|
مسرحية : حانة الملائكة
بديع الالوسي
الحوار المتمدن-العدد: 7872 - 2024 / 1 / 30 - 02:37
المحور:
الادب والفن
أعضاء المسرحية : البطل الرئيسي ( أركان ) الأبطال الثانويون (محفوظ ، البلبل ، دانيال ، الجمهور ) اللوحة الأولى : (شخصية واحدة ، رجل بعمر الخمسين عاما ً ) المكان ( حانة بغدادية ، ديكور المسرح : على الحائط الخلفي صور لفنانيين وكتاب عراقيين ، كذلك لافته متوسطة كتب عليها ( لا فضيلة دون الحرية ) على الجهة اليسرى كرسيان وطاولة بيضاء عليها قدحان وقنية خمر وشموع سيتم الاستفادة منها في نهاية المسرحية ، اما على الجهة اليمنى فيوجد كرسي هزاز ، وفي وسط المسرح طاولة مرتفعة عليها قفص فيه بلبل ) يبدأ الزمن : الساعة السابعة مساءً وينتهي الساعة العاشرة والنصف ليلا ً( تتصاعد الإضاءة الزرقاء تنير وسط المسرح ، وتكون مسلطة أول الأمر على أركان ومن ثم على الطاولة البيضاء المحاطة بكرسيين متقابلين ) أركان يرتدي معطفا ً طويلا ً اسود ا ً يتحرك بانفعال في كل أرجاء المسرح وهو يقول بصوت مرتفع : يا سامعين الصوت أن أشرار القبيلة صاروا يعتدون على كل تفاصيلنا الصغيرة (تكرر العبارة التي تحتها خط عدة مرات) ( يتوقف في وسط المكان يعطي ظهرة للمشاهدين ، نرى انه يحمل حقيبة صغيرة ، ويتحرك الى عمق المسرح المظلم ويعود بهدوء ليواجه الجمهور بسؤال) : هل تعتقدون ان اللحظات السعيدة تكرر نفسها . يتحرك ببطأ نحو المنضدة البيضاء ، يخرج من حقيبته اليدوية كتابا ً وجريدة ً يحاول ان يقرأ بها ،( في ذا الأثناء نسمع تصاعد أغنية ( صوت الغريب لفؤاد سالم ، لمدة نصف دقيقة ) ، فجأة ً يخرج أركان عن صمته ، ويباغت الجمهور بقوله : الغيوم تمر ، نعم تمر ونحن واقفون . أو كما يقول صديقي الحميم محفوظ :هذه دنيانا يوميا ً في شأن . ( يتوجه الى الجمهور وبصوت خافت ) يقول : لكن ألا تتفقون معي ، من إننا نحتاج للتكيف مع متغيرات الحياة ..( يخرج دفتر ملاحظات من حقيبته ، ويدون بعض الكلمات .. يقول ساخرا ً : هنالك أزمة منذ زمان بسبب حكومة الغمان ، يتحرك بسرعة نحو الباب ويعود ليقول مستغربا ً ومتسائلا ً : هل من احد منكم يعرف لماذا قرروا تدمير حياتنا ، عفوا ًحانتنا ، التي يسميها عامة الناس خمارة بغداد ، إلا محفوظ فقد اطلق عليها حانة الملائكة . يعود الى الطاولة حاملا ًبيده قنية الخمر ، يدندن مبتعدا ً عن القفص الذي يحوي البلبل : ( يجلس ثم ينهض ويأخذ ملعقة ويبدأ بالطرق الخفيف على قنينة الخمر وهو يردد ) : اليوم خمر ُ وغدا ً أمر ُ وغدا ً أمر ُ ( يصمت ثم يضحك وهو يردد مدندنا ً ) دون خمر ، وطن وطن ، ضاع الوطن يعود لمواجه الجمهور : هل تعرفون متى سيشنون غارتهم على حانتنا المباركة ؟ يتحرك بسرعة ويفتح حقيبته ويخرج منها دفتر الملاحظات ويكتب ثم يقول : يا لهم من أشراف ،انهم يريدون ان لا ننفصل عن الواقع ( ويضحك بانفعال ) يعود لمواجه الجمهور : هل تذكرون الحدث الذي مررنا به ؟ اعني الحرب الطائفية والقتل على الهوية ،( يصمت ) بعد سنة من حوادث الموت ، أول لقاء كان لنا في هذا المكان ، نعم انا ومحفوظ وجدنا في هذه الحانة أرواحنا الضائعة . يتحرك نحو الباب ويعود متسائلا ً : أين انت يا محفوظ ؟، لماذا تأخرت عن الموعد ! ، و تركتني وحيدا ًوقلقا ً عليك . يعود الى البلبل ويتحدث معه بحزن : إلا تذكر كيف كنا نلتقي ها هنا كل خميس ، انت تعرف من إننا ما كنا لنلتقي الا لترطيب المزاج وتفريغ بعض همومنا . يعود الى الطاولة ،يعقد يديه خلف راسه ، يمد رجليه ، يتحدث مع النادل دانيال وبصوت مرتفع : هل تظن أيها العجوز دانيال ان الأرواح الشريرة ستقتحم الحانة اليوم ؟ ينهض ويتحدث مع نفسه : يا إلهي ارحمنا ، فقد صرنا نخشى كل شيء ؟ يتحرك ويصعد على احد الكراسي وعينه على البلبل و يطلق عبارته : من لا يدافع عن حانته لا يدافع عن بيته ، ومن لا يدافع عن بيته لا يدافع عن وطنه .. يقفز الى وسط المسرح ، يلتفت إلى الجمهور ، يتقدم نحوهم وهو يصرخ كمهرج ويكرر : الحانة هي الوطن ، الحانة هي الوطن .. الوطن هو الحانة (تنطفئ الأضواء ، لحظة صمت ويقول بعدها أركان لدانيال وبصوت مرتفع : معقولة انقطعت الوطنية ( بعدها يتصاعد عزف عود لمنير بشير ) ويحل الظلام اللوحة الثانية : يسلط ضوء أحمر على الكرسي الهزاز الذي في الجهة اليمنى من المسرح ، يخلع أركان معطفه الطويل الأسود ، ويبقى بالقميص والبنطال الأبيضان للتعبير عن نقاءه) يجلس على الكرسي واضعا راسه فوق ركبتيه ، بعد برهة يرفع راسه مخاطبا ً الجمهور : سيأتي محفوظ ؟ ، حتما ً سيأتي ، ولكن من منكم يعرف محفوظ ؟ ( نسمع مقطع آخر من أغنية صوت الغريب لمدة نصف دقيقة) ، ما ان تنخفض الأغنية تدريجيا ً حتى يبدأ أركان في سرد حكاية صديقه : الى ان يحضر محفوظ ، بودي ان أحدثكم ببعض التفاصيل عن شخصيته العبثية . كل ما اذكره انه قال لي يوما ً، تركت أبي يشقى وحيدا ً واخترت طريقي الفردي ،( يفتح أركان دفتر الملاحظات ويتأمل فيه ، ينهض ويتحرك ذهابا وإيابا ) وأتذكر انه قال لي ذات مساء ان أصوات المدافع ما زالت تعصف برأسي يا صديقي أركان .، و بكي يومها ، وأضاف ان الحياة لا ترحم من خسر أحلامه ، ( يغلق الدفتر يصمت ثم يكمل ) وما أتذكره عنه أيضا انه قال :كنت في الخامسة والعشرين حين أخدت القطار المتجه الى الجنوب تاركا ً خلفي بغداد بكل مباهجها ، ( صمت ) وكانت الظروف تنحدر من سيء إلى أسوء ، وحال وصولي الى البصرة صرت اكدح كثور بري ، أعجبتني فكرة صيد الأسماك ، لكني كنت سيء الحظ ، لم اجن ِ من عملي سوى الندم ، كنت حينها شابا ً طائشاً واحمقا ً ، نعم قال لي اشياءً كثيرة ً لم أتذكرها الآن..( يصمت ، يفتح أركان الدفتر بعد ان يتأمل فيه وهو يتحدث) كان محفوظ يؤكد لي دائما ان الزمن الذي نعيش فيه زمنا ً حقيرا ًوملعونا ً . ربما لهذا لم يقتنع بالزواج وكان يقول عن نفسه انه رجل يحمل خيبته في قلبه ، وحكى لي قبل يومين حين كنا نتمشى على الجسر ، ان رجال هذا الزمان لا يعيرون احتراما للمرأة ، رجال مقموعين فاسدين أيضا ً ،( يتوقف أركان عن السرد يقول بغضب ) ، واعتقد انهم أشقياء يعيشون على هامش الحياة وعيونهم تلمع أمام المغريات التافهة ( (يصمت أركان يفتح الدفتر ويتأمل فيه ) ، وقال لي محفوظ ذات مرة : ما ان باغتتنا الحرب حتى ساءت وتغيرت الأحوال ، وما عاد المكان صالحا ً للإقامة . لهذا أجبرت على ترك البصرة ، ( يغلق الدفتر ويتأمل الكرسي ) ، و عدت الى بغداد كذئب جريح لالتحق كجندي في الخدمة العسكرية ، ما يعني أني رجعت بخفي حنين .(يصمت أركان ويبدأ يهرش راسه) ، كان محفوظ يومها يائسا ً وهو ما دفعه للقول : يا للشيطان، أني أصبحت أخاف من كل شيء من الحرب من المرأة و و و حتى من شرطي المرور ، لذا لم يبق لي سوى ان أحاول وان اشق طريقي من جديد . يا لسخرية القدر ان أقول الآن أن محفوظ رجل سعيد ، و أن والده بعد سنوات ساعده بمبلغ من المال أعانه على فتح محل ٍ لبيع الأسماك ، وأضاف : شيء مرعب أن تنزلق أحلامنا و أرواحنا الى الهاوية ،( يصمت ) قلت له ماذا تعني بكلمة تنزلق ؟ أجابني : اعني الانتحار وفض شراكتنا مع الحياة ، ولكن ما يؤلمني هو ان اغادر هذه الدنيا العجيبة تاركا ً السفلة والفاسدين والأشرار يتنعمون بهواء الحرية ، لهذا ظلت في نفسي رغبة وحيدة قبل ان أموت ، هي ان أبول على قبور أباءهم وأجدادهم ،ها ها ها ،( يرمي أركان الدفتر على الكرسي ) ويتكور على نفسه ، ويحل الظلام ، يكرر أركان عبارة : معقولة وطن بلا وطنية ..(ونبدأ نسمع صوت عود يعزف لمنير بشير ) ظلام اللوحة الثالثة : أركان بمعطفه الأسود جالس على الكرسي الملاصق للطاولة البيضاء التي في يسار المسرح الذي ينار بالضوء الأزرق ، ينظر الى الساعة التي في معصمه ويقول : أين انت يا صاحبي ؟ ، الساعة تشير الى الثامنة والنصف . يتحرك نحو البلبل قائلا ً : ستحف بنا الملائكة إذا حضر محفوظ . ( يتراجع الى الطاولة ويصغي الى أغنية غريب على الخليج بصوت فؤاد سالم ، بعد نصف دقيقة يقول ) : محفوظ يحب هذه الأغنية لانها من قصائد السياب ، يسأل الجمهور : فهل تحبون السياب كما حبه ؟ يعود ويتحدث مع نفسه : يا آه ، في هذه الليلة الحرجة افتقدك يا صاحبي، حتى البلبل لم يغرد لأنك غائب عن المشهد .( يخرج سجارة ويبدأ يدخن و يضحك ، بعدها يلتفت الى الجمهور ويكمل قائلا ً : بصراحة الوضع لا تنبيء عن فرج ، أمسى هذا الغياب يثير مخاوفي ويعكر مزاجي ، (يتحرك نحو الطاولة ويطفيء سجارته ) ويكمل : اني قلق على محفوظ وعلى نفسي ، وقلق عليكم أيضا ً ، فالموت يتربص بنا كمن سيعدم يوم غد .( ويستدرك ) لكنني ساكون بحال افضل لو حضر محفوظ . ( يمسك برأسه ) لا تسألني ايها النادل لماذا انا متوتر الان ؟ من اين تأتنا الراحة وأمان في هذا الوطن التعبان ، ( يرمي بمسبحته في الهواء ويقول ساخرا ً ) من يستطيع ان تحضر لي كأسا ً من الهدوء المعتق ( يضحك ، يعود ويتحرك الى البلبل قائلا ) : كم جميل ان نحيا ، ككل خلق الله بضحك وغناء وسكر وفرح ، وبما يخفف عن قلوبنا المواجع ، يتوجه الى الجمهور ويقول بانفعال : اعرف اننا نستطيع نحيا بلا خمر ، لكن ألا تظنون معي ان غلق الحانة تعني ضمن ما تعنية خنق للرغبات .. (يسال الجمهور ) اي مصير اسود ينتظرنا اذا ما تسلط الأشرار ( يصمت ويعود الى البلبل ويقول له : اعتقد اننا سنكون مضطرين للعيش على هامش الحياة ونرضى بما هو أسوء . (يعود ،يجلس على الكرسي ، يبدأ يشرب الخمرة ، وبصوت عالي : دانيال يا طيب القلب ، اعتقد اننا في ورطة ومأزق . (يضحك وهو يقول للجمهور ) : السلطات في بغداد يمنعون الخمر ، تعال يا محفوظ لنجعل من الحانة وطنا ًبديلا ً للسعادات . (يصمت ويعود يسأل النادل بصوت واضح ) : كيف لا نكون في ورطة و الأشباح الشريرة من الناس قد حولوا كل الأماكن الترفيهية الى إسطبلات . (يصمت ومن ثم يقوم ويتجه الى الجمهور، ويقول : تعرفون ايها السادة ، إننا في خطر ، ( يصمت قليلا ً ويصرخ ) وان مسخ الإنسان جريمة لا تغتفر . يتحرك باضطراب وهو يردد : لماذا لا يتركني الأشرار أعيش كما أريد ، لماذا لماذا ؟ لماذا لم تأتي يا محفوظ (يتكور على نفسه من الألم ) لحظة صمت بعدها ينهض ببطأ وهو يقول : ، أعذرك يا محفوظ ، الغائب حجته معه ،( لكن يتحرك الى الجمهور ) ويكمل قوله : ماذا عن الآخرين ، الذين يجدون في الحانة ملاذا ً ، الذين لا تكف الأرواح الشريرة عن مطاردتهم ،وربما سيتعرضون للضرب المبرح والإهانة ،يا لها من لحظات حرجة ، ما اتعسنا ونحن نعيش صامتين . ( مع انطفاء الأضواء يبقى أركان يردد جملته : اللعنة على الشيطان ، سنخسر كل شيء إذا ما راحت الوطنية . ( في الظلام لا نسمع سوى صدى هذه الكلمات) : يا له من واقع تعيس .. يا له من واقع خطير .. .. ( صمت ) يتصاعد عزف عود منفرد لمنير بشير ظلام
اللوحة الرابعة : ( يضاء المسرح بحزمة ضوء احمر مصحوبا ً بصوت فؤاد سالم ( غريب على الخليج ) ، يتوجه أركان الى الكرسي الهزاز الذي في يمين المسرح ، يجلس عليه بين حين واخر ، يخلع معطفه الأسود الطويل ، ويبقى بالقميص والبنطال الأبيضان في دلالة على نقاءه) يتكلم أركان ووجه الى السماء : كل الناس يسموني أركان بن النجار ، مهنتي مع والدي علمتني الكثير ، لكنني تعلمت من الكتب اكثر مما تعلمته من أبي وأمي ..اشعر بالذهول كيف أني ما زلت حيا ً ، ( يعصر جبهته محاولا ًاسترجاع ذاكرته ) قلت لابي قبل ثلاث ايام ، أني رجل محظوظ ، لأني لم أتعوق او أموت طيلة تلك السنوات العصيبة ، لكني مع مرور الأيام صرت متقلب الأهواء والمزاج ، لطالما نصحني أبي و منذ الصغر ان لا انفعل بسرعة ،( يعود يحرك الكرسي الهزاز ) ( يخرج صورة من الكتاب ويعيد تأملها ) كم انا سعيد اليوم حين عثرت على هذه الصورة ، انها هدية صديق قديم ،( يتأمل الصورة بعدها يقول ) : أنها صورتي اليتيمة في كردستان ، يا لها من تجربة هائلة ، خمس سنوات عشتها هنالك ، نعم ، أني هربت يومها من الحرب الملعونة محتميا ً مع رفاق بالجبل ، ( يصمت ويتحرك نحو عمق المسرح ويعود محدثا ً الجمهور ) قليلا ً منكم عاش حياة كريمة في زمن الحرب أو الحصار أو الاحتلال ، أما عني فاشعر بأني قد عشت حياة مبعثره ، حروب كبيرة ، وحروب أخرى صغيرة ، ضيعتني وبعثرت أهدافي وطموحاتي ، ( يعود ويجلس على الكرسي الهزاز ) خمس سنوات في الجبل مع رفاق حالمين ، ( ويخرج دفتر ويقرأ منه ،) كانت الحياة قصيرة وجميلة هناك ، بعد عشر سنوات من النضال والمعانات انقلبت المعادلة ، و أجهضت تجربة الأنصار او البيشمركة وتشتت الرفاق وضعنا في الشتات ، عدت بعد انتهاء الأحداث ، لأسأل نفسي : ما الذي استفدته من كل تلك الصدمات .( يصمت ويتذكر محفوظ ) هل تعلم يا محفوظ لماذا لم اصطحبك معي ، وذلك لأني كنت متيقنا ً من اني ساخوض مغامرة محفوفة بالمخاطر ، ( يتحدث مع الجمهور ) نعم يا محفوظ انت لا تعرف لا كثير من الناس يعرفون كم ما عانيناه في كردستان ، من برد وجوع ، وكيف تبدد وضاعت أيام شبابنا . ( يصمت ويعود يتحدث عن نفسه ) ، اما عني فقد مررت بظروف صعبة وعانيت مشاكل كادت تفقدني عقلي ، منها تجربة زواجي المبكر ، ولم ارزق سوى بطفلة ، بعد عودتي من كردستان انفصلت عن زوجتي ، حينها اكتشفت انها لا تبادلني الحب ، حيث عرفت انها في غيابي أحبت رجلا ً آخر ذو سلطة ومال ، وهنا تكمن معاناتي ( يصمت ويتحرك باضطراب) اذ تحولت حياتي إلى جحيم ، .( يضع يديه على رأسه ) فبعد كل ما جرى ، وما حدث لي ، اقف اليوم مع نفسي متسائلا ً : لماذا لا نكتشف إلا متأخرين ما سيؤول أليه مصيرنا ؟ (بصوت عالٍ يجيب ) آه يا إلهي ، كيف لي بعقلي محدود ان أفهم ما حدث َ . ( ينخفض صوته تدريجيا ً بعد ان يتداعى على الكرسي ، تخفت الأضواء الحمراء ، وبحلول العتمة نسمعه يتساءل بصوت واضح : متى تعود الوطنية ؟ ، (نبدأ نسمع صوت عود يعزف لمنير بشير ) ظلام اللوحة الخامسة : ضوء ازرق على أركان الذي يضع راسه على المنضدة التي في يسار المسرح ، اغنية فؤاد سالم غريب على الخليج لمدة نصف دقيقة ، بتثاقل يرفع أركان رأسه ، يتحدث وهو شبه نشوان من تأثير الخمرة ، يلتفت و يتحدث مع الجمهور : هل حقا كل الناس سعداء ، ام حالهم مثل حالي في تعاسة وشقاء ،( يشير الى البلبل مواصلا حديثه ) : يا تعاسة حظك ايها البلبل المسكين ربما ستقتل انت أيضا إذا ما اقتحمت الأرواح الشريرة الحانة . ( يتحرك الى الجهة اليسرى ويعود وهو يقول : اغلقت الباب بأحكام تبا ً للأشرار ، ( يتحدث الى الجمهور ) اللعنة سوف لا يكتفون بقتلي ، بل سيذبحون كل من يعترض طريقهم ، اجل ،سيذبحونا كالخراف واحد بعد آخر ، ( يحاول ان يعيد ترتيب أفكاره فيقول :) أينك يا محفوظ ، لماذا لم تحظر ( ينظر الى ساعته ) الزمن يشير الى العاشرة والنصف ليلا ً، ( يعود ويحدث مع نفسه ووجه إلى الجمهور ) يا الهي ماذا افعل الآن ؟ هل انسحب، ام أغادر المكان و اهرب من الشباك ؟ ( يصمت ، يبدأ بالتدخين ، ويقف وسط المسرح يسترسل قائلا ) :البعض سيقول لا جدوى من المقاومة ، اذ ليس بإمكاننا ان ندافع عن كل الحانات والتمسك الرغبات ، لكن من يضمن لنا من انهم سوف يكتفون بذلك و لا يتطاولون علينا بعد غلق الحانات ؟ ( صمت ) يمكنني أن أقول وبصراحة ، يا لحياتنا من حياة عقيمة وليست ذا جدوى ، قال لي محفوظ يوما ً ( يصمت ويمسك جبهته ) كل قرار ٍ نتخذه اليوم سوف ندفع ثمنه غدا ً .. ( في نشوة السكر يتحدث ) نعم يا محفوظ اني أوافقك الرأي تماما ًو لا أرى من أمل ٍ يلوح في الأفق ، اجل يا صاحبي ان المقاومة موقف أخلاقي ، و يتطلب منا ان نقدم التضحيات، ( يصمت ويتحرك نحو البلبل ) اجل ايها البلبل المبجل يجب ان لا نتركهم يقتلون رغباتنا ونحن صامتون ؟. ( يشعر بالضجر ) يا إلهي كيف لي ان أواجه كل هذه الأرواح الشريرة ، ( يصمت ، وهو يحتسي الخمر وبانفعال ، وبصوت عال ٍ يقول : ) اذا ما حضروا سأبصق في وجوههم ، ( يطأطأ راسه ، يشعر بالتردد والخذلان ) مع علمي ان محفوظ سيضحك من فعلتي هذه ، وأتوقع انه سيردد جملته الأنيقة : في الظروف السيئة ، الحذر يقي الضرر ، و يجب دائما أن نتهيأ إلى ما هو أسوء ( صمت ، بعدها اتجه نحو البلبل ودار ببطء حول القفص ، وسأله : أراك صامتا ً طوال الوقت ؟ هل الأخبار سيئة إلى هذا الحد أيها البلبل الحزين ؟ . يتقدم بخطوات متثاقلة ، مخاطبا ً الجمهور ) : من منكم سمع بحكاية العميان ؟ الأشرار يصمون آذانهم عن سماعها ، لا يهمني ذلك ، ما يهمني هو انتم ، ارى من الواجب ان احكيها لكم قبل ان أموت ، و استحلفكم بالله ان تحكوها لأطفالكم ، (يصمت ثم يستدرك ) بالله عليكم إذا لم تعجبكم ، عليكم ان تتحلوا بالشجاعة وتقولوا لي رأيكم بصراحة .( يلتف حول نفسه ويبدأ بسرد الحكاية ) : يُحكى أنّه في الزمان القديم ، ان حكيما ً أراد التعرف على كيف يفكر العميان ، وما هي رؤيتهم للواقع الغائب عنهم ! أحضر لهم فيلا ً وطلب منهم أن يلمسوه ويصفونه له ، فتحرك كل واحد منهم إلى الفيل وأمسك بجزء منه، وبدأ يصفه ، لمس أحدهم أذنه ، والثاني خرطومه ، والثالث أرجله الأربع ، والرابع ظهره ، أما الخامس فلمس رجلا واحدة من الأربع! (يصمت ويبتسم ويضحك وهو يقول للجمهور ) حين سمع محفوظ هذا الجزء من قصة العميان : سألني هل انتهيت من حكايتك ايها المجنون ؟ (يعود بالحديث الى الجمهور ) هل تعتقد من الضروري معرفة باقي الحكاية ؟ ( يتجه الى البلبل ومن ثم يعود الى الكرسي الذي في يمين المسرح ) اذا ما أردت يا محفوظ ان اكمل بقية الحكاية فيمكني ان القول : بعد ذلك ، وقف كل منهم يصف الفيل، فقال الذي لمس أذنه: الفيل شيء رقيق يشبه ورقة الشجر الكبيرة ، يتحرك نحو الأمام والوراء ، وقال الذي لمس ظهره : ان الفيل كالهضبة العالية والرابية المرتفعة، أما من لمس أرجله الأربع فقال : الفيل كالطاولة له أربع أرجل، اما الذي لمس خرطومه قال: الفيل يشبه الثعبان، طويل ونحيل ويتحرك في كل اتجاه! أما الذي لمس رجلا واحدة، فقال: الفيل كالعمود أو كجذع نخلة! هكذا وصف كل منهم ما رآه في خياله بعد لمسه . وما ان سمع كل واحد منهم ما وصفه الآخر ، حتى اختصموا ما بينهم ، و أخذ كل منهم يُنكر على الثاني رأيه ، معتبرا إياه مخطئا ويقول معتدا ً برأيه : الفيل ليس كما تصفون ، فأنتم إما كاذبون أو مخطئون،لأني لمست الفيل بيدي أيها الأغبياء . اما محفوظ فقد قال لي بعد سماع هذة الحكاية : هكذا الأشرار يا أركان يحتكرون الحقيقة ، ولا يؤمنون ان لكل منا له رؤيته عن هذا العالم . بعد كل جلسة في هذه الحانة أقول لمحفوظ اني اكثر تعاسة منك ، بسبب هذه الأجواء الخانقة ،حقا ً فهذا الغليان السياسي والمناخي يقتل الإنسان عدة مرات في اليوم ( يصمت ) لكن محفوظ رد علي بالقول : جل ما أخشاه ان يمنعوا عن الناس الهواء . .. خطى أركان الى الطاولة وتساءل بصوت منخفض وهو يتكلم مع النادل : دانيال ايها النادل اللعين ، ماذا حل بهذه المدينة ، أأصيب جميع رجالها بالإخصاء ؟ يشعل أركان شمعة ثم أخري ، وهو يقول : هذه لي ، اما هذه فلك يا صديق العمر ،( وصار يتأمل لهب الشمعة ، داهمته نوبة من الضحك اثر السكر غير عابئ بما ينتظر الجميع ، في تلك اللحظات الحرجة ، أصبح يسمع ضوضاء في الخارج ، تتخللها عيارات نارية ، ) ( بدأ قرع على باب الحانة ، الذي اغلقه أركان ، كان يضحك ، وهو يقول : كفى ،ليحدث ما يحدث ، يجب ان نطرد الخوف عن قلوبنا .(يتقدم الى الكرسي الهزاز ويتكلم مع الجمهور) : الى متى نخضع لهذا الذل والهوان ، وهذا البلاء يطاردنا صباح مساء ، ( يتجه الى الجمهور ويسألهم ) كيف نستطيع ان نعيش اذا ما هُزمت أحلامنا ، تنطفأ الأضواء ( في ذا الأثناء أركان يتساءل ) : يا ه يا محفوظ لو كنت معي الان ، لأخبرتني هل تنتصر الروح الوطنية ، ؟ ( يصمت ومن ثم يصرخ بأعلي صوته مردداً) : يا سامعين الصوت اخبروا عني إذا ما مت ، ان الوطنية هي الحل ، ان الوطنية هي الحل ( في الظلمة ، يتحرك نحو المنضدة البيضاء ، يأخذ الشمعتان ، ويبدأ يتحرك بشكل مترنح إلى الجهة المظلمة من المسرح ، في الظلمة ، صارت حركاته تشكل رقصة مع الشمعتين التان يمسكهما بيده وهي تعلو وتنخفض ، مرددا ً : ان البطولة تكمن في الدفاع عن التفاصيل الصغيرة .. ومع سماع عزف العود لمنير بشير ، يصمت تم يقول ـ طالما الحياة مستمرة فليس أمامنا سوى ان ، سوى أن أن .. النهاية
#بديع_الالوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين اللوحة والقصة : بديع الالوسي نموذجا ً
-
ما زال ثَمّة َوقت للتأويل..!
-
النائحات
-
أبراج زيوس *الحزينة
-
المتجهم الكردي
-
الإنسان والبحر
-
التوغل داخل المرايا (ج 4 : مرآة الاحتضار )
-
توغل داخل المرايا ( ج 3 مرآة البحر )
-
توغل داخل المرايا _( ج 2 : مرآة العطش )
-
التوغل داخل المرايا (ج 1 : مرآة النهر )
-
الخروج من بيوت الموتى
-
أنطفأت شمعة في تكريت
-
يوم بين عالمين
-
غروب
-
قصة قصيرة : فسفور الرغبات
-
مدار الجنون
-
قصة قصيرة : الأرواح المرئية
-
قصة قصيرة : في صحبة ابن مالك
-
ألمنحوته المنحوسة
المزيد.....
-
قبل فيلم -كشف القناع عن سبيسي-.. النجم الأميركي ينفي أي اعتد
...
-
بعد ضجة واسعة على خلفية واقعة -الطلاق 11 مرة-.. عالم أزهري ي
...
-
الفيلم الكويتي -شهر زي العسل- يتصدر مشاهدات 41 دولة
-
الفنانة شيرين عبد الوهاب تنهار باكية خلال حفل بالكويت (فيديو
...
-
تفاعل كبير مع آخر تغريدة نشرها الشاعر السعودي الراحل الأمير
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 158 مترجمة على قناة الفجر الجزائري
...
-
وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبدالمحسن عن عمر يناهز 75 عاماً ب
...
-
“أفلام تحبس الأنفاس” الرعب والاكشن مع تردد قناة أم بي سي 2 m
...
-
فنان يحول خيمة النزوح إلى مرسم
-
الإعلان الأول حصري.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 159 على قصة عش
...
المزيد.....
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|