القوى العظمى وبيت العنكبوت

طلعت خيري

الحوار المتمدن-العدد: 7861 - 2024 / 1 / 19 - 09:27
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

تغيب المجتمع عن الدراية وعزله عن المحيط المعرفي تحت تأثير أي فكر سواء ان كان ديني أو فلسفي هو تحجيم للعقل عن الوعي ، كما ان أنتاج جمع من الآلهة في ميثلوجيا مختلفة يجعل المجتمع يمر في حالة اللاوعي بماهية الإله الحقيقي ، كما ان تعدد الإلهة يفسح المجال لأصاحب التوجهات في ترويض المجتمع بالشكل الذي ينسجم مع المصالح السياسية والاقتصادية ، وبالتالي من السهولة الهيمنة عليه عند تمرير أي قرار يصب في المصالح بشكل عام ، من قول بسيط المثقف عدو للحكومات لأنه يمتلك مقومات المعرفة ، التي ربما تفوق أصحاب القرار السياسي أو الاقتصادي ، فالوعي محارب في كل مكان من الأرض حتى في الدول المتقدمة حضاريا وتكنولوجيا ، ان إنكار قيمة العقل منهاج سياسي شامل يمارسه الدين السياسي والاقتصاد الرأسمالي ، اللذان يستغلان للاوعي المجتمعي في تمرير المشاريع الطائفية والرأسمالية ، فأي مجتمع إذا أردنا إدخاله في مرحلة اللاوعي ، نطلق له حق ممارسة الرغبات والنزوات الغريزية دون حدود ، فالملذات اكبر قوة منهكة للوعي ، فاللاوعي ايديولوجية سياسية دوغمائية عازلة للعقل عن التأثيرات المعرفية ، في هذا الموضوع سوف نتعرف على دور الوعي واللاوعي ، وتأثيره على الأفراد والجماعات في حالة الاستجابة أو الرفض للتحذير من الكوارث الطبيعة ، التي وضعها الرسل أمام الشعوب كتحديات مصيرية ، قلنا في المقالة السابقة أثمرت دعوة إبراهيم في قومه ، عن إيمان شخص واحد فقط ، فامن له لوط ، وقال إني مهاجر الى ربي انه هو العزيز الحكيم ، لوط لم يكن رسولا في تلك الفترة ، لكنه تعلم من إبراهيم المعرفة الكافية في محاورة الفكر الميثلوجي بشكل عام ،لاطلاعه على الأفكار الفلسفية المؤثرة على الوعي ، ولما هاجر مع إبراهيم الى الأرض التي بارك الله فيها ، استقرا في قوم نسب الى لوط لأنه دعاهم الى عبادة الله وترك الفاحشة التي جعلت العقل يتمحور حول الملذات رافضا كل أنوع المعرفة ، كان قوم لوط يمارس الفاحشة تحت تأثير ميثلوجي عبر عدد من الآلهة ، منها آلهة تمارس الفاحشة فيما بينها ، واله يمارس الفاحشة مع مجموعة من الذكور مستغلا الأطفال دون سن الخامسة عشر للمتعة الجنسية ، حتى أصبحت الفاحشة ارث ثقافي مجتمعي يعبر عنها ، بمواضيع أدبية تصف جمال غلمان كسروا حاجز الخجل مارسوا الفاحشة بشكل جماعي ، وفي الأماكن العامة ، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ، وهنا خرج الأمر عن الرغبة الجنسية والحرية الشخصية الى دعوة دينية تنسب الى الله ، ولقد لمسنا ذلك في الفكر الميثلوجي المكي الملائكة بنات الله ، عندما نسبوا الفاحشة الى الله {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ -- ما لا تعلمون هو اللاوعي بالله رب السماوات والأرض ، ولكن هم يؤمنون باله غير واعي قدم لهم الفواحش على طبق من ذهب ، فلما هدد لوط قومه بعذاب الله تحدوه ، وقالوا ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين ، قال رب انصرني على القوم المفسدين

وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ{28} أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{29} قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ{30}

الإبعاد التوعوية من تهديد المجتمعات الوثنية بالعذاب الدنيوي ، لتحريك وازع الخوف ولجر العقل الى التفكير بجدية التهديد ، لأخرجه من حالة اللاوعي الى الوعي المنجي لكيانه الوجودي ، نتابع كيف نجا الله إبراهيم ولوط من العذاب ودور الوعي في الخلاص من المصير المخزي ، لأنهما فكرا بجدية وترقبا لما سيحدث مما جعلهما مستعدان للابتعاد عن الخطر المدمر، لم يستحب الله لدعاء لوط مباشرة ، حتى ابعد ابرأهيم عن منطقة الخطر، فأول خطوة ، جاء الرسل الى إبراهيم بشرى إسحاق ويعقوب ثم اخبروه بهلاك قوم لوط ، قال إبراهيم للرسل ، ان فيها لوط ، قالوا نحن اعلم بمن فيها ، حينئذ استيقن إبراهيم ان الخطر قادم فخرج نازحا الى مكة ، ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ، قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية ان أهلها كانوا ظالمين ، قال إبراهيم ان فيها لوط ، قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله ، أهله الذين امنوا معه ، إلا امرأته كانت من الغابرين ، امراة لوط من قوم لوط ، لم تؤمن بدعوته بل كانت معارضة لتوجهاته العقائدية الداعية للإصلاح ، فهي من أخبرت قومها بقدوم الرسل الى بيت زوجها ، ان الوعي وللاوعي فصل بين لوط وامرأته ، فلم تستفد من وعي زوجها الذي اكتسبه من إبراهيم ، فكان مصيرها كمصير قومها ، ولما جاء الرسل الى بيت لوط ، سيئ بهم أي ساء وضعه من مجيئهم ، وضاق بهم ذرعا احتار بهم خوفا من امرأته ، وقالوا لا تخف لن يصلوا إلينا ، ولا تحزن لن يصيبك ما سيصيبهم ، أنا منجوك واهلك إلا أمرتك كانت من الغابرين ، انأ منزلون على أهل هذه القرية رجز من السماء بما كانوا يفسقون ، ولقد تركنا منها أية بينة لقوم يعقلون ، يعقلون الوعي العقلي بعد التفكير بجدية الحدث كعبرة آنية ومستقبلية للأمم التالية

وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ{31} قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ{32} وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ{33} إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ{34} وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{35}

سرد شامل لمصير الأمم التي فضلت اللاوعي على الوعي متجاهلة التحديات المصيرية التي جاء بها الرسل ، كل حسب اعتقاده وأفكاره وفلسفته ، أتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا ، فلم يتوقع قوم نوح الغرق في بيئة صحراوية متذبذبة الأمطار ، كما لم يتوقع قوم عاد أصحاب الريع الرأسمالي من الحرف الصناعة والأنشطة الاقتصادية ذو القدرات العسكرية ، من ان الرياح القطبية ستصل الى مناطقهم الحارة ، كما لم يتوقع قوم ثمود أصحاب الرفاهية والترف والدعة والأيكة ، الطبقة الرفيعة النسب ، من ان الوباء سيداهم بيوتهم المحصنة في الجبال ، كما لم يتوقع قوم فرعون وهامان وجنودهما ، من ان قدراتهم العسكرية ستنهار أمام زلزال البحر ، كما لم يتوقع قوم لوط سكان الأرض المقدسة والمباركة بالأشجار المثمرة والمياه العذبة ، من ان الحمم البركانية ستصهر جلودهم ، كما لم يتوقع قارون الرأسمالي صاحب الكنوز العظيمة من ان الخسائر المالية والاقتصادية ستفقده كل شيء حتى دار سكناه ، مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء ، كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ، وان اوهن البيوت لبت العنكبوت لو كانوا يعلمون ، ان الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم ، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ، ( يعقلها إلا العالمون وتعني الوعي العقلي بالعلم والتفكير ) ، خلق الله السموات الأرض بالحق ان في ذلك لآية للمؤمنين

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ{36} فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ{37} وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ{38} وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ{39} فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{40} مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{41} إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{42} وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ{43} خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ{44}

#طلعت_خيري (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل