أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد رباص - شذرات من سجل الشهداء















المزيد.....

شذرات من سجل الشهداء


أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)


الحوار المتمدن-العدد: 7705 - 2023 / 8 / 16 - 08:15
المحور: الادب والفن
    


وبينما أنا على أهبة استئناف حديث الذاكرة، تبين لي أن الطريقة التي أسرد بها يومياتي شبيهة بالطريقة التي يتبعها الفلاح أثناء حرث حقله. أكيد أن كل من عاين عن قرب الفلاح وهو يقود جراره المجهز بمحاريث لا بد وان يلاحظ أن الفلاح الحارث يشرع في عملية الحرث انظلاقا من أحد أطراف حقله لكنه سرعان ما يتجه الى أبعد طرف من فدانه لحرثه ثم يقفل راجعا الى الجهة التي بدأ فيها عمله.
في بداية السنة الدراسية (1991-1992) من مسيرتي في دنيا التدريس، التحقت بالمدرسة الفرعية لآيت املكت لأجل الحلول محل معلمة انتقلت للتدريس بإحدى المدارس القريبة من المنطقة التي يقيم فيها أهلها وذووها. لا يختلف دوار آيت املكت في شيء عن باقي دواوير "الحراطنة" على طول وادي درعة، إلا أنه الدوار الوحيد الأقرب من جهة الشمال إلى دوار آيت خلفون، القلب النابض لبلدة أفرا-آيت سدرات وموطن المقر المتواضع لإدارة م/م آيت خلفون ولمدرستها المركزية.
تقع مدرسة آيت املكت في سفح جبل كيسان. أمامها يمتد بلاط الطريق غير المعبدة الرابطة بين سائر دواوير الضفة الشرقية للنهر والمؤدية رأسا إلى قنطرة تانسيخت.تتكون هذه المدرسة من ثلاث حجرات دراسية مسقفة بالزنك وجدرانها مكونة من صفائح مصنوعة بالإسمنت المسلح وقابلة للتفكيك, هذا، وقد اصطفت الحجرات جنبا الى جنب في وضع جعلها مقابلة للواحة الشاسعة الأطراف والدائمة الاخضرار والتي كانت تظهر لي بكامل معالمها بفضل الرؤية البانورامية التي كان يسمح بها ارتفاع الجبل عن مجرى النهر.بهذه المدرسة، أربعة معلمين، بمن فيهم عبد ربه، ولا يتوفر بها سوى سكن وظيفي واحد يقيم فيه معلم أعزب، وهذا ما جعلنا نحن الثلاثة نخوض تجربة البحث عن سكن قريب من المدرسة. أسفرت محاولتنا عن نتيجة تمثلت في إيجاد منزل طيني حديث البناء يقع خلف المدرسة في مكان من الجبل قريب من المدرسة وأكثر ارتفاعا.
قبل البداية الفعلية للدراسة بأيام معدودة، سمح لي عون المؤسسة بالمبيت مؤقتا في إحدى زوايا مطعم المدرسة المركزية. في غمرة الاستعداد للدخول المدرسي الجديد، طلبت من صديقي الحارس التوسط لفائدتي لدى السكان من أجل البحث عن سكن يقع في محيط المدرسة. قبل العون أن يمد لي يد المساعدة وبدأ عملية البحث عن السكن مستثمرا لصالحي إلمامه بمعطيات ومعلومات توفرت لديه بحكم نشأته بهذه البلدة. وهكذا تكللت مساعيه بالنجاح حيث استطاع إقناع امرأة عجوز كانت قيد حياتها مقيمة بدوار آيت إسحاق الخاص بالأمازيغ من ذوي البشرة البيضاء.
كبر الحارس في عيني وتيقنت من علو مكانتي لديه خصوصا لما أخذني معه إلى البيت الذي سأسكن فيه على سبيل الكراء لألقي عليه نظرة ولكي أرى إن كان يليق بمقامي. عندما دخلنا منزل المراة العجوز، وجدته قديما كقطعة أثرية ذات تاريخ موغل في القدامة. صعد الحارس إلى الطابق الأول فتبعته ثم فتح بابا ودخلنا بيتا صغير المساحة، غير أني وجدته وافيا لغرض إيوائي فقبلت عن رضى وطواعية الإقامة فيه وقد استقر في خلدي الإحسان لمالكته التي تسكن فيه بمفردها ومعاملتها بالتي هي أنسب لسنها..
عند خروجنا من المنزل، أعطاني الحارس مفتاح المنزل واتفقنا على أن نقل الأمتعة إليه لن يتم إلا في المساء تحسبا لنظرات ووشوشات الفضوليين "البركاكة". لكن طمأنينتي على هذا المستوى لم تعمر طويلا، إذ سرعان ما عاد إلي العون ليأمرني بان أعطي إياه المفتاح مادا لي في نفس الوقت ورقة من فئة مئة درهم كنت قد أرسلتها للعجوز كعبربون وتسبيق. كان صديقي الحارس جادا في كلامه غير مازح ما جعلني أسرع في تسليمه المفتاح. ولما سألته عن سبب تراجع العجوز الشمطاء عن الاتفاق الذي جرى بيني وبينها على الكراء، أجابني بأن جماعة من ساكنة دوار آيت إسحاق رفضوا تواجدي بين ظهرانيهم بسبب كوني أعزب رغم خلو سابق عهدي بالمنطقة من أي سابقة تنم عن سوء أخلاقي وقلة تربيتي.
نعد الان الى آيت حمو أوسعيد لأحكي لكم عن وقائع عشتها هنا وعلقت بذاكرتي..أول ما ينبغي التذكير به في مستهل هذه الحلقة هو أن المدرسة الفرعية التي كنت أعمل بها تعرف بهذا الدوار مع أنها تقدم خدماتها التعليمية والتربوية لأطفال دوار تاركلمان الخاص بالحراطنة والذي أقمت في أحد أكواخه الطينية المظلمة صحبة زميلي الورزازي كما مر بنا في السابق. وهذا يدل على المكانة الدنيا التي يحتلهاا الدوار الثاني مقارنة بالدوار الأول..مع توالي الأيام، لاحظت أن هناك قطيعة اجتماعية بين سكان الدوارين..سكان آيت حمو أوسعيد، وهم امازيغ أحرار، يربطون علاقات مع السكان الحراطنة المجاورين لهم، لكن هذه العلاقات لا تتعدى نطاق العمل الفلاحي من حفر وزرع وحصاد في اطار التويزة المتعارف عليها، اما التصاهر بين الفئتين فهو نادر إن لم يكن منعدما بالمرة.
قبل استقبال التلاميذ برسم انطلاق الموسم الدراسي 1989-1990، أخبرتني في حينه إدارة م/م آيت خلفون بأنها أسندت إلي تدريس الرياضيات واللغة الفرنسية لتلاميذ مستويات الثالث و الرابع والخامس، على أن تدريس اللغة العربية والمواد الأخرى المدرسة بنفس اللغة لهذه "السمطة" (الحزام) أنيط بمعلم معرب يتحدر من مدينة ورزازات. أما القسمان الاول والثاني فقد جرى اسنادهما لمعلمتين تتحدران من المدينة الحمراء. وعندما تناهى إلى علمي بان المعلمتين حظيتا بالإقامة في دوار آيت حمو أوسعيد على خلافنا- نحن المعلمين الذكرين العازبين- أدركت مدى الحذر والاحتراس اللذين تحلى بهما "الأمازيغ الأحرار" حيال من قال فيه احمد شوقي:
قم للمعلم ووفه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا
الدخول المدرسي في واحة درعة، كما في غيرها من واحات جنوبنا الحبيب، يصادف في كل سنة موسم جني الثمور، ولا زلت أذكر كيف أنني كلما قطفت ثمرة كانت في متناولي من نخلة وأكلتها إلا وأستحضرت شراسة ويقظة حراس دوالي العنب في السهول الساحلية، خاصة عندما تتدلى منها العناقيد الشهية في فصل الصيف. هنا يسمح للمرء بقطاف الثمر وأكله دون خشية من أن يطارده حارس يشهر عصا غليظة وكانه يريد قتل ثعبان تماما كما يقع عندنا في دوالي بوزنيقة والصخيرات. زيادة على ما نلتقطه ونقطفه من ثمار أثناء عبورنا ذهابا وإيابا لأغراض مختلفة، يأتي لنا التلاميذ بكميات من الثمر وقناني بلاستيكية مملوءة باللبن وقد خثر..لهذا كنا نأكل الثمر ممزوجا باللبن فتحصل لنا متعة تذوق مزيج رائع من حموضة حيوانية وحلاوة نباتية قبل أن تحصل لنا متعة الشبع.
انتصف الخريف وأنا ما زلت مقيما في دوار تاركلمان صحبة المعلم الورزازي النحيف الجسم واللطيف السمت...تحركت الرياح بقوة في كل الاتجاهات وتمخضت عن أمطار غذت النهر بمياه اضافية انسابت اليه عبر الشعاب والوديان المشرفة على مجراه..لذا، أصبح عبور النهر قطعة لا تطاق من عذاب أليم..فضلا عن برودة مياه النهر في مثل هذا الوقت، هناك التيارات المائية القوية التي تتطلب مقاومتها جسدا متصلبا يصر على تثبيت قدميه الغائصتين في الماء على سطح المجرى المكون في الغالب من حجارة المسن..عندما تتحسن الأحوال الجوية ويقل تهاطل الأمطار تصبح منسوبات الأنهار متواضعة ويتراءى لنا حجر الواد..هنا لا بد من الاشارة إلى أن "حجر الواد" تحيل في لغة التبوريدة عندنا على حصان بنفس اللون..
تزداد محنة العبور في مثل هذا الوقت حدة عندما يكون العابر محملا بقفة وقنينة غاز..
في أحد المساءات الباردة من تلك الأيام، التحقت بفراشي المقابل لمهاد زميلي في النصف الآخر من الغرفة التي يعلوها حاجز من البلاستيك لمنع تساقط ذرات التراب من السقف..على ضوء الشمعة الكبيرة الحجم (المعروفة بالصباحية)، أخذت أقرأ في كتاب صغير يتحدث مؤلفه عن توظيف الثقافة في الصراع الاجتماعي..تمكنت من قراءته في ظرف وجيز واستشعرت رغبة في كتابة ورقة أستلهم موضوعها من القضايا والأفكار الواردة في الكتاب..بشكل تلقائي، تناولت ورقة وقلما وبدأت أفكر كيف أفض بكارة الصفحة البيضاء..حاولت في البداية أن أكتب جملة مفيدة واحدة كما يقول هيمنغواي في "الوليمة المتنقلة". ثم جاءت الجملة الثانية فالثالثة مع الحرص على توفير الروابط المناسبة..أحيانا أشطب على بعض الكلمات وأستبدلها بأخرى احسن منها وأحيانا أخرى أشطب على جملة بكاملها أو أضع جملة جديدة في قلب المسودة مشيرا بسهم إلى مكانها الحقيقي..هكذا وجدتني في نهاية المطاف أمام مقال مخطوط وضعت له كعنوان: "شذرات من سجل الشهداء". لم أستسلم للنوم إلا بعد أن قمت بتحرير الورقة بخط واضح في بضعة صفحات، مراعيا ترقيم الفقرات وترتيبها مع كتابة الهوامش أسفل الصفحة الأخيرة وقاصدا في نفس الوقت إرسالها عبر البريد إلى العنوان الشخصي لحسن نجمي بالدار البيضاء من أجل أن تنشر في جريدة الاتحاد الاشتراكي، وفعلا فقد عرف مقالي طريقه إلى النشر ضمن أعمدة هذه الجريدة التي كانت سلة مهملاتها آنذاك مقبرة للعديد من مراسلات المناضلين والمتعاطفين.



#أحمد_رباص (هاشتاغ)       Ahmed_Rabass#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمم المتحدة تكشف عن حصيلة مقلقة للقتلى الفلسطينيين
- المقاربة النظرية والبيروقراطية لمطلب التربية على القيم باءت ...
- الكذب حقيقة لا بد من ظهورها
- هل يمثل صعود المتدينين المتشددين إلى السلطة في إسرائيل مقدمة ...
- خمسة قتلى وأربعة جرحى حصيلة هجوم مسلحين بأيعاز من فرنسا على ...
- موقع ابن رشد الفيلسوف والقاضي والفقيه بين الإسلام والمسيحية ...
- موقع ابن رشد الفيلسوف والقاضي والفقيه بين الإسلام والمسيحية ...
- بوح الذاكرة: عبرات معلم مقبل على الانتحار شنقا
- مالي تلغي 11 اتفاقية استعمارية فرضتها فرنسا على دول إفريقية ...
- دقت طبول الحرب في الساحل وبدات رمال الصحراء تغلي
- موقع ابن رشد الفيلسوف والقاضي والفقيه بين الإسلام والمسيحية ...
- فرنسا بين التدخل العسكري في النيجر ورفض مشاركتها في القمة 15 ...
- موقع ابن رشد الفيلسوف والقاضي والفقيه بين الإسلام والمسيحية ...
- النيجر: حول التدخل العسكري المتوقع من المجموعة الاقتصادية لد ...
- أمريكا تعسكر مضيق هرمز وخليج عمان بدعوى مضايقة واعتراض إيران ...
- موقع ابن رشد الفيلسوف والقاضي والفقيه بين الإسلام والمسيحية ...
- المحكمة الفدرالية تطلق سراح ترامب بكفالة إذا انتهك شروطها يت ...
- حسن حامي: الطفولة الدبلوماسية أكثر سخافة من الهواية السياسية ...
- الحزب الشيوعي السوداني يطلق نداء إلى مواطنيه بعدم خوض الحرب ...
- حسن حامي: الجزائر مهووسة بالاحتفاظ بأراض انتزعتها ظلما من جي ...


المزيد.....




- إيران تقيم مهرجان -أسبوع اللغة الروسية-
- مِنَ الخَاصِرَة -
- ماذا قالت الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز بشهادتها ضد ترامب؟ ...
- فيلم وندوة عن القضية الفلسطينية
- شجرة زيتون المهراس المعمر.. سفير جديد للأردن بانتظار الانضما ...
- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد رباص - شذرات من سجل الشهداء