|
توغل داخل المرايا ( ج 3 مرآة البحر )
بديع الالوسي
الحوار المتمدن-العدد: 6733 - 2020 / 11 / 15 - 00:18
المحور:
الادب والفن
( 3 ) مرآة البحر ما زالت تيريز تعتقد ان البحر طوق نجاة لها ، تهرع اليه كلما شعرت بضجر او حاجة ملحة ً للسباحة والترويح عن النفس ، ربما لهذا كانت تشكر الحياة دائماً لأن بيت والدها ليس بعيدا ً عن البحر ، مع ذلك ذهبت بسيارتها للبحر هذه المرة ، وفي الطريق كانت تخشى ما تخشاه ان تراودها افكار شيطانية بسبب الاعياء من السهر ومن عدم تحمل امها التي كانت لا تكف طوال النهار من ترديد : اريد ان اموت معه . فبعد اسبوع من الاعتناء بوالدها ، وبعد ان تيقنت بان مخالب الموت غرست بلحمه المتبقي ، صارت تعرف بانه ما عاد بالإمكان ان يستعيد عافيته ، ولكي تقاوم كل هذا الجزع وافقت على مقترح جارتها التي ختمته : اذهبي الى البحر انه بانتظارك . كم كانت تيريز بحاجة الى مثل هذا المقترح الذي ينم عن حس انساني وموقف نبيل جاء في الوقت المناسب . وما ان همت بالخروج حتى التفتت وقالت لها : ـ هاتفي المحمول معي ، متى احتجت الي ، ستجديني عندك . وقبل الظهر بقليل ، انطلقت ، وحال وصولها رمت بحذائها في السيارة ونزلت حافيةً ، كان البحر رهواً والشمس ساطعة ً تبث بدفئها على الساحل الرملي ، مما حدى بتيريز ان تنصرف لهواية طفولتها ، حيث بدأت تنبش الرمل الرطب وتغطي جسدها به ، حاولت ان تتمدد بسلام ، ولا تدري كيف انها افلحت بأخذ اغفاءة استمرت اقل من ساعة بقليل ، لكنها كانت كافية لتزودها بجرعةٍ من الطاقة والامل الكبيرين . نفضت الرمل عن جسدها ، وقضت وقتا ً طيبا ً في البحث عن الاصداف والقواقع ، نزهتها بين الكثبان الرملية ساعدها على ترتيب افكارها والعثور على هدوئها الداخلي ، عادت بها الذكريات لأيام طفولتها حين كانت ترى الاشباح تطاردها وتفز مرعوبة ً ، وكيف ان والدها كان يحضر في الوقت المناسب لينتشلها من براثن الرعب ، ربما لهذا صارت تحب اباها اكثر من امها ، وظلت كذلك طوال سنين طفولتها ، تعتبره كتلة من الحنان ، وجل ما كانت تخشاه ، اذا ما افتقدته ، فسوف لا تجد بديلا يعوضها عنه . مع ذلك وفي لحظة وجد يشوبها الحزن ، تمنت له ان ينطفئ مثل شمعة ، وان يخطفه الموت على حين غره ، مشاعرها تلك لم تنم عن حقد او كراهية ، بل لتحافظ في ذهنها على صورة ابيها الجميلة والقوية والمبتسمة للحياة ، قبل ان يتحول الجسد الى كتلة لحم اخرس او كومة عظام بلهاء ، وهذا ما عبرت عنه لأمها : انا متأكدة انه يريد ان نصلي لأجله . لكن الام ردت متسائلة بهدوء : وما فائدة الصلاة !! هل تعتقدين بانها ستساعد روحه على المغادرة بسلاسة ؟. في ذا الاثناء ، ووقت زلوف الشمس للمغيب ، ومشاهدتها النوارس تغادر الصخور الى عرض البحر ، شعرت بالعزلة القاتلة وبانها وحيدة في هذا العالم ، مما جعلها تنفجر باكية ، متذكرة اباها الذي شقى عقودا من الزمن وبذل كل ما بوسعه كي تنعم هي بحياة مفعمة بالسعادة . كانت في تلك اللحظات اكثر يقينا ً برحيل ابيها خلال الايام القادمة ، مع ذلك ظلت تراقب الأفق ، مرددةً في سرها كلاما لا يخلو من الزهو والفخر بابيها : ستبقى قبلاتك اللطيفة على جبيني كدليلٍ على عظمتك . المشي على الرمال الساخنة جعل ذهنها يعقد حوارات متخيلة مع والدها ، الذي اكتفى بسؤال واضح : لماذا الحياة قصيرة ؟ امام البحر الذي تعالت امواجه على حين غرة ، قررت ان لا تترك للحزن منفذا ً ليتسلل الى قلبها ، لكنها وضعت نصب عينيها ما يجب ان تقوم به من واجبات حيال والدها حتى نهاية المشوار . كل ذلك ساعدها على طرد التساؤلات المشؤومة التي ارقتها طوال الليلة الماضية . وهي تتمشى لوحدها في ذلك المكان المقفر ، قفز الى ذهنها بصيص ذلك الحلم ، حيث راودها صراخ ذلك الطفل ، الذي كانت تسمعه من خلف ذلك الباب الموصد الكبير ، والذي ما ان خف نشيجه ، حتى تناها لسمعها تلك الكلمات التي كانت تنادي بصوت واضح : النجدة .. النجدة . اغمضت عينيها قليلا ً وراحت ترقب تلك الغيوم الرمادية التي راحت تتشكل في كتلة تشبه عفريت مرعب ، لكن لألاء الشمس على صفحة البحر جعلها تتخيل هاتفاً لصوت ابيها وهو يتوسل بها ان تشعل شمعة قرب راسه ، ظنا ً منه بان النور سيسهم بطرد الارواح الشريرة . ولكن اكثر ما اثار العجب لديها هو وصية والدها ، في ان تتذكر كل تفاصيل هذه الجولة لتحكيها له ، يا ترى لماذا ؟ قالت في خلدها : هل لمجرد ان يتسلى بسماع تلك التفاصيل في ساعاته الاخيرة ؟ ام اراد ذلك ليرى العالم من خلالها ؟ ام لغاية اخرى في نفسه ، ان يحمل معه تلك التفاصيل الى العالم الاخر !!. كل هذه الأسئلة ضاعفت المواجع والمخاوف في نفس تيريز ، وقت الغروب ، خاصة بعد ان خلا الساحل تماما من البشر . لذا همت بالرحيل ، لكنها وهي تلقي اخر نظرة على السماء قالت : يا للهول !! حيث رأت اباها ينتصب واقفا ً وملوحا ً لها وسط البحر ، تحيط به اربع بجعات ، لم يدم ذلك طويلا ، كونه فجأة جلس القرفصاء ، وظلت مأخوذة ً بما ترى في ذلك الافق الدامي والصمت الرهيب ، مذهولة من وجه ابيها الخمسيني العامر بالابتسامة ، وما ان أغمضت عينيها لبعض ثوانٍ و شرعت بالصلاة ، حتى تخيلته بأم عينيها ، يغطس تدريجيا ً في الماء ، ولمحت البجعات الأربع يحلقن بعيدا ً . وما ان فرغت من مراقبة ذلك المشهد الحلمي الذي لم تجد له من تفسير منطقي ، وفي سورة دهشتها ، راحت تحث الخطى نحو سيارتها ، مشتت الذهن تطاردها الوساوس كغيوم يوم خريفي . من دون ان يمنعها شرودها من الامساك بالأمر الاكثر اهمية .. والذي دفعها ان تصرخ بصوت مسموع مبحوح : ارجوك انتظرني ، يا ابي ..
#بديع_الالوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
توغل داخل المرايا _( ج 2 : مرآة العطش )
-
التوغل داخل المرايا (ج 1 : مرآة النهر )
-
الخروج من بيوت الموتى
-
أنطفأت شمعة في تكريت
-
يوم بين عالمين
-
غروب
-
قصة قصيرة : فسفور الرغبات
-
مدار الجنون
-
قصة قصيرة : الأرواح المرئية
-
قصة قصيرة : في صحبة ابن مالك
-
ألمنحوته المنحوسة
المزيد.....
-
-باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
-
فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
-
مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
-
إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز
...
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|