أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - خليبنيكوف واللغة المستحيلة















المزيد.....

خليبنيكوف واللغة المستحيلة


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 7849 - 2024 / 1 / 7 - 16:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


للإحتفال بالآلة وتمجيد العمل، على الإنسان أن يكون خارج المصنع وليس داخله.
فيليمير خليبنيكوف.

فيليمير خليبنيكوف الشاعر المستقبلي الروسي كان يدعو لـ "الكتابة المناضلة ضد الدلالة". وكان يدعو، في بيان المستقبلية الروسية الأول، لأن تكون الكتابة "صفعة في وجه الذوق العام"، والى "توسيع اللغة باشتقاقات وابتكارات لفظية جديدة"، وذلك بالتلاعب اللفظي والصوتي للكلمات، وهو الشعر أو اللغة التي تطورت في بداية القرن العشرين إلى ما يسمى اليوم بالشعر الصوتي poésie sonore. خليبنيكوف كان مجددا بكل معنى الكلمة، وكان يعشق الترحال عبر أراضي روسيا الشاسعة عرضا وطولا، توزعت حياته بين السهوب الرحبة والفولغا العظيم، وقد أحب وكتب عن هذا الشعب الذي يعيش في هذه المنطقة الممتدة ناحية أستراخان على أرض روسيا الشاسعة، في المنطقة التي تنتهي فيها رحلة الفولغا الطويلة لتصب في بحر قزوين:

عندما تموت الجياد .. فإنها تتنفس

وعندما تموت الأعشاب .. فإنها تجف

وعندما تموت الشموس .. فإنها تخبو
وعندما يموت البشر .. فإنهم ينشدون الأغاني
يمكن القول أنه كان من الرحل كالغجر، يعيش في المحطات؛ ينزل من قطار ليركب قطارا آخر، وآخر رحلاته كانت إلى إيران حيث تعرف على الفرق الصوفية واختلط ببعضهم ولقب بـالدرويش الروسي، في هذه البلاد حيث:

-"يطهو الأطفال ابتساماتٍ
في مَجامِر رموشهم القاتمة
ويرمونها للمارّة".

وحتى تكتمل صورته كدرويش حقيقي مخلص لنمط الحياة التي اختارها، تبنى كلبا ضالا كمرافق له، يجوبان الطرق والأزقة معا وينامان في الأماكن المعزولة كأي شحاذين، وتقول الأسطورة أنه كان يحمل مخطوطاته واوراقه في كيس من القماش كان في الأصل غطاء وسادة. وفي الأشهر الأخيرة من حياته، عاش قرب موسكو حيث توفي عام 1922 عن عمر يناهز السابعة والثلاثين عاما، بمرض الشعر وسوء التغذية.
فالشاعر لا يكتفي بالعالم كما هو، ولا تهمه الأزهار والفراشات والطبيعة عموما بقدر ما يهمه أن يعيد حضورها بالكلمات والصور، أي يخلق هذه الأشياء جماليا، لأن الجمال في نهاية الأمر لا علاقة له بالطبيعة - فالطبيعة لا تتمتع لا بالقبح ولا بالجمال، إنها كائنة فحسب - الجمال يخص ما يبدعه الإنسان. فالطائر لن يستطيع أن يذهب بعيدا في السماء، إذا كان يطير بأجنحته فقط .. كما يقول وليام بليك. وهذا الشعر الذي يتغنى بالعصافير والفراشات يسميه ماياكوفسكي، رفيق خليبنيكوف بـ "كتكتة الوز"، فالشعر في رأيه ليس أن تجلس وتتغنى على الأطلال وآثار الحبيب أو تتحسر على الأزهار الذابلة..

أنا لا أحتمل الفكرة

بأنني لم أخلق الوردة

وإذا كنت منذ ٢٨ عاما أنمي عقلي

فليس ذلك لإستنشاق عبير الورود

وإنما لخلقها

ولا شك أن هذه المهمة، إبداع العالم وخلق جغرافيا جديدة ليست بالسهولة المتعارف عليها عند هؤلاء الشعراء الذين يجعلون من العالم المحيط بهم مادة تعبيرهم، بالتأمل أو الوصف أو التعليق على ما يحدث. وهو ما أعترف به وليام بليك في "زفاف الجنة والجحيم" عندما قال بأن إبداع زهرة بسيطة هو عمل يحتاج إلى قرون To create a little flower is the labour of ages - . الشاعر لا يخلق العالم فقط، إنه يبدع حياته بكاملها، ويخلق العصر الذي يعيش ويتحرك فيه. وتتداخل في أغلب الأحيان تفاصيل سيرته "الواقعية" مع سيرته المصورة في لقطات وفي سيناريوهات متعددة أبدعها من خياله، وغذاها بألمه وقلقه وقرفه وملله من العالم الذي يعصره ويضغط على قلبه كالكماشة ليفجر في النهاية تلك الشحنة الهائلة من التوتر العاطفي المتراكم والذي يجعل كينونة الشاعر بأكملها مشدودة كقوس أوليسيوس. الشاعر يرفض أن يكون شعره مفهوما لأنه لا يهدف العقل وإنما المخيلة، إنه لا يكتب لافتات من قبيل "هنا مشروبات باردة " أو من قبيل لافتات الدعاية أو العناوين الرئيسية للصحف اليومية، هدفه أن يخلق الكلمات والجمل والأصوات التي لها قدرة سحرية في إختراق قوقعة الآخر وإصابته في الصميم.

الشاعر أو الفنان عموما، هو الإنسان الذي يرفض إستعمال اللغة، بمعنى اللغة في وظيفتها المتعلقة بالتواصل ونقل الدلالة من إنسان إلى آخر، بل يستعمل اللغة كمساحة جغرافية، كأرض أو كإقليم تدور فيه معركة الحياة. إنه يسكن اللغة ويتنفس اللغة ولا يستطيع أن ينفصل عن الكلمات. إنه كله لغة، جسدا وعقلا، لحما ودما وفكرا وخيالا. وكل تفاصيل حياته تصبح مادة لغوية وغذاء لخياله الكانيبالي، أدنى حادثة مرت به منذ بداية الحياة تتخذ أهمية في السرد العام للأسطورة التي يشيدها كبرج بابل طابقا بعد طابق، وفصلا بعد فصل ليشكل في النهاية عمله الفني النهائي والذي هو حياته بأكملها. فالشاعر هو من يخلق حياته وتفاصيلها بالكلمات، ويشيد قصورا من المعاني والعلاقات، بواسطة اللغة، حيث الكلمات هي أحجار البناء، وحيث الخيال هو الخارطة الوحيدة المفتوحة أمامه على طاولة عمله. مملكة الشاعر إذا هي عالم المعنى وليس عالم الدلالة، لا يهمه وضوح الكلمات ودلالاتها المتعارف عليها. الشاعر هو أشبه بملاك ضائع هائم في فضاء اللغة وكأنه جاء إلى هذا العالم من أجل مهمة مقدسة وحيدة ألا وهي البحث عن "المعنى" الحقيقي للكلمات؛ المعنى الذي ضاع في زخم الحياة الروتينية اليومية وجعل إستعمال اللغة حكرا للدلالة على الأشياء والكائنات المحيطة بالإنسان. وهدف الشعر والفن عموما ما هو إلا تفجير تركيب اللغة والكلمة من الداخل لكي تتحرر من القيود التي تشدها للواقع المادي - الأرضي وتصحو من غيبوبة الاستعمال والتكرار.
جوناثان سويفت Jonathan Swift، في روايته الكبيرة رحلات جوليفر Gulliver s Travels، أراد أن يسخر من العلم والعلماء وكل الذين يدعون العقلانية، فجعل جوليفر في رحلته الثالثة يجد نفسه في جزيرة صغيرة معلقة في الهواء تسمى لابوتا Laputa ويسكنها نخبة من العلماء يتحكمون في أمور البلاد التي يطيرون فوقها من السماء والتي تسمى Balnibarbi. وقد ألتقى في هذه البلاد بمجموعة من الأكادميين الذين لديهم مشروع لخلق لغة عالمية يتفاهم بها الجميع ولا مجال فيها للخطأ لما تدل عليه الكلمات، فكانوا يتجولون محملين بعشرات الأدوات والأشياء المختلفة من أواني وأجهزة ومستلزمات الحياة، وكانت هذه الأشياء تحل محل الكلمات، فإذا أراد شخص ما أن يقول كلمة صحن أو كأس مثلا ما عليه إلا أن يخرج من جرابه صحنا أو كأسا حقيقيا يريه للمستمع. وهذه العلاقة المباشرة والآلية بين الكلمات ودلالاتها هو ما ثار ضده الشعر والفن، بمحاولة إستكشاف عالم ماوراء العقل وما وراء الدلالة، ما يسميه الشاعر الروسي خليبنيكوف Velimir Khlebnikov بمقولة transmentale أو "زاووم - zaoum" حيث تتخذ الأصوات قوة سحرية مأثرة تأثيرا مباشرا في ذهن الشاعر والمتلقي على السواء، وهو ما نجده عند سويفت في الأسماء الغريبة التي يعطيها لشخصيات وأماكن روايته مثل بروبدنغناغ Brobdingnag، لابوتا Laputa، بالنباربي Balnibarbi وغلوبدوبدريب Glubbdubdrib أو بلاد هويهنهنمس Houyhnhnms. 
العمل الفني والإبداع الشعري، يُفهم على أنه المسافة القصوى بين الوتر الأداتي للفكر وبين محور الحياة الحقيقية للمبدع، وكهروب بعيدا عن الذات المادية الغارقة في هويتها الإجتماعية والإدارية اليومية. لتمجيد الإنسان والإحتفال بالحياة، على الشاعر أن يتقشر من قوقعته الحيوانية - البشرية ويأخذ عصا الأنبياء ويلبس أقنعة وجوه الآلهة ويتكلم بلسان الجنيات. وهذا ما حاول القيام به خليبنيكوف في عمله المسرحي الضخم زانغيزي Zanghézi، حيث الشخصية الأساسية هو Cankara Zanghézi بطل أسطوري يتكلم لغة الطيور ولغة الآلهة، لغة ما وراء الادراك ولغة النجوم. الكلمة كانت مقيدة؛ حيث كان عليها أن تتكيف وفق المعنى، وحيث الفكر كان يملي قوانينه على الكلمة وليس العكس وآن أوان ظهورلغة ماوراء الادراك الكونية ليعيد الاعتبار إلى الكلمة ككيان مكتفٍ بذاته. ذلك أن الشعر في نظره هو تجربة لفظية والكلمة أوسع وأبعد مم تدل عليه والشكل المادي للكلمة - رسما وصوتا - له أهمية أكثر من المعنى الدلالي الذي تنقله أو تشير إليه. وقد دفع خليبنيكوف نظريته لحدودها القصوى حيث انصب اهتمامه بشكل حاد في قضية الأعداد؛ مستبدلا العلامة اللغوية بعلامة تلغرافية أو رياضية. وذروة هذا الاهتمام بالأعداد تجسدت، أواخر حياته، في عمل شعري غريب عنوانه ألواح المصير Les tables du destin محاولا فيه إستخدام الأعداد لكي تشير إلى السلوك البشري وتؤثر فيه مثلما تقوم به اللغة.


أبادا بادا بادا

باداريدو

ريدوبادادان

دان آدان

آري دادا
داداديدو

بارا باراوان


آني ماني داني

آن

أبادا بادا
بادادان



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هاسبارا أو فلسفة إسرائيل الإعلامية -٣
- المشروع الوجودي
- جثت الكلمات المبقورة
- العنصرية والخوف من الغرباء
- هاسبارا - فلسفة إسرائيل الإعلامية -٢
- هاسبارا - فلسفة إسرائيل الإعلامية
- الذاكرة
- الرسالة الأخيرة
- جذور المقاومة والإرهاب
- مهزلة القانون الدولي ومجلس الأمن
- العسكر والإرهاب
- قريبا .. نهاية العالم
- الدولة والإرهاب
- ظاهرة الإستسقاط وعلاقة الفن بالهلوسة
- إغتيال الأمل
- العدمية الإسلامية
- عن الكتابة أثناء وبعد المجزرة
- الإرهاب والعدمية
- تِك تاك تِك تاك بوم
- أبجدية الزلازل


المزيد.....




- مؤثرة موضة تعرض الجانب الغريب لأكبر حدث للأزياء في دبي
- آخر تطورات الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمري ...
- محمد بن سلمان يستقبل بلينكن في الرياض.. والخارجية الأمريكية ...
- -كيف يُمكن تبرير الدعم السياسي الأمريكي لحكومة إسرائيلية وتب ...
- انتعاش الآمال بالتوصل إلى هدنة في غزة .. ما مصير عملية رفح؟ ...
- منتج لذيذ يعزز الطاقة لدينا
- إسرائيل تقرر انتظار رد -حماس- قبل إرسال وفدها للتفاوض في الق ...
- محامي ترامب السابق يحصد الأموال من -تيك توك- (صورة + فيديو) ...
- محللون يشيرون إلى عوامل ضعف النفوذ الأمريكي في القارة السمرا ...
- القوات الأوكرانية تكشف تفاصيل جديدة عن عسكري قتل في ألمانيا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - خليبنيكوف واللغة المستحيلة