانقة الحقيقة الأزليّة السرمديّة، تلك التي يستوعبُ فيها للعُمق طبيعته كفكر خلّاق استنار بالحرف وكينونة حرّة من كلّ تكتّلٍ ثقافيّ أو دينيّ أو سياسيّ يسعى بشكل أو بآخر إلى آليات غسل الدّماغ والتنويم الميغناطيسيّ للفكر واستعباد النّفس والسّيطرة عليها تحت ألف قناع وغطاء.
وحده العارف الحقّ تفعل الكلمة المستحيل من أجل أن تصل إليه، وهي تعلمُ أنّه حتّى حينما يقرؤها في كتابٍ اتّفقت المجتمعات على تسميّته بالكتاب السّماوي المُنزَّل، فإنّه سيستطيع بقلبه الواعي أن يكشف أين وقع التّحريف، وأين هو كلام الله الحقيقيّ، وأين هو ذاك الّذي دسّه الكهنة وحرّاس معبد آمون على مرّ الأزمان والعصور لأسباب سياسيّة محضة.
العارف الحقّ هو من يدخل إلى أدغاله البكر، ويدير ظهره لا للمادّة بمفهومها الاعتياديّ العامّ، وإنّما لتلك التي تُستخدم في استعباد عقله الذي هو من عقل الله الجبّار.
ولأنّه يستطيع أن يعبّر عن إخلاصه ومحبّته الشّديدة للكلمة، فهو ليس بالضّرورة رجل دين أو فقه وإنّما هو بالأساس عالِمٌ، طبيب ومهندس، طيّارٌ وعميد شرطة، وقاضٍ ووكيل نيابة، وطبّاخ وخيّاط وعطّارٌ وصيدليّ، ورسّام وموسيقيّ وشاعر وأديب حرّ إلى غير ذلك من الوظائف والحِرف الإنسانيّة والإبداعيّة، إنّه رجلُ المهمّات الكبرى، مثقّف حيّ، قفز على خزعبلات الماضي، وترّهات أهل الدّجل والاحتيال الدينيّ، وأصبحَ من أهل الحضور الفكريّ، واليقظة الرّوحيّة العاليّة، وبينه وبين أهل الشعوذة والمتاجرة بعقول الشّباب السُّذّج ألف جدار وجدار. مكانه في القمّة، وحيدًا كذئبٍ كشَفَ له الخالقُ ما في قلوب الخَلق من عفن ونفاق ودجل. إنّه في الأعالي كنسر ملكيّ يحلّقُ ويردّدُ كلّ صباح: ((وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)) (10).
أقول هذا وأنا أعلمُ جيّداً أنّك قد فهمتني الآن، واستوعبتَ كيفَ أنّ الّذي زارني حقيقة ليس بّول فيرلين نفسه بمعناه الظّاهريّ، وإنّما كلّ كلمة خطّها هو بأنامله، اجتمعت كاملة وتجسّدت في صورة الشّاعر لتقول لي إنّها اختارتني لأعيد قراءة إرثِ هذا الفرنسيّ العظيم وأفعل معه مثل ما فعلتُ مع الكثير من الأسماء الأدبيّة التي اقتربتُ منها كقارئة أوّلاً ثم ككاتبة، أيْ أنّني بهذا النّوع من الاقتراب والمحاذاة النَّقدِيَيْن كنتُ ولَمْ أزَلْ تلك القارئة والمُطالِعةُ والمُطَّلِعَةُ الّتي انتظرَها العديد من الأدباء القدامى والمحدثين لأُسَجّلَ بحضوري وتجربتي الأدبيّة لقاءَ العقول الخلّاقة في عالم الرّوح وإن باعدتْ بينها الأزمان والأماكن والمسافات، وهذا لم يكن ليحدثَ لو لم يكن الحَرْفُ نفسه روحاً تبحث عن روح صديقةٍ قد تكون نُقْطِيّة الصّفة والطّابع (11) أو ألِفِيّتَهُما (12)، إذن فكلُّ من يُدْفِقُ الحرفَ في العقل الكونيِّ ويُلهِمُ روحاً ما أن تفصح عنه وتكشفهُ، يكون في الحقيقة هو الباحثَ الرّئيس عن قناةٍ تضمن لهُ المزيد من التجلّي والظّهور عبر الأجيال والحيوات المتجدّدة في تاريخ الإبداع البشريّ، وهذا يؤكّدهُ تفجُّرُ صورة الشّاعر الفرنسيّ في عقليَ الواعي وتجسّده في فيلم رُؤيَويّ بعد مائة وثمانين سنة مضت على تاريخ ولادته بحثاً عن نوعٍ من الإنصاف أو العدالة الحروفيّة، عبر قارئٍ من نوعٍ خاصٍّ شاءَ العقلُ الإلهيّ أن أَكُونَهُ قبل أن ألبس رداء التجربة الأرضيّة الحالية، أيْ منذ أن كنتُ في عالم الذرّ. ومن هذا كلّه أستنتجُ أنّ النصّ الفيرلينيّ لم يكن هُوَ أيضاً يثقُ كثيراً بقرّاء زمانه، بل لم يكن ينْكتبُ ويتدفّقُ من أجلهم وإنّما لآخرين منهم مَن يعيش في زماني، ومنهم مَن لم تتجسّد بعد روحه في عالم المادّة.
فهل كان بول فيرلين عارفاً باللّه، ليمنحهُ الربُّ نعمة التّواصل معي؟ نعم، وهو هذا بالذّات ما دفعني إلى البحث عمّا تركه من إرثٍ أدبيّ لأقرأه بعين المحبّة والتبصُّر، وأكتشفَ ماعاناه من ظُلم وتنمُّرٍ في حقّ شخصيّته الأدبيّة وسيرته الحياتيّة. ولأنّ نقّاد زمانه تحدّثوا كثيراً عن زوجته ماتيلد مُوتيه، فإنّني رأيتُ فيها المفتاح الرّئيس لمعاينة مأساته عن قُرب، وعليه قرَّرتُ البحثَ عن مذكّراتها، وقد وجدتُها بصعوبة بالغة، لا سيما وأنّها من الكتب القديمة التي لم تصدر منها أيّة نسخة ورقيّة منذ تسعينيّات القرن الماضي!
وبعد أن لففتُ كلّ مكتبات العاصمة الصقليّة، وجدتُ مكتبة صغيرة تبيع الكتبَ والمراجعَ القانونيّة قال لي صاحبها: "ستجوبين كلّ التراب الإيطاليّ ولن تجِدي منها نسخة واحدة، ونصيحتي لكِ هو أن تذهبي مباشرةً إلى دار النّشر التي طبعتْها في عام 1998". وذاك ما قُمتُ به بالفعل، ففي الصّباح الباكر من يوم 23 كانون الثّاني 2024، ذهبتُ إلى دار سِيلِّيريو العريقة (13)، وكان الجوُّ ممطراً وبارداً جدّاً، دخلتُ وسألتُ عن الكتاب، وبعمليّة بحثٍ بسيطة وجدَ المسؤول عن الدّار ضالّتي، وهيَ نسخة واحدة فقط ربّما هي الوحيدة والأخيرة، وقد كان السِّعر المكتوب فوق غلافها باللّيرة الإيطالية لا باليورو، وهذا يعني أنّها نسخة تعود إلى الفترة التي كانت إيطاليا تستخدم الليرة كعملة رسميّة. احتضنتُ المذكّرات بقوّة، وعدتُ إلى البيت مزهوة بهذه الغنيمة الثّمينة، ومنذ ذلك اليوم بدأت رحلتي الممتعة مع السيّدة ماتيلد مُوتيه.
*
(صورة: في دار سِيلّيريو وبين يديّ مذكّرات زوجة فيرلين السّابقة ماتيلد مُوتِيه)
*
منذُ الصّفحات الأولى وجدتُ زوجة فيرلين السّابقة امرأةً تنزفُ بسببِ قصّة "عشق" لم تكتمل. فهي وإن كانت تحاول بكبرياء امرأة من الطّبقة الأرستقراطيّة الفرنسيّة أن تضع كلّ اللّوم على زوجها وتعتبره السّبب الرّئيس في فشل علاقتهما الزّوجيّة، إلّا أنّ من يعرف ويخبر لغة النّساء جيّداً، يستطيعُ أن يفهم بوضوح شديد، كيف أنّ ماتيلد، هي في الواقع غاضبة أكثرَ من نفسها، لأنّها لم تتسلّح بالصّبر الكافي ولم تُعطِ زوجها الفرصة ليرمّمَ ما تكسّر في علاقتهما ففقدتْ بسطحيّتها إنساناً وشاعراً عظيماً عميقاً، طيّباً سخيّاً وكريماً هو بُّول فيرلين، وظلّت تبكيه في أعماقها طيلة حياتها حتّى بعد أن تزوّجت بآخرين غيره!
في مذكّراتها هذه كانت ماتيلد، تحاول أن تبحثَ عن أسباب واهية وضعيفة جدّاً، وهي حتّى وإن تقدّمت بها السّنون بعد وفاة بول فيرلين، إلّا أنّها ظلّتْ بعقل تلك الفتاة المراهقة التي لا تفهم في الحياة ولا في العشقِ الحقّ شيئاً، فهي تتحدّثُ عن وجه بُّول فيرلين القبيح، وعن رأسه الأصلع، وعن لباسه غير الأنيق ولا المتناسق في ألوانه وشكله، وعن والدته القرويّة المحتالة البخيلة، وتسقُطُ أكثر فأكثَر لتبدو بصورة المرأة المتعالية الّتي تستعرُّ وتخجلُ من زوجها لأنّه لا يستطيع التّأقلُمَ مع أسلوب حياتها البورجوازية وأصدقاء والديها من المثقّفين وروّاد الصّالونات الأدبيّة والثّقافية من العلماء والأطبّاء والأدباء من قبيل الإخوة كروس، وفيكتور هوغو، والسيّدة هونّيكا، والنّحاتة بيرتو، وصاحبة الصّالون الأدبيّ نينا دي كالياس. وتهوى إلى الدّركِ الأسفل من عدم اللّياقة الأخلاقيّة لتصوّر زوجها كرجل معدم فقير بائس ونهم وجشع في طريقة أكله وشربه كما يبدو واضحاً في هذا المقطع من مذكّراتها والّذي تقول فيه: "كنتُ دائماً أشعر بالتقزّز من مجرّد التّفكير بالعيش في بيتٍ تُحيطني بداخله أفرشة وديكورات بائسة. ولقد كنتُ أعتقد أنّ خطيبي كان تعيساً في بيت والدته لأنّه كان مُحاطاً بالأشياء القبيحة. إلّا أنّ اعتقادي هذا لم يكن في محلّه، لأنّ فيرلين على عكس ما كنتُ أظنّه كان يحبُّ الأشياء الدّميمة والفجّة والمشينة من قبيل ارتداء الملابس الرّديئة، والعيش في بيت قبيح، والظّهور بمظهر قرويّ مقزّز. وهو لم يتغيّر إلّا في الفترة التي عشنا فيها معاً، وفعل ذلك لأنّه كان يحبّني، لكنّه بعد الانفصال عاد ليعيش من جديد بشكل فوضويّ دون أن يكون له بيت لائق ومرتّب أبداً. ثمّ أنّه بذّر بين عامي 1886 و1872 مئتين وخمسين فرنكا بدون أيّ سبب جدّيٍّ، كان الأمر كلّه متعلّقاً بالتّفاهات، وعاش كأيّ رجل بئيس. يمكن أن أقول إنّ ما آل إليه يعود بشكل أو بآخر إلى والدته وإلى الطّريقة التي ربّته وأنشأته بها. فلقد كانت تُخفي تحت المظهر البورجوازيّ والنّزيه صورة المرأة العجوز القرويّة الجشعة والحقودة" (14) .
وتبلغُ ماتيلد الذّروة في اختلاق الأكاذيب لتقول أخيراً إنّه كان على علاقة حميمة بالشّاعر المراهق آنذاك آرثر رامبو، مدعّمة ذلك بما تناثر عنه من آثار هذه الإشاعة في بعض الصّالونات الثقافية من بعض المغرضين من الأدباء ممّن يحبّون الطّعن والتسلّي بمثل هذه الأخبار التي تمسُّ عرض الإنسان وسمعته، وقد خصّصتْ للحديث عن هذه القضيّة فصلين كاملين بدءاً من لقاء زوجها برامبو، وملابسات الفترة التي عاش فيها معهما في بيت والديْها، وصولاً إلى سفر زوجها معه ثمّ طلاقها من فيرلين بإصرار وإلحاحٍ منها (15).
من يقرأ مذكّرات ماتيلد، سيفهَمُ جيّداً أنّ ماتيلد ما كانت تكرهُ آرثر رامبو، سوى لأنّه لم يكن من الطّبقة البورجوازية التي تنتمي إليها، وكانتْ تخشى لا على زوجها منه، وإنّما على صورتها ولياقتها الاجتماعيّة من هذا الشّاعر الّذي وصفته بأحقر الصّفات حينما كانت تتحدّث عن قذارته وهندامه الرثّ والبشع، وشعره الممتلئ بالقمل والبقّ. ضف إلى هذا أنّها ما تركتْ شيئاً إلّا ونعتت به زوجها من قبيل الجبان الّذي كان يفرُّ من إلزامية التّجنيد، وترتعد فرائصه أمام أحداث كومونة باريس.
والحقيقة كلّ الحقيقة موجودة في إصدارات عدّة ظهرتْ قبلَ مذكّراتها أهمّها: (بول فيرلين، حياته وأعماله) لصديقه إيدموند لوبيتيه(16)، ثمّ (اعترافات) (17) و(آرثر رامبو) (18) و(الشعراء الملاعين) (19) لبول فيرلين نفسه، وقد اطّلعنا عليها جميعها، ومن منطلقها سنحاول أن نحلّلَ بعض المعطيات والعناصر لنصل إلى الحقيقة العادلة والتي بها سيظهر لنا كلّ من ماتيلد وبّول، وآرثر بصورة مختلفة تماماً عن تلك التي حاول النقّاد القدامى والمحدثين إقناعنا بها، ولنبدأ بكلمات ماتيلد مُوتِيه الواردة في مطلع مذّكرّاتها والتي تقول فيها ما يلي: "بعد وفاة فيرلين، الّذي كان زوجي الأوّل، رفعَ أصدقاؤه من شأنه كثيراً، وخلقوا حوله هالة كبيرة من التقدير والإعجاب الأسطوريّ، بطريقة كانوا يتحدّثون فيها عنّي بشكل غير جيّد. فلقد وصفوني بالفتاة الطّائشة، والطّفلة المدلّلة من طرف والديْها، والتي تعاملت مع زوجها بكلّ قسوة وبدون أدنى شفقة ولا رحمة. بمعنى آخر، أظهروه هو بصورة الضحيّة، وأنا بصورة الجلّاد، وخاصّة في كتاب إيدموند لوبيتيه (بول فيرلين، حياته وأعماله) والّذي هوجمنا فيه أنا وعائلتي بطريقة شرسة، وأفضّلُ أن أعتقد أنّ الكاتب الّذي غابت عنه العديد من التفاصيل الخاصّة بي، كتبَ ما كتبه بشكل عفويّ ولم يكن يقصد إيذائي. والآن يبدو لي وبدون أن أسيء إلى ذكرى رجل مسكين راحل نال الجزاء القاسي نتيجة ما اقترفه من أفعال، أنّ الظّروف قد أصبحت مواتية وتسمح لي الآن بأن أعيد الأمور إلى نصابها وأظهِرَ نفسي بشكل صائب وأقلّ سلبيّة من تلك الطّريقة التي ظهرت في كتاباتهم عنّي. ضف إلى هذا، فإنّي وصفتُ الأماكن المختلفة التي عشتُ فيها، والشخصيّات الأدبيّة الّتي عرفتها في شبابي والّذين أصبح معظمهم من الأعلام والمشاهير. أمّا بالنسبة لبعض الأحداث التي تتعلّقُ بحياة أخي الرّاحل شارل دوسيفري الموسيقيّ اللّطيف، فمن شأنها أن تثير اهتمام الأشخاص الّذين هم خارج إطار دائرة معارف العائلة والأصدقاء. لأجل كلّ هذا قررتُ نشر هذا الكتاب. 23 حزيران 1907" (20).
إنّ السّؤال الّذي يتبادر إلى الذّهن الآن: هو لماذا انتظرت ماتيلد عشر سنوات أو ما يزيد على وفاة زوجها من أجل أن تنشر مذكّراتها هذه؟ والغريب أيضا في الأمر هو أنّها انتظرت كذلكَ وفاة آرثر رامبو! لا تحتاج المسألة إلى الكثير من الذّكاء لكي يكتشف القارئ أنّ غياب الاثنين ورحيلهما إلى دار الأبديّة سيعفيها من مساءلات ومناقشات الزّوج السّابق وصديقه والردّ عليها لضحد أكاذيبها وأراجيفها المشينة.
إنّ من يقرأ مذكّراتها سيكتشف قبل كلّ شيء أنّ حتّى طريقتها في صياغة فقرات الكتاب وترتيب الأسماء والأحداث وحبك الأسلوب والكلمات إنّما هي تشبه كثيرًا الطّريقة التي كتب بها بّول فيرلين اعترافاته، حتّى لكأنّ المرأة يبدو فيها نوع من المنافسة الأدبيّة، ربّما لتقول إنّها لم تكن زوجة فيرلين السّابقة فقط، وإنّما أديبة قادرة على إنتاج أعمال أدبيّة أفضل ممّا كان يقوم به بّول.
لكن وعلى الرّغم ممّا بدا في المرأة من هشاشة نفسيّة، ورغبة دفينة في الإساءة إلى صورة طليقها الرّاحل، إلّا أنّ هناك بعضُ التّفاصيل الّتي يجبُ الوقوف عندها بعين التأمّل: لقد قالت ماتيلد إنّ زوجها كان يعنّفها ويضرب ابنه الرّضيع. لكنّنا نعود ونفهم، أنّه لم يفعل ذلك سوى لمرّة واحدة وكان بسبب الإفراط في شرب الخمر. وهنا نقف بعض الشيء ونقول؛ إذا كان لفيرلين بعض العيوب في سلوكياته فإنّ أخطرها كانت إدمانه للكحول، وهذا وحده سبب كافٍ لتدمير كلّ شيء في حياته، لا الزوجيّة فقط، كما يقول صديقه النّاقد والأديب إيدموند لوبيتيه في هذا المقطع: "صحيح أن الكحول، هذا الشيطان الأسوأ، إذا ما أردنا استخدام عبارة إدغار بو، وهي تعريف دقيق، كان له تأثير خبيث على فيرلين وإن ألهمه باقتراحات قيّمة من خلال المزاج "العربيد والحزين"، الّذي عرّف به نفسه في ديباجة ديوانه (قصائد زحليّة). كان فيرلين، تحت تأثير الكحول، يعاني من الوصول إلى الحدود القصوى في شخصيته... كان دائمًا شاربًا للخمر، لكن السّكر شبه المزمن تطور لديه أثناء أسفاره التي وقعت بعد الانفصال الزوجيّ. من ذا الّذي يعلمُ من أيّة جحيم عقليّة كان يريد الهروب بحثاً في قاع الكأس عن الجنة الاصطناعية الشيطانيّة؟" (21).
الكحول هو السّبب في انهيار علاقته مع زوجته، وكذا مع صديقه رامبو، وليست هناك أسباب أخرى غيره، وعن تأثير هذه الآفة سلباً على حياته يقول في اعترافاته: "نعم، خلال الأيّام الثلاثة التي تلت دفن ابنة خالتي الغالية، لم يساعدني على الوقوف وتحمّل لوعة الفراق سوى شرب الجعة، بل المزيد منها دائماً، حتّى أنّني أصبحت في حالة سكر مستمرّ، لدرجة أنّني بعد أن عدت إلى باريس وإلى مكتبي انفعلت بشدّة على رئيسي في العمل حينما أبدى ملاحظته بشأن حزني الشّديد ويوم العطلة الإضافيّ الذي أخذته.
الجعة التي وجدت في باريس كانت رديئة جدّاً، ولم أجد حلّاً سوى أن أشرب بدلا منها الأفسنتين: الأفسنتين في المساء والليل. أمّا الصباح وبعد الظهر فكانا مخصصيْن للعمل...هذا الأفسنتين! يا له من رعب عندما أفكر في تلك الفترة... الّتي ليست بالبعيدة جدّاً بما يكفي لبلسمة جراح كرامتي، وآلام صحتي، وانكسار كبريائي على وجه التّحديد، إنه شيء موجع عندما أفكر في الأمر حقًا! لمسة واحدة من الساحرة الخضراء الفظيعة (أيّ أبله هذا الّذي أطلق عليها اِسْمَ الجنيّة الطيّبة، والملهمة الخضراء!) وصف كوميديّ إلى حد ما، في انتظار المزيد من آثارها الأكثر خطورة وجديّة." (22).
إنّها الخمرة التي لم تصمد أمامها زوجة صغيرة جدّاً على تفهّم الأمر أو تحمّل نتائجه الخطيرة، لقد كانت تبلغ سبعة عشر عاماً حينما اقترنت بفيرلين، ولم تكن بالنّضج الكافي لتفكّر في طريق أسلم وأعمق من أجل احتواء زوجها ودفعه إلى الإقلاع عن عادة الشّرب السيّئة، كانت تنصت أكثر إلى أهلها، وكانت تخاف أكثر فأكثر على مستواها الاجتماعيّ، وحينما بلغت الرّابعة والخمسين من العمر وقرّرت كتابة مذكّراتها استطاعت بذكاء المرأة أن توصل لنا السبب الحقيقيّ لعدم استمرار زواجها: فالزوج المدمن للكحول لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال الاستمرار معه في علاقة زوجيّة تكون مريضة ومبنية على العنف الجسديّ والنّفسيّ. وهي وإن تركت هذه الرسالة المهمّة جدّاً في مذكراتها إلّا أن هناك أمور أخرى ذكرتها أساءت إلى صورتها أكثر ممّا نفعتها، وأهمّها صفة الاستعلاء والنّظرة الدّونية التي كانت تكنها إلى زوجها وصديقه رامبو.
(3)
رامبو وفيرلين

منذ سنوات الطّفولة البعيدة كان فيرلين يبحث بقلب الشّاعر عن قرين لروحه الطّيّبة الطّاهرة، وفي سنواته السّبع التقى بطفلة تكبره بعام فقط فاقترن بها روحيّاً وأصبحت رفيقة اللّعب ولحظات الهناءة والبراءة، وكان اسمها ماتيلد، وقد جاء ذكرها في الصّفحات العشرين الأولى من اعترافاته (23)، وهو الاكتشاف الّذي يدفعني إلى طرح السّؤال التّالي: هل زواج فيرلين من امرأة تحمل نفس اسم صديقة الطّفولة مجرّد مصادفة، أم أن الأمر يستدعي الغوص عميقاً في الأبعاد النّفسيّة لحياة الشّاعر؟!
الجواب يوجد في قصيدته (حلمي المعتاد) والتي يقول فيها:
((كثيراً ما أكرّرُ هذا الحلم الغريب الثّاقب
وفيه امرأة مجهولة تحبّني وأحبّها
ليست هي نفسها في كلّ مرّة
وليست امرأة أخرى مختلفة عنها
تحبّني وتفهمني
***
لأنها تفهمني
وقلبي الشّفاف ـ آه، وقد كفّت نزواته ـ
لها وحدها
ولها وحدها اخضلال جبيني الشاحب
فهي دون غيرها تعرف كيف تنعشهُ ببكائها
***
أهي سمراء؟ أم شقراء؟ أم صهباء؟
ـ لا أدري
واسمها؟ أذكر أنه ناعم رنّان
مثل المحبّين الذين نفتهم وباعدت الحياةُ بينهم
نظرتها تشبه نظرة التماثيل
ولصوتها النائي الهادئ الرزين
رنّة الأصوات الغالية التي صمتتْ.)) (24)
فيرلين في نصّه هذا يحدّثنا عن قرينة الرّوح القادمة من عالم النّقاء والطّهر، كان يعتقدُ أنّه وجدها في رفيقة الطّفولة التي ذهبت بعيداً بعيداً، لكنّ الأقدار شاءت له أن يلتقي بفتاة شابّة تحمل الاسم ذاته وهي التي أصبحت زوجته ولكنّها للأسف الشّديد أفسدت كلّ شيء بعدم صبرها واحتوائها العميق له، وهو الأمر الّذي ظهر في قصيدة أخرى يقول فيها:
((لم تتحلّي بالصّبر الكافي
وهذا كان واضحاً جدّاً مع كامل الأسف
على أيّة حال، فأنتِ كنتِ جدُّ صغيرة، وعدم الاكتراث
هو الهبة المريرة لهذا العُمر الإلهيّ!

لم تتصرّفي باللّطف والعذوبة الكافية
وهذا لسوء الحظ أمر مفهوم أيضاً
فأنتِ كنتِ صغيرة السنِّ، يا أختي الباردة،
وعلى قلبك أن يكون لا مبالياً!


وها أنا الآن مفعم بالعفو التقيّ
بالتأكيد لستُ فرحاً، ولكنّي هادئ بعمقٍ،
على الرّغم من أنّني أشعر بالحسرة في هذه الشّهور النّحسة
لأنّه بسببكِ أصبحتُ الرّجلَ الأقلّ سعادة بين النّاس.


وها أنتِ تدركين تمامًا أنني كنت محقًّا
عندما قلت لكِ، في لحظاتي السّود،
إن عينيك، موئل آمالي القديمة،
لم تعودا تحتضنان شيئًا سوى الخيانة


كنت تقسمين آنئذٍ أن ذلك كان كذبًا
وإن نظرتكِ التي كانت ذاتها تكذب
كانت تتضرم كنارٍ محتضرةٍ يُنفَخ فيها
وبصوتكِ كنتِ تقولين "أحبّكَ!"


واأسفاه!، فالإنسان يتعلّق بالرّغبة
بأن يكون سعيداً رغم فوات الأوان
فلقد كنتُ مفعماً بالسّعادة المُرّة
ذاك اليوم الّذي اكتشفتُ فيه أنّني كنتُ مُحقّاً!


لماذا عليّ أن أتألّم؟
أنتِ لم تحبّيني، وانتهت المسألة،
ولأني لا أريد أن يبكيني أحد
فسأتعذب بنفسٍ صامدة وراسخةٍ!


أجل، سأتعذّب لأني أحببتكِ
لكني سأتعذّب كجنديٍّ طيبٍ
جريحٍ، يسعى لرقدته الأبدية
مفعمًا بحبِّ بلدٍ جَحُود.


أنت يا من كنتِ جميلتي، وغاليتي،
يا من يأتيني منها العذاب،
ألستِ أنتِ دومًا وطني
ولكِ مثل شباب وجنون فرنسا؟

الآن لا أريد، - وهل أستطيع هذا في كلّ الأحوال -؟
أن أتعمّق في الأمر بعينيّ المبتلّتين.
فالحبّ الّذي كنت تعتقدين أنّه مات
ربما يكون قد فتح جفنيه أخيرًا.


إن حبّي الذي ليس سوى مجترٍّ للذكريات
رغم كونه تحت ضرباتكِ ينزف ويبكي
أيضًا، ويتوجب عليه، حسب ظني،
أن يتألم طويلاً حتى يلقى حتفه،


ربما كان على حق حين ظنَّ أنه لمحَ
فيكِ ندمًا غير بسيط
وسمع ذاكرتكِ وهي تقول في يأس لنفسها:
"آه! أفّ! كم كان هذا سيئاً!".


أراكِ مرة أخرى. واربتُ البابَ.
كنتِ في سريركِ كأنّك متعبة
ولكن، يا للجسد الممشوق الذي جرفه الحبُّ
قفزتِ عارية، باكية وسعيدة.


لا أريد أن أرى مِن ابتسامتكِ،
ولا مِن عينيكِ الطيّبتين في هذه الحال،
ولا منكِ، في النهاية، أنتِ التي يتوجّب لعنُها،
ولا مِن الفخّ الرائع، سوى المظهر.


وما زلتُ أراكِ! في فستان الصيف
الأبيض والأصفر المزخرف بأزهار السُّتُر
وإن لم يعد لكِ فرحكِ النديان
لإحدى أكثر عصرياتنا جنونًا.


الزوجُ الشابّةُ، الفتاةُ الكبرى
بزينتها عادت للظهور
ومن الأزل كان ذلك قدرَنا
الذي كان يطالعني من تحت وشاحك.


كوني مغفورًا لكِ! وإنّه من أجل هذا
أحتفظُ وا أسفاه! بشيء من الخيلاء
في ذاكرتي التي تتزلّف إليكِ
ذاك هو البريق الجانبي الذي كانت تنضح به نظراتُك.


أحيانًا أكون السفينة البائسة
التي تجري فاقدة صوابها وسط الأنواء
ودون أن ترى إشراقة سيدتنا العذراء
لغرقها مصليةً تتأهب.


أحيانًا أموت ميتةَ الخاطئ
الذي يعرف أنه ملعونٌ إذا لم يعترف،
وإذا فقد الأمل بأي نَجِيٍّ
سيتلوى في الجحيم الّتي مشى بين دروبها.


أوَّاهُ ولكن! تارةً، تكون لديَّ النشوة الحمراء
للمسيحيّ الأول، تحت السن القاطع،
يبتسم ليسوع الشاهد، دون أن تتحرك
شعرة في جسده، أو عصبٌ في وجهه!)) (25)
نعم، لم يكن عند ماتيلد مُوتيه الصّبر الكافي، وحتّى حينما بلغت الرابعة والخمسين من عمرها وقررت نشر مذكّراتها، أظهرت أنّها لم تفهم حقّاً ولم تتوصّل إلى تلك القرينة الرّوحيّة التي كان يبحث عنها زوجها، وكيف تكون كذلك وقد كانت تقول إنّها تزوّجته رغم دمامته كي لا تجرح مشاعره فقط، وإنّها كانت تشعر إنّها تعيد بهذا الزّواج تجسيد أسطورة الحسناء والوحش، فالحبُّ الّذي كانت تراه في عينيه نحوها كان يجعل قباحة وجهه تختفي إلى الأبد، يا للمرأة الكريمة صاحبة القلب العطوف! وليت الأمور تقف عند هذا الحدّ، فحتّى حينما ظهر الصّديق رامبو في حياته بدأت نيران الاستعلاء والسّيطرة تضطرم في قلبها، فأساءت إلى صورة الاثنين بنفس الدّرجة التي أساء بها المجتمع لهما لا سيما بعد حادثة إطلاق الرصاص على رامبو. وهنا يظهر سؤال آخر في الأفق: هل كان رامبو القرين الرّوحيّ الجديد لفيرلين؟
قبل الجواب عن هذا السّؤال لا بد أن نتوقف بعض الشيء عند ثيمة القرين الرّوحي من يكون؟
في كتابي (كأس السمّ)، الصّادر عام 2022، تطرّقتُ بشكل مفصّل إلى ظاهرة القرين الرّوحيّ للأديب العارف باللّه (26)
وأعود هنا وأذكرُ القرين باسمه الحقيقيّ؛ وأقول إنّه الأنثى العقليّة لكلّ فكر توهّجَ بالحرف والهبات الإلهيّة العظمى، لا تُحَدَّدُ بعُمرٍ ولا بجنسٍ ولا بزمان أو مكانٍ أو دينٍ وهيَ الرّوح المُلْهِمَة والمُلْهَمَة وقد تكون من عالم الإنس، لكنّها لا تتحرّكُ إلّا بصفتها الجنّيّة أيْ بصفاتها غير الظّاهرة للعيان، فتكتسبُ حركةَ الحور العين أو حملة الأباريق، أو المارد والعفريت والهدهد، والنّملة والنّحلة. وأنا حينما أتحدّثُ هنا عن الجنّ والعفاريت والمردة فإنّي لا أعني التّأويل الخاطئ الشّائع بين النّاس وإنّما أقصد صفة القوّة التي تتحرّكُ بها الأنثى العقليّة فإذا كانت كثيرة الحركة في الأرض وفي الماء والهواء سمّيت بالعفريت، وإذا كانت ذات جبروت وعنفوان طوفانيّ سُمّيت بالمارد وهكذا دواليك من الصّفات مثل الغوّاص والطيّار وما إليها. ولأنّ آرثر رامبو كان كثير الحركة والتجوال ومحبّاً للأسفار، فهو عفريت خالص جاء بثورة عميقة، وغيّرَ قواعد القصيدة الفرنسيّة بل الإنسانيّة كاملة من الأعماق والجذور، ولأنّه عفريت في صفته الجوّانيّة لم يطقه ولم يفهم أحد طبيعته هذه سوى فيرلين فاحتضنه بكرم شديد وتبنّاه ماديّاً ومعنويّاً إلى أن أصبح الأمر مستحيلاً بسبب معارضة زوجته وأهلها.
علاقة رامبو العفريت وفيرلين الشّاعر، كانت مثل علاقة أنكيدو بجلجامش، وجلال الدين الرّومي بشمس التّبريزي، وكلّ هؤلاء نعتهم الجهّال بالشذوذ الجنسيّ، وقلّة هم أولئكَ الّذين يعرفون أنّ الأنثى العقليّة غيمةٌ حبلى تبحثُ عن إناءٍ تفيضُ فيه بالمطر، والإناء هو المُريد الّذي يكونُ "أنثويَّ" الصّفة لأنّهُ الرّحمُ المستقبلُ لفيْضِ المُعَلّم.
والمُعلِّمَ دائمُ البحث عن مُريده يسعى نحوه باستمرارٍ، والشَّأنُ نفسه بالنّسبة للمريد تجاه معلّمه، ولا بدّ للاثنيْن أن يلتقيا، ليس جسديّاً بالضّرورة وإنّما روحيّاً قبل كلّ شيءٍ ليتحقّقَ الانصهار بينهُما. و"العلاقة" السّليمة بين الاثنيْن هي تلك الّتي لا يطلبُ فيها المُريدُ شيئاً، ولا يَعِدُ فيها المعلّمُ بشيء، إنّما يحدث الفيض والاستقبال لوحدهما ومن ذاتهما، مادام في المُريد عطَشٌ وفي المعلّم فيضٌ. ولا أحد في هذه "العلاقة" أفضل أو أهمَّ أو أكبرَ من أحد. وعليكَ أن تتذكّر جيّداً أيّها القارئ أنّه ثمّة فرق كبير بين المُريد والتّلميذ، وبين المعلّم والأستاذ. فالمُريد من أهل العلم اللّدنيّ، والمعلّم حاضنُه، أمّا التَّلميذُ فيطلبُ العلومَ الدّنيويّة الجاهزة، والأستاذُ قد درس طويلاً في حياته من أجلِ أن يحصل عليها في المدارس والجامعات، فيعطيها لتلميذه من باب الثّقافة والمؤسّسة والمجتمع، بقلبٍ قد يكون في كثير من الأحيان غارقاً في الغفلة والظّلام والكِبْر، في حين وبالإضافة إلى العلم الدّنيويّ والأكاديميّ، فإنّهُ من الممكن جدّاً أن يكون مُعلّمُك طفلاً وهو لا يدري أنّهُ كذلكَ، أو طفلةً، أو شيخاً عجوزاً لم يسبق له أنْ دخل إلى مدرسة، والعِلمُ الّذي في قلبه أكبر بكثير ممّا قد يتوقَّعُهُ فيلسوف أو مُنَظِّرٌ من أهل الثّقافة والعلوم. المعلّمُ أو الشّيخُ شمعةٌ مُشتعلة، والمُريدُ كذلك، وحينما يقعُ اللّقاء بينهما تتوحّدُ الشّعلتان ولا يهمّ إذا ظلّ الجسدان منفصلان بحُكم الزّمان والمكان والتّاريخ والجغرافيا.
حينما يلتقي المُريد بمعلِّمه يقعُ العشقُ، وعليهما معاً أن يعرفَا متى يحدثُ الانفصال ليكمل كلّ واحدٍ منهما الطّريق بمفرده؛ وبّول فيرلين وآرثر رامبو اقترنا في عالم الرّوح، وتبادلا الأثر والتأثير فيما بينهما، وكان كلّ واحد منهما المعلّم والمريد لبعضهما بعضاً، وفي رحلتهما معاً كانا يبحثان عن مفهوم شاسع وعميق للّه، وقد وجداهُ في طريقين مختلفين، رامبو وجده في الإسلام بحسب ما استنتجه بعضُ البحّاثة؛ وبّول في المسيحيّة، وأصبح كلاهُما عارفيْن كبيرين جاهرهما العالمُ بالكراهيّة والحقد والحرب والعداء، فرامبو لم ينتبه أحدٌ لاعتناقه الإسلام في قصائده وزواجه بامرأة حبشيّة مسلمة (27) أو لنقل إنّه لم يتمّ البحث في هذه المسألة وفضّل الكثير من النّقّاد التّعتيم عليها أو على الأقل عدم الخوض فيها بشكل جدّيّ، على الرّغم من أنّ الشاعر الشابّ كان منذ بداياته يُظهر ميوله إلى الشّرق وثقافاته ودياناته متأثّراً في ذلك بوالده الّذي كان عالماً دارساً للغة العربيّة وعلومها، ومنهمكاً في ترجمة القرآن إلى اللّغة الفرنسيّة. أمّا فيرلين فعانق المسيحيّة في أبهى وأعمق تجلّياتها وترك قصائد صوفية عرفانيّة تناولها بالتحليل والدراسة كبار نقّاد فرنسا الّذين دافعوا عن سيرة الشّاعر وأخلاقياته العالية ومن أشهرهم جوريس-كارل هويسمانز (28).
ومن يطالع مراسلات فيرلين وكتاباته النقديّة فسوف يلاحظ أن الطّريقة التي كان يكتب بها عن رامبو كان فيها الكثير من الإعجاب بكفاءاته وقدراته الشّعريّة ومشروعه الأدبيّ الكبير في تجديد القصيدة الفرنسيّة بطريقة ثوريّة كومونيّة - نسبة لأحداث كومونة باريس -. وكما كتب عنه، كتب عن آخرين غيره، وكما عرفه عرف آخرين غيره ممّن التقاهم في صالونات باريس الأدبيّة، وكلاهما كان مرتبطاً عاطفياً وجنسيًّا بنساء لا رجال حتّى بعد أن تركَ رامبو فرنسا، فلماذا لم يحكِ الدّارسون عن نساء الشّاعريْن بمن فيهنّ الملهمات الأسطوريّات اللّائي ظهرن في الكثير من النصوص بما فيها قصائد ديوان (إشراقات) التي بدا فيها رامبو مولعاً بالمرأة في كلّ تجلّياتها العرفانيّة الخارقة كجنيّة قادرة على تحويل روح الشّاعر والتّحليق به إلى السماوات العصيّة والقصيّة، بل لماذا هذا التّركيز على هذه الصّورة المثليّة التي لا يوجد شيء يؤكّدها سوى تأويلات مفتعلة لبعض النصّوص التي تمّ فيها ليّ عنق المعنى من أجل خلط الأوراق وخلق المزيد من التشويش، إضافة إلى مراسلات أكثرها مزوّرة وملفّقة بدليل تواريخ كتابتها وتحريرها كتلك التي أشيع عن الاثنين تبادلها والتّوصل بها في يوم كتابتها مع العلم أنّ رامبو كان خارج باريس بل خارج فرنسا كلّها ومن المفترض أن تتأخّر بعضُ هذه الرّسائل عن الوصول لا أن يستلمها فيرلين ساعات بعد كتابتها (29)؟! وكلّ هذا يثبتُ ما كان يُحاكُ من كيْدٍ ومكرٍ من أجل الطّعن في التّغيير العرفانيّ والأخلاقيّ الهائل الّذي وقع في حياة كلا الشّاعريْن، وتكفي قراءة بعض نصوص فيرلين الشّاهقة ليتأكّد لنا صدق ما ذهبنا إليه من تحليل، وهي الآتي إدراجها:

دعاءُ الصّباح

إلهي، اقبل صلاتي، وألهمني الدّعاء،
أنتَ الحكمةُ الكاملة والخيرُ كلّه،
دائمُ القلق أنتَ بشأن ساعتي الأخيرة،
أحْبَبْتَني منذ الأزل.
لأنّ - هذه السعادة رهيبة، فالسرُّ كذلك هائل وعجيب
ولأنّهُ لطيف أيضاً، وعلى الرّغم من أنّني أتأمّله بعمق شديد،
فإنّ عقلي يقعُ بين فكّي التّشويش والإحباط، -
نعم لقد أحببتني منذ الأزل
ولأنّ ساعتي الأخيرة هي قلقُكَ الكبير
فأنتَ تريدها أن تكون سعيدة، ولكي تُحَقِّقَ لها هذه النّتيجة،
قبل الكون، وقبل النور،
أعددتَ كلّ شيءٍ باهتمام عظيم.
أجبْ دعائي الّذي صغتُ
بعرفان كبير وأمنياتٍ متواضعة
كما يفعل الشّاعرُ وهو ينظم قصيدة مديح طيّبة
ومثل ما تفعل الأمُّ وهي تطبعُ قُبلةً على شَعْر ابنها.
ساعدني على تحقيق رضاك
وأعنّي على أن أفهَم أنّه لكي أبلغ مناي
فإنّه يجب أن أكون سعيدًا في الألم والحزن أوّلاً
بين النّاس الّذين تختبرهم بالقوانين الصّارمة
ثمّ بعد ذلكَ قريباً منكَ جدّاً دون مزيد من الدّموع،
قريباً منك أيّها الربُّ الأزليُّ في الفرح الأبديّ
مبتهجًا بعظمة وبهاء القدّيسين،
أعطني يقيناً قويًّا حتى أؤمن.
يجب أن أن أتذوّق الموت مئة مرّة، إذا كان هذا يرضيكَ؛
فهَبْني الإيمان الدّافئ
الّذي أقدّره وأحترمهُ
وعلّمني ألّا أضمر كراهيّة مهما كانت عادلة أو مقدّسة سوى لي أنا لا غير
وأن أحبَّ المذنبَ وأكره جريمته،
وقبل كلّ شيء، أنْ أحبَّ أولئك الذين ما زالوا بيننا بلا إيمان؛
وهبني التّواضعَ في الإيمان حتّى أذرف الدّمع
على ما قاسيتُ من الآلام والشّرور
وعلى تلكَ النِّعَم والسّاعة
الّتي هدرتُ بنذالة في مجهودات ضائعة؛
وليجعلْ روحكَ القدس الّذي يعرف كلّ التفاصيل الدّقيقة
عنفواني حَذِراً، وحيويّتي حكيمةً.
أعط أيّها الربُّ الصّالح بثقة لهذا العبد،
وعلّمهُ الحيطة والحذر
فأنا أتمنّى ألّا أكون أبدًا موضوعًا للرقابة
في العمل الصالح والقول الصحيح؛
علّمني اللّباقة في القول واللّياقة في الفعل؛
واحمِ مَن حولي من فضيحة واحدة فقط
اجعلني مثالاً يقود كلّ أولئكَ الحمقى والتّعساء إلى معرفتكَ
فالأبناء بدون والد كأرض بدون سيّد
وإذا كنتُ صالحًا، فالفضل في كلّ هذا يعود لك وحدكَ.
وبعدَ أن تكون كلّ الأشياء الضّروريّة بما فيها:
الإنسان والصبر والواجبُ المسطور
قد أثمرتْ بفضل مجهوداتي الطّيبة دفيئاتنا الزّراعيّة،
دعني أحبّكَ بكل مودّة،
وأتحرّر من كلّ ضعفي
وأحبَّ حتّى الفناء كمالَكَ المُطلق
حتّى موت الحواس، وسكراتها وانتشاءاتها الألْف
حتّى موت القلب والكبرياء والعاطفة،
حتّى موت الرّوح التّعيسة الجبانة المتمرّدة
التي كانت إرادتُكَ تناديها منذ زمن طويل
نحو التواضع المقدّس الأبديّ الجمال.
لكن احتفظ له بحلمه الجهنّميّ القبيح؛
حلمه المستيقظ من المعاني البلاغيّة المملّة
والتكهّنات الفارغة والحسابات العقيمة
الغارقة في الشّخير والمتمدّدة في الجُمل المتبهرجة
آه! اقتل عقلي وقلبي وأحاسيسي!
أفسح المجال للرّوح الّتي تؤمنُ وتشعُر وترى
فالكلّ باطل ولا جدوى منه عند الله.
افسح المجال يا ربّ للرّوح التي تسير في طريقكَ
ولا تتّجهُ سوى نحو الفردوس؛ الأمل الوحيد والمكان الوحيد!
ولتكُن هذه الروح ألطفَ خادم
قبل أن تكون زوجة للعرش الّذي لا مثيل له.
هبها نعمة الصّلاة النّاعمة كسرير من رغوة
يستحمُّ فيها هذا الطّائر الصّغير تحت أشعّة الشمس،
بل هبها صلاة هادئة كإسطبل بارد
يمرح ويرعى فيه هذا الحمل بين زوايا
من الظلّ والذّهب عندما يحتدم حرُّ الظهيرة المروعة،
وحينما يجعلُ حزيران الحشرة تصرخُ في التّبن.
الصلاة نعمة في داخلكَ، حتى وأنتَ بين الجموع،
وحتّى حينما تضلُّ وتضطربُ المُدُن.
أعطه الدّعاءَ الّذي يُوَحّدُ ومنه يتدفّقُ
نبعٌ رقراق من الحقائق الصارمة:
الموت، الخطيئة السوداء، الكفّارة البيضاء،
فرصة الهروب ونعمة السهر؛
صلّوا عليه في الأعالي الّتي ينسكبُ منها
النهر المُرُّ الجارف الذي يجب أن يصعد إليه:
الإماتة الروحيّة، والمحاكمة
النّار من خلال الشّوق والماء من خلال البكاء
لا نهائيّةً في نقصها
وإحساسها كأرملة تحتاج إلى حبّ لا يجلب سوى الألم
والجفاف والعواصف الرمليّة
عبر السّيل الهادر الّذي تعوم فيه بذراعين ثقيلتين.
سماء من الرّصاص المنصهر، ظمأ لا يُروي
في وسط هذا الماء الذي يُعْطشه دائمًا.
ولكن هذا الماء يتدفّقُ نحو الحياة الأبدية.
وسرعان ما سترتفعُ الموجةُ بلطف
وتحمل الرّوحَ المثابرة وعشقَها الوفيّ
عند أقدام الحبّ الأمين أيّها الإله الرحيم!
الموتة الطيّبة التي من أجلها قدّمتَ نفسكَ
من شأنها أن تبعثني عندك في الأبديّة الخاصّة بك.
أشفقْ على قلّة حيلتي، أعِنِّي على صراعاتي
وبارك جهدي في محاربة ضعفي!
الرحمة، يا إلهي الرّحيم! ساعدني على بلوغ الكمال.
فعملُكَ أيّها الخالق المحبوب
أنقذَ الروحَ التي افتديتها بالمحنة والآلام العظيمة.
أيّها الربّ، انظر وثمِّن ما قام به طفلكَ.
*
فارسُ التّعاسة
*
أيُّها الفارسُ المُلثّمُ الطيّبُ الّذي يمتطي حصانه في صمت
لقد اخترقتْ حربةُ الشّقاء قلبي العجوز

فانفَجرَ الدّمُ النّبيذيُّ القاني في دفقة واحدة
من قلبيَ العتيق وتبخّرَ فوق الزّهور تحت أشعّة الشّمس

وحينما أطفأتِ العتمةُ عينيَّ وصعد الصّراخُ إلى فمي
وماتَ قلبي بارتعاشة قاسية جدّاً

عندئذٍ اقتربَ منّي فارسُ الحزن
وترجّلَ عن فرسه ثمَّ لمسني بيده

وغرسَ إصبع يده المغطّاة بقفّاز حديديّ في جرحي
وبصوت قويّ بدأ يملي تعاليمه

وهاهو وبمجرد لمسة من إصبعه الحديديّة
وُلد لي قلب طاهر ومفعم بالفخر والعنفوان

وبشعلة إلهيّة صافية
بدأ ينبضُ في صدري قلب جديد وطيّب

وبقيتُ أرتجفُ ثملاً، وغير مصدّق بعض الشّيء،
كرجل ينعمُ بكشوفات الله

لكنّ الفارسَ الطيّبَ عاد وامتطى سرج بهيمته
وبينما كان يبتعد أومأ لي برأسه

وصرخ (مازلتُ أسمعُ هذا الصّوت):
"كن حذراً على الأقلّ! لأنّه شيء جيّد لمرّة واحدة فقط".
وبعد هاتين القصيدتين سيظلُّ دفاعنا عن عدم شذوذ الشّاعرين الجنسيّ حديثاً عن قضية محسومة منذ البداية، فلا رامبو - بعد ولا حتّى قبل مغادرته لفرنسا - عُرِف عنه ارتباطه العاطفيّ برجال آخرين سواءً كانوا من الوسط الأدبيّ أو غيره، ولا فيرلين سمعنا أو قرأنا عنه - يقيناً لا ادّعاء وكذبًا وتجذيفاً - ما يفيد أيّ نوع من هذه العلاقات المثليّة، بل على العكس من ذلك تماماً، فكلاهما كانا على علاقة بنساء مختلفات، ورامبو كان يحلم بتكوين أسرة مستقرّة وبإنجاب ولد يكون مهندساً ينقل له ثروته ويعلّمه العلوم الهندسيّة ويبعده عن الأدب والأدباء. ولو كانا مثليّين لاستخدمنا طريقة مختلفة في تحليل القضيّة وملابساتها واعتمدنا أسلوبًا علميّاً آخر للبثّ في هذه الأمور الحسّاسة نوعاً ما، وذلكَ لأنّ المثليّة تقتضي مفاتيح عرفانيّة خاصّة للغوص في دواخل الكائن المثليّ وجسديْه الترابي والأثيري، ثمَّ عقله في طبيعته الأنثويّة والذّكوريّة على حدٍّ سواء. وعليه فإنّنا نقول إنّ ما أشيع عن رامبو وفيرلين إنّما هو مجرّد تخيّلات وأشياء لا أساس لها من الصحّة بل حكايات ساهم المخيال الغوغائيّ المتأبلس لبعض المثقّفين المهووسين بسفاسف الأمور في تضخيمها وإعطائها حجمًا أكثر ممّا تستحقّ.
ولأنّ رامبو كان العفريتَ المنفيّ إلى أرضٍ لا تعرف لغة العفاريت المُلْهِمين والمُلْهَمين، فقد فضّل أن يغادر الوطن الّذي لم يُقَيِّم للعمق ما قدّمه آنذاكَ من عملٍ غيّر تاريخ القصيدة في الكون قاطبة، وليس تلقيبي له بالعفريت من باب المجاز أو البلاغة اللّغويّة ولكن لأنّي أعلمُ جيّداً أنّه ممّن اختار أن يبحث عن سرّ نخل اللّاتانيا ذو الأوراق المروحيّة الّتي تحوي أسرار كلّ علامة إلهيّة تُذَكّرُ الإنسان بأصله الفردوسيّ والتي ما حازها أحدٌ إلّا وأصبح ساحراً إلهيّاً بالمعنى العرفانيّ للكلمة، وهذا هو المفتاح الحقيقيّ لمن يريد قراءة رامبو ومعرفةَ لماذا غادر أصدقاءَه جميعاً بمن فيهم بّول فيرلين وذهب إلى اليمن ومصر والحبشة ليتركَ لنا كنوزه في ديوانيْن على قدر عالٍ من الأهميّة هما (فصل في الجحيم) و(إشراقات)، ويسجّل بصمته كغول متعفرت متمرّد متوحّد في مجتمع متعفّن، وبين ضلوعه قلب مفعم بالنّور الّذي رفعه عالياً كي لا يتلوّث بعالم البورجوازيّة حيث أخلاقيّة الصّرّاف الجائع والمقيم في عالم سائر نحو الانهيار ومنذور للبهيميّة في أقصى تجلياتها.
*
((صورتان نادرتان لآرثر رامبو أثناء إقامته في اليمن والحبشة))
*
نعم، كان لا بدّ لكلا الشّاعرين من امرأة تافهة تسيء فهمهما هي ماتيلد موتيه، وكان لا بدّ لهما أيضاً من تجربة خمرة العربدة كنار احترق بها طينهما الأرضيّ، لكي يقرّرا في الختام تجريب خمرة العشق الإلهيّ والسّفر إلى الحقّ عبر الكلمة والقصيدة، وقد وصلا فعلاً وهاهو رامبو يصف لنا قداسته ويقول: ((أنا القدّيس في مدارج الصّخر أصلّي كمثل الحيوانات الوادعة / ترعى حتّى في بحر فلسطين / أنا العالم ذو الأريكة المعتمة على نافذة حجرة مكتبتي يرتمي المطر والغصون / أنا مشّاء الطّرق الكبيرة عبر الغابات القزمة، صخب الهوّاسات يطغى على خطواتي وطويلا أرى غسيل ذهب الغروب المحزون)) (30).
من غيره هذا الماشي المسافر السالك إلى ربّه يستطيع كلّ هذا، بل من غيره هذا الّذي شرب السمّ واختار أن يعيش في زمن القتلة ليكون هو القاتل الذي بتر بسيف الكلمة كل قوانين القصيدة البالية وأحكامها التي سطّرها الماضون، ليؤكّد لنا أنّه وإن كان فيرلين قرينه الفكريّ لفترة معيّنة من حياته، فإنّه احتفظ لنفسه بقرين آخر لا يمكن أن يُشركَ به في العشق والحبّ الإلهيّ، وقد أطلق عليه اسم (العقل)، وكان يعني به السيّدَ المخلّص الّذي بنقرة من إصبعه على الطّبل تتحرّرُ جميع الأصوات ويبدأ التّناغم الجديد وينهض النّاس ويبدأ كلّ واحد في السّير بحثاً عن الحبّ الّذي يغيّر الأقدار ويبدّد الرّزايا، ويقود إلى برّ الأمن والسّلم والأمان.
*
الهوامش:
(1) ميشيل أونفري، اكتشاف اللذّة؛ شذرات قورينيّة، دار نينوى للترجمة والنّشر والتوزيع، دمشق، 2024؛
(2) ميشيل أونفري، نفي اللّاهوت، فيزياء الميتافيزيقا، ط1، منشورات الجمل، بغداد، 2012؛
(3) المصدر نفسه، ص 13؛
(4) المصدر نفسه، ص 16؛
(5) المصدر نفسه، ص 106؛
(6) أوشو، التانترا الرّوحانيّة والجنس، ترجمة نبيل سلامة، دار التكوين، دمشق، 2017؛
(7) أوشو، من الجنس إلى أعلى مراحل الوعي، ترجمة محمد ياسر حسكي، دار الخيال،بيروت، 2019؛
(8) المصدر نفسه، ص 08؛
(9) د. أسماء غريب، (القصيدة الذّهبية) و(لا يقرأ)، ضمن ديوان (99 قصيدة عنك)، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، ط1 وط2، 2015-2016، صص (33-39/313-315)؛
(10) سورة الكهف: الآية 28؛
(11) نسبة إلى حرف الألِف؛
(12) النّقطة هي سرّ الهويّة الغيبيّة في عالم الرّقم، محتجبة بصورها وأعيانها، وما من شيء إلّا وهي فيه، وما المستقيم إلّا ألِف، وما الألِفُ إلّا نقاط متقارب ومتداخل بعضها في بعض. ولأنّ النّقطة هي عينُ الألِفيّة، فكذلك الألِفُ هو عين التّعينات للحروف، والنّقطة معهم أينما حلّوا بل أقربُ إليهم من حبل الوريد ولكن لا يبصرون، وأنّى لهم ذلك والسرُّ مصون لا كان ولا يكون. ومن النقطة خرجت كلُّ الأقمار والشّموس، وبها ظهرت الأبجديّة التي عبرَها نخطّ للتاريخ تفاصيل رحلة الرّوح تحت إشراف وعناية الإله العزيز ربّنا وربّ العالمين أجمعين؛
(13) تأسّست دار سيلّيريو في العاصمة الصقليّة باليرمو عام 1969 باقتراح وتشجيع من الأديب والمفكّر الإيطاليّ ليوناردو شاشّا، والعالم الأنتروبولجيّ أنطونيو بوتّيتّا. والسيّدة إيلفيرا جورجاني وزوجها إينسو سيلّيريو هما صاحبا الدّار والمؤسّسان الرّسميّان لها. أمّا عن ألمع الأسماء الأدبيّة الّتي تعاونت مع الدّار فيذكر منها كلّ من جيزوالدو بوفالينو وأندريا كاملّيري.
(14) Mathilde Mautè, Moglie di Verlaine. A cura di Pino Parente e Daria Galateria, Sellerio Editore, Palermo, 1998, Pp 50-51
(15) المصدر نفسه، صص 97-136؛
(16) Edmond Le Pelletier, Paul Verlaine, sa vie, son œuvre, Paris, Mercure de France, 1907
(17) Paul Verlaine, Confessions, notes autobiographiques, Paris Albert Messin, 1926
(18) Paul Verlaine, Arthur Rimbaud, Passigli Editori, Firenze, 2023
(19) Paul Verlaine, I poeti maledetti, Traduzione di Claudio Rendina Il Saggiatore, Milano, 2024
(20) Mathilde Mautè, Moglie di Verlaine. A cura di Pino Parente e Daria Galateria, Sellerio Editore, Palermo, 1998, P.9
(21) Edmond Le Pelletier, Paul Verlaine, sa vie, son œuvre, Paris, Mercure de France, 1907, p 25
(22) Paul Verlaine, Confessions, notes autobiographiques, Paris Albert Messin, 1926, p105
(23) المصدر نفسه، صص 23-24؛
(24) من ديوان (قصائد زحليّة)؛
(25) قصيدة (طيور في اللّيل)، من ديوان رومانسيات بدون كلمات 1872-1873؛
(26) د. أسماء غريب، كأس السمّ / دراسات وحوارات، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2022؛
(27) حجي جابر، رامبو الحبشيّ، منشورات تكوين، 2021؛
(28) Joris Karl Huysmans, Poesies Religieuses (Paul Verlaine), Albert Messein, Paris 1904
(29) Paul Verlaine, Arthur Rimbaud, Passigli Editori, Firenze, 2023, Pp 114-121
(30) من ديوانه (إشراقات).



#أسماء_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رأسي في الدّلو
- الهدهد يبني ويهدم: ميتاسرديّات الخاتم السّليمانيّ في رواية ( ...
- سَفَر على بساط الفِكْر في مملكة سليمان (ع): قراءة في رواية ( ...
- أنا النّقطة (رواية)
- العارفة الأخيرة (رواية)
- السيّدة كُركُم (رواية)
- أكلتُ الشّمس (قراءات في روايات صقليّة) (2)
- أكلتُ الشّمسَ (قراءات في روايات صقليّة) 1
- قراءات عرفانيّة في فكر عبد الجبّار الرّفاعي
- في الشرّ وقضاياه
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصول الأخيرة
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصلان الثاني وا ...
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (3)
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصل الأول (2)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)
- تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدّين / المقدمة (1)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (1)
- إنسانُ السّلام: مَنْ هُوَ وكيفَ يَتكوّن؟ تجربة صبري يوسف الإ ...
- جدليةُ الحاءِ في سرديات وفاء عبد الرزاق: رقصةُ الجديلة والنه ...
- النقطةُ الجريحةُ، والحرفُ المتشظّي الباكي في تشكيليات الدكتو ...


المزيد.....




- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...
- مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...
- مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
- إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
- -قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا ...
- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - جُثّةٌ في المرآة / بول فيرلين وآرثر رامبو: قراءة عرفانيّة جديدة