انسجاما مع بيان العقبة الأخير،قررت سلطات شارون وإسرائيل،منع جثمان احد الفلسطينيين،من العودة إلى مثواه الأخير في قطاع غزة. وكان المواطن الفلسطيني جبريل ابو سيدو (55 عاما) غادر القطاع قبل فترة لأجراء عملية زرع كبد في ألمانيا.لكنه ما لبث أن توفي إثناء العلاج هناك. ورغم التنسيق المسبق مع أجهزة أمن شعب "يهوه المختار"،إلا أن جثة الرجل منعت من السفر إلى فلسطين المحتلة،خوفا من "الإرهاب"،ومن أن يكون "الإرهابيون" بدلوا كبد الرجل بقنبلة،لقتل الأبرياء في "إسرائيل" البريئة والمسالمة.هكذا يفكر حراس الهيكل المزعوم،العائدون بواسطة قانون العودة اليهودي،الذي يسمح بعودة أي يهودي إلى فلسطين،لمجرد أنه يهودي. بينما القوانين الباقية تمنع أي فلسطيني من العودة إلى وطنه المحتل،بالرغم من القرارات الدولية التي تنص على ذلك. وهم يعلمون بأن الفلسطيني،عائد إلى بيته، وأرضه، وقبره، والى أرض آباءه و أجداده.بينما اليهودي ليس عائدا إلى أحد،فلا أصل له ولا جذر، ولا انتماء لتلك التربة وهذه الأرض.بل أنه قادم من وطنه البعيد ليسلب اللاجئ الفلسطيني، المشرد، أو المواطن الفلسطيني القابع تحت الاحتلال، أرضه وزرعه ومسكنه وقبره.فيكون بعد وصوله صاحب الأرض ويحميه قانون الغاب الإسرائيلي العنصري.
أما المواطن الفلسطيني المتوفي جبريل أبو سيدو،فقد كان نزيل مستشفى هداسا الإسرائيلي قبل سفره إلى ألمانيا،منذ حوالي شهر ونصف، لتكملة العلاج هناك،ومن ثم وفاته في المستشفى الألماني. ليبدأ بعد موته معاناة جديدة،ولتبدأ أيضا معاناة أهله. هؤلاء أرادوا دفن الضحية في بلدته في فلسطين، وعندما أرادوا السفر مع فقيدهم، من ألمانيا إلى البلاد، ليدفنوه في غزة، حيث بيته ومقابر آبائه وأجداده ،وقبل كل شيء حيث وطنه. قام رجال الشاباك في مطار فرانكفورت الألماني بمنعهم من الصعود إلى الطائرة،وكذلك منعوا الجثة وتمت أعادتها إلى المستشفى.
إن هذه الأعمال جاءت مباشرة بعد قمة العقبة،وهي لا تتناسب والادعاء الإسرائيلي بالتخفيف والتساهل،ورفع الحصار والمعاناة تدريجيا عن الفلسطينيين. وتأتي بعد خطبة العقبة لأبي مازن.تلك التي يصعب على أي وطني فلسطيني هضمها أو تقبلها،وتقبل تبريرات الذين برروها،لا نعرف لماذا!. كما أنه لا يجب التسامح معها ومع الذي ألقاها.ويجب أن يخضع لمساءلة السلطات المختصة،لأن تلك الخطبة ألحقت خسائر كبيرة،معنوية ونفسية بالشعب الفلسطيني. أما هذا العمل الإسرائيلي الجديد،المتمثل بالعدوان على حرمة الميت،والتعدي على حق المواطن الفلسطيني،في الدفن في موطنه وأرضه.يعتبر كذلك رسالة واضحة بأن شارون لازال صقرا،وأن جماعة أوسلو الفلسطينيين،ليسوا بحاجة لأن يكثروا من تصريحاتهم التنازلية،لأن شارون هو المستفيد الوحيد من تلك البيانات والتنازلات والخطابات.وبالمقابل يوجد نتيجتها خاسر واحد هو البيت الفلسطيني الموحد.
معروف أن خطبة العقبة كانت خطبة خطيرة،يجب عدم التهاون معها،ويجب عدم الحوار مع أبي مازن وحكومته قبل أن يعلن تراجعه عنها أو تصحيحها وتوضيحها،لأن مجرد عدم تراجعه يعني استمراره في نفس النهج،ويعني كذلك تمسكه بما قيل هناك والتزامه به.وإذا كان هذا هو نهجه السياسي المعلن ،فما الفائدة من اللقاء به وحواره،بعدما بانت بضاعته الفاسدة؟!.. أما عقاب أبو مازن،فليس بالضرورة عقابا للسلطة،ولا يعني عقاب لحركة فتح،لأنه ببساطة يمثل أقلية في الحركة.وقطع الحوار معه ليس قطعا للحوار مع فتح، بل معه شخصيا ومع نهجه السياسي المدمر. كما أنه من الطبيعي والمنطقي أن تأخذ الفصائل والشخصيات الفلسطينية موقفا من نهج أبو مازن. وهذا أضعف الأيمان في مرحلة الحسم التي تمر بها القضية الفلسطينية.ويجب عدم السماح للبعض بالتلاعب بشعبنا وقضيتنا ووحدتنا الوطنية الفلسطينية.وبنفس الوقت يجب التمسك بمبدأ الوحدة الوطنية الفلسطينية،ورفض أي اقتتال داخلي فلسطيني. كما يجب العمل على تعزيز الجبهة الداخلية،ورفع الحصار عن الرئيس عرفات لأنه رئيس الشعب الفلسطيني وقائد مسيرته الوطنية. وبالمقابل على أبي عمار أن يطلق سراح احمد سعدات،ويستعد لترميم وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية،على أسس إصلاحية فلسطينية،تحفظ الإصلاح، وتمتن العلاقة الوطنية الوحدوية مع الفصائل الأخرى.فسلاحه الأقوى يبقى في وحدة القوى الفلسطينية الملتفة حول شرعية المقاومة، ووحدانية المنظمة في تمثيل شعبنا.لكن هذا لن يكون دون أجراء إصلاح جذري في صفوف المنظمة، لتعود منظمة عملية، وتخرج من غياهب النسيان.
لقد بدئنا مقالتنا بالحديث عن قصة الفلسطيني وجثته، التي لازالت ممنوعة من العودة إلى الوطن،ليس صدفة،بل عمدا ومع سبق الإصرار،لكي يعرف الفلسطيني، واللاجئ بالذات، أن إسرائيل لن تقبل بعودته لا حيا، ولا ميتا. فأرض فلسطين التي احتلتها إسرائيل،هي ارض اليهود كما يدعون ودولتهم فقط،كما فهم من خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في العقبة.هذا الأخير أعلن بعنجهية وعنصرية واضحة،تأييده للدولة الطائفية،عبر إقراره بأن إسرائيل دولة لليهود فقط لا غير.يعني البقية الباقية من سكان تلك الدولة إلى ترانسفير أو زوال،بحسب رؤية شارون وبوش. لكنهم واهمون،لأن شعبنا الفلسطيني تعلم من الماضي،استفاد من النكبة والنكسة. ولن يترك أرضه بسهولة،ولا بالقوة،لأنه سيموت أو يعيش هنا في فلسطين الطبيعية فقط.
الإسرائيليون يتعاملون مع الأحياء والموتى من الفلسطينيين من وحي تلك الدولة التي هي لليهود فقط. غير آبهين بهدايا رئيس الوزراء الفلسطيني المجانية،ولا بسخائه الغريب العجيب،فهو أول فلسطيني في التاريخ يتحدث عن معاناة اليهود التاريخية،دون الحديث عن معاناة الشعب الفلسطيني التاريخية والمستمرة بفضل اليهود، ودولتهم العنصرية،ودون الربط بين معاناتهم ومعاناة شعب فلسطين. وهو أول رئيس وزراء ،وقائد فلسطيني يدين الإرهاب ضد الإسرائيليين وحدهم،عنوة عن غيرهم،ودون التطرق للإرهاب الذي يتعرض له شعب فلسطين يوميا على أيدي الإسرائيليين. وهو أول قائد فلسطيني يتحدث عن كل ما تريده إسرائيل وأمريكا،ولا يتحدث عن أي شيء يريده الشعب الفلسطيني. فهل كل هذا من أجل إبداء حسن النية للرئيس الأمريكي،كما يبرر ذلك بعض أركان الحكومة الفلسطينية وحركة فتح؟.أو بسبب ضيق الوقت، وعدم تمكنه من قراءة كامل البيان، كما قال البعض مبررا سقطة أبو مازن في امتحان العقبة.حتى هذا الكلام ليس دقيقا،لأنه كان بأمكان أبو مازن، التطرق للإرهاب الإسرائيلي عندما تطرق" للإرهاب" الفلسطيني،وكان يستطيع الحديث عن معاناة الفلسطينيين بالتزامن مع حديثه عن معاناة اليهود.وكان بمستطاعه أيضا استغلال تلك القمة، لمطالبة شارون بموقف واضح من السلام، والانسحاب، وفك الحصار، ووقف سياسة العدوان والتصفية. لكنه للأسف لم يفعل ذلك. إذن لا يوجد ما يبرر لأبي مازن سلكوه وخطابه المأساوي والانهزامي التخاذلي في العقبة.وكلام المبررين غير صحيح،مع احترامنا لأصحابه،ولا يمكن أن يقتنع به حتى أطفال فلسطين. لذا يجب على أبي مازن تصحيح الخطأ الخطير،والإعلان عن موقف مغاير ومخالف لخطبة العقبة،هذا إذا كان هو ومن معه حريصون فعلا، على الوحدة الوطنية، والحوار وتهدئة الأمور في الساحة الفلسطينية. ومطلوب من حكومة أبو مازن كشف وفضح الجرائم الإسرائيلية اليومية،التي تتم يوميا على المعابر والحواجز،تلك التي تقسم وتعزل المدن والبلدات، والمخيمات والمناطق الفلسطينية المحتلة. فهناك يموت الفلسطيني مرات يوميا،يموت المريض أو الجريح لأن الجنود يمنعونه من الوصول إلى المستشفى. ومن لا يقتله أو يتسبب بموته الجنود لا ينجو من المستوطنين وإجرامهم اليومي. إن حياة الفلسطينيين أشبه بالحياة في جهنم أو الجحيم. لذا فهم بحاجة لقليل من الفردوسيات وليس لتنازلات جديدة،ومواقف تزيد من مشاكلهم، ولا تخفف من معاناتهم.هم بحاجة لدولة مستقلة،سيدة، على أرضهم المحتلة، وهم بحاجة للأمان والسلام،و الحرية والعودة والاستقلال،وللقليل من الخطابات والأقوال والكثير من التطبيقات والأعمال.