أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - كتاب ( مجهر على القاع )















المزيد.....



كتاب ( مجهر على القاع )


كاظم حسن سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 7705 - 2023 / 8 / 16 - 23:22
المحور: الادب والفن
    


كتاب (مجهر على القاع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



بعد خمسين عاما من كتابة الشعر, وجدته لا يتمكن من احتوائي, ليس قصورا فيه او بمقدرتي عليه ,فتوجهت الى النثر وتمكنت من كتابة اول رواية لي .
لقد اعتقدت , وكنت مخطئا , ان الالتزام بكتابة القصيدة والنأي عن خوض حقول اخرى ستساعد في انضاج شعر متفرد, ذات يوم نصحني صديق مقرب كاتب <لك كفاءة بتحليل الشخصية سيكولوجيا فلماذا لا تكتب بهذا الحقل )... وجدت رأيه صائبا فشرعت اكتب في (مجهر على القاع ) , وكان هذا العنوان اضاءة كافية للمحتوى ,انه غور في الاشياء والارواح المنسية والانفس المهمشة .انه كشف لما خلف الابواب وما تحت السطح من حياتهم واماكنهم.
صنفت بعض نصوصه ابان نشرها بانها قصص , لم اعترض لان الدراما في الكتاب وفيرة لكن التصنيف بحاجة الى دقة وترو.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(استكشاف الشارع المعبد)

رغم وصفهم لكنه لم يحاول , مضت ثلاث سنوات منذ اشار اليه جاره المسن ( امامك جسر تعبره ويقودك الدرب الى الشارع الرئيس ) , بقيت ساعة على الافطار , يمر الوقت متثاقلا على الصائم , فخطا نحو ذلك الجسر , تناول من حافة الدرب الترابي انبوبا بلاستيكيا ليصّيره عصا ...هل الفضول متكلس لديه ؟! ام انه شديد الفضول لاشياء دون غيرها ؟ الهذا لم يسافر ؟ لكنه في مراهقته قصد المحافظات مرارا .. ووطيء كل شبر في مدينته قبل ان ينزوي .
على بعد مئتي خطوة رأى على يساره بقايا بستان تحاصره البيوت الحديثة من جهتين وتتدفق منه شبكة اسلاك مثبتة على اعمدة او جذوع النخيل .. هنا صاحب المولدة الثقيل , في اول ايام انتقاله هنا زاره لاصلاح سلك اطاحت به شاحنة ولم يقصد المكان ثانية من ثلاث سنوات , وراى ان طريقه يعترضه شارع فوضوي وعليه ان يختار جهة اليمين او اليسار ليصل الجسر .. وبعد تردد توجه يسارا ولم يتوقع ذلك العدد من البيوت العصرية ,بعضها تم تشييده واخرى طور الانشاء ,لاحظ اكواما من الرمل والطابوق والشبابيك غير المطلية المكفئة على الشارع المترب والرملي .. فجوات بين البيوت يظهر منها نبات القصب , اذن هو يتقدم مع النهر الذي تلوح أثاره وتتوارى , وعلى اليسار سلك مولدة احمر ثبت في نخلة آيلة للسقوط تتقدم سياجا من الاسلاك المشبكة خلفها ارض حرثت واهملت فانتشرت نبتات شوكية واعشاب قزمية فيها , وبقع من الملح .. ينتهي البستان بمجزرة نخيل :اثنان منهما سقطتا على مرتفعات ترابية تذكره بسبطانات المدافع , بعض جذورها ارتفعت عن الارض وكشفت عن احشائها , كتلا مخروطية ضخمة ذكرته بخلفيات الخبازات حيث حفظ مثلا عنها في طفولته ,كانت الجذوع مثل جمع تفجر وسطهم لغم : جذع يحضن جذعا وبعض تخفي بعضا .. تتعانق او تتقاطع او تتجاور او تبتعد برؤوس متيبسة او مبتورة الا واحدة فهي هناك تهاوت فاسندها جدار من البلوك , في اقصى البستان . وعندها رأى الشارع مغلقا في طريق العودة , راى سدرة زاخرة بالنبق الزيتوني <كان ثمرها من عاصفة ليلة امس قد تناثر على الارض وتعلق بنبتات الاشواك وعلق بين الشقوق > , وحيدة وحزينة فاقترب منها والتقط ما تساقط من الثمر المصفر ثم استقام والتقط خمس نبقات فقط .. انه لا يتحمس لهذا الثمر الا اذا جناه بيديه .
تقدم جهة اليمين .. راى بابا مفتوحا ومراهقات واخوانهم يظهرون الى العتبة ويدخلون في هرج , حتما انهم غرباء من السكان الجدد فاهل هذا الحي لا تفتح ابوابهم ويتعذر رؤية شابة تقف في باب او تمضي وحيدة للتسوق او غيره .
ونادته شجرتا سدر وبرهامة معمرة شاهقتين على بقعة مرتفعة جوار نهر صغير : هنا باثوابهن النيلية والحجاب حفاة وتلك الاذرع السمر التي تئن الارض من سطوتها ان غارت فيها المسحاة , يجلسون لتناول التمر واللبن في الساعة التاسعة .. ولكنهم رحلوا وتلاشت الحسرات , فالاحفاد لا تربطهم بالمنجل والعثوق اية مشاعر او صلة .
وراى الترع التي طمرت تماما او خلفت آثارها , بعدما غادرتها الاسماك الثمينة والسلاحف ومبيدات البعوض وصنارات الصيد,والادعية التي تقيهم الهزات والاوبئة .
عثر على الجسر الصغير فعبره ,نافثا حسرته على النهر المسجى بكل ما يحمل من الاحساس بالوحدة والاهمال وباحشائه حاوية المزبلة ورائحته النتنة .
كان يدفعه بعصاه الانبوب والشمس من بعيد تمطر مذهباتها على الشجيرات القزمية واجنحة الطيور التي تقصد اعشاشها وهؤلاء المتسارعون لبيوتهم في انتظار مدفع الافطار .. اجتاز فروعا ضيقة فمر على عشرة اشخاص يتقابلون , ظهورهم لابوابهم, اصابه قليل من الحرج, فقد قرر ان يلغي التحية بعدما تاكد ان الناس غادروا بساطتهم وانفوا من ردها لكنه انتصر على طبيعته فغادرهم بلا همس حتى بالشفاه وهم ينظرونه مستغربين .. اخيرا ظهر له الشارع الرئيس المعبد , فهناك في البعيد عبرت مسرعة بعض العجلات اصغر من حجمها .. وعندما عاد اخطأ الطريق المؤدي الى الجسر بحجم قنطرة بانابيه الصدئة.. وتوغل بعيدا عنها ,.. رآهم يتجمهرون صاخبين - مسنين و صغار نساء وفتيات ورجال , قطط وكلاب - في الزقاق المتعرج الذي يتخصّر حتى الاختناق .. حبل الغسيل مرتفع وسط الزقاق ,فسالته متلفعة بالعباءة وشعر انها تمر بلحظة حرج فقد مالت رقبتها قليلا ولمست ارنبة انفها ,(تبحث عن ماذا ؟ ) .. <انه هناك وراءك >.. قبل ثلاث سنوات كان يصطاد مواجها ظهور منازلهم: اسيجة من المزابل والصفائح والاسلاك الشائكة والاشجار التي تنحني حتى منتصف النهر .. سمعهم : شجار لا ينقطع ومجمع للشتم والسباب ... دفعته جائحة كورونا ان يقصد المكان قريبا جدا من منزله قبيل اذان المغرب بساعة لكنهم منعوه .. انهم مصنع لتدوير وتصدير الازمات ..هؤلاء الذين ينشرون الغسيل علنا ويهجرون بيوتهم ويفترشون في الازقة الموبوءة .
بعد دقائق عنهم.. في اللحظة التي طرق فيها الباب ,سمع من يرفع الاذان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الجدار الطيني
الحائط الطيني او السد او الطوفة ليس تراكما من الطين. قبل ان يعبد الشارع ويستبدل القصب والبواري بالطابوق والبلوك , قبل ان تدخل الكيمياويات لتعجل نموالمخضرات وتفقدها نكهتها,لم يكن المذياع الا لغزا والكهرباء حتى حلما ,استدعى ابو ناصر ذلك الشاب المفتول العضلات الرياضي الجسم ليقيم ذلك السد من الطين .. انه عثمان ورث الحرفة من ابائه واجداده , فاقبل ذلك الصباح مع قريبه المراهق واعّول التراب المتحجر من ضربات المسحاة والمجارف والمعاول والسواعد المفتولة السمراء .. حفرا في حافة بستان ابو ناصر المطل على طريق متعرجة طويلة تحفه النخيل واشجار الكروم من الجهتين , اشتغلا بحفرة بعرض ثلاثة امتار وبطول اربعة , فلما اقترب الظهر ملئت الحفرة بالماء واعيد لها التراب مع الروث والتبن وداساها بالارجل واضافا بعض الحشيش المتيبس وغادرا .
استغرقا عشرة ايام , كل فجر يصلان لتلك الحفرة , يقلبان طينها ويضيفان عليه الماء من النهر القريب ويدوسان بالاقدام المتمرسة حتى استقرت طينة ناضجة .....
بعدها في صباح مبكر شمر اولاد ابو ناصر واصدقاؤهم الذين ياتون بعنوان السخرة .. يسمونها (عونة )في ابي الخصيب شمروا عن سواعدهم السمر وحفروا اساسا بعرض متر ثم اهيل فيه التراب وخمّر في الماء وديس بالاقدام , فيما كانت الصغيرات والنساء يهيئن التمر واللبن والرغيف من تنور الطين والزبد والماء من الخوابي والخيار والفلفل الحا ر والبصل .. وتصدرت الشهية العارمة لتقود معركة الاشباع .
هل خطر في بال ابو ناصر بان ذلك الحصن الطيني الذي يمتد لثلاثمئة مترا سوف لا يوفر حماية لبستانه النابض.
في ليلة من ليالي ايلول , بعدما طمره الماء وبناء على موعد مسبق , اخترق ذلك السد العملاق شاب وسيم من احفاد عثمان ... عرّاها على التراب الندي .. ولم تكن قد جربت حرارة الجسد , انامها على التراب وسط حلفاء على وجهها وبلا مقدمات اضاعها تحت جسده .. مثل دوزر بشري .. انه من احفاد عثمان الاشداء ... حاولت الصراخ وخشيت الفضيحة قضمت التراب والطين المتحجر ومزقت حمالة الصدر لتنجو , قضمت عروق النخيل النافرة , تشبثت بالسوس , مكيجها الطين, انشبت اظافرها بيديه حتى ادمته ... كان مشغولا بها عنها ,والتراب الذي غطاهما يستصرخ مستنجدا , وتركها بلا وعي حتى استعادت صحوتها قبيل الفجر , فنهضت تسحب جثتها الخاوية .
عندما انتصب الجدار الطيني العملاق سارعت الاشباح لتستوطنه والافاعي والجرذان والظلال واخترقت الشمس ثقوبه ونما عليه الشعير , وراءه تستظل نبتات الفلفل البارد والحار في ظل سعف البرحي .. وزحف الطرح والبطيخ والبزاليا جوار الترع والانهر ونمت اشجار الرمان والبمبر ,وتكفل الدلو بالسقي .. وتوالت الايام ساكنة لا يفزعها اضطراب ... ارواح رضية مستقرة .
اجتمع في ظل الجدار الطيني مناضلون يراجعون خططهم بتوزيع الصحف والكتب السرية ويتفقون على رموز قبل ان تجهز على حماسهم معتقلات الصحارى .... اليوم نفق بعض هؤلاء المناضلين واستشهد اخر , وغزا الشيب من تبقى , وعندما توفر مناخ الديمقراطية وتحقق حلمهم , تآ زروا على الاعتكاف , ولم تحركهم موجة التحول .
في البدء كان السد الطيني يشّيد لارتفاع نصف متر ويترك لتجففه الشمس , ثم تراكم اياد ماهرة عليه الوحل الناضج .
استمع السد لتأوهات < صبرا > التي هجرها زوجها ولم تنفع معه حمرة ديرم وضعت بلا وشم او نجوم , ولا تلك الارجل التي صقلتها حجارة مفخورة نقعت زمنا في الماء ,ولم تشفع لها الحفافة الماهرة التي صيّرت الخدين والوجنات رمانا يتوهج .
وصلت صبرا في الساعة الثامنة من ليلة غزيرة المطر , تصحبها اثنتان من صديقاتها , وعقدت شوكة متيبسة برزت من السد , وتلت بعض الايات ثم عقدتها بخيط اصفر ورشتها بالماء وخاطبتها ( اخضّري وساذبح لك ديكي تبركا بجاه ... اريد ان يعود زوجي لي )
لم يدرك ابو ناصر التحولات اللاحقة , سترفض الارض الوان الشتلات, يتصحر البستان وقد جفت التربة ,وفقدت خصوبتها ووهن منسوب الماء واشتدت الملوحة ... سيتحول بستانه ميدانا للمزمجرات والمدافع الثقيلة , ستزدحم فيه الالغام وتستعمره الارضة , ستعاني نخيله من مقابر جماعية , سترتدي حفيداته البنطلون ولم يعد من رقيب اخلاقي عليهن سوى الفضائيات , سيغادر المسحاة احفاده , ويشتغلون بالمهن الحرة او يتوظفون , سوف يتيّتم المرود والناعور , وتتوالى صفعات الامطار والعواصف والعابثين والصدمات على الجدار , ....
وشيئا فشيئا يشيخ وينحني متأوها على عمود الكهرباء .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(مذكرات معتزل)

نادرا اقصد السوق ..اليوم ذهبت اليه مستعجلا...كنت اتلبد عن الاصدقاء لامّرسريعا..فقائمة التبضع تدّوخ..اذا احد يمسك كتفي وبعد قبلات وهز ايادي وتكتيف..وترحيب..وشلونك ؟..كيف الاهل..تزوجت لو بعدك ؟..شنو غداكم ومئات الاسئلة المطرية. ..قال( ابشرك..تم اكتشاف داء للسرطان بخمسة ايام.)..فابتسمت وهممت بالوداع.. فامسك كتفي متحمسا( تدري شلون ...بالجرية...ولو هي حرام)... قلت موفقين ..وخطوت خطوتين...فلحق بي وامسكني كمتهم يحاول هربا..واكمل.. الجرية على نار ثم تعصر وتاخذ دهنها. وكل يوم تتناول ملعقة شاى...ابو محمد راح منه سرطان..وام سليمة الخبازة والحفافة مكية وابو مهدى... شكرته وخطوت خطوتين فلحق بي ..( اسمع وكشفوا دواء للسكر مجرب ) وراح يشرح....رايت الشمس تغرب وانا مكلف بتبضع...قلت في نفسي : صحيح هنا نطبق ( دعه يتوقف..ليس لديه عمل.).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الشقي الحبلى )
كنت صغيرا..حضرت عرسا..تواجد فيه احد اخطر شقاواة البصرة..حدث ذلك في بستان صغيرة تحده اكواخ من القصب .. الضوء باهت ..كان اهل العريس حييل متدينين ..فلم يسمحوا باحتساء الخمور اويستدعوا فرقة الخشابة < كما يكتفي الان من اصنافهم ب -المولود- >.
فرغب ان يلطف الجو رجل حسير الرأس اسمر قصير من اقرباء العريس , يرتدي دشداشة بيضاء فتوسط المحتفلين واخذ يروي حكاية :( دخل واحد على الدكتور وبحزامه الجلدي سكين وخنجر وهو يمسك قامة بيده وبوكس حديد..فعرفه الدكتور..وضاج منه قال في نفسه ــ لازم أادب هذا المستهتر ــ: فامره ان يتمدد على ظهره وركز بفحصه على بطنه ثم فقال له - ابني انت حامل-..
اجابه
ــ وسفة شلك بها الحجي وخرج...
مشى يكلم روحه ( الدكتور دارس وفاهم واخاف متوهم او اكو شي ...خل اروح لغير طبيب) فدخل على طبيب اخر وحدثه بتشخيص الطبيب الاول ...ففهم الدكتورالقضية .. وبعد ان فحصه : ( عمي انت حامل عليك سادس)... فصعق الشقي واستفسر :والحل؟ فقال له ( عمي تروح تبحث عن حفرة وتقضي حاجتك بعد ما تشرب هذا الدواء)....
ومضى الشقاوة ووجد حفرة فجلس عليها وافلت ريحا...فعبر جرذ ضخم من تحته ... فصرخ به : (( بن الكلب انت متربن (بدين ) مثل ابو ك!!))....
فارسل الشقي على المتحدث وأمسك رأسه بيديه وهو جالس...وصدم رأسه برأسه (كله) فسقط مغشيا عليه..... فحملوه الناس وزف العريس خلال دقائق وانتهت الحفلة تماما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(اليوم .. بالضبط اليوم )

غروبا كنت اجتاز الزقاق الضيق شبه المظلم ...عثرات( من اكوام رمل وحصى وسلع مهملة وبراميل بدينة واطفال يمرون مسرعين بدراجات هوائية .. واناس من داخل البيوت ترمي المياه العفنة وشبات كهرباء .... ومشبكات المكيفات تندفع لخارج البيوت لتلاقيها مشبكات من الجهة المقابلة .........)... في هذا الزقاق الخانق كنت اجتاز فتاتين تتعمدان ترقيص الجسد..واستعراض التقوسات .. احداهما تسبق الاخرى وتلتفت اليها مبتسمة .. كنت محرجا وحاولت الاجتياز فلم اتمكن ... شعرت انهما تتعمدان احراجي .. (شاهدت ما يكفي ولا يستقطبني الاستعراض وما جمال المراة ان وضع بدكان دلالية او مزاد __ دعوني امر ؟؟)...اخيرا وجدت فسحة فاسرعت مجتازا ... وفي لحظة المرور اعترضتنى من الارض قنينة ماء بلاستيكية .. كدت اهوي وهما مستمتعتان باحراجي .. هناك بشر مثل المكروبات .. يغزون عزلتك وافكارك ونخاعك الشوكي .. احتلال معاصر.. قد يتحول الاخرون الى جحيم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(ثلاثة حوادث في شهر)

في شهر دهس زوجها رجلين فماتا,اثناءها كانت تسعى امتارا وتعود بعباءة رثة ,تحسبها اصيبت بخبل من قصر قامتها وترابية وجهها وتوتر يديها .... يسألها الجيران عن زوجها فتقول : ( لا ادري ).
افرج عن زوجها مرتين , بعد تسوية مع اهالي الضحايا , بديتين قاصمتين .. فلما انتهى الشهر وهدأ الضجيج , تقدمت لصبي جارهم البهي وخاطبته : (والله ساكسر يدك )..
ومضى الطفل , صارخا , يسح دم يده التي اصيبت بكسر بليغ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(فراغهم)

رجل في الثلاثين .. تزيده العوينات والغضون والصفرة وبقايا لحية مرقطة غموضا..بدشداشته الرصاصية يستقر على كرسي امامي .. بين حاسبات وشاشات اعدت للصيانة .. تأملني ساهما ثم رشني بالاسئلة المتلاحقة (الم تعرفني , انا ابو مهدي ) تحتاج فراسة لتلتقط ابتسامة نحتها بصعوبة .. (آسف لم اتذكر ) .
ــ تذكر جيدا...الا تعرف ام حمزة ؟
ــ جارتنا , لدى ابنها سيارة كية ..
ــ لا انهم ..
ـــ تذكرت , عائلة ابو حمزة السائق الطيب.
ـ نعم ..(هل لديك اخوان ؟ كم اخا ؟ اين تعمل ؟ هل ما تزالون بنفس داركم ؟هل تزوجت؟ كم طفلا ؟لماذا لم (تصعد ) ... الجميع صعدوا ... امك ابوك حيان يرزقان )...اجبته عن سؤالين..ثم التفت اليه :
ــ يا اخي سألت كثيرا .. والان اجبني (ما تفسيرك للآية ((وعسى الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم))..
فصعق وسرح قليلا وتقلص وجهه فقال :
ــ يعني ان الله يرزق من يشاء ...
اجاب متلعثما , كمن صعق وتغيرت ملامحه واعتصم بعدها بالسكوت .
في اليوم الاخر , قصدت ظهرا محل انشائيات ... لتسديد مبلغ بسيط .. كنت متعبا , وفاجأني ان محله مغلق ..فسألت احد المارة ( اين منزله ؟)
ـ هنااك , اخر الزقاق ...
فتدخل غلامان (تريد من؟ ) وقبل ان اجيب اتى طفل وسخ (ماذا تريد ؟) ... لم اجبه فسأل الغلامين .... فتقدمت في وابل من النظرات المستفسرة .. فدخلت زقاقا عرضه اقل من مترين, تجري فيه ساقية قذرة , فضغطت علي بيوت ضيقة انشئت لصقا من مخلفات الصفيح والبلوك والعصي والاشراك والطابوق العتيق والورق المقوى وابواب الثلاجات الخربة واذرع الاسرة ..وخنقني ما كتب عليها من تفاهات .. صناديق بشرية .. اشبه بزنزانات ..محرقة للنفوس ومضيعة للعمر ..اسلاك الكهرباء تتشابك مع اسلاك الامبير ...خارطة عنكبوتية ...بعد خطوات لحظت شابا قلقا .. كأنه تناول حبة مسكرة :
ــ (اين منزل صاحب الانشائيات؟ ),
ـ وماذا تريد منه ؟..فشرحت له.
قال(انه ابي اعطني المبلغ..او خلفك الباب فاطرق ).
وظهرت يد امراة (ما تريد منه ؟) ... وفسّرت .. فظهر الرجل .(انتظرني جوار باب المحل .. اشرب الشاي والتحقك .. لا فكة عندي الان )
انفس افرغت فتفسخت .. وارعبت فحذرت ...طحنها اليأس والتأجيل..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(سينما...)

الليلة ..التاسعة مساء...اغلقت الابواب..الظلمة وحدها تحتل الشوارع..قلت افكر بمشغلات انهي بها يومي..فجأة اصوات تعلو..عباءاتتتجمع..تصحوالبيوت..ترمي احشاءها البشرية..تتكدس قرب دكان بسطة ينفتح من جدار منزل ...البائعة تنهشهم وينهشون..تدعي اتلفوا سلعة واتى صغيرهم يعيدها..ينكرون...ينضج الصياح والسباب....يتفرقون....فاصل فيتجمهرون.....عتاب. ..انها الساعة العاشرة....يتدفق السبات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(قالع الاقنعة)

بقي الانسان قرونا يعاني ويتمزق من حقيقته حتى تمكن من اكتشاف القناع ...فاستقرت روحه .. وتجرأ ان ينظر لوجهه في المرايا باطمئنان ... فجأة ظهر قالع الاقنعة ودخل المدينة فاجتمع اهل القرية اجتماعا طارئا وقرروا اغتياله ليلا ..ولكنه تمكن من الافلات .. وظل يفزعهم في الليالي ..وظل شبحه يطاردهم ...حتى اخترعوا الوهم .وهكذا استقرت الارواح في مدينة الاشباح .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( زنجيات)
قبل ساعة ..فتحت الباب..ضحى بديع....شمس ناعسة..واكثر البيوت المتعبة كتب عليها بخط بدائي ( الدار للبيع )...لحظت كلبا زنجيا. يستلقي. على تراب..نومعميق..تعبث قربه الاطفال..تمر به العجلات...الستوتات..تخترقه اصوات مزعجة..وهو لا يتحرك..قلت في زمن الضجيج...وتكاثف التفاهات. ..هناك حلول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( مزعجات )

صحوت ثقيل الظل مجهدا ..على صوت رصاص لرأسي..مثل هجوم بصحراء على جند نائمين..انتﻻ تدري بنومك هل اسروا بك الى عمق السماء فتتلقفك العصي الغليضة جزاء لذنوبك..او عانيت من غرق في محيط..او فقدت محبوبا او ثروة او جزءا من جسدك...هل وقعت اسيرا بالف وربع...خس لومي فاش بالف..بصل..).... بايديمتوحشين..لكن سلامات ما حدث صوت وحشي تطلقه مكبرة صوت من عربة مرت بزقاق ضيق جوار شباك غرفتي....(اتﻻثة باذنجان بالف..برتقال.)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( عباس الكشاف)

كان جارنا كشافا (قارئ كف ), شبه ضرير وامراته القصيرة الملحاء البدينة , لا يعرف وجهها من ظهرها , تتمايل وهي تسعى بعباءتها الممزقة يمينا والى اليسار .شاهدته مرة ليلة الجمعة يقوده نجله وقنينة العرق (خمر قوي ) يظهر رأسها من جيب البرج من دشداشته كان يرسلني لصاحبة البسطة (ام شلتاغة ),فاشتري له باصورك وحمص ومكسرات عفنة بخمس فلوس .. فيعمل منها دواء للخايبات.. ومن لا تنجب عليها ان تنام ليلة في بيته ( ليعزم عليها )الجن فتمضي حبلى .المهم اتت له امرأة من الكويت .. ليذلل لها قلب زوجها , فهو يهجرها بالسرير ...فعمل لها رموزا بورقة واعطاها مطحون المكسرات العفنة لتتناولها ليلة الجمعة ... -فمضت المرأة للكويت وعادت بهدايا ثمينة للكشاف .. صار زوجها محبس...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( لا برصاصة طائشة )

ايها الموت اتفهم وفاءك.. وسنلتقي يوما...لا بد نلتقي..لا ادعي بطولة او استقبالك صوفيا كما في الهند...لي رجاء وحيد...ان نلتقي بمشهد مشرف..لا برصاصة يطلقها رجل مخدر..او بعجز جسدي.. منذ الصغر
عرفتها رحلة مختصرة ..تلك الايام التي نحرص فيها على الزائلات..وانك ستأتي لتحسم المعركة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( احتلال)

الطارقون ﻻ يتوقفون(بائعو الغاز..جباة الكهرباء...الطارقون خطأ باحثين عن بيت للايجار..موزعو بطاقات اﻻعراس والمااتم..الشحاذون....الدوارة ممن يشترون الطحين واﻻثاث المستهلك...)...غرفتي قرب الباب...اتعبني الطرق واﻻصوات البذيئة... اصعبها ان يطرق شحاذ في الثانية ظهرا.. طارقابعصاه..سالبا هجعتك...اي كلب بن الكلب اﻻ الظهر..ما عندك سم الحسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(صداقة)

كنا نعتمد على خزين الذاكرة اكثر من الاوراق.. لهذا مزقنا او اهملنا كل الرسائل المتبادلة بيننا .. ورأبت ان اثبت هذين الرسالتين اللتين نجتا من المحرقة ويد الاهمال , معلما اثريا يعكس الصداقة التي امتدت لاكثر من ربع قرن ,
(( تمكنت من التحليق عميقا , لان اجنحتك صقرية ,, تألمت حد الفتك.. لكنا لنم نرك الا باسما (تمر بك الصفعات كلمى هزيمة ــ ووجهك وضّاح وثغرك باسم ) ,. تخاصمنا كثيرا وبردت بيننا الخطى وطالما مسّنا الثلج لكن صداقتنا صمدت . غضبت مني لاني كتبت عنك ( فيك النقيضان اقبال وادبار ) لكنك هكذا : عين الى السماء واخرى الى الجمال , والان يا صديقي , هل تتفق معي بان من المؤسف بعد ان دخلنا مصهرة الخمسين عاما .. ان نموت على الفراش ؟؟!!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(شهادة فاخرة من صديقي)
(الصديق وطن )
ردا على مقولة الاستاذ برقان النجفي <ك.ح.س >:
<الانسان كالالماسة يشع (نورا وظلمة ) الى كل الاتجاهات , ولعلك تتعرف الى اغلبه حين يسكن صداقتك . والاستاذ الواعي للكليات والمتبصر بالدقائق كانت لي معه سياحة مع الادب والجمال والمغامرات العصية على الاختباء . مذ تعرفت اليه وكتب لي في ظهيرة صيف :
( وعدت تطرق ابواب الرياح فلا
قلب سيفتح او كف سوى الذئب .
كم انت تنسى : قناع الريح هدأتها
وفي امانك الوان من الرعب ك .ح . س)..
كان الحصار حينها يعتصر الوجوه في مرحلة اخرى من الاضطهاد القسري القدري لشعب كان يوما صانعا للحضارة .
ومن يومها كان لروح الادب والفكر محطات وسهرات , مثلما التنقل بين جماليات المكان لتذوق نكهة التاريخ والانسان .
تعرفت الى هدوئه الندي وصمته الثر وهدير نقاشاته وهو يتنمر , واضاءت تحليلاته حدائق ومدافن النفوس البشرية معه ( شاهدت ما يكفي ) من سنوات كالصبار والندى او قوافل العطر والنساء الفاتنات .
والان نمضي بنضوج المخيلة . معا نكتشف ما تبقى من نوافذ ومعالم ونحاول منفذا الى اعماق السماء ونبتكر المباهج من جديد .
ما زلنا نتعرف كل يوم الى صباح جديد ..
شكرا ساقولها حين نكف عن الاكتشاف والتجوال والحب

ولن نكف !
بصرة 2018
×××××××××
واضاف صاحبي في منشور على صفحتي على الفيس في 12-2020

((همس التراتيل .
بسيط كالماء، متذوق كاسماك الزينة. يطل الى العالم من عش اللقلق. لا احد ينكر شاعريته. ولا ينسى التاريخ تفضله على من جحدوه لاحقا. يسبقه صمته الى المتطفلين لكنه يتنمر حين يراها غير مجدية. فيستاجر اقرب تاكسي للمزعج. يودعه بحرارة ويدفع كروته مقدما. من اجمل ما فيه توزع كيانه على مواقع الجمال والكتابة ومزاجه الدائم في الصيد.. لا يكلف من يصاحبه الا المودة. له رؤية في الادب والفن والحياة. يعشق الشاي والتراث العربي . وترك التدخين مؤخرا. ثوري بتعقل. ولصحبته متعة في عالم من زجاج. شكرا كاظم حسن سعيد.))
عبد الرؤوف الشريفي -البصرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(لحظة حاسمة)

عبد الرؤوف الشريفي : القرار لك
حين يكون فكره حيويا وحواسه متيقظة , وهو يواجه محنة اتخاذ قرار خطير , فكل ما تستطيع ان تقدمه له هو ان تعاونه ليفكر ,كنا قبل ان يثقل العمر بالاف التجارب نتوقع اننا قادرون على غسل دماغ او مغنطسته , الان اقصى الطموح هو مشورة ان رفضها (فلعل له عذرا وانت تلومه ).. هكذا سحقنا ثلاث ساعات ونحن في حوار وجدل حتى اقتنص القرار .
غادرت صاحبي بعد المنتصف , بعد حوار مجهد مر متوجا ليوم متعب ثقيل , الدرب مقفر حتى من الدود والحشرات , الابواب مقفلة تماما ,الرياح وحدها تحرك الاشياء , مخلفة عددا لا يحصى من الاصوات ..الاوراق تحلق فتتهاوى ..اكياس نايلون سود تحاول الافلات من شيء اعتقلها ..قناني البلاستك الصغيرة تتدحرج معلنة بالصوت عن هويتها ...
الرايات تخفق فوق السطوح معلقة بالاعمدة ..اصوات منوعة : خافتة وصاخبة ... منغمة وبفوضى تسح انتباهك اليها ...لا شيء من صوت حي سوى نباح من بعيد تدفق واختفى .
هل هجعوا خلف الابواب المغلقة .. او واصلوا موتهم ... هل تعبوا ام خدروا بمسكن الواقع ... يصحو العراقي للحرب .. انت محارب في حروب لا حصر لها : انتظار الراتب , زوجة مشاكسة او بطرة , الانتظار لساعات في الدوائر الحكومية , اللحظات الخانقة تقضيها في سرادق المآتم والاعراس , تفاهات المجاملات اللامتناهية , اطفال صاخبون لعبتهم الاولى هي المعركة يقتلون بعضهم ببنادق من الخشب او النايلون .. حرب الحصول على الطعام... النساء وحدهن يداهمهن القلق قبيل الغروب والسؤال المكرر (ماذا اعد للعشاء ؟!)...
الرياح تتدافع تخترق المشبكات وصناديق الفاكهة المتقبة تتحرر من اسرها وتمضي ترتطم بالجدران فتجنح او تتهاوى فتستقيم او تتكور او تمضي في دوائر يكشفها الغبار , تخترق الثغرات في البيوت غير المحكمة فتغزو ...الصفيح يعزف انغامه المفزعة .. التراب عبثا يتشبث في الارض .. الريح تطرق الابواب الحديدية ضيفا ثقيلا لا احد يفتح له .
ترى من أي براري اتت واية مفازات قطعت ..واية خيام وانهار تحدت فعبرت , اية صفقات عقدتها مع التلال والاغصان والجبال فمرت ..هل تدعونا لليقظة والحذر من زلزلة بشرية قادمة ؟!.. انهم يغطون بالنوم او يطورون الوهم عبر الفيسبوك والمسلسلات .. في هذه اللحظة بعد المنتصف كم فتاة تراود وكم رجل يكرر لهاثا بلا لذة او ضرورة .. كم عاطل عن العمل يقلب خيارات صعبة ويصحو متورم الاجفان .. كم ارملة ومطلقة تختم يومها بشهقات وهما تنظران بطونا غضة جائعة او صفعا يتوالى طيلة النهار على صغارهما ..
الان وحدها الريح وأنت تقطع مئتين من الامتار , ظل لفمين ينهاران لحظة التقبيل .. انه مهرجان وتلتقط الاحتضار البشري وهو يترشح بسكون وصمت وغربة وفزع .
ظلال على الحائط يشكل ما يشبه خارطة للوطن العربي ,مهتزة وممزقة , بترت بعض اجزائها ..ظل اخر لفيل بلا خرطوم يترنح فيسكن , ظل لفمين ينهاران لحظة التقبيل .. انه مهرجان للظلال والاصوات .. الشواخص والاشياء تتخلى عن هويتها ثم تنتمي لذاتها .. انها فرصة للاعلان .. علب الدهون وقوارير العطر المفزعة , اوراق الامتحان لصغار كسالى تنتقل من سطح لسطح , الكتابات المرمزة لعاشقة شبه يائسة تتقافز من منعطف لاخر بين الازقة الضيقة الخانقة ...
وانت تخطو مفكرا بلحظة حاسمة تمكن فيها صاحبك ان يتخذ القرار المر الخطير , حيث تستعد الاعصاب للصهر الكلي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(من 6 الى السبعة مساء(العشار )

هل تقدم بك العمر فتقول (سوق الهرج )... ضحكت فهو نسخة من ذلك السوق مع تغير زمني وسلعي ... سوق صاخب اغلب رواده من النساء.تزحف سلعه فتتحتل الارصفة .الملكات محتشمات بعباءات سود واشكال متنوعة تغطي اجسادهن تماما عدا الوجوه.. خمس مصائد فئران سود كصناديق صغيرة يقبع خلفهن رجل حزين كلما مر احد يتوقعه سيشتري حتى يتخطاه غير مبال به ...صينية عريضة من الخوص صفت انواع من ملاعق الشاي عليها .. قاتل الحشرات والعقارب والذباب باكياس بهية ...محال للملابس المستعملة تكومت على مصطبة او علقت بحمالات ... الاصوات متداخلة ( حاجة بالف ... كل سلعة ب4 الاف... بجامات تركية ... احزمة جلدية اصيلة .. مكانس ومهاف من الخوص ... تنزيلات ...) اصوات يطلقها صبية او رجال متجهمون او تنطلق عبر مكبرات صوت لا تلهث ..المراهقات بعيون متالقة يكتشفن الاشياء اجساد مترعة بالعافية .. دعوهن قبل ان يصدمن بعجلات الزمن .. وتلك كانها بومة تتزيا بريش طاووس فرحة بخطيبها البارد تمسك يده مستمتعة (انظروني لقد كسبت زوجا ... ظلن انتن بالاحلام )..السوق بظهر البريد .. انتعش كثيرا وتعملق بعد ان انشيء كراج مركزي قريبا منه ... لكن اين بائع الصور الذي استقر طويلا بنهاية الفرع (ممثلات .. طرزان . .. ملوك وزعماء هلكوا او اهلكوا لوحات من ريف سويسرا ولفنانين كبار )..اين المقاهي الصاخبة والنشالة وقطاع الطرق واين الظلام الي كان يغزو المكان .. اين الرسامون والخطاطون حيث لا تخطيء العين ( الخطاط البدوي )... وحيث يعبر العشاق لايداع رسائلهم في البريد ...اختفى من الطرقات ساعي البريد بدراجته الهوائية وحقيبته الجلدية وقبعته المميزة وتلاشت اللهفة من رؤيته ..
هنا كان دهن السيارات الاسود يحتل الشوارع والايادي الملطخة به ومحلات تصليح السيارات... وصناع الكازكيتات...ولم يعدن يتجولن بشعور لامعة بلا حجاب او بنطلونات الجارلس والمنجوب المرتفع لاعلى الفخاذ.
اقتنى صاحبي قدح شاي اضيف له قهوة والتحق بي في محل قديم لبيع الكبة ( ابو صباح ) الذي اسسه ابوه في خمسينيات القرن الماضي ... كل شيء تغير مذاقه حتى سمبوسة ابو عباس اللاذعة الا هذه الكبة يزيد السعر قليلا ولا يتغير المذاق ... من 20 عاما كنت زبونه ..
تذكرت ذلك الثمل الملطخ بدم طازج وهو يترنح في عاشوراء ويقول ( سامحوني ) فالمقهى بفرع منزو نرتاددها كلما قصدنا ساحة ام البروم لانها الاهدا او الارخص او لان فيها نت... وجوه لشيوخ مجهدين مصفرة احدهم يضع سماعة اذن وكلهم يرتدون دشداشات بيض ..يلقون النظرات الاخيرة على الحياة ويتحسرون عل ماض منحور . الدخان خانق قلت لصاحبي (نستقر على تخت خارج المقهى .. نستكشف ونتخلص من ضجة الدخان وحين استقرت اجسادنا اشرت له (انظر لقد اتى من شخط عليها والان ازيلت تماما (مطلوب دم ) جملة جحيمية كتبت على باب محل مغلق .. ربما دفع الفدية او عتقت القصة فازيلت العبارة... تدرون نسيت .. قبل ان نغادر سوق البريد .البيوت المتهالكة تقابل نهاية الزقاق كانت موطنا لبائعات الهوى..ومن الخضارة دلفنا لاسواق نسائية ضاجة ومستحدثة كدنا نتيه فالبصرة تتطور اسواقها سريعا حتى لم نعد نهتدي لارواحنا ... مررنا على اسواق كسدت واغلقت اغلب محالها .. موت سريري .. وماذا عن البنايات التي تصطف في سرة الزائلات آيلة للسقوط ..وبقايا الشناشيل ...وعلى احد الارصفة امراة اربعينية فرعاء ممتلئة تتلفع بعباءة تستقر على ميزان ارضي صغيرتنحني لترى ..هذا زمن الرشاقة فتصور معاناتها من وزنها وثمت رجل ينحني للميزان تخيلته يلتهم ارجل المراة .. اكان فاسقا ؟او توهمت فقد كان ربما يبحث عن المؤشر ليقرا الوزن فيما بعد مر امامنا مستصحبا المراة ذاتها وطفلة معها ..تذكرت في شارع ابي الاسود رجلا عملت معه ايام الدراسة في المتوسطة يبيع قطع غيار السيارات ويصنع بعضها ..قيل ربح جائزة ثمينة فهو يسحب كل ساعتين انفاسا من سيجارة الروثمن وينهيها بثلاثة انفاس حيث ينتعش وجهه ويخدر .. سيجارة كل ساعة .. نهرني يوما فانسحبت من العمل فارسل بعدي يوميتي بيد عامل صغير... لم اكن اتقن احجام مئات البراغي .. الفاجعة حين مر بنا صديق كان يفرط بالخمر ويقهقه بصوت مجلل.. لكنه كان يرى معي في الرضوانية ممدودا على سرير صامتا ساهما .. القى التحية على بعد وبقايا قهقهة مختزلة ومضى ... شعرت بالحزن لهذا وقلت لصاحبي (لعله يهرب من ماض )؟ .
في احدى ازقة البجاري محال لتصليح الحاسبات والمطابع الصغيرة وقد تكدس بعضها فوق بعض كاشفة احشاءها جديدة او صدئة قلت لصديقي (هنا في الركن كان محلا لفحام تفحم بين اكوام الفحم واكياسه .. نحيل محدودب الظهر كلما تذكرته تذكرت قول امي (يامن ضيع ذهبه على فحام ..) : وكان يقابله ابو ستار بعربته .. منذ الثانية فجرا يعمل بمهارة اكلة الباجة بمنزله المجاور للفحام .. واحد كان يقول (انا لا اتناول منه فهو يزيد اللحم للاغنياء وماعوني يبخل به) فيما بعد اصبح لا يرمي حتى العظام فهناك من يشتريها .. وحين استدار بنا الزقاق قلت له ((انظر هذا موقع مقهانا قبل ان يتحول محلات مقابل حسينية ابو ستار تماما حيث امضينا مرحلة الطفولة والمراهقة وشهدنا انقلابات عدة وشقاوات ومشردين ومؤمنين وفسقة ومدمني الخمر والحشيشة وفيفرة تومان جواره وهو يشخر على تخت فرش عليه حصير ...كان يقابلنا بيتان من الشناشيل ثلاثة سياسيين معارضين (بعثيين ) والبيت الاخر لاختهم الضخمة الجميلة البيضاء التي لا تغادر المنزل ام برهان التي ابليت العمر ولم اجد اجمل منها.. وقد فاتها قطار الزواج لانها ظلت تعتني بابيها.. لا اتذكر مهرجان الخفافيش مساء ينطلق بين شقوق اخشاب الشناشيل بل اتذكر حتى البيت المجاور الغامض ياتي مدهنا زوجها الميكانيكي ويطرق طرقة واحدة فقط فيهبطن له .وكانت الباجي تقول لي مشيرة لباب يكشف عن درج (انظر اباك انه يجاملها ) فارى ابي يحدثها على الدرج ماسكا باستكانات الشاي... (باجي ملعقة رز واحدة ) فترفض تزويدهم بها (ماما كتاب الطعام لا يسمح بذلك ).كنت صبيا فترسلني برهان لشراء العلكة والكرزات ويرسلني اخوالها لشراء صحيفة فاستبدلها بخمسة وعشرين فلسا فيما ينهمكون بتزييت المسدس..زحفت مقهى ابي امتارا عن موقعها بعد ان استبدلت الشناشيل ببناء من الكونكريت فاصبحت ركنا يقابل مطعم ابو ستار ويجاور يمينا ملهى السندباد, بئر اللذة والشقاة والعازفين العميان وجثث الراقصات ..ابي لا يسمح لنا انا واخي بان نوصل الشاي لهناك فبقينا حتى العشرين نخشى الملاهي .
بعد عودتنا احسست بالتعب .. اتعب من ساعة مشي واحدة!! لكنني الان اتجاوز الستين ولا استطيع ان اؤكد اوانفي سريان المعنى في احدى قصائدي (علمت الجسد الناحل ان يتحمل ما يزهق منه الثور ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(العريف حمة)

انتقل فوج الكمندوس من منطقة الدريهمية غرب البصرة الى محافظة دهوك , وعسكر هناك في مطار بامرني الذي لا يبعد كثيرا عن الحدود التركية , وقضت الثلوج والامطار الغزيرة على الحرارة المؤبدة التي خلفتها الشمس في اجساد الجنود , على تلك الرمال القاسية في الجنوب .
قبيل وصولنا لم يتبق من تمرد الاكراد في الشمال الا جيوب لا تؤثر على استقرار كردستان , لقد انهكتهم خيبة الامل وثلجتهم لعبة المصالح الاقليمية والفتك اللا محدود الذي استخدمته القوات العراقية وهناك مثل واحد يلخص ما كان يحدث قبل الخمود , فقد وصل للشمال والحرب مستعرة جنرال يمسك بعصا واصدر اوامره بتدمير اية قرية تنطلق منها رصاصة واحدة .
العريف الكردي < حمة > كان مشرفا على الطباخين , بنيته مقزمة ولكنها تفتح شهية التندر. فان علمت بان الاكراد لاسباب دعائية او واقعية كانوا غذاء للتندر عند العرب فيمكنك ان تتخيل حمة ...
في الطريق الى دهوك توقف الرتل ساعات في احدى ضواحي اربيل فتمكن العريف حمة ان يضللنا جميعا, رغم تأهبنا ,ولم نتمكن من معرفة منزله الذي قصده وعاد منه متخفيا , هازما فضولنا .
كنا زمرة من الصغار نصطاد الحمام والطيور المهاجرة وننطلق من منطقة الحكيمية مسافة كيلوين ونلهو هناك قرب سياج من الطين يفصل احد المعسكرات حيث تنتفخ القمامة واكوام الزاد .. لم يكن ابو شاكر ـ كنيته في المعسكر ـ يعلم بان هذا المعسكر الذي يستقر فيه العريف حمة ضمن فوج من القوات الخاصة وانه سيكون يوما احد افراده, لم يكن يتصور ان احدا سيزيل شعره تماما ويزجه ببزة مرقطة ويكون العريف حمة مسؤولا عنه مباشرة .
كنا نذبح الخراف التي نصادر بعضها من الاكراد الهاربين الذين يطلقون عليهم < العصاة > , بعدما تنقلنا المروحيات الى القرى النائية .. حيث لا نرى احدا منهم الا النساء والصغار ... حتما سيستمتع الجنود بهذا الغذاء الشهي , بعدما تعبت معدهم من اللحم التركي الذي يستورد للثكنات مكفنا بقطع قماش بيضاء .
الباعة الكرد قريبا من الفوج يبيعون الكرزات باسعار منخفضة وهم يتجولون على حميرهم .. بعضنا لاول مرة يشاهد الشمال.. فتراءت القمم الجبلية تحفر رماحها الحجرية في قلب السماء الغاضبة ولاحت الربايا المنتشرة في كل مكان والازهار التي تشق لها منفذا في الصخور .. الوديان العميقة .. الغابات التي تبتلع الاثر , ويضيع فيها الانسان , البساتين المشاعة من الكروم والتفاح والتين والمشمش والليمون .. الرياح تتكفل بقطفها ووضعها بين يديك ... اشجار الجوزوالفستق في الاماكن الشاهقة ..الترع التي شقت طريقها في الحجر, نقيا يجري فيها الماء مبردا وانيقا .. التنوع الحيواني غير المحدود .الظلمات التي تشعرك ليلا بانك خارج العالم , متاهات البساتين التي تنجو من فخاخها بغاية الاجهاد ... الامطار الغزيرة التي لا تتوقف لايام او اسابيع ... العواصف الثلجية .. حتى ان آمر السرية ظهر مرة صارخا بنا ونحن نعتصم بالخيام (اخرجوا وازيلوا الثلج من على خيامكم قبل ان تنهار ).المقاهي البديعة البسيطة التي تقام تحت اشجار المشمش بمنخفضات جوارالشوارع المعبد ة.
عندما عدنا الى الجنوب بعد سنة , عسكرنا ثانية في الدريهمية في الصحراء المترامية ... فعاد للعريف حمة طبعه المزعج القديم . كنا ننزل لبيوتنا كل خميس بعد الثانية ظهرا ونعود فجر السبت , ولان حمة سيبقى وحده (لا يقبل اجازة الا كل ثلاثة اشهر ) ,فانه يحول يوم الخميس مأتما , انه رجل عنين وهو آلة عسكرية من البشر مثال لمن رموا الجمال وراء ظهورهم وتناسوا الحياة المدنية وهو يستمتع بتنفيذ الاوامر ... وكان اغلبنا لا يطيق اللون الخاكي ولا رؤية الضباط المتبخترين ... هكذا استمر حمة ينغص علينا خميساتنا ..
بعد مرور ستة اشهر ابتاع الجندي ابو شاكر اقراص اسهال واتفق مع جندي مقرب للعريف حمة ان يضعه له مطحونا في الشاي الذي كان مدمنا عليه ,تصور كيف انقلبت ازمتنا الخميسية الى مرح وضحك والعريف يصرخ ويستغيث كل خميس بعد الساعة الحادية عشرة (الابريق .. الابريق املاوا لي الابريق ... بطنه ... بطنه .. ) ويضع يديه على بطنه ويهرول مثل احدب كي يقضي حاجته , كنا نقول مقهقين وهو يجري (شاي العافية ).هكذا قتلت الازمة .. وصرنا بعد القصعة نستقل المركبات العسكرية (الزيلات )..الى منازلنا .
عندما اندلعت الحرب العراقية الايرانية عسكرنا في بساتين الفاو فيما تقدم احد افواج لوائنا ليقتحم المحمرة ,
في احد الليالي , الثامنة مساء .. اندلع الهرج وتحركت البرمائيات في اتجاه مركز مدينة الفاو ... انه انزال ايراني مفاجيء ...
لم يكن الانزال جنودا ولا طائرات انه سرب من الطيور .. كان شعار الفوج <بر .. بحر .. جو .. >. بعدما تحركت البرمائيات لصد الانزال الوهمي بقي الاداريون في مواقعهم واراد احدنا ان يتسلى فتقدم يطلق الرصاص بشكل عشوائي باتجاه شط العرب وتدفق الرصاص المحمّر بين النخيل كان الظلام مهيمنا فاصاب احد الجنود في الفخذ, وسمعناه يصرخ فهرعنا اليه وضمدنا جرحه وارسلناه الى المشفى العسكري ... وجمع ابو شاكر بعض الجنود من الاعاشة : (اسمعوا ان عاد الفوج قولوا تعرضنا لهجوم من ضفة الشط ... ) وهذا ما حدث .. آمر السرية امرنا ا ن نصطف نسقا ونتقدم عابرين الترع العريضة بين النخيل حتى اشرفنا على ضفة شط العرب ولكن لا عدو ...عندما تشتد الاهوال يتكهف الانسان او يقتحم او يجن او يبتكر السخرية .
قبل الحرب بشهور كان العريف حمة يتدرب ساعات استعدادا لترقيته الى رأس عرفاء , كنا نتسلى وهو يخطو خطوات عسكرية مقلصا يديه ثم يستعد ويرفع وجهه المجهد امامنا بشموخ ويؤدي التحية متخيلا نفسه ماثلا امام القائد الذي سيقلده رتبة .
في بساتين الفاو كنا نرفع مستوى الصوت لمذياع يصدح بالاغاني الوطنية , وبعد الساعة العاشرة نخفض صوت المذياع ونقترب منه لنستمع الى اذاعة الاهواز وطهران .
لم يطل مكوثنا في بساتين الفاو طويلا , وكان الايرانيون يقصفون بالمدافع والطائرات بشكل عشوائي .. كثافة النخل تمنعنا من رؤية بريق الانفجارات .وابتكر ابو شاكر لعبة جديدة , مرة ثانية ,فكان يرمي العريف حمة بحجر تزامنا مع صوت الانفجار ما يجعله يرتعد خوفا .. وفي يوم ما تمكن ابو شاكر من الهدف فاصاب العريف حمة بخوذته .. فجرى مرتعشا في بدلته الزرقاء الى آمر السرية وهوى يقبل قدميه (سيدي انا مريض انقلني الى الخلف) , وكان يبكي متوسلا ويتضرع حتى رق له قلب الامر وتم نقله الى الخلفيات في الدريهمية ..وهكذا تخلصنا من هذا العريف المسكين الجبان .
سوف لن يشهد حمة قوة الدمار الذي خلفناه في المحمرة , حيث اندلعت هناك حروب شوارع وجرت الوان من النهب ..ولم يعبر معنا نهر الكارون ويشاهد القرى التي تنهب والبقرات التي بقرّنا بطونها مكتفين ببعض احشائها تاركينها على السجاد الفارسي , ولم يدرك ان احد الجنود كتب على حمار وانثاه فاسماهما باسم قائدين ايرانيين واجبرهما على التزواج في غرفة من الطين , ربما لم يسمع عن العريف احمد الذي اكمل بناء دار من طابقين وفي يوم اجازته التي سينتقل فيها لمنزله .. قد تحول لاشلاء ولم يعلم حمة بهزيمة مرة او تقهقر قطعاتنا قبل ان نأسر وزير النفط الايراني وقد وصل خطأ لقطعاتنا في بهمشير .ولم يتمكن منا حمة ونحن نكرع الخمر على ضفة نهر صغير , ليلا ونتعشى من اللحم المعلب في منطقة الشلامجة , قبل ان نعبر الكارون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(اله صغير)

عيناه واسعتان تحدقان فيهم يترقب وريبة ...... ,الرجل الاسمر ضخم الجثة ,يغطي راسه بكوفية بيضاء , كانت عيونه تراقب حركات ايديهم وهم يتناولون السلع المستهلكة ويتفحصونها ويتساءلون .. عليه ان يجيبهم عن السعراو النوع وهل هي شغالة او لا .. حتى يتصدع راسه ..كانت السلع تتبعثر على الاسفلت المتسخ , متراكمة بفوضى وتزحف خانقة خط المرور..فرش اسنان بالية .. اقلام لا تقطر ولا تتذكر قارورة الحبر اجهزة كهرباء صغيرة معطلة شاحنات مبايل بلغت الشيخوخة مذياع من عشرين عاما ..مقصات تناست الشحذ,دمى من قطع بالية,كتب بلا حروف ودفاتر عبث فيها... عجلات صغار مكسرة .. علب سرية المحتوى .. وهو يقف مرتفعا عنها على الرصيف كمن يلقي خطابا على جمهور لا يفهم لغته .. فجاة افرد يديه وصاح بصوت احتجاج ( لا ندري الان من اشترى ومن لم يشتر ).. كان في صوته المتهالك ما يدعو الى الشفقة او السخرية .. ونحيب التاجر على بضاعة فتك بها البحر ,صوت حزين من اعماق الروح الموغلة بالملل واللاجدوى , صوت الانكسار الانساني امام قوة القدر .لكن الزبائن لا يبالون يعبثون بالسلع يتفحصونها بدقة يرفعون رؤوسهم نحوه ويسالون ,ويغادرون بلا مبالاة ساخرين او متحجرين . سمرته العميقة.. وعيناه السوداوان ولحظة الغروب الزاحفة كثفت من عتمة المشهد .اقل من نصف وستتحول المعروضات الموشومة بالقدم الى اشباح, الى مخزن الذاكرة المزدحمة وربما سوف تنسى ..في انتظار يوم اخر يتجدد فيه المشهد .من يهتم برجل تنتظره افواه يكاد يطوى يومه في انتظار زبون حقيقي .سيحشر سلعه الشبيهة بالقمامة بكيس كبير ويسح خيبته وسينام بلا حلم او اسف .وربما ردد (الله كريم ) او يلعن السماء.وخطا الصديقان ثلاثة امتار وهما يمسحان الدمع ضاحكين ...فقد حرض فيهما موجة الضحك مظهر الرجل الستيني وهو يرفع يديه ناعبا (من اشترى ومن لم يشتر لا ندري ) قالها وكل ما بين اصابعه ورقتان من نقد بسيط لا تكفيان لشراء علبة سجائر رخيصة .. ونظر صاحبه فحدق هو بانجذاب ممغنط لثلاثة رجال يجلسون خلف البائعين شبه ضائعين بين اكوام السلع .. سمر الوجوه والاثواب.. تسلط الظلال الكثيفة عتمة عميقة عليهما ... ( بماذا يتحدثون؟..ما يفعلون ؟ أي عوالم تسحرهم : مخدرات .. خمور ... شبان مخنثون او تنظيم سري ...ولعلهم يخططون لسطو ليلي .. او مخدرون من الفاقة او كل يشكو لاصحابه عن هم عائلي وزوجات علقم .. او حظ عقيم ) ..كان احدهما يطلق وصفا عليهم فيكمل الاخر,وتقدما حتى بركا امام بسطة لبيع الخرافات والآلهة , ينتصب امامها شاب مرن لطيف .(هل اقتنيها ؟). سأل صاحبه وهو يقلب بمنحوتة خشبية صغيرة تمثل امرأة في حركة جسد متوترة وربما تسندها يدان .. فنظرها صاحبه وقال (لك الخيار ).. (الفان ) قال البائع .. وانهمرت اعين كثيرة على القطعة الخشبية الغامضة ..وتنوع التفسير (فراعنة)اطلقها رجل في الثلاثين تشع من عينيه روح الفكاهة .فاجابه صاحبي وقد انطلق فيه ينبوع المرح : (ههه ..لا هو اله ).. لحظتها توقف رجل سمين طويل اسمر بدشداشة بيضاء وكوفية يوحي شكله بسكير معتق وروح صفرت الاشياء وتشبعت باللامبالاة فحدق في المنحوتة وقد سمع جملة صاحبي فقال (كيف هو رب )قالها مبتسما .. فرفع اليه صاحبي عينين تغالبان الدمع( نعم هو اله لكن صغير ).. فضحك الرجل وتحولت ملامحه من الجد والوقار الى خفة متزنة وضج المشترون بالضحك .كان البائع يصغي ويتفاعل ويبتسم .هنا تجد امهر البائعين واكثرهم تثعلبا .. تمرسوا بالغش والحذر وهم يدرسونك وانت تشتري ويصنفونك في لحظات ويخيطون لك الاسلوب حسب مقاسك الشخصي .. كل هذا يجري في لحظات ...والاخطر من كل هذا ان اشترى ثعلب من متثعلب .. واندلعت موهبة الكشف والتحدي .لقد انقضى ربع قرن على التصيد السهل .. حين كان السوق طازجا وكثير من الباعة لا يمتهنون البيع .. تدفعهم الفاقة لعرض مقتنياتهم ...زحف السوق وتوسع وتعذر دخول النساء اليه وبذلت السلطة جهودا ضائعة لنقله لمكان اخر لكنه لم يتزحزح ..كان مربوطا بقوة لتاريخه وموقعه بسلاسل الاصرار .. الا ان روحه اصابه الوهن والمسخ ..فاحاطته بسطات مثبتة ومحال لقطع غيار العجلات والانشاء..تكدر الارواح بصلابة المعروضات ورائحة الزيوت .ولم تعد ترى الكتب النادرة ولا كثيرا من المبهرات .بدأ المسخ مذ عرضوا الاسلحة علنا وجربوها وسط الزحام ومنذ بدات المفخخات تحصد ما شاءت من رواده وباعته. ...
: ـ (تعال لو زلمة ..بالنعال والترتيب ..) كان يشاجر شابا نحيلا يعمل في بسطة مشويات على بعد ثلاثة امتار نافخا صدره رافعا انفه بزهو ..( انت في باب رزق تعال هنا ..) ويجيبه الاخر بصوت واهن لا يكاد يسمع ...فيزداد هذا انفعالا متقنا ويرد رافعا ذراعة محتقن الوجه , مشيرا اشارة فاحشة صارخا (انت كل يوم مفصوم ).. ونظرت لصاحبي وانا اتناول الزاد في مقهى مكشوف وسالته (هل تدرك هذه المصطلحات (الترتيب .. مفصوم ) فابتسم مجيبا (لالا... نحتاج دورات لنفهم لغة بعض هذا الجيل .. )..وتجمهر الناس وهما يتبادلان الشتم والتحدي دون ان يخطو احد نحو احد .... قال صاحبي (انها تشبه العراك لدى اهالي بغداد ...يخيل اليك هناك ان الواحد سيفتك بالاخر لكنه شجار كاذب )... واضاف (شاب الترتيب هذا هو صنف استعراضي يتقن اللعبة )..ومر شاب يرتدي الكابوي الضيق وشعره اللامع ينسدل طويلا على كتفيه..مر رافعا وجهه نافخا صدره موترا كتفيه لعله لم يلتفت لقبحه كان يصل الى اقصى الفرع من امام مفحمة الشاي يكلم شخصا غامضا ويعود ويكرر جولته : (يوحي بمشية عسكرية لكنه يتقن هز عجزيته المضغوطة بالبنطال ..) فحدق صاحبي ليتاكد وقال (أي سر يحمله واي تفسخ ) .هنا الجذور في شاشة السوق المتنقلة .. تكتشف تعفن الارواح وما فعله اليأس فيها حيث ترحلت القيمة الاخلاقية للاشياء .. لم يعودوا ينتظرون منقذا ولا تعنيهم عجلات الزمن :تمركزوا بقتل اللحظة وعبروا المقدس والخوف والممنوع .. انهم في انتظار انتحارهم ..اتعبهم البحث المضني عن الحلول فاكتشفوا الخلاص .. عبر قتل كل حماس وكل لحظة فرح واحساس بالجمال . حفروا على جدران هذا الزقاق العتيق هبوطهم ..كانت بائعات القيمر ينشرن الابتسامات المنحوتة ويستعرضن الحمرة الخالصة في الخدود.. يتربعن في المنعطفات امام بسطاتهن .والباعة بلغوا الانهاك من المساومة وتارجح الميزان .. وقال لهما احد الباعة (انه جوز هندي ) فيسالونه (اين جوز الشمال )- ويعلمان ان اكثر المواد مستوردة..... لم نعد ننتج الا الفتك والسرقة ..سيعودون ليتصارعوا في اسرهم ..فهم استانسوا الحروب ..ايام مستنسخة واحلام دفنوها من قرون ..الليل ذئب مندفع سيحول مجرى السوق الملون الى مقبرة .. وسيهزمه فجر رتيب فيعود ليثأر ..سيدلع الصراع , ستقاوم الوان الفاكهة وجمال المعلبات وسحر المصوغات والاحجار الكريمة والباعة الخائبون وفتية احتلهم الفراغ ومحال الملابس البارقة لكن الليل سيتمكن من الجميع .القى نظرة على هرم واجم ذابل افنى سنينا جالسا امام بسطته يقلب البيض وعلى الكتابات بخط بدائي على جدران خضبها دخان حطب وخددها القدم.. وتأمل السلع المنسية على صفيح سقف الزقاق , كرسي مهشم من الخيزران ,ابريق تراثي ..قزان بدين مثقب ..ورأى الدكاكين التي غيرت زبائنها وعناوينها الاف المرات..وذلك الرجل في الستين يضع نظارة سوداء ويمسك بمقص .. منقبض النبض ..ترحل زمانه ومجده ..وفقد براعة التاجيل ونظراتهم القلقة والمتوسلة اليه ولم تعد ماكنته تعمل الا للترقيع والكف..هنا في هذا المكان بالضبط ربما جرت السواقي وتدلت العناقيد والعثوق ..يعتني بها رجال سمر اشداء حفاة بدشاديش مرقعة وبطون خاوية ..او ربما هو وكر لقطاع الطريق والسراق او مخبأ سري لتنظيم سري .من هنا ربما اندلعت تظاهرة احتجاج على سلطة دموية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(ثمل ليلة الانتخابات)

قال العسكري وقد قضم اخر لقمة: (لفة ثانية > , قالها ذلك الشرطي للبائع وكأنه يصدر امرا, مستعرضا شاربيه الكثين ...وكان صاحب اشهر سمبوسة في العشار بملابس رثة وسمرة غامقة ـ يستقر على كرسي صديء ويعد النقود ـ ..والمحل الضيق يزدحم بالزبائن ..حشر لنا السندويجتين بكيس من النايلون ولبى طلبنا بقطعتين من السمبوسة التي تذكرك باكلات الهنود ..تناولت من الارض قطعة ناصعة من المقوى لاني توقعت ان نتناول على ضفة شط العشار , لكن الادامة منعتنا فقد كشطت الدكة الاسمنتية.. وتقدمنا نحث الخطى كالمتقافزين لان الوقت ليلا داهمنا .. من زقاق لزقاق ...قال صاحبي <كثير من المقاهي قد ازيلت >..عبرنا ثانية المكتبتين التي دخلناهما قبل نصف ولم نجد فيهما <مذكرات ماركيز >,الكساد سمة المحال.. الناس معبؤون بضجيج الانتخاب انه يوم الصمت الانتخابي 2018...العراق يمر بمنعطف , الناس متخمون باليأس ...(لن انتخب ) اكثر الاجوبة شيوعا ..الوجوم سمة الوجوه الا مراهقات مبتهجات مثل صغار يتقدمون بلا علم على ارض ملغمة.
التفت اليه .. رجل تقدم في السن لكنه ما يزال متماسك الجسد والروح .. وهو يسحب انفاسا عميقة من الناركيلة .. كان يستقر على تخت المقهى قربي (حاج .. هل تتذكر البيان رقم واحد في ثورة الزعيم قاسم ؟).. فاستدار بجسمه , فاصلا ساقيه المتراكبتتن على بعضهما , وبدا وجهه زاخرا بذكريات بعيدة مضببة محاولا شحذها :(النصر بسبب التمويه .. كانت الدبابات قد كتب عليها او تحمل لافتات مؤيدة للزعيم , الخدعة نجحت ...كنت عسكريا بسلاح الجو, واجبي استقر جوار الطيار في الهليكوبتر, اعد الطائرة واسلمها للطيار ,ووصلت بصعوبة الى وحدتي في معسكر الرشيد من جوار سجن رقم واحد ..).. كانت الانفجارات تتواصل والجو مدخنة .
(انت تتكلم عن الانقلاب ضد الزعيم وانا سألتك عن نجاح ثورته ..) فاجاب وهو ينفث الدخان الكثيف : < ها صحيح> وايد قولي رجل ستيني واسع العينين برفع وخفض رأسه مرات وهو يحدق بي وبه نافثا الدخان ..تخوت فارغة خارج المقهى وقطع قماش حمر ثلاثة داخلها ’ تتدلى من خيط افقى رسم عليها صورة واسم <ابو الفضل العباس>..وقد انتصب الخيط والرايات في اخر جزء من المقهى , جزء غامض اشبه بجزء من سجن امني تراكمت عليه سلع مجهولة في موقع شبه مظلم ..
دخل الثمل في الثلاثين .. جثة ثقيلة ينقذها طول معتدل ,, سمرة وبنطلون وقميص فحميان متسخان مع لطخات من لون رصاصي .. بصعوبة يوازن جسمه, قدمان تكادان تخشيان الارض كلما ارتفعت منها وحاولت الاحتكاك ,, انه يترنح ويده تقطر دما يقطر على البلاط الناصع. بين تختين وناركيلتين متقابلتين ومتقاربتين يترنح ويعتذر ويكرر اعتذاره وهو يسح المفردات بصعوبة (سامحوني انا اخوكم .. اخوكم الصغير ).. وطالبه بعض الجلاس ان يمضي فيغسل ويضمد يده فقال (لا شيء ).. الشاي على نار الفحم ينضج بنكهة مسكرة .. احد العاملين يوزع ابتسامة بلهاء ويمازح صاحب المقهى .. وراحت قطرات الدم من يد الثمل ترسم لوحتها على البلاط ..فتقدم لاحد :(ابو ناجي سامحني ) وقبله فحاول هذا ان يحمي وجهه بيديه ..لكنه قال فيما بعد (يجب ان اغتسل لاني ساصلي )..كانت الدبابات قد اجهزت على الزعيم ونظامه .. بغداد تشتعل بالدخان ...الهاتفون له تعبوا ...كانت الصور تتوالى في ذاكرة الرجل قربي , وكاد الثمل ان يهوي فسحب ناركيلته وقال (سامحناك فاغسل يدك ).. وغادر الثمل فحل شبه سكون ,وهاجم الحوار الانتخابي ثانية (كلهم مفسدون ولن انتخب ... لا يتغير شيء ),(غير المجرب مثل المجرب )(النتيجة معدة مسبقا ونحن في خدعة )..كان الناس ليلة الانتخاب حائرين ... تترنح وتتأرجح اراؤهم مثل هذا الثمل ..اليأس يكفن الخيارات ..وعاد الشاب السكران ...في يده خرقة وهو يردد (سامحوني .. سامحوني .. ارجوووكم سامحوني )..وركع بصعوبة ثم جلس على قدميه ليمسح الدم من البلاط .. قوة تجذبه للخلف واخرى تكاد تسقطه .. من كل خمس محاولات تنجح خرقته المتسخة بمسح بعض القطرات ...ونهض بمشقة ..وببطء... والقى علينا نظرة ضبابية (سامحوني انا ..ـ وفتح راحته مشيرا الى الارض وهبطت معه ــ صغير .. اصغر.. واصغر.. ) كان يواصل انحناءه مشيرا لحجمه براحته محدقا بالارض حتى لم يبق سوى شبر بين راحته والارض . ثم اختفى ...فيما ظهر جرذ بدين يعبث بين التخوت حذرا من الارتطام باقدامنا وتخفى لحظات ثم ظهر فعبر, فداهمتنا السخرية وانحسر بعيدا الحوار الانتخابي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(مأتم وسوق )
ان تبقى في مأتم في جنوب العراق لثلاث ساعات عليك ان تقوم وتجلس مئات المرات وبمثلها تقرأ سورة الفاتحة والاف (الله بالخير ورحم الله والديك )وتصافح ما يقرب من مائة رجل .. وان تستمع لتلاوة لا يصغي اليها احد,كل ذلك وانت تستمع لكلام حول فديات ستدفع وحلول تقدم لشجارات لا تنتهي .. او نقد للشأن السياسي او ان تسرح بعيدا ممثلا دور الحزن بعيون مفرغة او تبتسم بخفاء لكلمة او حركة يفرضها جو الوجوم الافتراضي .. انها لون من التقاليد التي لا يتمكن نبي من مسخها فقد ترسخت عبر قرون .. وهو ما لا نحتمله انا وصاحبي فاكتشفنا عذرا نغيب فيه لساعة حتى يحين موعد الاذان ونعود قبله بقليل . قصدنا السوق نتساءل عن موقعها واعتقدنا بانا ابتعدنا كثيرا عن موقع المأتم حتى قال صاحبي متندرا (ربما نقضي يومنا في فاتحة اخرى .). وضحكنا معنا..تعودنا عبر صداقة تجاوزت ربع قرن ان نثير موجات من الضحك كلما التقينا ..القمامة تنتفخ في كل منعطف و وفي المساحات غير المشيد عليها بين البيوت ..انها بيوت خرافية ومتهالكة ... او اشباح بيوت رغم ان مراهقيها يحرصون على قصات شعر حديثة ونساءها تستقطبهن اخر صيحات المكياج , يستخدمنه بفوضى ببغاوية ..
في العشاء (ما يسمونه ثوابا لروح المتوفاة او المتوفي ) .. اصيب صاحبي بخيبة ظن لان المائدة افتقرت للحوم ..كان ستة من المراهقين والصغار بحسرة وشهية عبثية ينظرون المائدة التي امتدت على ارضية مفروشة وسط الخيمة .. (غير مسموح للاعمار الصغيرة ان تتناول الزاد مع الكبار ).. لكنا دعوناهم فهبوا متجمعين على ماعون في طرف المائدة كانوا يتناولون الزاد بشعور من لا يتوقع ان يشبع ... وبدأ العبث يتصاعد شيئا فشيئا منهم, والصراع على لحوم الدجاج وتحولت الابتسامات الى ضحكات خافتة حتى فقدوا انضباطهم ...وبعد ان غادر البعض زادهم , تقافزوا عابثين الى المواعين الاخرى وصادف امامهم مراهق منغولي يحاول ان يردعهم بهمهمات زادت من عبثيتهم حتى اتى رجل سيد بدجاج بملء يديه.. وضعه امامهم وقال (اجل جثير ـ بالجيم المعجمة = اكل كثير ), وهو ما اثار لدى الصبية موجة من الضحك لم يسيطروا عليها ابدا وهم يكررون مفردة (اجل ... اجل ) وتتصاعد ضحكاتهم .
اكياس القمامة السوداء والزرقاء تنتفخ حد التخمة وتكاد اشكال فيها هرمية ومدورة ومخروطية ان تشقق جلد الكيس وتتدفق على الارض , انهم يكدحون طول النهار لينتجوا هذا الكم الهائل من الاكياس والقمامة التي تعكس الافراط واليد المبسوطة كل البسط .. تلول من اواق الكلنكس ؟!! دمى بلا رؤوس , اطر السيارات المكدسة الممزقة , القناني المفرغة من الماء او العطر او المنظفات ..مررنا على ساحة مسوّرة بمشبك تظلله ثلاثة اشجار بتر الكثير من اغصانها وتيبس اخر لكنها احتفظت باوراق خضر فيما فرشت ارضية لشجرة باوراق بلون فيروزي قلت لصاحبي (انظر.. تذكرك باشجار باريس في الخريف لو انك اختصرت المنظور لكنها كانت ساحة لأقامة صلاة الجمعة بعضها مسقوف بصفيح يستند على اعمدة خشبية واغلب المساحة متصحرة وسبخ وبقايا مطر ..تجمعات لشبان ورجال من خمسة لستة يثيرون الريبة لا نسمع حواراتهم لكنا نستدل على اسلوبهم من حركات متشنجة مع الكلمات.. وملامح متوترة .. بعضهم يجرب الاناقة لكنه في اية لحظة ولاقل كلمة او نظرة تستفزه يتحول الى ذئب منفرد .انهم مشاريع للشجار مؤجلة . ورأيت ثالث كلبة مرضع لا ندري اين جراؤها تغادر القمامة او تعود اليها .. امهات وسخات يلهثن .وربما صادفنا كلبات مراهقات فقلت لصاحبي (انظر ان لها اثداء كثيرة , اكيد انها هكذا لانها تنجب الكثير من الجراء) .. فاجاب صاحبي (جراء كثيرة بلا فائدة اما الشاة فتلد واحدة نافعة ) , قلت (صحيح لان من لافائدة منه هو الاكثر ــ ملمحا الى وضع اجتماعي ) , فضحك صاحبي وجاريته حتى لمعت دموع .ولاني مولع بالتعليل اكملت (الشاة تبقى بحكم الرعاية اما الكلاب فوقود للعجلات المسرعة وغيرها )..
< تبلغ الأنثى في حوالي الشهر الثامن من العمر حتى السنة حسب الهرمونات
أما الذكر فيبلغ في حوالي الشهر السابع>..<يمكن أن تنجب الأنثى من جرو واحد إلى اثنتي عشر جروا>.
الفرع الموصل للسوق يتسع لشخص واحد فقط لقد زحفت البيوت الى بعضها فانشات هذا الشق الضيق.. يصلح لتبادل ارقام المحمول السرية ويحتاج لشرطي مرور فلا يمكنك ان تجتازه ان خطت فيه امرأة.
هذا الحي فيه الكثير من الحطب و الاغصان المتيبسة مكدسة قرب البيوت والعرصات ورؤوس الازقة وعلى السطوح ومظلات الصفيح الصدئة التي تعلو الابواب الرئيسة ..هل يستخدمون تنور الطين ؟! وهناك خطوط لجمل ومفردات تعكس الدفقة الاولى لوهم الحب او السخرية من الاخرين ( ابو راس .. احبك زهراء ..) بيت للايجار وعلى بعد 3 أمتار كتب البيت للبيع على نفس الحائط ( وتخيل ان اتى الدار مشتر ومستاجر معا)...
العديد من النساء والفتيات منقبات وهي ظاهرة ندرت في السبعينيات حتى انك لترى فتيات متحررات وهن ومنقبات .. تكشف ذلك من الصوت وحركات الجسم خاصة اليدين ونوع النظرات ... لكن حضور النساء نادر فرغم ان العشائر وقسوة فديتها لا القانون قد حجم الاعتداء عليهن او التحرش بهن لكنهن ما يزالن حبيسات البيوت .. ينتظرن بابا يشرع او حريقا ينشب او ثقبا من شباك ليغذين الفضول ... اثار فينا الضحك بيوت شيدت على ترع متعرجة نتنة محاطة باطارات مستهلكة كانها طوق نجاة لسفن مقزمة موغلة في القدم .. بيوت واطئة ملصقة تلصيقا يحمد اصحابها السماء لقلة العواصف والمطروالا لقلعت من زمان .
انه طير زينة بديع الالوان لكن وجهه قبيح وقدرت انه قد تم اصطياده من اشهر ونقل بسفن الى هنا انه قرب اقفاص طيور محلية .. بلابل .. حمام .. اقفاص مملوءة حركات قلقة او فارغة وعلى بعد امتار منه احواض لاسماك الزينة .. الطير قلق ينظر فلا شجرة ... اسر لا رحمة فيه ..اضواء ساطعة لكن وجهه قلق و كئيب .. قلت له <لا تحزن نحن اشباهك ,: ايام مستنسخة ثقيلة وحبس بلا اسوار .. انت حبيس ونحن مهمشون >.. وما يفعل ذلك الرجل وهو يثبت قطعة قماش على عصا وينش الذباب عن الجوارب في اكياس نايلون ربما لقلة الزبائن .. وتلك المراة الاربعينية البيضاء لصق محل تبيع الدمى وغيرها ماذا عنها : هل ارملة فاتها القطار او تخلى عنها ابناؤها ... الشبابيك غطيت بجدران طابوق او بلوك انه الاحتراس في زمن الانفلات , تحتاج الفتاة لثغرة اية ثغرة لتصنع الحكايا ... وماذا يفعل الشبان وقد تزينوا ان حذفت الفتيات من الشوارع انهم يهرعون للفيسبوك والواتساب لعل الوهم يبدد ضغط الشهوات ... يتناسب الاندفاع الجسدي طرديا مع قوة الكبت ومساحة الممنوع .
تتوفر غرفة بشباك مغلقين لها سقف قريب للارض ؟ اي غرفة ؟! ماذا يصنعون بها .. وعربات يدوية بشكل صناديق متجهمة اللون .. وميزان معلق لصيق لاحد الابواب .. انه لشراء الخبز اليابس والنحاس (الصفر ) والفافون ..لكنه لحظة مررنا مستسلم لرياح تعبث بتوازنه ...كلب جوزي مراهق ينغرز في الرمل صامت الا عيناه الناطقتان بالفضول والترقب والتأهب .. لكنه سعيد فقد بدأ جسده يتحرك فيه الدم وربما بحث او سيبحث عن عشيقة ..هرة في طرف القمامة تلعق رجلها بمهارة وترقبنا عيناها الخضراوان ..
هؤلاء الناس خسروا كل شيء .. انهم متأزمون وضاحكون متحدين الحكومات ودوائر المخابرات السرية الغربية .. انهم يبتكرون انشغالاتهم ويغتصبون اللقمة بالعرق .. لكنهم يحتفظون بطاقاتهم لايام محرجة ان جرب حظه داعش او تقرب مستعمرون ... هنا سيعلم الجهلة اية طاقات انجبت تلك النسوة المهملات .. سيسمعون صوتهم بنار السلاح ..
شهد هذا الحي المترامي الاطراف معارك طاحنة مع الامريكان والبريطانيين خاصة ..لقنوهم دروسا لا تنسى حتى انسحبت القوات البريطانية من البصرة .. هؤلاء الناس يحركهم المذهب ومقت الاستعمار : صفتان راسختان اما الثورات فلا تؤسس بالوعي بل يخلقها التأزم والتعب والفاقة والخصاصة ... ونحن على بعد ثلاثة شهور من الانتخابات فالسياسة حديث الطرقات لكنهم ما يزالون يهرولون وراء العمامة والجامع وهو ما سيخسرهم ربع قرن قبل ثورة جارفة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تصادم في مشفى)

في احد تقاطعات الطرق الداخلية لاحدى المستشفيات وعلى مسافة لا تبعد اكثر من مائة متر عن المدخل المؤدي لردهات النساء والرجال حيث احتشد جمع من مختلف الاعمار(في انتظار الأذن بالدخول ) وهم يجلسون باوضاع مختلفة ...تعكس وجوههم وقلقهم قسوة الانتظار ولا مبالاة بعضهم ..
في ذلك التقاطع تصادم عجوز ريفي يرتدي دشداشة بيضاء احيل لونها مع شاب بدراجتيهما الهوائية وسقطا ارضا معا ..... وتعالى الصياح..(الم تر ) (انت اعمى ) (دمرتني ).. معا يزمجر احدهما بالاخر وهما يحاولان النهوض من الاسفلت , ماسكين بدراجتيهما .. وطال شجارهما فصاح احد الجالسين عن بعد (اجلبوا المرور ) واكمل ضاحكا (ليأخذ مخططا) فضحك العواد المتجمهرون , وتنامى التعليق من الحشد قرب البوابة الزجاجية , ونهض بعضهم وقصدهما اخرون , الرجل العجوز محتدم اكثر من الشاب ,ربما يليق به لقب (قحي ) ـ كلمة من القحة تدل على الكبر وتعني الذي يصر ويدقق بالامر بحكم التجربة ).كان صوت الشيخ اشد تشنجا واكثر الحاحا ,وادرك المتجمهرون على بعد من خلال جملة رجل قوي الملاحظة بأن دراجة العجوز قد تضررت وانثنى (ويلها )....... عن بعد تشنجت الاذرع وطغى الزبد في الافواه , ولم يصلا مرحلة الشتم او الاشتباك بالايديـ شجار سلمي ـ استغرقت المناوشات الكلامية فترة ثم ذوت .
ربما قرر العجوز ان يستسلم للقدر ويترك الشاب يمضي , وركب دراجته بتثاقل ... وعند مروره على البوابة تعالت الاصوات معزية او ساخرة وشامتة ومتأسفة : <الله كريم ...يعوضك الله ...الدنيا ما تسوة ... الفات مات ...بالمال ولا بالحلال >.. العجوز ينظرهم ويهز يمناه محتجا او متعجبا , والويل المتضرر يترنح يمينا وشمالا يكاد يسقطه , وقد اختل التوازن.
وكانت زمرة من سبعة افراد شباب جاءت لتعود صاحبها بالخطأ, فقد تلفن احدهم لصديق مستفسرا عن حاله فاجابه هذا بانه في المشفى (وقصد انه يزور مريضا ) ,لكن صاحبه اخبر المجموعة بانه راقد ..وهكذا اتوا ...فاحتدم التندر بينهم ... قال له احدهم (اغلقت محلي وانقطع رزقي بن الكلب وها انت صاحي , لا سم ولا مرض ) فاجابه (قلت لجعفر انا هنا وهو صحيح لم اقل له مريض ).. وفي جولة الحماس والتندر التي وقعوا فيها وهم يسحبون او يصارعون بعضهم ويقهقهون علموا بمصير التصادم والويل المعطوب , فتخيل كيف استقبلوا هذا الرجل الذي انهكه المرود والمسحاة وكري الانهار وغضنته السنون .
قال العجوز في نفسه (هؤلاء جهلة , بطرون, وذلك الشاب لا يجوز ان اغرمه , ربما لا يملك مالا , من اين يأتيه والبطالة في كل مكان ).
وتذكر حسبي جارهم الذي هوى من نخلة البرحي الفتية ومات , تذكر اخاه الذي فتك به مرض الحصبة وهو صغير , وبيت ابو خزعل الذي نشبت به النار واجهزت عليه تماما .
بعدها تغير مجرى تفكيره (لو غرمته فهو مستهتر .. ومن اين أأتي بالنقود لتصليح الدراجة , طفلتي تحتاج حذاء للمدرسة وزوجتي بليت عباءتها , وهي تلح علي لاستبدلها .. من اين النقود ؟.. التلفاز عاطل , ماطور الماء لا يسحب , واضاف (هذا الكلب من اين جاء لي , هذا حظي وقسمتي ) .
زوجته واطفاله في انتظاره في غرفة طينية سقفها من الجذوع والبواري , استأجرالبيت في قرية بابي الخصيب .
فزعوا جميعا حينما شاهدوه متعبا يسح دراجته المعطوبة ...
قالت زوجته ام محمد المصابة بضغط الدم , ( خيرا ابو محمد ماذا جرى) , فخلع كوفيته وقطب حاجبيه وقص لهم القصة وهم يتألمون مزدحمين بالشفقة .. وهدأته زوجته : (حمدا لله على السلامة والعافية ) .. وقالت تقاطعه بصوت متعب : (الله لا يعافيه بن الحرام هذا ) وخففت من ازمته بكسر صندوق التوفير الخشبي , ادخرت ما فيه من نقد قليل لمثل هذه الشدائد .. وجلسوا بايادمعولية يقضمون طعاما بسيطا يتصدره الفلفل الحار والبصل على سفرة من الخوص .
بعد ساعة انتشر الخبر من اقصى الهارثة شمالا حتى اولاد عمهم وبناته في ام قصر جنوبا , مبايل كبرى بناته ـ الذي دخل البلد حديثا ـ عجل بنشر الرواية واسمنها وتحولت الى حديث الساعة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(راديو)

عالجت او خففت من الارق باقتناء راديو...يطنطن بأذني حتى انام..قبل يومين اشتد بي الفلو( نشلة وكحة ..ههه).... وصادف اذاعة لندن.. تبث برنامج بي بي سي اكسترا..وكان يعالج مسألة القضاء على الخوف من الماء فوجدت بي رغبة بالمساهمة..لاني تغلبت على الخوف من الكلاب...ووجدتني اخاطب وانا تحت البطانية والظلام مهيمن..اخاطب مذيعة البرنامج ( خلونا نشارك. )...ههههه..طبعا لا جواب..وكررت مناشدتي...ههه.ماذا تفعل الحمى باهلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(حكاية كتكوت)

من ايام يلحون علي الصغار ان اشتري لهم بشة , لكن الانسان وقد مرعليه وقد شهد في حياته 29 رئيسا يتثاقل من التوجه للسوق ..فعبد الكريم قاسم ظهر ت صورته في القمر .. وعبد السلام خاطب اهل البصرة (طاسة ا بطن طاسة والبحر غطاسة ) , وعبد الرحمن اخاه (لم يهش ولم يرش ــ وضع حديدة عن الطنطل ), واحمد حسن البكر العاقل وهو يخطب (ان امامنا معارك قادمة ).. وصدام حسين الذي ابتلاه الاستعمار الاخوة بان يبقى عقدين بالزي العسكري,ثم علاوي الذي ظهر بعد اغنية سعدي الحلي < علاوي يا علاوي>, وزرقته , ثم ثلاثين رئيسا في شهر , محسود انا , 30 رئيس ههه وبشهر ؟؟!!!.بعدها اتى السيد الجعفري كم شهر وكتروه (خطية ) كان احسن ملا رئيس.. بعدها اتى المالكي فثبت مصطلح (جيش يزيد وجيش الحسين .. ومقولة <<ما ننطيها >>.لكنه كان كريما فاعطى هدية 4 مدن لداعش...واتى ابو يسر د حيدر العبادي.. خوش ولد فاصلح ذات البين نسبيا لكنه سقط بالضربة القاضية لخصخصة الكهرباء...من يشهد كل هذا يتثاقل من الذهاب للسوق .. لكني احب احفادي ولعيونهم قصدت السوق مرتين بيومين فلم اجد بائع البشوش.. المهم بعد اربعة ايام اخذت الصغيرين وراينا دجاج عرب صغار كتاكيت.. وخيرتهم فانقسمت الاراء بين راغب بشراء كتكوت او بشة كطبع العراقي . مقسم قسمة طويلة ابدا بين عمر وعلي وحرب جمل وطلي,لكن القوة الامريكية تدخلت ووحدت الاراء اشترينا كتكوت دجاجة عرب مو معمل .. وحملوه فرحين ونحن نحاول تصنيفه ذكرا او انثى .. قلت ديك لانه يرفع رأسه واشد نشاطا .. الانثى رقة وانكسار رقبة (ولو الخجل قل منسوبه اليوم ).. ووضعناه بقفص لطيور الحب .. فاندلع الصراع ..احسهم يتهامسن (شنو هذا منين اجانة ) ولان الديك يحب الاماكن المرتفعة خاصة لحظة يعوعي )يصيح (.. فقد اعتلى بالقفص الطابق العلوي وهن طيور الحب هبطن لارضية القفص المشبك.. وامهم تصيح اعتقلوه لانهم سيترسنا فضلات ... في التاسعة ليلا اجبروني اظهره وكان نعسان.. احسه يقول (شلون طلابه يعنى الليلة ما انام ..صباحا اتوا لي بالحليب فلما فتحوا باب غرفتي اول صورة شاهدتها هي الكتكوت فالتقط له هذه الصورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(قدح شاي)

كأس من الزجاج الثخين..تستقر في قاعه بقايا شاي وسكر ..مقبضه علامة استفهام تجنح نحو اليسار..نحتت وسطه زهرة نجمية ناتئة..ينبثق منها غصن متوج بحبيبات متكورة بشكل دائرة مشيرا نحو الافق .الزجاج ليس شفافا تماما..يتصلب في القاعدة..الدائرية..يتدرج هذا الكأس من شكل دائري وينفرج من الاعلى . مثل قوسين متعاكسبن.. رأس الملعقة مغمور بالبثل الساكن..انه في انتظار شاي ساخن..ليتمدد. وترن الملعقة..
لا صديق اشد حنانا منه في هذا الشتاء المتثلج..
الدائرة صممت كمركز ثقافي ...وما اكثرها ...تنتشر على كل مساحات البلد كمرض خناس ,مواقع تسرطنت , دمى مشوهة للثقافة , موقع لغسل ادمغة الجيل وعسكرته ..سيبقى يتخثر فيها الشاي في اقداح يقدمها مهمشون لمروضين دهاة ...ستجري فيها حكايا لم تسجل , ستتخمها الشعارات التي ستضيع مثلها , وتطويها قوة النسيان.

حين كان مديرا بلا دائرة او اثاث, وجه كولاجي لوظيفة ,غرفته بلا ستائر, باب بلا قفل ...
بعد ان قدم اليه العامل المسن الصامت كأس الشاي ومضى لمخبئه خلف الدائرة , اتت متانقة .. تجاوزت الدروس ووصلت .. شعرها الناعم الاسود يسرح حرا شاغلا كل ظهرها .. جسد غريزي ناضج .. فجأة القت رأسها في حجره , فاحتج .. قالت :
_ الا تحب هذا
ـ المشكلة بالستائر المسلوبة , وباب الغرفة الذي لا يوصد... ونهضا ...كانت هناك باحة محاطة بمتوازي مستطيلات من الكونكريت, ثبتت فيها الواح زجاج عمودية مستطيلة مرتفعة بين كل خمسة امتار ... اخذا يتجولان حولها , ولما اكملا الدورة , مدت يدها بشكل عفوي الى جيب قميصه وخطفت ورقة مرمزة تختزن اشارات سياسية , فانتفض قابضا على يدها .. تصارعت الايدي حتى استعادها بعد عناء.. لكنها , لحظة اسلمت الورقة , اخذت تداعب يده ولم تمنحه فرصة للتفكير او رد فعل وجذبته الى الحائط .. وهزت ركوده بحركات متزامنة .. من يدين وساقين وفخذين وبطن وشفة ..وقبل ان يخطو دماغه نحو التفسير تناولت كرسيا , رفعته عاليا وضربت به البلاط بعنف ,, والتفتت اليه بنظرة جامدة (كلكم هكذا ).. لم يجبها .. حاول ان يبقيها ولو للحظات ليضيء الامر , لكنها غادرت ببروود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الماطور)
لا تقاعد هنا
اليوم لحظة شوي السمك على السطح..تذكرت...مساءات الاهالي في البصرة على السطوح ليلا تخلصا من سعير الصيف...سطوح للغزل..لثرثرة النسوة..معبرا للسرقات..ملاذا للفراري..مخازن للخردة..لبقايا القناني الزجاجية..هذا الماطور كان معلقا بعد بلوغه السن القانونية..لكنه لم يعف فقد حورت وظيفته بعدما غزاه الصدأ وحال لونه واختفى انينه تماما...انه يشنق بسلك يعبر لبيت الجيران حيث ينتصب حبل الغسيل..عبر جدار واطىء من البلوك.سطوح بنفس المستوى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(من شظايا الزجاج)

كان الباب واسعا والبناية مهيبة .. :وزارة الشباب والرياضة - مديرية شباب ورياضة البصرة ...وكتب تحتها (منتدى الثقافة والفنون )..انها تقابل وعلى بعد عشر مترات صالة الولادة ... واخذني الفضول لاني رايت كثيرا من الموظفات والموظفين من فتحة الباب يتحركون ... وسلمت, وعرضت هويتي الصحفية للبواب فغاب قليلا وعاد (سياتي ليلاقيك المدير )قالها واختفى ..... استغربت انه لم يرغب بملاقاتي في غرفته ..وسالته اية ثقافة تجري هنا فاجاب المدير < نحن معطلون بسبب الموارد >...لكن مراجعا حدثني بان المكان للقاء الازواج المنفصلين ... ورايت لوحة (السجناء السياسيون ).. لوحة اخرى (دورات تقوية لطلبة المتوسطة والاعدادية) و قبل ان اجتاز الشارع اغلق الباب تماما ولم يفتح لساعات حتى غادرنا المشفى مع صوت المؤذن .. ويظهر انهم حذروا من صحفي اخر ربما ياتي ... وتذكرت مرة دخلت لمركز ثقافي في عهد النظام السابق وفاجأني اني رأيته موقعا للخمور والرقص ...سنبقى ننقب التخلف بعناوين ثقافية .
متنزه تناثرت على ارضيته بقايا الزجاج بالوان عدة .. متنزه من العصر الحجري .. بقايا شجيرات منخفضة نهبت اكثر اغصانها او كسرت .. المقاعد الحجرية منكفئة الى الارض او مهشمة .. تتوسط المتنزه قاعدة اسطوانية مرتفعة علقت عليها لوحة لقائد تيار ديني وخطت عليها كلماته , تعلوه صور لمقاتلين مدججين .. الاسطوانة تمزق وتساقط بعض كسائها .. هناك اسلاك ومشبكات صدئة وبعض القمامة واثار براز لحيوانات سائبة .. وعلب صديئة .. حتى ان الصغير الذي صحبته ذا العامين طلب ان يريق مائيته ويا لها من معاناة لاني لابد ان اخلعه البنطلون وبجامة داخلية واخلع حذاء من رجليه وهو ممسك برأسي .. قلت لا بأس ان هذا المتنزه يصلح لبعض الاشياء .
وعدت لمشفى الولادة كانت النساء في صالة واسعة بين واجمة ومتبسمة مثل الرجال .. لان الموت والحياة يجتمع هنا والفرح والقلق .. فجأة صرخ صارخ امام باب المستشفى وتدفق السب والعويل ,, وهرع الجميع للبوابة الا انا فقد شهدت المشهد من اعلى السياج .. فان تدفق رصاص ما علي سوى ان اهبط قليلا وربما انجو من رصاصة طائشة ...
القمامة في كل مكان .. كان رجل مسن يحاول يلبس نعاله بصعوبة فقد وهن الجسد ..يحتاج جهدا لينجح وكلما مد قدمه تراجع مثل سكير فقد توازنه ..وسمعته يتمتم (انتخب الافسق ) فخمنت انه يفتقر للسلامة العقلية وربما يكون الاكثر وعيا ..وعلى الجدران طبعت دعاية انتخابية يظهر انها وضعت من ثماني سنوات تستدل بذلك من رقم القائمة المعروف والتي تغيرت لاحقا ... لكن القمامة والوسخ تحيط بها ... وكما رسم الانكليز ابان الحرب الثانية القلوب على احذية النساء نحن هنا نضع اعلاناتنا حتى في المرافق فليس من المعقول ان تتسع المساحات لكل هؤلاء المرشحين .
الخطوط العشوائية على الجدران تكثر هنا.. مجسدة الفراغ والتفاهة (حب بلا وجدان .. بيع لما لا يباع .. دعوات لا تلبى .. نبذ غير مجد للطائفية ) وهناك ارقام على الجدران لا تحصى: < ارقام لعمال تهديم البيوت وسحب الانقاض..ارقام لمصلحي المكيفات ..للعشاق ..ارقام للطواريء حيث لا يجيبك احد , ارقام بلا هوية > هل اصبحت الجدران تفريغا للضياع ؟!... لافتة مختلفة استقطبتني (هنا يباع الثلج ) لكنه موقع للقمامة وربما مات صاحب الثلج او اضحى قائدا عسكريا , في العراق كل شيء ممكن .. نحن نطبق قول نابليون < احذفوا كلمة المستحيل من القاموس ) .
القمامة تختلف جوار المشفى, تكثر فيها علب الماء والضمادات واقداح الشاي الورقية .. فلكل موقع قمامته ورائحته الخاصة ..
واستاجرت سائقا يظهر انه موظف متقاعد ومثقف .. فحدث (انا بن المعقل .. قبلة السائحين ).. واشار( هذه المنطقة كانت تسمى الفرنسية لان اغلب سكانها مسيحيون وتميزت بالورود يتدلى من الاسيجة والاناقة والهدوء والجمال لكنها الان كما ترى منطقة خربة ..واضاف <ان مدير الموانيء الذي اسسها كان بصلاحية وزير >.
كان علينا ان نؤمن قنينة دم اخرى لان الموظفين غادروا وقد اخبرونا بانهم سينجزون ويكملون الملف للمريض .. مضوا وقد اغلقوا دواليبهم بضمير لا يمسه القلق , انه التفسخ الاخلاقي الذي شمل كل شيء . ثلاثة اشياء احذر ان تقربها في بلاد الرافدين : (مركز الشرطة والمشفى والدوائر الحكومية ).. وان اضطررت فاصحب معك كبسولات ضغط وسكر وخمس كيلوات من الصبر المركز ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(نقرة السلمان)

قضاء السلمان، لقد شاء القدر ان تتحول هذه المنطقة الى المعتقل الرهيب والمعروف باسم سجن (نقرة السلمان) , كان مجرد صدفة بسيطة اختيار القلعة ((قلعة أبو حنيج كما يسميها غالبية الناس )) في منطقة نقرة السلمان لتكون سجنا خاصا بالسياسيين الخطرين على أمن الدولة في ذلك اليوم . لم تكن وفق خطة مدروسة بل بسبب بعض التصرفات التي قام بها السجناء الشيوعيون في سجن الكوت عام 1948 : يقول حسقيل فوجمان المفكر السياسي والموسيقي العراقي والسجين في نقرة السلمان وهو يتحدث عن تجربته وذكرياته في تلك الايام: ( ان سبب اعتقالي سنة 1945هو لكوني منظما الى عصبة مكافحة الصهيونية وكانت هذه المنظمة تضم عددا كبيرا من يهود العراق الذين لايؤمنون بالصهيونية ), بعدها انضم الى حزب التحرير الوطني.
اول قافلة وصلت الى نقرة السلمان من العتقلين كانت مؤلفة من سبعة اشخاص من ضمنهم الشاعر العراقي محمد صالح بحر العلوم شتاء 1941 , واعيد ثانية مرة ثانية الى سجن نقرة السلمان عام 1952 وافرج عنه في مايس / 1956 .. قال له مدير السجن في توديعه (ليس في هذا السجن الا الموت فرد ) ,عليه بحر العلوم ..( ذلك لم يعرقل الاحرار من اداء رسالتهم ومواصلة كفاحهم.).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
تخوت في الزقاق خارج المقهى باحد الفروع الضيقة بساحة ام البروم ...رجلان مسّنان في السبعين احدهما اصغر من الاخر, يظهر ان صداقتهما معتّقة, يرتديان القاط والرباط , حاولا قدر ما تسمح به الشيخوخة ان يتأنقا ,عيون شبه مطفأة , تلقي النظرات الاخيرة على الحياة ,دفعني الفضول فغادرت التخت المقابل لاستقر جوارهما , كانت الانتفاضة الكبرى قد بردت مخلفة فراغا ساحقا في روح الشبان والناس عموما ..اجابني المسن الاكبر عمرا - فيما كان صاحبه يصحح له بعض المعلومات والتواريخ - (لابد ان اذكر حادثة طريفة قصها علينا شيخ عزيز حدثت له في كربلاء اثناء موسم الزيارة في أيام ألعهد ألملكي. كان متواجداً في كربلاء لزيارة ضريح الحسين (ع) وشاهد تظاهرة ضد حلف بغداد فقرر المشاركة فيها واثناء سير التظاهرة حمله أحدهم على كتفيه من بين المتظاهرين ليهتف، وتحمس الشيخ وأطال بالهتاف لكنه وجد ان التظاهرة ابتعدت عنه وإذا بحامله يأتي به للرصيف لتكبل يداه ويعتقل ويزور موقف كربلاء بدل زيارته المنشودة، فالذي حمله على كتفه كان أحد الشرطة السرية لمدينة ألسماوة.
كانت لعبة الشطرنج شائعة في نقرة السلمان، وكان بيننا من الزملاء الفنانين والمتخصصين بصناعة أحجار الشطرنج والتفنن بها لتكون جميلة ومتناسقة وكأنها صنعت في معمل متخصص. يعتمد هؤلاء على بقايا حشوة الصمون (نوع من ألخبز العراقي) لتشكيل منه عجينة بخلطها بالسكر والصبغة المطلوبة لصناعة الأحجار حسب الألوان التي تتطلبها اللعبة.)
وتحدثت عن الجيل الحالي والانتفاضة التي اندفعوا اليها , وقلت هؤلاء الشبان سينتفضون ثانية ولن يتوقفوا فقاطعني (هؤلاء لا ينتفضون ...كنا بعد الانقلاب على الزعيم قاسم قد تسلمنا توجيهات بان نتظاهر , ومن لم يجد قماشا فعليه ان يصنع من الدشداشات لافتات , وصنعناها ونزلنا للشوراع من منطقة الجبيلة .. حيث كان رجال الحرس القومي في انتظارنا مزودين بالرشاشات وانطلقت المجزرة , هكذا كنا اما هؤلاء الشباب فلا ينتفضون .) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(بالقنبلة اليدوية)

مراهقان يتيمان وسخان ,لا يربطهما بمجرى الاحداث الا الضياع واليأس ,يعيشان في بيت متهالك من القصب, حفاة مجهولان منسيان ,سقط النظام وعمت الفوضى .. وتوفرت الاسلحة بكل مكان ,انتشرت قدر تصدع الجدران والنفوس, , , مجهولون يحرقون الدوائر وينهبون كل شيء ,افرغت مخازن الاغذية ,افرغتها عربات دفع اويجرها حمير او جياد, لم تصمد دائرة او مؤسسة امام قبضة النهب , المراهقان قصدا البنك وهما اعزلان او مسلحان (الله اعلم ), وغطسا مع الغاطسين كانت الاجساد تتهاوى صرعى , ناهبون يسلبون او يقتلون ناهبين ,وتنتقل الاكياس المملوءة نقدا ورقيا من اياد تهاوت لاخرى....
عادا بكيسين كبيرين مملوئين نقدا ....لم يعلم احد بذلك ..بعد اسبوع تشاجرا مع زمرة ,فهجوا عليهما .. قابلوهم برمي قنبلة يدوية عليهم وسط حشد من المتفرجين , فبتروا ساق احدهم وقلعت عين اخر, فيما تهاوى الثالث قتيلا ...
هربا لمكان بعيد حيث ستتفرغ الاكياس تماما , وسيدفعونها دية لاهل القتيل والمصابين ,انهم في انتظار التشرد الذي لا يستطيعون العيش بدونه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(تظاهرة)

ممكن ان تقول ان العراق هو بلد التظاهرات ,فمنذ العهد الملكي في عشرينيات القرن الماضي ونحن نتظاهر ,ربما لان العراقي لا يرضى عن أي شيء وهو يقظ امام مجرى السياسة ,ونبه ومتحفز ,ونتظاهر احيانا تأييدا لقرارات الدولة ,اوتعبيرا عن رضا (لا تكول ما عندي وكت واعدمهم الليلة ــ اهزوجة اطلقت تاييدا لعبد الكريم قاسم ) ,وبكلتا الحالتين,تعكس الشعارات حدة و قاموسا من الشتم او لونا من النفاق او الجهل ,وقد تتدفق تظاهرة تحمل شعارات وفي الوقت نفسه تندلع اخرى بشعارات تعارضها ,: (نوري سعيد الجمبدة وصالح جبر ريحانها ) , (نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانها ) , وهي اكثر الاهازيج شهرة بعد الاهزوجة الاشهر (الطوب احسن لو مكواري ـ التي اطلقها العراقيون ضد الاستعمار البريطاني ابان انتفاضتهم عليه ) ..ولكنا في كثير من الاحيان نتظاهر لاسباب لا تعنينا مثل اعدام ديكة في الهند او حجز سلحفاتين في سنغافورة او حجب علف لابقار في الباكستان , خلال كل ذلك يتساقط ويحجز ويدمى متظاهرون ,وقد زهقت اعمار الناس دون ان تثمر تظاهراتهم شيئا ,ظل القفر ينهش وبيوت الصفيح ماثلة ,
لكن النظام السابق ولد مهووسا بالتظاهرات والتصفيق,عشرات التظاهرات كل شهر ,ولم يكن الناس يتظاهرون عفويا , انهم غالبا ما يزجون زجا باسلوب يشبه الاعتقال ,وقد حضرت منها واحدة فقط ,كانت الجبهة الوطنية قائمة , وفسح في المجال لليسار ان يشترك : وقيل لنا (تفرقوا زمرا ولا تدخلوها جمعا , تفرقوا على شارع تموز فان مرت ادخلوا مجموعات متفرقة ),وهو ما حدث , وكل جهة تتبارى ليعلو صوتها, فلما وصلنا شارع الوطن ,اصطدم المتصارعون , وتهاوى البعض , وتدفق دم , فبرز رجل رافعا هويته صارخا ,(انا مسؤول يساري وعلى كل من يؤمن بالجبهة ان يغادر التظاهرة .)...واثناء الصدام رفع شعار محور عن شعار رفع زمن الزعيم عبد الكريم قاسم ــ جبهة جبهة يا عمال , لا رجعية ولا (استفزاز ) .بدلا من (لا استعمار).ومشينا نحن الخارجون بمحاذاة التظاهرة حتى اقتربت من مبنى المحافظة الاسبق , فرأيت رجالا غلاضا طوال القامة يمسكون بايديهم عصا غليضة وهم يرتدون سراويل رياضية خضراء, ويهتفون صارخين ((حزب حزب كله بعث )) ورأيتهم يهوون بالعصي على بعض المتظاهرين..
بعد سبعة عشر عاما تمكنوا مني .. كنت اعمل في احدى المنشأات عاملا بأجر يومي.. فجأة ظهرت حافلات وترجل مسلحون وقادونا الى التظاهرة عنوة !.... قضمت مسافة الطريق افكر كيف سانجو ..
وترجلنا في شارع فرعي يقود الى ضجة الهتافات ورأيت من بعيد رجالا معقّلين وشبانا ونساء في حال هيجان .. كنت اسمع اصواتهم او صراخهم على بعد ,وشاءت الصدف ان مأتما مقاما في سرداق مررنا عليه, فتسللت يمينا ودخلت المأتم:
ـــ (البقاء لله .... رحم الله من قرأ سورة الفاتحة )..وهكذا نجوت .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(مجنون يرتل)

كنت جالسا في محل صديق لبيع وصيانة الحاسبات وقطع غيارها, المحل ضيق يتكون من طابقين , يعمل فيه شاب ساكن واخر خبير بتأهيل الحاسبات , يتحرك بحيوية , قليل الكلام, وفتاة تعهدت امام مرآتها ان تظهر اناقة متزنة , تقف لتستنسخ او تشغل نفسها بتصفيح الانترنيت, العامل الثالث وصل متاخرا, مكتنز, معتدل القامة , دائم الحزن, الشارع من خلال البوابة الزجاجية يضج بضوء الضحى الساطع وحركة الناس السريعة القلقة..
دخل : قصير القامة , قوي السمرة , اشعث يرتدي سترة وبنطالا وسخين , عيناه تنضحان بمعان تصعب ترجمتها ,الق داكن, يبدو شعره مقنفذا , يضع ربعين من العملة الورقية على الطاولة: (انهم لا يعطون ,لا يخشون الله.. , اريد ربعا ) , قال صديقي صاحب المحل ـ وهو يتأمله مبتسما, , ضاغطا بيسراه على فخذي لانتبه ـ : (ساعطيك دينارا ـ واظهر العملة الورقية له ـ شرط ان تجوّد الآن ايات من القرآن ).
مباشرة بدأت التلاوة من عينين لا تعكسان الخشوع ولا السخرية , جادتين ( اذا الشمس كورت .....) واكمل حتى اخر السورة .
كان تجويدا مقلدا اداء القاريء المصري عبد الباسط , فتذكرت طفولتي , كان والدي يدير احدى المقاهي في ام البروم اخر الستينيات من القرن الماضي يوم كانت المقاهي ملاذا ومستقرا للمعارضين والجائعين والعاطلين , وللوافدين من المحافظات الجنوبية , طلبا للرزق او هربا من الثأر .
الصباح هناك يبدأ بعدس, وهو رجل تركماني سمين قصير , ترك الجدري آثاره على وجهه , حتما هذا ليس اسمه الا ان الفجر يبدأ معه,عربته ليست بعيدة عن المقهى , وهو يصدح -عدددس .. عدس - ضاربا بمسه الواسع المصفر على قدر واسعة ,تتوسط العربة والناس تزدحم ,لم يتعطل يوما, الا في ذلك الفجر الصاخب , يوم علق الجواسيس في مشانق على مقربة منه بام البروم. وعلى مسافة قصيرة , تستعد قبيل الغروب الملهى فتعد الكؤوس وتتأهب الراقصات, للاستعراض. في تلك اللحظة ــ حيث يبدأن بالتشاور لوضع زينتهن واختيار الازياء ــ تصدح كل غروب حنجرة الشيخ عبد الباسط بترتيل عصي على تقليده حتى ينتهي بأداء يخشع له الملحدون (بأي ذنب قتلت )
وتساءلت في نفسي عندما ختم المجنون ترتيله ودس الدينار , وهو صامت , في جيب سترته الزرقاء المتسخة : (كيف يجّود مجنون , وينسى المبصرون ذكر الله !!) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( خروف نذر )
فجرا في حي سجن بلا حرس او ابواب , يفضح ضوء الصباح صور الاولياء التي لصقت عليها, وتتجلى عناوين موحدة على ابوابها وجدرانها المتهرئة الملبوخة بالاسمنت, ,كتبت بمختلف الخطوط الرديئة والاصباغ المتنوعة ((الدار للبيع )), غالبا ما تمحى فتعاد ,لكن السكان الاصليين لم يتغيروا, ينتقلون فيه من زقاق لاخر , ولن يرحلوا بعيدا ,باب يقابل بابا , في فروع متوازية لا تتجاوزمائة متر طولا ولا يتسع عرضها لدخول سيارة , هذا الحي معمل للتفريخ , فقد ضاقت المساحات بالسكان والاطفال الذين يتكاثرون اكثر من النمل , السطوح واطئة ,تتكلم بدارك فيسمعك جارك فهو شريك معك بحديد السقف والجدران , كل بيتين بجدار واحد , فتعذر وضع الشبابيك .
ينشط هذا الحي ايام الاعراس والمآتم وتوزيع المواد الغذائية وايام عاشوراء , والمشاجرات ونصب السرادق لفض النزاعات العشائرية ,وينشط في ساعات قطع الكهرباء حيث تتحول البيوت مراجل ,في ايام الانتفاضات يتحول عاصفة من الرصاص , ويتجمع في رأس ازقته اناس من كلا الجنسين لازاحة ما تراكم من المياه الثقيلة النتة في فصل الشتاء .
فجرا , البائع متعب ومرح , عجوز تقترب تلف نفسها بعباءة تقف في انتظار ان ينضج الفلافل , الوشم يزدحم على رقبتها ويديها بشكل نجوم وصلبان وازهار , العطر البدائي يشع , الكحل يترسب : فاليأس وعجلات السنين والخيبة تكاد ان تطفيء عينيها ,
يمر قطيع من الماعز والخراف متسخ يعرج بعضه , يتشاجر , يتلفت , يسهو ,يتراكض الى موقع القمامة ,,
خروف مسن , علق شريط اخضر في رقبته ..: ( ما هذا ؟ ) فالتفتوا الى حيث يشير , .. (لماذا علق الشريط برقبة الخروف ؟!!)
قال البائع ـ وهو يقلب كريات الفلافل في دهن يغلي ـ (انه منذور للاولياء )
(لا ) , قالت العجوز... واكملت (انها حمت الرسول محمد (ص) اثناء هروبه من الكفار ).
الشركة التركية التي استوردتها الحكومة المحلية لتنظيف القمامة ـ بعدما سرحت اكثر عمال البلدية ـ لم تبق شيئا من الزاد لهذا القطيع , الماعز يأكل الورق المقوى بشهية ,خروف يدخل بوزه في علبة الصفيح طلبا للزاد, فتقبض على فمه ويعاني وهو يحاول الافلات منها ,صغار الماعز اكتسب خبرة بفتح اكياس النايلون السوداء واستخراج الطعام ... الماشية تتصارع .
في الضحى ,ستتضخم القمامة مرة اخرى , فيتقاتل عليها الصغار وجامعو القناني الفارغة واسلاك النحاس , اطفال ينقلون القمامة الى بيوتهم ,نساء اخريات يحملنها من البيوت لتعود لموقع القمامة مرة اخرى .. كأن القمامة اواني مستطرقة .
يعود عمال النظافة الناقمون, اليافعون الذين يقنّعون وجوههم ــ لانها حسب رؤيتهم مهنة هابطة ـ والرجال والشيوخ بزي موحد ويملؤون عجلة القمامة التركية .. التي تكبس الزبل وهي تجري وقد كتبت عليها بخط انيق عبارة لا يهتم بها احد (حافظ على نظافة مدينتك ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(مذكرات لالة)

لا اعرف من اين جاءت تسميتي, ولكنه اسم ممسوق شهير ,اكثر شهرة من علماء ذرة واشهى الحلويات ,افتخر ان اسم يضم مادة (لا ) التي لها وقع عميق في المساحة العربية والعراقية , وهي تسليني حينما تتصدر جملا ثلجية مثل ( لا تراجع ) , (لا عشائرية بعد اليوم ) , واحيانا تذكرني ب (لا ) اللغوية مثل ـ لا اكراه بالدين , او ـ لا تكن لينا ـ الاسم ليس مهما , انا لالة ام الفانوس .. وخلااص ,لقد خشيت كثيرا بعد سقوط النظام القبلي , ارعبوني , تصورتني موروثا في متحف ولن يعتني بي الا الفلكلور , ساصبح دمية غير نابضة بايادي الصغار او صورة مضحكة في مجلة تراثية .وصدقت مثل الناس بان المدن ستكون مضيئة , ولكن ارادة الله انقذتني , فلقد تطور شكلي , اهزلوني فترشقت واسمنوني وغيروا زجاجي فهو مستعاد من قناني الببسي, وتصدرت اهتمام المرأة والكتاب المتأرقين , لا تعرفون مدى فرحتي كلما انتكست الكهرباء او تعوقت المولدات , لانهم يسرعون لاطفائي عندما يعملان ,لا ادري لماذا اخبرتني صديقتي الشمعة ذات يوم : بان النبع الذي يحييني نادر ومجدول وان خبراء السدود يخشون من نفاذ الخزين ولهذا يوزعونه حسب البطاقات والاولويات....ولكني تساءلت كثيرا : (لماذا يذبح لساني اللاهب كل نصف ساعة او يوم فينطلق دخاني وتتثلج عواطفي واتحول الى جمرة,).
في ذات يوم زارني خطيبي الخجول وفضح السر, قال (ان روحك الرقيقة هي النفط الابيض ولكنها تختلط بالماء والكاري ومواد كيمياوية يصعب كشفها ولهذا يزرق او يكفهر زجاجك اللامع ويخبو لهبك , واراد ان يرعبني مرة اخرى فاضاف : ( ان هذا العام سيقودك للمقبرة ).. ولكني سخرت منه , فانا عراقية لا ترهبني التهديدات ولا ابالي بكمائن الكهرباء وسادافع عن ذاتي بكل شجاعة وسيسندني اصدقاء اوفياء يهمهم ان تتكرش جيوبهم وتحمر الوجنات .
خشنتني الحياة وكم تمنيت ان يوافقوا على تغيير اسمي ويصيحون (( لال ))او ان يكون اسمي مشتركا للذكر والانثى مثل كلمات (برقان وكفاح ), لا يهم , فللمرأة سطوتها ودهاؤها وقد تقود دولا في المخادع , ولو ان كل فتاة مثلي لها قدرتي على تحدي المراحل لفضلت النساء على الرجال .
اتذكر قبل اربعين عاما رفعني بيده عامل فقير رفعني عتال في البواخر ,عاليا باتجاه السماء وصرخ (ربي , لا طعام ورضينا فلماذا لا نفط ) كان يقصدني ... اذكر تلك الليلة فقد غادرني النوم وافزعني القلق ...
قبل خمسين عاما , كن منذ اول العصر ينشغلن بتلميع زجاجتي وادامتي فاصبح عروسا وياتي عمال البواخر واصحاب المقاهي وبائعو السجائر (الغازي )والصيادون فيستمتعون بضوئي الذي يفضح لغة الديرم على الشفاه الطازجة متحملين عشاقي المزعجين من البعوض وغيره ....
في يوم ما دخل يحملني لص الى مخدع راقصة في ملهى ليلي وسرق عقدا من الذهب , وفي صريفة قصب كسيت بالجص وضعه في الطاوة, وسلط نار البريمز تحتها ,بعد ساعتين لم يسل العقد حتى ارهبته امراته فلما برق الفجر رمى العقد الى النهر .
يوما ما صدمني قط زنجي في منطقة البرغوثية , وكأي سجين تتحطم قضبانه التهمت القصب واجهزت على حي باكمله , لكن السياسيين المغفلين قالوا (انها لعبة معارضين مخربين . ) ,في تلك الايام لم تكن مفردات مثل ـ الارهاب , المقاتلون , المتشددون ـ قد دخلت قاموس السياسة , ولم تكن احواض التيزاب قد اكتشفت في التعذيب, لعن الله ادوسن فلو لم اكن على بحر نفطي يسمى البصرة ولولا اكتشاف صدام ترشيد الكهرباء ولولا اصدقائي الجدد لسحقوني بالاحذية , او انقرضت , وانكرت الاجيال كفاحي الطويل,فأناامراة محايدة , اضأت للملوك والطغاة والمقابروقارئي الكف وعاصرت معتقل (نكرة السلمان وقصر النهاية واساطير الرضوانية )وحملت في الاعراس في غابات النخيل ليلا في أبي الخصيب ونهر جاسم ,ولم اعترض على مغتصب او رقاب تذبح ولم ابخل على كتاب المناشير السرية ..
انا الصبر العراقي المرير , انا فرعون العراق ومسيلمة القرن الواحد والعشرين , ان العازمين على اضاءة البصرة واستعادة عشارها الساهر بطيئون وربما سانجب طفلا اسميه (لولو ) ,قبل ان تتدفق الكهرباء .
واثقة انا وتعلمت من دروس التاريخ , انهم سينجحون لكني اطبق المثل الانكليزي (لا تفكر بعبور الجسر قبل الوصول اليه . ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(حكاية كتكوت)

من ايام يلحون علي الصغار ان اشتري لهم بشة , لكن الانسان وقد مرعليه وقد شهد في حياته 29 رئيسا يتثاقل من التوجه للسوق ..فعبد الكريم قاسم ظهر ت صورته في القمر .. وعبد السلام خاطب اهل البصرة (طاسة ا بطن طاسة والبحر غطاسة ) , وعبد الرحمن اخاه (لم يهش ولم يرش ــ وضع حديدة عن الطنطل ), واحمد حسن البكر العاقل وهو يخطب (ان امامنا معارك قادمة ).. وصدام حسين الذي ابتلاه الاستعمار الاخوة بان يبقى عقدين بالزي العسكري,ثم علاوي الذي ظهر بعد اغنية سعدي الحلي < علاوي يا علاوي>, وزرقته , ثم ثلاثين رئيسا في شهر , محسود انا , 30 رئيس ههه وبشهر ؟؟!!!.بعدها اتى السيد الجعفري كم شهر وكتروه (خطية ) كان احسن ملا رئيس.. بعدها اتى المالكي فثبت مصطلح (جيش يزيد وجيش الحسين .. ومقولة <<ما ننطيها >>.لكنه كان كريما فاعطى هدية 4 مدن لداعش...واتى ابو يسر د حيدر العبادي.. خوش ولد فاصلح ذات البين نسبيا لكنه سقط بالضربة القاضية لخصخصة الكهرباء...من يشهد كل هذا يتثاقل من الذهاب للسوق .. لكني احب احفادي ولعيونهم قصدت السوق مرتين بيومين فلم اجد بائع البشوش.. المهم بعد اربعة ايام اخذت الصغيرين وراينا دجاج عرب صغار كتاكيت.. وخيرتهم فانقسمت الاراء بين راغب بشراء كتكوت او بشة كطبع العراقي . مقسم قسمة طويلة ابدا بين عمر وعلي وحرب جمل وطلي,لكن القوة الامريكية تدخلت ووحدت الاراء اشترينا كتكوت دجاجة عرب مو معمل .. وحملوه فرحين ونحن نحاول تصنيفه ذكرا او انثى .. قلت ديك لانه يرفع رأسه واشد نشاطا .. الانثى رقة وانكسار رقبة (ولو الخجل قل منسوبه اليوم ).. ووضعناه بقفص لطيور الحب .. فاندلع الصراع ..احسهم يتهامسن (شنو هذا منين اجانة ) ولان الديك يحب الاماكن المرتفعة خاصة لحظة يعوعي )يصيح (.. فقد اعتلى بالقفص الطابق العلوي وهن طيور الحب هبطن لارضية القفص المشبك.. وامهم تصيح اعتقلوه لانهم سيترسنا فضلات ... في التاسعة ليلا اجبروني اظهره وكان نعسان.. احسه يقول (شلون طلابه يعنى الليلة ما انام ..صباحا اتوا لي بالحليب فلما فتحوا باب غرفتي اول صورة شاهدتها هي الكتكوت فالتقط له هذه الصورة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(مراهقة وكهولة)

في العشرينات ,
ثعابين النار تتدفق من بعيد في مؤسسة نفطية , فجرا , الموظفات اول من يدخل ,لم يكن الحجاب سائدا ,بحيوية تتقدم بعضهن واخريات بتثاقل ,يحملن الحقائب اليدوية , كان يسلي نفسه (سأحدس من تقرب لها زوجها , تلك فهي حيوية الجسد ,هذه لا, انها بخطى ثقيلة ,الاخرى نعم ــ لقد استمتعت ليلة امس , انظر لوجهها ... زاخر بالنشوة , .....
في الستين
مر في بيوت مستنقعة ..وقت معركة الغروب مع بقايا الضوء, يظهرن قرب العتبات محجبات ,او متلفعات بالاسود والعباءات ...يجتازمن يجلن قبله .. يلتقط اشياء اخرى , لم يعد يهمه الجسد , انه الان ينظرهن ويقرؤهن بوضوح ,انهن مغمورات بالخوف ,تلك تنتظر زوجا شرسا او لا مباليا ,الاخرى تعاني الفقد ,تلك تحدق في المجهول وقد اعتادت الانتظار ,بعضهن مر بيوم طاحن يصارع ما تبقى من اصرارها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(حزب السود في البصرة ــ حركة العراقيين الحرة ــ ).

عندما حضرت المؤتمر التاسيسي لحزب السود في البصرة ..قلت( ماذا تفعل الفتن باهلها) ..كانوا يتحدثون عن اهانة الانسان الاسود من خلال السخرية من لون بشرتهم...فيما السود انفسهم يفتخرون بلونهم ويخاطبون بعضهم بروح فكاهة:( ابو العبد).نحن في البصرة لا نحب السود فقط بل يصعب العيش بدونهم ...لانهم صناع البهجة وخلاقو الطرفة..ومن يحييون الاعراس بنغم ( الهيوة)...وقد برز منهم رجال دخلوا عمق الفلكلور. ..مثل تومان الذي يعزف ( الفيفرة. ..الماصول. ) بانفه.
وقد احتفلت حركة العراقيين الحرة بفوز باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة بإقامة حفل موسيقي في محافظة البصرة.
ويوجد الزنوج في العراق منذ عام 14 هجرية، عندما استقدمهم ملاكو الأراضي من إفريقيا للزراعة. وشهدت مدينة البصرة في 869 ــ 883 ما عرف بـ"ثورة الزنج"، الذين ثاروا على المالكين وأسسوا حكومة لهم كان مقرها مدينة المختارة (جنوب البصرة) قبل أن تنهار حركتهم بعد أقل من عقدين، وذلك عندما جندت الدولة العباسية كل إمكاناتها، فكانت أطول ثورات العصر العباسي وأخطرها.
وقد كان الرق مباحا حتى اجهزت عليه المملكة في العراق عام 1924 بمرسوم جمهوري .
و كانت كل عائلة عثمانية ثرية تشتري اسرة من العبيد لاغراض الخدمات ويعيشون في الطابق الارضي من المنزل فيما يستقل البيك والخواتم وابناؤهم الطابق السفلي .
اما اغنياء البصرة فهم يتبجحون بثرائهم عندما كانت عرباتهم تمر في الطرق محاطة بمجموعة من العبيد وهم يسيرون مشيا على الاقدام .
وقد لا يدرك بعض الناس بان السود ينحدرون من ثلاثة اصول احدها افريقيا , فقد كان يقبض عليهم من شرقها وغربها ليبيعوهم في العصر الاسلامي لغرض الخدمات ونصرة الدين ! إذ تم جلبهم من زنجبار "على سواحل كينيا وتنزانيا وجنوب الصومال" للالتحاق بصفوف جيش الخليفة العباسي جعفر المتوكل الذي كان يريد توسيع نفوذه.
عدد كبير من البصريين السود انضموا لفرق الخشابة فالفكاهة وحب الرقص وروح الطرب تسري بدمائهم .



عدد أعضاء فرقة الخشابة يتراوح بين عشرين شخصاً أو أكثر تختلف اختصاصاتهم، فهنالك قارئ المقام ومغني البسته واللوازيم ثم عازف الكاسور (وهو الايقاع الفخاري) اذ يستخدم الخشابة (البستوكة) بالدرجة الاساس للعزف، وفئة تؤدي التصفيق المنتظم.
ويكون قارئ المقام ذا اختصاص بتأدية المقام بلونه البصري المتوافق مع اللون البصري وأكثر المقامات المغناة بجلسات الخشابة هي البهيرزاوي ومقام الحكيمي ومقام الشرقي ومقام المخالف والمدمي وغيرها بما يتوافق مع الايقاعات واللون الخاص.
اشتهرت العديد من الفرق بهذا النوع من الغناء الذي يعد أساس الغناء في البصرة بشكل عام، ومن ثم انبثقت الايقاعات الخاصة لكل نوع من الغناء كالسامري والهيوه والبستة والابوذية.

وكانت تسمي فرقة الخشابة بـ(الشدة) من أشهر هذه الشدات شدة أبو دلم وشدة ربيِّع وشدة خلف السعيد وشدة ملة عدنان وشدة حسين بتور وشدة رمضان أبو راسين وشدة أبو ناظم وشدة أبو عقيل وشدة يوسف الزين وشدة سعد اليابس وشدة رشاد البصري.
أما الفرق النسائية المعروفة بالخشابة فمن أشهرها فرقة زكية الدكاكة وفرقة أم علي وفرقة أم كريم وفرقة.
لقد حدثني رجل اسود فكاهي بان الخشابة اصلا كانوا يعزفون على علب الصفيح ..وكنا ننتظر في مناطقنا الشعبية ليلة الجمعة بشغف .. لان السود يشرعون بممارسة طقوسهم بعد الغروب ..حيث يتعالى الايقاع ويتساقط البعض او تنهار نسوة في غيبوبة .. وقد تسمع احد ممن فيه مس تتغير لهجته فيقول (ابي بيض )أي احتاج بيضا..لست في معرض التفصيل بفنونهم وطقوسهم .. اريد ان اؤكد بان السود فاكهة البهجة في روح البصرة .. وما قيل عن اضطهادهم تصريح مدفوع الثمن .. ان الانتخابات والحاجة للاصوات باي ثمن دفع بمثل هذه الحركات للظهور .. حركات لا تصمد طويلا .. سيصهرها الواقع .. سيلفظها مثل زاد عسير الهضم .
وحين كتب صديقي الاسود البشرة <مهدي طه > عام 1975 : ( من انا غير شيء بلا أي شيء
ورماد صديء على علبة فاخرة ).. لم يكن ذلك بسبب لونه بل لشعوره بغربة الروح في مجتمع يسير للهاوية .. ولم اسجن اثر غرقه لانه اسود بل لاني قلت بان اياديا للسلطة وراء غرقه فاتهمت بمادة (قذف السلطة ) .. وقبعت لعام في سجن ابي غريب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(حجر كريم )

تخاله فرنا للصمون , لكن التوهج يظهر من موقد المقهى هومشعل يحمى عليه الشاي .
ربما تكون الاضاءة الباهتة هناك قد غذت هذا الشعور ...
عينان صفراوان وقحتان وسوار مثل سلسلة في يمناه , وضع امامنا قدحين من الشاي وحدجنا بنظرة من زاوية عينيه وهو يقف امام صاحب المقهى الجالس خلف الزجاج , واضح انه حلق حاجبيه وحف وجنتيه ..
التختان الوحيدان خارج واجهة المقهى يطلان على السوق , ثلاثة يجلسون على احدهما , على اليسار رجل اربعيني .. بدين جمجمة ضخمة فارغة , يضع عباءة سوداء شفافة على دشداشة بيضاء .. وقد اعتنى بشاربه الثخين .. قال رجل متورد الوجه مبتسما (انت بعت بخمسين .. والان مرتاح ) فشعر ببعض الزهو رجل على التخت قربي قد صبغ شاربه وحلق لحيته بعناية ورتب كوفيته البيضاء على رأسه .. فابتسم هذا له وقال (هذا سماوي ) مشيرا الى محبس في بنصره الايمن .. فتوثب فيّ فضول واستدرت اليه بنصف جسم , بعدما اختفى من جواره صاحبه وخلا المكان , فاقتربت منه متسائلا :
ــ انتم تتكلمون عن الحجر الكريم
ـ نعم
ـ هل لك خبرة بذلك ؟
ــ نعم افرز الاصيل من المغشوش .
ــ هل لديك فص للرزق؟
الرزق من الله , لا دخل للمحابس فيه , انظر الى هذا المحبس السماوي الذي اتقلده , انه رخيص الثمن بخمسة عشر الف دينار ,لكن هناك سماوي من النوع اليماني ,واخرج قداحة وسلط الضوء من مصباحها اسفل الفص وقال (انظر , لا ترى فيه شرايين ولا علامات, انه مزيف ).
ثم دس يده في جيب دشداشته واظهر محبسا بلون المشمش وسلط اسفله الضوء , وقال (الا ترى قطعا من المشمش متناثرة , انه يماني اصيل , وقد تستدل على الاصالة برؤية فقاعات داخل الفص تحت الضوء ).
كان صاحبي يضرب جانب ركبتي بساقه فارفع رأسي لالتقط امرأة تمر وانا اصغي لخبير المحابس ...
وفيما كان الرجل يشرح بهدوء تذكرت رجلا اقتنى فرج الضبعة ورأيته يضعه على منضدة قرب مسبحة وبخور واجاب حين سألته عنه : ( ان الكثير من المشتغلين يجهلون صناعة الطبخه الروحانية للفرج وان اكثره مغشوش وأن كانت الخامة من ضبعة حقيقية , لأن من شروطه العمل عليه و التحضير والاتقان ومن فوائده تسخير الرجال والنساء وجلب المحبة وعقد اللسان , وعليك شراؤه من عطار ثقة في الساعة الفلكية المذكورة وعند التلاوة حاول ان تبخّر بالجاوي او اي بخور طيب ولايصح حمله كاملا وينبغي ان يؤخذ القسم الأيسر فقط منه و روحنته) . وتخلصت من امطار ذاكرتي لاعود صاغيا بتفاعل لمحدثي البسيط.
فاستطرد :
<هناك نوع من الحجر نسميه شفة العبد لقوة سواده وان سلطت ضوءا عليه انقلب اخضر .. ان الغش في الحجر متفش والخداع تطور فقد تمكنوا من صنع شرايين وفقاعات في الفصوص وانت تحتاج لخبرة كي تفرز ...
الحجر موجود في البصرة بمنطقة الزريجي .. هناك موقع اثري تمكن البعض من الحصول على الكثير من الاحجار منه ايام الفوضى بعد سقوط النظام ... لكن الحجر الكريم متوفر في شمال العراق يجدونه كتلة حجرية في الجبال ويتم تقطيعه وقد تجده في البحر في العراق والخليج العربي ).
لكن الرجل البسيط والطيب هذا لم يكن يعلم بان ((الحجر التقليدي الذي يتم تصنيعه من الأحجار في المختبر عند التدقيق يمكن رؤية الشوائب وعيوب الحجر وعدم صفاء لونه ولمعانه , فالحجر الطبيعيّ عادةً ما يكون برّاقاً لامعاً صافياً، أمّا الحجر التقليديّ فيكون أقل شفافية وتظهر به نقاط داكنة، ويرى من كلّ زاوية بدرجة لون مختلفة مقارنةً مع الحجر الطبيعيّ الذي يبقى لمعانه واحداً من مختلف النقاط والزوايا.
اما الحجر الاصطناعي فيتم تحضيره مختبريا بنفس المواد التي يتكون منها الحجر الأصليَ، بعد محاولة محاكاة الظروف التي ينتج بها الحجر الأصليّ من حرارة وضغط لكن بزمن قياسيّ أقل، ويصعب تمييزه عن الحجر الأصليّ إلا باستخدام أدوات الخبراء، فيتم مثلاً فحص معامل الانكسار للحجر للتفريق بين الحجر الطبيعيّ او النفيس والاصطناعيّ الذي يتفوق على الحجر الأصلي من حيث قلة الشوائب فيه ويمكن أن تتنوع فيه الألوان؛ حيث يكون للقائمين على إنتاج هذه الأحجار القدرة على صبغها بألوان متنوّعة تحاكي الأنواع الأكثر ندرة في الطبيعة مثل الألماس الأصفر.
ان المقارنة بين الحجر الطبيعيّ والحجر الاصطناعيّ أكثر صعوبة،فلا يمكن التمييز بين الحجرين بالنظر، لكن يمكن اتّباع الخطوات التالية للتمييز بينهما: مسح السطح: إذا كان السطح خشناً أو رملياً سهل التكسر والتفتت يكون ذلك دليلاً على أنّه ليس حجراً كريماً. فحص لون الحجر: يعتمد في هذا الفحص جداول مفصلة وضعت لوصف ألوان الأحجار بدقة، وتقسم العملية إلى ثلاث مراحل هي: الأولى: فحص اللون العام للحجر، ومقارنته باللون في الجداول. الثانية: تحديد مدى شدة اللون، أي هل اللون قاتم أم أنه متوسط أم فاتح اللون؟ وأيضاً نعود للجداول المفصّلة لتحديد ذلك. الثالثة: الإشباع والتركيز للون: وهذا الفحص يساعد في تحديد مدى تركيز اللون، فيوصف الحجر بالبارد إذا كان اللون أخضر أو أزرق أو بنفسجياً، أو يوصف الحجر بأنّه ذو لون دافئ إذا كان لونه أحمر أو أصفر أو برتقالياً, الطرق على السطح، إذا كان السطح قابلاً للثني أو الطرق، هذا دليل على وجود معادن أكثر من أن يكون دليلاً على أن هذا الحجر كريم؛ لأنّ الحجر الكريم من صفاته الصلابة، ويشكل بالقص والجلخ <الشحذ> وليس الطرق والضغط. فحص التركيب الداخلي للحجر: الحجر الطبيعيّ له التركيبة المحوريّة، أما الحجر الاصطناعي فيكون تركيبه الداخليّ على شكل منحنيات. الحجر الاصطناعي يمكن طليه بالذهب أو البلاتين. قد تظهر على الحجر الاصطناعي بصمات الأصابع أو آثار لأظافر يمكن مراقبتها. الأحجار المقلّدة أخف وزناً من الأحجار الطبيعيّة. الفحص باستخدام أجهزة دقيقة، عادةً ما يُستخدم جهاز فحص معامل الانكسار، والذي يتوافر لدى الخبراء والصاغة، ومن خلال القراءة لمعامل الانكسار للضوء في الحجر يتم تمييز الحجر الطبيعيّ من الاصطناعيّ. تعتمد الآلية في هذا الجهاز على تحديد كيفيّة تغير مسار الضوء داخل الحجر، لكل حجر كريم معامل انكسار خاص به، لذا هذه الطريقة ممكن أن تُستخدم في حال عدم معرفة نوع الحجر لتمييزه، يتمّ حساب معامل الانكسار ثمّ العودة إلى جداول معامل الانكسار للأحجار الكريمة، فيظهر لنا نوع الحجر، وأيضاً من خلال معرفة معامل الانكسار يمكن تحديد إذا ما كان الحجر طبيعيّاً أم اصطناعيّاً.))
ورأيت شابا يكاد يقفز احد ردفيه مع كل خطوة وهو يرتدي بنطلونا اسود وقميصا مثله .. فاكتشفت حين تقدم بان قدميه معاقتان .
الرجال الثلاثة الذين يقابلوننا عل التخت يتهامسون .. ربما توقعوا ان صاحبهم وجد رجلا ساذجا وسيتمكن من خداعه وان يبيعه محبسا عاديا بسعر مرتفع .. فكانت عيونهم تعكس البهجة والحسد .
واشار صاحبي الى الشاب العامل في المقهى , رافعا سبابته, فلما نظره حركها كما تدور الملعقة في قدح الشاي , فاتى مرتديا بنطلون كابوي ضيقا,قلت (شاي فاتر) , فاجاب الرجل الوسيم امامي وهو يرتدي دشداشة سماوية (انه لم يخدر )..
لقد ندر زمان الشاي على الفحم في مقاهي زمان, تفوح منه رائحة الهيل , انهم الان يسمطونك بماء احمر بلا طعم ولا يقدمون لك الماء فعليك ان تشتريه فترن باذنك مناداة الزبون القديم (شاي وماي ).. من سنوات لم تعد تسمعها ..
المقاهي في هذا الزمان لاصحاب الناركيلات , الله اعلم ما يضعون فيها , لان من ادمنوها غالبا مخدرون , سارحون بعالم اخر ... والمقاهي لمن لا يصغون لبعضهم , ولم تعد محطات استراحة بعد يوم ثقيل وليست مهربا من صخب البيوت وعبث الصغار ولا مأوى للمشردين .. لم يبق من المقاهي الا اسمها , وهي في فصل الخريف .واتى رجل اصلع في الثلاثين بدشداشة سوداء يضع الكثير من المحابس في كلتا يديه , واندس بيننا , واستخرج حجرا اسطوانيا بلون كحلي , يمر فيه خيط .. الا ان محدثي طلب منه المغادرة قائلا (هذا الاخ صحفي واريد ان احدثه عن مشكلتي, فغادر الرجل , كابتا عشرات المعلومات عن الخواتم .
ــ (لقد منحوني رقما لقطعة ارض .. انا اعمل في الموانيء.. فدفنتها واتى عامل من الموانيء وزعم انها قطعته واظهرالمستند فكان رقم القطعتين متطابقا,ولم يعوضني عما خسرته ولقد خشيت على اخوتي فلم اطور الشجار, وامثالي عشرات اعطوهم ارقاما لقطع اراض متطابقة ).
في السوق امرأة صدئة من المعدان تبيع الحليب المغشوش في قنان والقيمر والروبة ..اشترينا واحدة بعد ان خفضت السعر قليلا قليلا في لحظات حتى قارب نصف سعره المعلن اول مرة ... وقد وضعت قنينتين فثلاثة وهي تكرهنا على الشراء وتسوطنا بلسان مدرب وباسلوب الالحاح والتخفيض كي نشتري..ووضعت لنا عددا من قطع القيمرموضوعة في علب مكشوفة من البلاستك الابيض ..وهي تخفض السعر وتزيد من الكمية ونحن نرفض وهي تلح ... قلت ربما الوقت مغيب وتخشى على سلعتها من التلف .. لكنه كان التفسير الخطأ.. لان اقرباء لي شمال البصرة حدثوني بان اسلوب الالحاح في البيع مترسخ لدى البائعات من المعدان ... وان شعارهن (عليك ان تشتري بالقوة او الرضا ).. ويتحاشى الناس الاحتكاك بالمعدان فهم لا يتورعون ان دهست شاة منهم ان يكرهوك على دفع فدية مضاعفة عنها وعن حملها المزعوم كذبا او عليك ان تواجه انواع الاسلحة , لا فرق لديهم بين قتل الانسان وسحق نملة .
سوق مسقوفة بقطع القماش والصفيح اللامع او الصديء... الزبائن المساومون اكثر من المشترين ...الكساد يشمل اغلب المحلات... مكبرات الصوت تصيح (السلعة بالف ) وهي التطور الطبيعي لبسطات ينادي اصحابها ( حاجة بربع )ما كان يحدث من عشر سنين ...
وحسبته دمية عرض للملابس بدينة ترتدي بنطلونا وقميصا اسودين وهو يطل من بين ملابس نسائية معلقة لكنه كان عاملا في المحل .... نحن الرجال نمر على محلات الزينة وازياء النساء مسرعين لا تسحرنا فيها الاشياء...خلافا لهن وهن يتسمرن بذهول عليها ..
لان الشاطيء قريب فالاسماك وفيرة .. انواع قد لا تراها باي مكان.. السعرمنخفض وقد تجد اسماكا حسبناها انقرضت ربما لقرب الحي من الاهوار .. فقد نسينا اسماك البني ارقى الاسماك والحمري والكطان .. لكنها تتوفر هنا ... وترى اسماكا حية تتحرك على دكة او في طسوت او احواض ثبتت في عجلات .. فهنا تشاع تربية الاسماك بوضعها في اقفاص مشبكة وتركها في ماء النهر قريبا من الضفة.. وترى الصيد بانواع الشباك او بمادة سمية او النتل بالكهرباء...وقد ترى المرادي والفالات وعصي الخيزران وانواع خيوط الصيد ومكائن تحريك الزوارق ..
المحال المترفة بالاضاءة والمعروضات واجمة تواجه السوق عبر الشارع الرئيس والحواجزالخرسانة , قلما يقصدها احد, اموال مجمدة عدا صيدلية ازدحم فيها الناس..الاسواق تصنعها ضرورات ويديمها تاريخها وطالما فشلت اسواق مستحدثة وقد ترى جهة حية في سوق وجهة اخرى منه تقابلها مية ..وكم تتمسك الاسواق بماضيها وتظل عصية على التنقل ..وقد تموت تدريجيا ان انتفت الحاجة لسلعها .. فهل يعقل ان تعيش اسواق الاسرّة من السعف وقد غزتها اسرّة الاخشاب والحديد..او ان يظل سوق المربد في البصرة مؤبدا؟!! ..
السوق مسورة بحواجز الكونكريت المرتفعة وقد وضعت لصق بعضها .. رسمت لوحة واحدة للهور فقط على واحدة منها.. البقية خطت عليها كتابات لترسيخ المحبة (اشيعوا المحبة لان الله سبحانه وتعالى رب المحبة والجمال ــ زكريا ).. غريب ان ترى كلمات لزكريا هنا .. حاجز اخر كتب عليه (يحيا الحشد ) واخر ابيات (لا يخدعنك هتاف الناس بالوطن
فالقوم في السر غير الناس في العلن ).
كتابات اخرى تؤكد على الوطنية .. وايات وادعية ....
ولان الطوفان حل بنا كنت اتمنى ان يجرأ احد فيخط <<وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم .وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين. وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ >>.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(كشك شاي كهف )

بجثته الثقيلة وبشرته الشهباء وعينيه الواسعتين المجهدتين يستقر خلف اواني الشاي وهو يرتدي دشداشة شكرية . كشك يشبه الكهف شكّل من بقايا الخشب وصفيح يشبه الصندوق , يتراجع مترين عن الشارع المعبد المتسخ وقد حجبته بسطة مرتفعة.. قدم لنا الشاي باوان من البلاستك مع قطعة من الكعك وضعت باناء, قال صاحبي ضاحكا :<كعك وشاي .. ههه>.
في دقائق رسم المشهد :
(( رجل ستيني متزوج من اربع نسوة, ولدان متزوجان واخران عاطلان يمتهنان التكنيك بالنت, وهو مقعد لاصابته بمرض السكري .. واضاف : -الايجار مرتفع .. احد حوسم المكان ونستاجره منه ...ومشيرا الى الكرسي المتحرك اضاف: ويطالبنا بالدفع -.)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(السيل البشري لا يبالي بالتوابيت)

وجه مدور عينان واسعتان تلتقط كلية المشاهد ,لا يستقر كثيرا خلف مكتبه حيث يصدر التوجيهات مراقبا عماله والقادمين بمهارة , ماكنة شوي الدجاج تتقدم المطعم وسط السوق ,وضعت اسفلها الدجاجة المشوية .. ما تزال ببخارها معتقلة باصابع من حديد.. يعالجها شاب وقور ملتحي..هاديء تتغلب حركات يديه على لسانه وعيناه في ركود .. اثر لسجود في جبينه .. وجهه مشرئب غالبا ..صاحب المطعم ذو العينين الناطقتين يوزع التحايا وجمل الترحيب بلا توقف..يظهر انه اعتادها وطور من قاموسه اللفظي , انه يقرا كل الزبائن , مهتم بكل احد منهم ... ولهذا ازدحم لديه معجمه حسب الانواع والمستويات (اهلا حاج . مراحب استاذ ... تأمري اختي ...احييك شيخ ..تدلل عمو .... ).. وهو يهديء من ضجر المنتظرين (لحظات ويصلك الطلب ) او لعامله بحدية (بسام تعطلوا وين خمسة تمن ). وهناك تأخذه سنة فيسند ظهره على الكرسي لحظة ويحدق بعينيه كذئب احس خطرا .. فينتفض كله بموجة الفاظ الترحيب يتابع زبونه متفحصا ويقصده ثم يصيح بعامله (3 نفر كباب )..سيظل هكذا حتى يرفس اول الظلمة شلال الحركة ويشل الاصوات ..لا ادري هل سيتمكن بعد وصوله منزله ان يلاطف اطفاله وقد تحول راسه لمرجل ..او يشعر زوجته بانوثتها .. ربما .. لكني اشك بذلك ..كان امامي رجل مسن يستقر خلف بسطته وتكاد دمية دب احمر ان تخفي اكثر حزنه فلم اتمكن من دراسة خلجاته وشعوره بالمرارة لتوالي الخيبات والصفعات , يضع طاقية على راسه ويهش الذباب بعصا ربطت بها باقة من ريش الطاووس ( في صباح اليوم الثاني سيعتلي درجات المطعم تحمله عكازتان يشد وسطه بذيل دشداشته ويبين منها سروال ابيض , يمسك بيده قنينة بلاستيكية صغيرة ويغادر بعد لحظات وقد ملأ البطل بالماء ...ان تعتلي درجات وانت شاب فتلك لحظة عابرة اما ان كنت معاقا واجتزت الستين فان صعود عتبة واحدة هي نزيف من القهر والمعاناة , ..جواره بائع الحلوى قال لنا (لحظات ترك دراجته فسرقت ... لا تتركوا دراجاتكم)..
غطست في السوق اتجنب عباءة فتدفعني اخرى ..صاح بائع (جوة السوك .. دجاج ) ففكرت بالمجاز (انقلبت مفردة تحت لمعنى التخفيض ) .. ورايت ذلك الصغير الذي دخل المطعم رثا وسخا واخذ كيسا من المطعم منتفخا وخرج .. كان يلهث خلف امه التي تحاول اللحاق بزوجها-قصير بدشداشته البيضاء ورقبته تدخل بين دفتيه - وتكشّف لي وجهها الضفدعي ووباء الفقر الذي نخرها وهي تحاول ان تعدل عباءتها على شبه حدبة اعلى ظهرها .. تمر محنكات- يسترن الحنك والفم بقطعة قماش سوداء -هؤلاء النسوة لا يضعن الكمامات ويحسبنها لعبة غربية - اذن هو لثام العفة القروية ...انت تفرزهن اتين من القرى النائية او الاهوار او المدن من خلال الوجوه والروائح والايادي والازياء .. بعض القرويات وبنات الاهوار ما يزلن يتمسكن بالحناء صبغة للشعر ولا يضعن من العطر سوى المسك والعنبر وامثاله .. تلتقط لون الكمون في ملابسهن والالوان المتناقضة ..ويثبتن الشيلات بكلّاب -جنكال وتخترق انوفهن خزّامة تتدلى :
(يابو محابس شذر يلشاد خزامات
يا ريل بالله بغنج من تجزي بام شامات
لا تمشي مشية قهر كلبي بعد ما مات ).
وتلتقط الوانا من الوشم الازرق -المثبت بغرز ابر ورش رماد عليه-على النحور والايادي والوجوه ... اما القلادات فهي من النوع الرخيص -خرز من البلاستك ينظم بخيط -.وماذا تنتظر من نساء تنتشي بالروث ورائحة البردي والاسماك الصغيرة تشوى على حطب حتى تتفحم.. حيث تضرب القبضات القوية رؤوس البصل حتى يدمع وياتي خبز التنور الطين الساخن وتبدأ معركة الالتهام ... ولكنهن غالبا فائقات الجمال .. مرة كنت في بيئتهم فاتى صغير يبيع السمك بصينية متبرما (امي انجبت طفلة وبقرتنا انجبت ولدا ).. حتى الصغار يتحيزون للرجل .ولا ينظرون للمرأة اكثر من آلة للكدح .هؤلاء النسوة ان هاجمت عشائرهم فينطلقن بالزغاريد وهوسات تشحذ الهمم .. لكنهن يطلقن عويلا يقطّع القلب على قتلاهن .. سالت امراة مرة لماذا تكدحين وانت مسنة اجابت (انا اكنز النقود لاجل الفصل -الدية , المفترضة .
ورايت في السوق اسماكا باحواض شحيحة الماء يحتضرن ...واخرى باحواض ,انبوب يصب عليهن الماء الدافق بعضها تهرب من مركز هبوطه واخرى يسبحن في قوة الماء .. اغلب المخضرات مستوردة في هذه البيئة الزراعية ... , اعتليت مدخل محل لبيع الملابس : صفان من الملكان .. يسارا نصب لصغيرات محدقات في الفراغ ولهن شعر مرسل مهمل يقابلهن صف من الملكان بلا رؤوس يتلفعن بالملابس المدرسية للصغيرات .. من المرتفع المبرد ارى السيل البشري يسح كتلته .. يحتلها الحزن والقلق ويسوّدها الرعب .. اسبوعان على بدء الدوام الرسمي ...موسم يشعر العوائل بالفزع .. بطالة وارتفاع الاسعار ..يجري السيل البشري متدافعا مفرغا من المعنى والبسمة والاحلام .. كانهم ينقلون في قطار الموت ... او ينقلون الى <قصر النهاية >..الباعة المسنون يتثاءبون وهم يتربعون امام بسطاتهم علب الكارتون .. خالية المحتوى الا من ازواج جوارب او علكة او بالونات صغيرة ودمى قماشية انهم ينظرون السيل يتخطاهم فلا يبالون به ولا يبالي .. تتخطاهم حركة الحياة ...وجدان مشغول برؤية التوابيت وعذاب القبر او الحسرات .. البسطات تحيطها اربع قوائم من حديد او خشب تتثبت عليها قطع من الجنفاز اتقاء لشمس تموز الصاهر.
بامكانك ان تقنع فأرا ان يغادر مخزن الملابس فيما تعجز عن اقناع امراة دخلت المحل لتختار ... عاجز انت عن معرفة كيف وماذا تنتقي .. هكذا غزتنا الظلمة قبل ان يتم الشراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقدمة كتابي ( مجهر على القاع )
- تثقيب القوقعة ج 9 وفاة الروائي مارتن فالزر
- البريكان مجهر على الاسرار وجذور الريادة ج17
- مقتطف من رواية صنارة وانهار
- الريكان : مجهر على الاسرار وجذور الريادة ج16
- الجدار الطيني
- هل تتحول بعض النساء لخطوط حمراء
- ديوان (مجوهرات روحية )
- من اجل معجم يواكب المستجدات
- ديوان (اله المسخ )
- ديوان (البصيلة الزجاجية)
- التماثيل في البصرة فقر كمي وتراجع فني
- كتاب المعجم العربي الجديد لهادي العلوي
- ديوان (تصديع القوقعة)
- ديوان (الانوثة في مرجل الروح)
- الكراجات نقد
- المادة 272 والاساءة للرموز والمعتقدات الدينية
- بصرياثا : انجاز مؤسسة بجهد فردي
- الروائي النوبلي ماريو يوسا ورواية الرياح
- تثقيب القوقعة ج8 الروائي ميلان كونديرا


المزيد.....




- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...
- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...
- -طقوس شيطانية وسحر وتعري- في مسابقة -يوروفيجن- تثير غضب المت ...
- الحرب على غزة تلقي بظلالها على انطلاق مسابقة يوروفجين للأغني ...
- أخلاقيات ثقافية وآفاق زمنية.. تباين تصورات الغد بين معمار ال ...
- المدارس العتيقة في المغرب.. منارات علمية تنهل من عبق التاريخ ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - كتاب ( مجهر على القاع )