|
دعهم يأكلون الكعكة: رحلة إلى إنسانية إدوارد سعيد
محمد الصياد
الحوار المتمدن-العدد: 7841 - 2023 / 12 / 30 - 14:30
المحور:
القضية الفلسطينية
تيد شتاينبرغ تقديم وترجمة محمد الصيّاد في سبتمبر من عام 2019، أي قبل طوفان الأقصى بأربع سنوات ونيف، كتب تيد شتاينبرغ“Ted Steinberg”، مقالاً بعنوان "دعهم يأكلون الكعكة: رحلة إلى إنسانية إدوارد سعيد"، ونظراً لرؤية كاتب المقال الشفافة، وقراءته المسبقة لما كان قادما من انفجارات في الصراع الدائر بين الشعب الفلسطيني المسنود من كافة أحرار العالم، وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي المدعومة من قبل كافة الدول الامبريالية الغربية، وجدنا أن من المناسب نقله الى العربية وتعميم رؤيته التي تعبر عن خط فكري متمرد على السردية الصهيونية المستعمِرة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأمريكية. وهي رؤية ما برحت تخترق الأوساط الطلابية والأكاديمية، وحتى السياسية في الولايات المتحدة، وتحقق شعبية متزايدة.
إنما دعونا نتعرف أولاً على كاتب هذا المقال قبل عرض ترجمته الى العربية كما هي من دون تدخل. وُلِد تيد شتاينبرغ في مايو 1961 في بلدة بروكلين (إحدى البلدات الخمس في مدينة نيويورك)، ونشأ في قرية ميريك بلونغ آيلاند نشأة دينية يهودية؛ فقد أُقيم له حفل بلوغ في معبد بيث آم “Temple Beth Am”1 في ميريك في أبريل عام 1974. والحفل عبارة عن مراسم تنشِئة طقسية تقام للصبية اليهود حين يبلغون الثالثة عشرة من العمر، كبالغين مهيئين للالتزام بالمبادئ الدينية ومؤهلين للمشاركة في طقوس العبادة العمومية.
لذلك كان تيد شتاينبرغ في نشأته مؤيداً تلقائيا لإسرائيل، لكنه ما أن دخل حرم الجامعة، واطلع على مؤلفات عالِم اللسانيات والفيلسوف اليساري الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي2، ومؤلفات المفكر العربي/الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، حتى أصبح مناهضا صلبا للصهيونية. حصل على درجة البكالوريوس بامتياز مع مرتبة الشرف عام 1983 من جامعة تافتس “Tufts University”، وحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة برانديز “Brandeis University” عام 1989، وعمل أستاذا في عدة جامعات ومعاهد منها جامعة ميشيغان، ومعهد نيوجيرسي للتكنولوجيا، وجامعة كيس ويسترن ريزيرف، حيث يشغل أيضا منصب مستشار هيئة التدريس لاتحاد الطلاب الراديكالي ومستشار هيئة التدريس لـ"طلاب من أجل العدالة في فلسطين" في نفس الجامعة. وهو، كما نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد، مدافع صلب عن حقوق الشعب الفلسطيني، ويدعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض، بما في ذلك مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. وبصفته مستشارا لهيئة التدريس لمنظمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين، أيد قرار الهيئة الطلابية في جامعة كيس ويسترن ريزيرف الذي يدعو الجامعة لسحب استثماراتها من الشركات التي تمارس أعمالا تجارية في إسرائيل. وهو ضيف دائم على العديد من البرامج الحوارية التفزيونية والإذاعية، وينشر العديد من الدراسات والمقالات في منصات مختلفة، بما فيها نيويورك تايمز وشبكات الاعلام التقدمي في الولايات المتحدة. وتتميز مقالاته الرئيسية بالنقد اللاذع للرأسمالية ولاقتصاد السوق.
يبدأ المقال على النحو التالي: كان ذلك يوم 27 أبريل 1974، وهو يوم بلوغي. كان الطعام في حفل الاستقبال عاديا باستثناء الحلوى، وهي عبارة عن كعكة صفراء كبيرة أُعدت تكريما لي؛ والتي تصادف أن تكون على شكل دولة إسرائيل. أعجبتني الكعكة، وخاصة الكعكة الصفراء.
لا أعرف مَن مِن الضيوف حصل على قطعة من الضفة الغربية. لكن تلك الشرائح جاءت مظللة بخطوط فنية متوازية من الجليد البني. لا بد أن الخباز كان يدرس شؤون الشرق الأوسط في المدرسة المسائية، ليس فقط في الضفة الغربية، بل أيضا في مساحات أخرى من الأراضي المتنازع عليها مثل سيناء ومرتفعات الجولان وحتى قطاع غزة الصغير، والتي تم الاستيلاء عليها جميعا في حرب الأيام الستة عام 1967، وقد تم تعليمها على الكعكة بعلامات فارقة، إذ تم غرس أعلام إسرائيلية مصغرة في الكعكة للتأكيد على انتصار الشعب اليهودي في واحدة من أكثر قطع الأرض شحناً بالمخاطر على هذا الكوكب. لماذا كانت الكعكة مظللة جزئيًا؟ كان هذا هو السؤال الذي لم يخطر ببالي أبدا.
لقد تعلمنا في المدرسة العبرية أن إسرائيل أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. ظننت أن هذا في منتهى الكمال. أعطاني الناس هدايا عيد الميلاد بما في ذلك شهادات الأشجار المزروعة هناك على شرفي. أرض بلا بشر أوحت لي بالعقم. بدت الأشجار فكرة معقولة.
في عام 1976 قمت بزيارة إسرائيل، ورافقني في الجولة شخص يدعى أليكس، وكان من المفهوم أن يناديني باسمي العبري. قمنا بزيارة عدد من الأماكن المميزة بذلكم الفقس المظَلّلْ على الكعكة، بما في ذلك الخليل الواقعة في الضفة الغربية، ومرتفعات الجولان. عندما وصلنا إلى مرتفعات الجولان نزلت من السيارة وتقيأت، على الرغم من أنني لم أكن أدلي بأي نوع من التصريحات السياسية. كان لدى أليكس قدم ثقيلة. رأيت أشجارا في رحلتنا، ولكن لم تكن هناك أي منها مزروعة باسمي، بينما كنا نسرع نحو كيبوتس يُدعى كفار جلعادي يقع بالقرب من الحدود مع لبنان. وفي اليوم التالي، توجهنا جنوبا إلى القدس عبر ما أسماه أليكس "المنطقة المحررة". أنا متأكد من أنه لم يكن لدي أي فكرة عما يعنيه ذلك. أردت فقط الوصول إلى القدس دون التقيؤ مرة أخرى.
علمت أنه عندما وصل الصهاينة وجدوا أرضا فارغة، أرضا قاحلة في حاجة ماسة إلى التحسين. والتحسين هو بالضبط ما فعله اليهود "الكادحون"، مما جعل الصحراء تزدهر. في كل مكان ذهبنا إليه، كان أليكس يروي نفس القصة: قبل مجيء اليهود، لم يكن يوجد أي شيء هنا. انظر الآن إلى المكان، منظر طبيعي جميل ومستأنس، يتناغم مع نغمة الحياة الحديثة.
في الكلية اكتشفت أن هناك أولئك الأشخاص الذين يُدعَون فلسطينيين. قالت غولدا مائير، رئيسة الوزراء في حفل بلوغي “Bar Mitzvah”، عبارتها الشهيرة، إنه بالنسبة للشعب الفلسطيني "فإنه غير موجود". لم يتحدث أحد قط عن الفلسطينيين في المعبد أو أثناء الرحلة إلى إسرائيل. لقد كان العرب دائما هم الذين سمعت عنهم، ولم أسمع أبدا عن العرب الفلسطينيين.
كان هناك هذا الرجل الذي يتجول في كامبريدج، ماساتشوستس، بالقرب من المكان الذي أسلكه في طريقي إلى الكلية، والذي كان يتحدث بشكل روتيني عن هؤلاء الفلسطينيين الغامضين. اعتقدت أنه كان يُدعى نورم، كما في نورمان تشومسكي. تشومسكي هذا كان يشير إلى الفلسطينيين على أنهم شعب أصلي. لم يخبرني أحد بذلك قط. قال إن الفلسطينيين لديهم حق مشروع في كعكة عيد ميلادي، على الرغم من أنه لم يعبر عن الأمر بهذه الطريقة.
كنت أتجول في إحدى محلات بيع الكتب في كامبريدج عندما عثرت على كتاب بعنوان "المثلث المصيري: الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيون" (1983). المؤلف هو نعوم تشومسكي، الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو نفس الشخص الذي رأيته ذات مرة يتحدث عن الفلسطينيين. ومن المؤكد أنه كان لديه فهم مختلف لدور إسرائيل في العالم عن سانفورد سابرستين “Sanford Saperstein”، الحاخام الذي كنت أقلده في نشأتي، والذي وصف إسرائيل بأنها الديمقراطية الوحيدة في منطقة محاصرة تعاني من الإرهابيين الذين يسعون لإلقاء اليهود في البحر. بعد سنوات قليلة، قرأت كتاب "إلقاء اللوم على الضحايا: المنح الدراسية الزائفة والمسألة الفلسطينية" “Blaming the Victims: Spurious Scholarship and the Palestinian Question” (1988). وكان أحد المحررين الذين شاركوا في تأليف هذا الكتاب، شخص يدعى إدوارد سعيد. ولد (إدوارد) سعيد في القدس الغربية عام 1935، وغادر فلسطين إلى القاهرة عام 1947. وبعد أربع سنوات، انتقل إلى الولايات المتحدة، حيث كانت لوالديه علاقات (درس والد سعيد في جامعة كيس ويسترن ريسيرف
“Case Western Reserve University”، حيث أقوم بالتدريس حاليا). كان سعيد طفلاً مشاكساً، لذلك كان يتلقى نصيبه من الضرب. وقد التحق بمدرسة داخلية في وادي نهر كونيتيكت، وهي بيئة طبيعية مقارنة لنشأته في الصحراء، ما بدا أن ذلك فاقم إحساسه بالغربة (كتب لاحقا: "الثلج يدل على نوع من الموت"). انتقل سعيد للدراسة في جامعتي برينستون وهارفارد ثم انضم إلى هيئة تدريس اللغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا في عام 1963، وبرز سعيد، الذي التقى بتشومسكي في ذروة الاحتجاجات ضد الحرب في فيتنام، كواحد من أبرز المثقفين "المنشقين" في القرن العشرين.
سعيد رجل متعلم للغاية، رأى في المثقف أفضل دفاع للإنسانية ضد "عالم غير تاريخي منسي"؛ وقد اتخذ منعطفا صارما نحو اليسار بعد حرب الأيام الستة (حرب 1967 بين العرب وإسرائيل). تذكّر ذات مرة إنه وجد في دفء مارتن لوثر كينغ تجاه انتصار إسرائيل في المعركة، مثيرا للقلق، ربما لأنه كان مبنيا على فرضية أن الفلسطينيين ببساطة غير موجودين. وكما كتب سعيد في عام 1968، "يتم تصور فلسطين على أنها صحراء فارغة تنتظر أن تتفتح، وسكانها من البدو الرحل لا يملكون أي حق ثابت في الأرض، وبالتالي لا ديمومة ثقافية". وبسبب هذه المحاولات والمحاولات المماثلة لقلب آراء المؤسسة، تم تشويه سمعة سعيد باعتباره معاديا للسامية و"أستاذ الإرهاب".
كان سعيد دليلاً حيا على أن تعليمي في المدرسة العبرية لم يكن تعليما على الإطلاق. أرض بلا بشر؟ جرداء!؟ الفلسطينيون غير موجودين!؟ لقد نجحت هجمة العلاقات العامة التي شنتها إسرائيل، والتي كانت تهدف إلى قلب حقيقة مفادها أن تأسيس الدولة استلزم تجريد السكان الأصليين من ممتلكاتهم، بشكل بارع.
بعد عام من احتفالي بحفل بلوغي، أدلى سعيد بشهادته أمام لجنة تابعة للكونغرس. يومها قال: "تخيلوا أنكم، بسبب بعض المفارقات الخبيثة، وجدتم أنفسكم مصنفين أجانب في بلدكم. هذا هو جوهر مصير الفلسطينيين في القرن العشرين". أطلق سعيد على مذكراته الصادرة عام 1999 عنوان "خارج المكان" في إشارة إلى حياته التي قضاها في صراع مع آلام المنفى.
لقد أتاحت له إنسانيته (إنسانية ادوارد سعيد) رؤية الصراع في هذا الركن من العالم من منظور يصور المأساة الحقيقية للشعب الفلسطيني. وكما كتب: "كان الوعي قد بزغ في كل مكان حول وجود شعبين يخوضان صراعا رهيبا على نفس الأرض، حيث كان أحدهما، الواقع تحت وطأة ماض مروع من الاضطهاد والإبادة المنهجيين، في وضع المضطهِد للشعب الآخر". وعلى الرغم من دفاعه عن حقوق الفلسطينيين، إلا أن سعيد اعترف دائما بحقيقة أن الصهيونية أصبحت على ما هي عليه (من وحشية) بسبب الاضطهاد والإبادة الجماعية التي عانى منها اليهود. بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، كشف سعيد شيئا تجاهله تشومسكي: إنه على الرغم من اختلال توازن القوى، كان للفلسطينيين القدرة على التصرف، وهي نقطة أكدتها الانتفاضة الأولى، التي أضحت تمردا متواصلا ضد الاستعمار بدأ عام 1987، أي قبل عام من قراءتي لإدوارد سعيد. لقد ساعد فكر سعيد، وانخراطه في الشؤون السياسية، والأهم من ذلك كله نضالات الفلسطينيين العاديين الساعين للتحرر من الاحتلال - ساعد في تغيير النظرة التي تنظر بها السلطات الإسرائيلية إلى الشعب الفلسطيني. فلم يعد الشعب الفلسطيني غير موجود، إذ كيف يمكن لحركة المقاومة أن لا يكون لها هوية موحدة. في ثمانينيات القرن الماضي بدأ القادة الإسرائيليون في اطلاق نعوت تحقيرية مختلفة على الفلسطينيين، مثل "أبناء آوى" (الجنرال موشيه ديان)، و"الجنادب" (رئيس الوزراء إسحق شامير)، و"الحشرات" (رئيس الوزراء مناحيم بيغن)، و"الصراصير" (الجنرال رافائيل إيتان). وكتب سعيد: «لعلنا نستطيع يوما ما أن نتطلع لتحقيق مكانة الماشية أو القرود».
في عام 1988، شارك سعيد في فعالية أقيمت في نيويورك مع الفيلسوف مايكل والزر من معهد الدراسات المتقدمة، وهو يهودي معروف بسياساته التقدمية (هذا طبعا بحسب المعايير الأمريكية الفاسدة في التصنيف السياسي - المترجم). انتقد فالزر سعيد لأنه عزف على وتر الماضي عندما قال إن القضية المتعلقة بالفلسطينيين هي المستقبل. كان سعيد عاجزا عن الكلام. عند هذه النقطة، قامت امرأة من بين الجمهور تدعى هيلدا سيلفرشتاين “Hilda Silverstein” وتولت الهجوم على فالزر، متوجهة له بالسؤال: "كيف تجرؤ على قول ذلك لأي شخص؟ نحن نطلب من كل العالم، من كل الناس في العالم، أن يتذكروا ماضينا، وأنت تقول للفلسطيني أن ينسى الماضي؟ كيف تجرؤ؟"
لم يعد سعيد إلى مكان ولادته حتى مساء يوم 12 يونيو 1992، أي بعد مرور خمسة وأربعين عاما من آخر مرة وطأت فيها قدماه ذلك المكان. لم يكن لديه أي وسيلة لمعرفة أمر كعكتي وتجولي فيما بعد في وطنه، حيث شعرت بالترحيب الشديد.
كنت أتساءل بيني وبين نفسي عما إذا كنت سأتذكر كعكة عيد ميلادي لولا وجود المصورين من فيلد ستوديوز في بروكلين. لقد أنتجوا تذكارا صغيرا تكريما لي بهذه المناسبة: ألبوم بسمك أربع بوصات مع صفحات مذهبة بسماكة ثمان بوصات من تلك التي خلّدت الحلوى. ها أنا ذا أرتدي بدلتي الأولى مع ربطة عنق فوشيه كبيرة تكاد تنفجر من تحت ذقني. طلب مني المصور أن أضع ذراعي على الطاولة، ما جعلني أتكئ وأنظر إلى الدولة الإسرائيلية الموسعة المرسومة باللون البيج والبني والأحمر.
لسنوات، امتدت لعقود، كان ألبوم بار ميتزفه الضخم ساكناً على الرف في غرفة العائلة بمنزل طفولتي. كانت هذه هي السنوات التي انزلقت فيها الحلوى إلى خبايا تاريخي الشخصي الذي استراح هناك حتى عاد إلى وعيه مرة أخرى في ربيع عام 2010. في هذه المرحلة من حياتي كنت أستاذا جامعيا، وقد كنت كذلك منذ أكثر من عقدين من الزمن. كنت في اجتماع مؤسف حول مدى ملاءمة ضم أحد المتبرعين إلى لجنة التوظيف بالجامعة للحصول على منصب أستاذية في الدراسات اليهودية عندما أثرتُ موضوع كعكتي التي يبلغ عمرها خمسة وثلاثين عاما. ومن المثير للدهشة أن لجنة التوظيف ضمت أيضا عضو هيئة تدريس في الفيزياء تصادف أنه صهيوني، ولم يكن لديه أي مؤهلات أكاديمية تؤهله للمساهمة في هذه المسألة.
لقد كشف إدوارد سعيد منذ فترة طويلة عن الطرق التي أسهم بها المثقفون في إضفاء الشرعية على الوضع الراهن. فقد كان السماح لجهة مانحة وأحد العلماء بالمساعدة في توظيف باحث في العلوم الإنسانية، بمثابة وصفة لمزيد من إضفاء تلك الشرعية. كان طرح الكعكة البغيضة، هي طريقتي للفت الانتباه إلى العمل الهجومي الذي سأقوم به. لكن من الواضح أن طريقتي الفظة في تلاوة رواية حلوى "أرضي المقدسة"، لم تلق آذاناً صاغية، لأنه بعد بضع سنوات، في عام 2015، شارك اثنان من المانحين من الاتحاد اليهودي في كليفلاند – الملتزم حرفيا بـ"دعم إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية" - في حملة أخرى للبحث عن عمل جامعي في الدراسات اليهودية. وقد تم تمويل هذا المنصب في الكلية بهبة سُميت باسم أبا هيليل سيلفر (Abba Hillel Silver, 1893-1963)3. وكما يوضح الكاتب الأمريكي المتخصص في قضايا المنطقة العربية وجوارها، والتر هيكسون “W-alter-L. Hixson”، في كتابه «درع إسرائيل: اللوبي الإسرائيلي والجيل الأول من الصراع الفلسطيني» (Israel’s Armor: The Israel Lobby and the First Generation of the Palestine Conflict)، الصادر سنة 2019، فقد لعب سيلفر دورا رئيسيا في ربط الهوية اليهودية بالمشروع الصهيوني، وبرز كأحد مهندسي اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، الذي عمل بلا هوادة على تقويض جهود تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. كم هي قاسية سخرية القدر أن يساعد المانحون في الاتحاد اليهودي في فحص طلبات العمل! إنما لحسن الحظ أن سعيد، الذي دُفن في هذه المرحلة في جبال لبنان، قد فاته كل هذا.
مؤخراً، قمت باستحضار الكعكة الاستعمارية الاستيطانية في محاضرة بعنوان "من يخاف من إدوارد سعيد؟"، وذلك بغية محاولة معالجة هذا السؤال مع تقديم مثال على تحولي الشخصي في التفكير حول إسرائيل والفلسطينيين كوسيلة لتوضيح أن نسختنا من الحقيقة لا تتشكل ببساطة من خلال المنطق والأدلة ولكن من خلال تجاربنا في الحياة. وكانت كعكتي بمثابة الرقائق المثالية لرؤية سعيد لعالم أكثر مساواة وديمقراطية يقوم على الوصول المشترك إلى الأرض، وتقرير المصير، والتبادلية. أعلام وخطوط الكعكة تدور حول القومية والمِلكية، وحول ما يفرقنا عن بعضنا البعض، وهو عالم كئيب ميئوس منه بقدر ما هو مفلس. من يخاف من إدوارد سعيد؟ القائمة طويلة وتتجاوز المشاهير مثل آلان ديرشوفيتز “Alan Dershowitz” (محامي أمريكي، ابن لأبوين يهوديين أرثوذكسيين – المترجم)، الذي استغل مناسبة وفاة سعيد بسبب السرطان في عام 2003 لمقارنته - ربما بالتشبيه الأكثر انحطاطا وتقززاً على الإطلاق - بمئير كاهانا، مؤسس رابطة الدفاع اليهودية، وهي جماعة قومية يهودية معادية للعرب.
في الوقت نفسه تقريبا، اتهم مارتن كرامر “Martin Kramer” (باحث أمريكي إسرائيلي في شؤون الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ينتمي الى تيار المحافظين الجدد، اليميني القريب من منازل الفاشية - المترجم) - انتقد أيضا سعيد ووصفه ساخراً بـ “الفلسطيني المظلوم”. استاء كريمر من سعيد لأنه ساعد في ولادة فكر ما بعد الاستعمار، الذي يدرس الإمبريالية وعلاقات القوة غير المتكافئة جذريا في تشكيل العالم. وفي تفسير كرامر الغريب، فإن دراسات ما بعد الاستعمار، قلبت دراسات الشرق الأوسط وأدخلتها في حالة من الفوضى التي انتهت بإزالة ما أسماه "الموضوعية النزيهة". من الواضح أنه لم يخطر ببال هذا الرجل "ذو النسب العالي"، والذي حصل على ثلاث درجات مختلفة من جامعة برينستون، أن السياسة والعلم ليسا قسمين منفصلين في لعبة الحياة الفكرية. كتب سعيد في كتابه الكلاسيكي “الاستشراق” الصادر عام 1978: “لم يبتكر أحد قط طريقة لفصل الباحث عن ظروف الحياة”. وهو ما يفسر سبب ارتباط كرامر بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وهو مركز أبحاث مرتبط بشكل وثيق بلجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية "إيباك" (American Israel Public Affairs Committee AIPAC)، وهي مجموعة تسوق نفسها على أنها "اللوبي الأمريكي المؤيد لإسرائيل".
هؤلاء هم تلك الأنواع من الـ "دونيبروكس" (Donnybrooks)4 الذين يظهرون بشكل دوري في العالم الأكاديمي؛ إنما من السهل اهمالهم. بعد ذلك علمت بوجود أحد خريجي جامعة كولومبيا، الذي درس اللغة الإنجليزية، لكنه رفض الالتحاق بفصل دراسي مع سعيد لأن حاخامه صوره له على أنه الشيطان المتجسِّد. الطالب، الذي تابع دراساته العليا في جامعة إيموري، اكتشف أخيرا حقيقة سعيد. وبالفعل، شعر الطالب بالذنب الشديد تجاه سوء فهمه لدرجة أنه عندما قام إدوارد سعيد بزيارة إيموري حاول الأخير الاعتذار لسعيد بالانحناء للخلف لإقناع سعيد بالسماح له باصطحابه إلى المطار.
وفي موقف متطرف آخر، فيما خص الانفتاح، كان هناك طالب في المدرسة الثانوية من برونكس “Bronx” (أحد أحياء نيويورك – المترجم)، قد أجرى في عام 2010 اختبار المستوى المتقدم في اللغة الإنجليزية “Advanced Placement - AP”5. تضمن الامتحان اقتباسا من سعيد جاء فيه: “المنفى أمر مثير للاستغراب حين التفكير فيه، لكن تجربته مروعة. إنه الصدع غير القابل للشفاء، الفاصل بين الإنسان وموطنه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي: حزنه الأساسي لا يمكن التغلب عليه أبدا". لم تكن هناك إشارة إلى إسرائيل أو فلسطين في المقطع. لكن مجرد ذكر اسم سعيد دفع الطالب إلى الاعتراض على السؤال، واصفا إياه بأنه “يعكس الاستخدام الواسع النطاق للتعليم والاختبارات كمنصة للدعاية المناهضة لإسرائيل”.
قبل كل شيء، كان التزام سعيد الأعظم بالنزعة الإنسانية، التي عرّفها بأنها محاولة “لحل قيود بليك6 المصوغة من قبل العقل حتى يتمكن المرء من استخدام عقله تاريخيا وعقلانيا لأغراض الفهم التأملي والكشف الحقيقي”. إن اعتناق النزعة الإنسانية يعني رفض سلطة الدولة باسم الفكر النقدي. إنها تعني، كما كتب في آخر سنوات حياته، "عملية لا تنتهي من الكشف والاكتشاف والنقد الذاتي والتحرر". لقد كان سعيد ينظر إلى الإنسانية باحترام كبير لدرجة أنه اعتبرها "المقاومة الوحيدة، أود أن أذهب إلى حد القول، المقاومة الأخيرة التي لدينا ضد الممارسات اللاإنسانية والمظالم التي تشوه التاريخ البشري". هذا الاقتباس تم نقشه على لوحة جدارية تم تصبها في جامعة ولاية سان فرانسيسكو تكريما لسعيد
إن الإنسانية لا تتعلق بالالتفاف حول عَلَم أو الفزعة لحظتها "في الحرب الوطنية "، كما قال سعيد ذات مرة. لا يتعلق الأمر بوضع كعكة تحتفي بالحرمان والنفي، بل يتعلق بما يوحدنا كبشر على هذا الكوكب الأزرق الشاحب: ارتباطنا بالمكان؛ اتصالاتنا مع بعضنا البعض؛ قدرتنا على الشعور بالعاطفة وخوض تجربة إنسانية أساسية في مواجهة أي اختلافات قد تكون لدينا".
الهوامش (1) بيت عبادة ودراسة يهودي ومكان لملتقى المجتمع اليهودي المحلي - المترجم). (2) عالِم اللسانيات وأحد أبرز الفلاسفة المعاصرين على مستوى أمريكا والعالم. وهو أيضا يهودي بالمناسبة، لكنه منحاز بشكل مطلق للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة - المترجم). (3) كان حاخاما أمريكيا وزعيما صهيونيا، أسهم بصورة شخصية في حشد الدعم الأمريكي لتأسيس دولة إسرائيل، واعتبر المستوطنات وسيلة لحماية التراث اليهودي. (4) جدل صاخب أقرب الى العراك الأيديولوجي الفوضوي – المترجم. (5) اختبارات يتم تنظيمها من قبل مجالس الكليات في الولايات المتحدة، ويتقدم الطلاب لاجرائها في شهر مايو من كل عام؛ وتعد تتويجا لدورات المستوى المتقدم التي تستمر لمدة عام، والتي يتم تقديمها عادةً على مستوى المدارس الثانوية – المترجم. (6) وليام بليك (William Blake, 1757-1827)، شاعر ورسام وصانع مطبوعات انجليزي. ورغم شاعريته ورسوماته الفلسفية البالغة العمق، ورغم علاقاته وصداقاته مع بعض شعراء وفلاسفة وفناني عصره، الا أنه لم يحظَ طوال حياته بما يستحقه من اهتمام وتقدير. بل إن معاصريه، لأسباب غير مفهومة، اعتبروه مجنوناً بسبب آرائه المميزة. لكن بعد مرور سنوات طوال على رحيله، اكتشف الانجليز فجأة أنهم فقدوا نابغة عصره وما بعد عصره، فتحول الى شخصية فريدة في تاريخ الشعر والفنون البصرية، لاسيما فيما يسمى العصر الرومانسي “Romantic Age” (يغطي الفترة من 1798 الى 1837، حيث امتد أثره ليعم البيئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، استلهم خلالها العديد من الكتاب ابداعاتهم من الثورة الفرنسية). وفي عام 2002، حل بليك في المرتبة 38 في استطلاع بي بي سي لأعظم 100 شخصية بريطانية، وصار يحظى بتقدير كبير من قبل النقاد والقراء اللاحقين بسبب تعبيره وإبداعه الفلسفي والصوفي الذي ميز أعماله. حتى عبارته الشعرية الشهيرة "أغلال العقل المزورة" (Mind Forged Manacles) التي وردت في قصيدته الشهيرة "لندن"، والتي استحضرها تيد شتاينبرغ، نقلا عن إدوارد سعيد، في مقالته، تحولت الى موضع دراسات وأبحاث ورسائل أكاديمية. بالنسبة لوليام بليك، فإن "الأغلال المصطنعة للعقل، ليست سوى القيود الذاتية التي يضعها الانسان على نفسه فيحبس أحلامه ويتهيب من مقاربة أهدافه، فيغل حركته ويمنع خياله البشري. وهو إذ يفعل ذلك إنما هو يتصرف بناءً على آرائه ومخاوفه المسبقة التي يفترضها في مخيلته الذهنية. (7) BBCi, The Top 100 Great Britons, 4 December 2002, https://web.archive.org/web/20021204214727/http://www.bbc.co.uk/history/programmes/greatbritons/list.shtml/.
- تقديم وترجمة محمد الصيّاد
#محمد_الصياد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألم على حافة الهاوية..الاقتصاد في الخلفية
-
أمريكا والعالم.. أمريكا اللاتينية نموذجاً
-
الاقتصاد العالمي نحو الخروج من المراوحة
-
الرجل الذي غير مجرى تاريخ ميانمار!
-
التوظيف السياسي للعصبيات
-
الحلم الأمريكي في مفهوم السيدة الأولى
-
النفط تحت المجهر من جديد
-
هل بوسع الولايات المتحدة تجاوز أزمة مديونيتها ؟
-
تراجيديا سياسية كاريكاتورية
-
الإشكالية العربية الأزلية الأبرز
-
دلالات فزعة الساسة الأوروبيين المونديالية
-
الصعود والهبوط في - أسهم - الملف
...
-
الإنسانية تنتفض ضد الفاشية الإسرائيلية
-
دلالات تَسَوُّل بيل كلينتون عبر الإنترنت
-
أمريكا تكفيرية أيضاً
-
الشبه بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات ا
...
-
بعد عقد من اندلاعها.. حرب التصفيات بين أمريكا
...
-
وما الجديد؟!.. مصالح رأس المال أولاً
...
-
جو ..تشيني
-
»رأس المال« لا يوا
...
المزيد.....
-
ساليفان: صواريخ -ATACMS- لن تكون وصفة سحرية لأوكرانيا
-
مراسلتنا: غارات إسرائيلية تستهدف معبر القصير عند الحدود اللب
...
-
اكتشاف ظاهرة غامضة في قاع البحر الميت تنذر بانهيارات أرضية و
...
-
أوستن يهدد ترامب بـ-الفوضى- إذا لم يقف في وجه روسيا
-
جامعات أمريكية وكندية تتعاقد مع شركات أمن إسرائيلية لقمع احت
...
-
ساليفان: الصين هي الدولة الوحيدة القادرة على انتزاع الصدارة
...
-
-وول ستريت جورنال-: طهران حذرت الأسد من محدودية المساعدة في
...
-
تشييع الدعم السريع لمثواه الأخير.. ماذا يقول بيان تقدم؟
-
عاجل | سي إن إن عن مصدر مطلع: يمكن القول إن دمشق سقطت من الن
...
-
سكان حمص يمزقون ملصقات الأسد في لفتة رمزية تعود لاحتجاجات 20
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|