أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 7721 - 2023 / 9 / 1 - 00:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
منذ سنة 2020، ظهر على بوابة "openedition" الفلسفية مقال بالفرنسية بقلم جورج رودبوش
اهتم فيه بالتمييز في فلسفة سقراط بين ثلاث مراحل. ونظرا لأهميته الفلسفية والتاريخية، اقترح ترجمته في حلقات.
المقال (تتمة):
بلغ سقراط 45 سنة ولم يشتهر بعد. محاورتان أخريان ذواتا صلة لهما تواريخ دراماتيكية سابقة على محاورة "لاخيس"؛ وهما محاورتا "خارميدس" و"بروتاجوراس". تبدأ محاورة "خارميدس" بعودة سقراط إلى أثينا بعد أن وضعت معركة بوتيدايا أوزارها. وبالتالي، تجري احداث محاورة "خارميدس" في عام 429 ق. م.، العام الذي بلغ فيه سقراط من العمر 40 عاما. وتبدأ محاورة "بروتاجوراس"، التي تجري أحداثها أيضا في أثينا، بملاحظة مختصرة عن سن ألسيبياديس، الذي أطلق لحيته الأولى.
في عام 432 ق. م.، سيغادر ألسيبياديس أثينا لمدة ثلاث سنوات للعمل كجندي في بوتيداي إلى جانب سقراط. ولذلك يجب أن يكون عمره أكثر من 19 سنة. عند عودته، كان ألسيبياديس قد تجاوز بعيدا سن اللحية الأولى. ولذلك فإن التاريخ الدرامي لمحاورة "بروتاجوراس" يجب أن يكون قبل عام 432 ق. م.. في محاورة "بروتاجوراس"، يجب أن يكون عمر سقراط 36 أو 37 عاما.
العناصر الدرامية المختلفة الموجودة في محاورة "بروتاجوراس" تبين لنا أنه في الوقت الذي جرت فيه المحاورة - خلال المرحلة الأولى من حياته الفلسفية، عندما كان في الثلاثينيات من عمره - كان سقراط قد صنع بالفعل لنفسه اسما في الأوساط الفكرية بأثينا، دون أن يصبح مشهورا.
تطور بروتاجوراس في الأوساط الفكرية للمدن التي زارها وجذب إليه الطلاب المستعدين ليدفعوا له أجرا.
يرغب أبقراط، الشاب المتشوق للدراسة مع بروتاجوراس، في أن يتعرف بنفسه على سفسطائي أبديرة الشهير، لكن هناك شيئان يعيقانه. أسر لسقراط قائلا: "ذلك لأنني، شحصيا، صغير جدا، ومن جهة أخرى، ما رأيت أو سمعت ببروتاجوراس قط: في المرة الأولى التي أتى فيها إلى هنا، كنت لا أزال مجرد طفل". لهذه الأسباب، طلب من سقراط التحدث إلى بروتاجوراس نيابة عنه.
وصل بروتاجوراس إلى أثينا منذ يومين، وافترض أبقراط أن سقراط لم يره بعد. ويترتب على ذلك أن سقراط قد تعرف بالفعل على بروتاجوراس في إطار زيارته السابقة، أي قبل عشر سنوات، عندما كان سقراط في العشرينيات من عمره.
في الواقع، يعرف سقراط بروتاجوراس جيدا بما يكفي ليعلم أنه يقضي معظم وقته في الداخل. وفي نهاية المحاورة أكد بروتاجوراس أن سقراط اكتسب شهرة معينة عندما قال: "(...) وكنت غالبا ما أقول عنك إنك، من بين كل من قابلتهم، كنت الشخص الذي أقدره أكثر، مانحا إياك، بالمقارنة مع من هم في مثل عمرك، إعجابا بلا تحفظ (...)". ذهب بروتاجوراس إلى حد التنبؤ بأن سقراط سيصبح "مشهورا بحكمته".
تقدم لنا محاورات "بروتاجوراس" و"خارميدس" و"لاخيس" صورة عن سقراط خلال المرحلة الأولى من حياته، عندما لم يصبح مشهورا بعد.
في كل من هذه المحاورات، يتفلسف سقراط، وفي كثير من النواحي، يشبه هذا التمرين الفلسفي الممارسات الفلسفية في المراحل اللاحقة. ومع ذلك، هناك فرق جوهري. يساعد هذا الاختلاف على تفسير الأسباب التي جعلت ممارسة سقراط الفلسفية لم تسمح له حتى الآن بأن يصبح مشهورا في أثينا. أكثر من ذلك، فهو (الاختلاف) يوضح السبب وراء عدم الاعتراف بسقراط حتى الآن كمصدر للاضطراب العام من قبل مواطنيه. لنبدأ بأوجه التشابه.
إن الممارسة الفلسفية لسقراط خلال المرحلة الأولى من حياته تشبه في كثير من النواحي تلك التي كانت في المراحل اللاحقة. المواضيع التي تم تناولها خلال المناقشات وشكل الأخيرة متشابهة. في الواقع، تظل موضوعات المناقشة المفضلة هي الفضيلة والقدرة أو المراس على إنتاجها. وأما من حيث الشكل فإن مناقشات هذه المرحلة الأولى تشبه مناقشات اختبار الكاهنة: يتعلق الأمر بإثبات ادعاء الحكمة من قبل السائل وبيان غياب الحكمة عنه.
وهكذا، في محاورة "بروتاجوراس"، يستهدف سقراط الحكمة الظاهرة لسفسطائي أبديرة بالطريقة التالية:
- إذا كنت أفهمك بشكل صحيح، حتى أواصل، إنما عن السياسة تريد أن تتحدث، وتلتزم بتكوين مواطنين صالحين؟
– الأمر كذلك، يا سقراط، وهذا هو بالفعل الالتزام الذي أتعهد به.
في محاورة "خارميدس"، سار على نهج مشابه لذاك الذي سار عليه في محاورة "كريتياس":
– عزيزي كريتياس، قلت له، ليس غريباً إن لم يدرك شاب يافع معنى هذه الكلمات. ومن الطبيعي أيضا أن يسمح لك عمرك ودراستك بسماعها. إذا اعترفت بأن الحكمة هي ما يقوله، وإذا وافقت على أن تأخذ مكانه في المناقشة، فسيكون من اللطيف بالنسبة لي أن أتفحص معك ما إذا كان هذا التعريف صحيحا أم غير صحيح.
– أقبل التعريف، يقول كريتياس، وأحل محل خارميدس.
تم اعتماد هذا النهج أيضا في محاورة "لاخيس":
- ألا ينبغي علينا أولاً أن نكتسب معرفة بالفضيلة؟ لأنه إذا لم يكن لدينا أي فكرة عن ماهية الفضيلة، فكيف يمكننا أن ننصح أي شخص بأفضل طريقة لاكتسابها؟
- سيكون ذلك مستحيلاً، يا سقراط.
- نحن نقول إننا نعرف ما هي الفضيلة؟
– نعم نقول ذلك.
في هذه المحاورات الثلاثة، تؤدي مناقشات سقراط إلى إظهار جهل محاوريه. وهكذا يظهر مثل هذا العرض في نهاية محاورة "بروتاجوراس :
- ليكن؛ ولكن فقط بعد طرح سؤال آخر عليك: هل مازلت تعتقد، كما في البداية، أن هناك رجالا شديدي الجهل ومع ذلك هم شجعان جدا؟
- تريد يا سقراط، كما يقول، أن تتباهى بانتصارك عن طريق إجباري على الإجابة بنفسي. حسنا، سأمنحك هذه المتعة، وأعلن أن ذلك يبدو لي غير محتمل بعد كل ما عرفناه للتو.
- "إذا طرحت عليك كل هذه الأسئلة، أقول، فهذا فقط لمعرفة ما هي الفضيلة، ومما يتكون هذا الشيء المسمى بالفضيلة. أنا متأكد من أنه بمجرد الجواب على هذا السؤال، سيكون من السهل توضيح السؤال الذي أثار مثل هذه الخطابات الطويلة بيننا (...).
في محاورة "خارميدس"، يصبح إثبات جهل كريتياس واضحا للشخصية التي تحمل اسمه في المحاورة:
عندها أجاب خارميدس: قسما بزيوس، لا أعلم يا سقراط هل أنا حكيم أم لا. كيف أمتلك ما أنت عاجز عن تحديده، إذا صدقتك؟"
في محاورة لاخيس، يعترف نيسياس في هذه الأثناء بجهله، وكذلك بجهل لاخيس:
نيسياس: (...) لا يهمك، في ما يبدو، أن تتجاهل معي شيئا يجب أن يعرفه كل رجل يعتقد أنه يتمتع ببعض المزايا.
خلال المرحلة الأولى من حياته الفلسفية، لم يكن سقراط مكروها من قبل أولئك الذين يحضرون المناقشات التي كان يقودها، على رغم الإزعاج الذي يسببه للأشخاص الذين يستجوبهم. في محاورة "بروتاجوراس"، مثلا، امتدح سفسطائي أبديرة العظيم، على الرغم من استيائه من حلول سقراط محله، "حماسته وطريقته في إدارة الخطابات" واعترف بالإعجاب الذي يشعر به تجاه الأخير. في محاورة "خارميدس"، بعد أن عرفه سقراط بجهله، تغاضى كريتياس عن رغبة خارميدس الشاب في الارتباط بسقراط. في محاورة "لاخيس"، طالما أن لاخيس ونيسياس يقبلان بأنهما ليسا مستشارين جيدين، وحتى لو دحضهما سقراط، فإنهما يعتبران الأخير أفضل معلم لتعليم الشباب.
لماذا لا يكون سقراط مكروها من قبل الأشخاص الذين يحضرون مناقشاته؟ في رأيي، السبب في ذلك هو أن سقراط يتصرف بطريقة مناسبة اجتماعيا. على وجه الخصوص، على الرغم من الاستجواب الحاد الذي يُخضع له محاوريه، فإن سقراط يحترم الأعراف الاجتماعية الخاصة بالمكان الذي تجري فيه المحادثات وبالأشخاص الذين يستجوبهم.
في محاورة "بروتاجوراس"، يسافر سقراط إلى المجال الخاص لكالياس لاستجواب بروتاجوراس، وهو شخصية عامة. إنه لا يذهب إلى هناك لاختبار الكاهنة، بل ليعرض مساعدته على أبقراط، الشاب الذي يرغب في أن يتحسن. بروتاجوراس، وهو مدرس محترف جاء إلى أثينا للترويج لأعماله، يدعو الناس للحضور ورؤيته والتحدث معه، كما يفعل سقراط. باختصار، لا يوجد شيء غير مناسب في الطريقة التي قرر بها سقراط المشاركة في المحادثة مع بروتاجوراس.
في محاورة "خارميدس" يذهب سقراط إلى قصر تورياس، مكانه المفضل للتحدث مع أصدقائه. ورغم أنه انتهى به الأمر إلى دحض كريتياس، إلا أنه لم يذهب إلى ساحة الرياضة لاستجوابه ودحضه. على العكس من ذلك، فإن شيريفون هو الذي دعا سقراط للجلوس إلى جانب كريتياس. تتعلق اهتمامات سقراط بالأسئلة التالية: «ماذا حدث للفلسفة؟ هل تميز أحد من الشباب بالعلم أو بالجمال أو بأحدهما؟. ثم تحدث معه كريتياس عن خارميدس، ابن عمه الشاب. مع هذا الشاب – الذي ليس شخصية عامة – يرغب سقراط في التحدث. ولكن في إطار مثل هذه المقابلة، يجب اتباع قواعد اجتماعية معينة، وسقراط ليس استثناءً. على نحو خاص، قد يكون من غير المناسب أن يتعرف رجل أكبر سنا على رجل أصغر منه سنا ويتحدث معه في مثل هذا السياق. ومع ذلك، حتى لو كان خارميدس أصغر سنا، فإن "محادثة من هذا النوع ليست في غير محلها" في حضور كريتياس: باعتباره ابن عم أكبر لخارميدس، فإن كريتياس هو أيضا بمثابة ولي لهذا الأخير الأخير.
(يتبع)
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟