أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سيد صديق - ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان















المزيد.....



ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان


سيد صديق

الحوار المتمدن-العدد: 7596 - 2023 / 4 / 29 - 10:59
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    



منذ 15 أبريل الجاري، اندلع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان في صراعٍ دموي على الانفراد بالسلطة. يدفع المواطنون السودانيون ثمن هذا القتال، إذ سقط إلى الآن المئات منهم قتلى، علاوة على آلاف الجرحى، في معارك لا يد لهم فيها بين جنرالات سبق أن تعاونوا بصورةٍ وثيقة للإجهاز على الثورة. وبالإضافة إلى دمار وتضرر خدمات المياه والكهرباء، توقفت عشرات المستشفيات عن العمل في مواقع القتال في الخرطوم، والكثير منها بسبب تعرضها للقصف المباشر. وتفيد تقارير باندفاع موجة كبيرة من النزوح من العاصمة إلى ولايات سودانية أخرى وإلى خارج السودان.

قد يبدو تاريخ هذا البلد مجرد سلسلة مأساوية طويلة من الانقلابات والصراعات العسكرية. لقد شهد السودان أول حكم عسكري في العام 1958، بعد عامين فقط من الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، حين دشَّن اللواء إبراهيم عبود ديكتاتورية عسكرية خانقة استمرت 6 سنوات. وفي العام 1969، استولى العقيد جعفر نميري على السلطة في انقلابٍ غير دموي، لكن حملات القمع السياسي في السنوات اللاحقة أُعدِمَ فيها المئات واعتُقِلَ فيها آلاف النشطاء، واستمر هذا الحكم طيلة 16 سنة. وخلال تلك السنوات، شهد السودان زهاء 20 محاولة انقلاب واغتيال لنميري من داخل القوات المسلحة (كان مصيرها جميعًا الفشل) (1). وفي العام 1989، انقلب العميد عمر البشير على السلطة وأسس حكمًا عسكريًا/إسلاميًا استمر 30 سنة. هذا كله علاوة على الصراعات العسكرية الممتدة في الجنوب، التي استمرت منذ الاستقلال إلى أن انفصل جنوب السودان في 2011، إضافةً إلى الحرب الدموية التي شنَّها الجيش السوداني وميليشياته على دارفور.

بشكل عام، من أصل 67 عامًا منذ الاستقلال عن الاحتلال، عاش السودان 56 عامًا تحت وطأة الحكم العسكري. لكن هناك صورةً أخرى للسودان يبدو أن كثيرين يتناسونها تحت ستار أدخنة المعارك الدائرة اليوم. في الحقيقة، يزخر تاريخ السودان الحديث بثوراتٍ جماهيرية ربما أكثر من البلدان الأخرى في المنطقة. وقد اضطلعت الطبقة العاملة، بعمالها ومهنييها، بدورٍ حاسم في إسقاط الأنظمة في هذه الثورات، بسلاحها الأهم حتى الآن، الإضراب العام. أسقطت ثورة أكتوبر 1964 حكم الجنرال عبود، وكانت تلك أول ثورة شعبية تتمكَّن من إسقاط نظام سياسي في المنطقة العربية وإفريقيا، وتصدرت قيادة النضال في هذه الثورة “جبهة الهيئات”، وهي جبهة عريضة لنقابات عمالية ومهنية. وجاءت ثورة أبريل 1985 بقيادة “التجمع النقابي” وأسقطت حكم السفاح نميري بإضرابٍ عام زرعء تصدعات عميقة في النظام حتى أطاحه. وفي ثورة ديسمبر 2018، التي أنهت ثلاثة عقود من ديكتاتورية البشير، كانت الصدارة أيضًا للطبقة العاملة، أو على الأقل قطاع كبير منها، وهو “تجمع المهنيين”، الذي رفع راية الثورة وقادها، على الأقل في مراحلها الأولى، ومن ثم أفسح المجال للجان المقاومة.

لكن كل ثورة من هذه الثورات لم تكد ترسي مرحلةً ديمقراطية حتى ينقلب عليها الجيش ويعيد الكرَّة. بعد إسقاط عبود، الذي كان حكمه يمينيًا صريحًا، لم تكمل المرحلة الديمقراطية 5 سنوات إلى أن جاء انقلاب نميري، الذي أسَّس حكمًا قوميًا تحوَّل إلى يميني/إسلامي. وبعد إسقاط نميري، بالكاد أكملت المرحلة الديمقراطية 4 سنوات إلى أن جاء انقلاب البشير، اليميني/الإسلامي منذ بدايته، بدعمٍ من الجبهة الإسلامية القومية. وبعد محاولات فاشلة لتقاسم السلطة بين الجيش والمدنيين، انتهت بانقلاب آخر في أكتوبر 2021، يغرِق الجيش والدعم السريع البلاد الآن في مستنقع من الدماء.

هل هذا يعني أن المصير المأساوي الذي لاقته هذه الثورات كان حتميًا؟ يتغافل أنصار الإجابة بنعم عن الإمكانيات الجبارة التي أطلقتها هذه الثورات، وللأسف ينتهي الأمر ببعض المتاجرين بفشل الثورات بالهروب إلى أسباب نفسية أو جينية لشعب هذا البلد أو ذاك، أو أحيانًا التعالي على الشعب باتهامه بالجهل أو التكاسل، إلخ، من أجل تبرير “حتمية” الهزيمة والفشل. وخلال ذلك، يتعامى هؤلاء تمامًا عن آليات الثورة وطبقاتها ومصالح هذه الطبقات والوضع الإقليمي والعالمي الأوسع.

تعج ثورات السودان الماضية بخبراتٍ عميقة تستحق التنقيب فيها والاستفادة بها لمستقبل جماهير المنطقة والعالم. وعلى العكس، كان من الممكن أن تكمل هذه الثورات انتصاراتها حتى تأسيس ديمقراطية وعدالة راسخة وممتدة. كان من الممكن تفادي المآسي المتتالية التي عاشها الشعب السوداني. يهدف هذا المقال إلى إثبات أمرين رئيسيين؛ أولًا أن هناك وجهًا آخر لتاريخ السودان، هو تاريخ ثورة الطبقة العاملة والفقراء، تاريخ الجماهير من أسفل. وثانيًا، أن تاريخًا آخر كان ممكنًا في الماضي، ومستقبلًا آخر يظل ممكنًا في المستقبل. سنبدًا أولًا بنظرة سريعة على نشأة وتطور الطبقات الحديثة في السودان.

التطور المركب في السودان
قبل غزو محمد علي السودان في العام 1820، وتأسيس الحكم التركي-المصري، سادت في السودان ممالك مختلفة، أشهرها مملكة الفونج التي سيطرت على الشمال وعاش نبلاؤها على نهب الفائض الزراعي من الفلاحين والإغارة على القبائل الأخرى لجلب الذهب والعبيد. وبعد ذلك اعتمد هذا الحكم الاستعماري على النهب المباشر لموارد السودان، حيث الثروة الحيوانية والزراعية الوفيرة والصمغ والعاج والذهب، إلخ. عمد الاستعمار أيضًا إلى غزو الجنوب للحصول على العبيد، وازدهرت إثر ذلك سوق العبيد في السودان ومصر والجزيرة العربية. هذا إضافةً إلى جباية الضرائب من القبائل، بالأخص في عهد الخديوي إسماعيل، من أجل سداد ديون مصر للدائنين الأوروبيين وتمويل الحروب المصرية للسيطرة على منابع النيل في منطقة الحبشة (2).

إلى جانب ذلك، تدخَّل الاستعمار بقوة من أجل تحويل الاقتصاد من الاعتماد على التجارة ضيقة النطاق للإنتاج الزراعي والحرفي إلى الاعتماد على تجارة الإنتاج السلعي المرتبط بالسوق الرأسمالية العالمية. ونشأت خلال ذلك مدنٌ مثل الخرطوم وكسلا لتكون حاميات عسكرية ومراكز إدارية (3).

واجه النظام الاستعماري أشكالًا مختلفة من المقاومة على مدار عقود، حتى أشعل محمد أحمد المهدي وأنصاره ثورةً ضده في العام 1881 كبَّدت الجيش المصري، ثم البريطاني (الذي احتل مصر نفسها في العام 1882)، هزائم ساحقة، إلى أن انتصرت “الثورة المهدية” في العام 1885. لكن الدولة التي تمخضت عنها هذه الثورة لم تصمد طويلًا، إذ انهارت أمام غزو الجيش البريطاني-المصري الذي استعاد السودان إلى حظيرة الاستعمار مرةً أخرى في 1898.

واصل الاستعمار البريطاني-المصري مسيرة التنمية الرأسمالية التي بدأها سابقه التركي-المصري على استحياء، وهذه المرة بصورةٍ أحدث وأكثر تكثيفًا. كان الاتجاه السائد للدول الاستعمارية منذ أواخر القرن التاسع عشر هو تصدير جزء من رأسمالها للاستثمار وزيادة الأرباح على أرض المستعمرات. فمع تصاعد تمركز رأس المال في البلدان المتقدِّمة إلى الدرجة التي أفضى بها إلى الاحتكار، لم تعد الحدود الوطنية تكفي لتوسع الرأسمال وتحقيق المزيد من الأرباح، وصار لابد من تصديره إلى الخارج. أولى الثوري الروسي فلاديمير لينين اهتمامًا خاصًا بهذه العملية، فيقول إن “الوضع الاحتكاري في بعض البلدان فائقة الغنى أدَّى إلى أن يبلغ تراكم رأس المال فيها مقاييس هائلة، وقد تولَّدَ تبعًا لذلك “فيضٌ ضخمٌ من الرساميل” في هذه البلدان”(4). ولمَّا كان من غير الممكن توجيه رأس المال الفائض إلى رفع مستوى معيشة الجماهير “المتاخمة للجوع”، لأن ذلك ببساطة لن يولِّد أرباحًا تُذكَر بل سيخفض هذه الأرباح، صار هذا الفائض يُوجَّه إلى رفع الأرباح “من خلال تصديره إلى الخارج؛ إلى البلدان المتأخِّرة، حيث الربح مرتفع عادةً، لأن الرساميل قليلة، وأسعار الأرض منخفضة نسبيًا، والأجور زهيدة، والخامات رخيصة”(5).

نتج عن ذلك أن أُدخِلَ نمط الإنتاج الرأسمالي إلى البلدان المستعمرة من أعلى على يد الاستعمار، جالبًا معه الوسائل التقنية والآليات الرأسمالية الحديثة. بالطبع ظلَّت هناك أنماط إنتاج ما قبل رأسمالية في هذه البلدان، جنبًا إلى جنب مع الرأسمالية الحديثة، لكنها أصبحت مُلحَقة بالرأسمالية ومندمجة في السوق العالمية. وهذا ما حدث بشكلٍ ما في السودان. وهذا التوازي بين النمط الرأسمالي الحديث والأشكال القديمة للإنتاج هو ما أطلق عليه الثوري الروسي ليون تروتسكي “التطور المركب المتفاوت”، حيث تتطور مراكز محدودة ومكثَّفة للتراكم الرأسمالي في المدن، وتُترَك أطراف المجتمع على تأخُّرها، بعلاقاتها التقليدية القديمة (كانت الترجمة الحرفية والأكثر فجاجة لهذا التفاوت بين المراكز والأطراف في السودان هي تهميش الجنوب ونهبه واضطهاد سكانه).

شكَّل هذا التطور المركب نشأة الطبقات الحديثة في السودان بصورةٍ مختلفة عن المسار الذي اتخذته في البلدان الرأسمالية المتقدمة. ففي هذه البلدان، نشأت الرأسمالية على أنقاض المجتمع الإقطاعي القديم، وقامت الطبقة البرجوازية بدور ثوري في هدمه. أما في السودان والكثير غيره من البلدان المتأخرة، فقد نشأت في رحم النظام القديم وفي ارتباط وثيق به. قامت في ظل ذلك البرجوازية السودانية من فئاتٍ مثل زعماء القبائل وزعماء الطوائف الدينية والتجار المحليين وبعض المنتمين لبيروقراطية الدولة، وكانت منذ نعومة أظفارها شديدة الارتباط برأس المال الأجنبي وضعيفة أمامه ومتذيلة إياه. ونظرًا لنهم رؤوس الأموال المحلية والأجنبية على السواء لتحقيق أكبر قدر من الأرباح وتجاوز التأخُّر الرأسمالي الشديد في أسرع وقت، كانت المراكز الرأسمالية حديثة النشأة هذه شديدة التكثيف، وترعرعت فيها طبقة عاملة متركِّزة بشدة وسط محيطٍ واسع من أشكال الإنتاج المتأخِّرة ما قبل الرأسمالية في الزراعة والرعي.

أفرز هذا المسار من التطور المركب مجموعةً كبيرة من التناقضات الطبقية في المجتمع السوداني، وهذه التناقضات هي التي شكلت الحياة الاقتصادية والسياسية في هذا البلد على مدار تاريخه اللاحق قبل الاستقلال وبعده. يمكننا تلخيص أبرز هذه التناقضات في تاريخ السودان على النحو التالي:

أولًا، انعكس ضعف البرجوازية السودانية وتذيلها لرأس المال الأجنبي في اتجاهاتها السياسية، فجعلها طبقةً محافظة وجبانة؛ تخشى أي تغيير على يد الجماهير أو تهديد لاستقرار وتدفق رأس المال الأجنبي الذي ترتبط به مصالحها وحياتها. علاوة على ذلك، عجزت هذه البرجوازية طوال تاريخها عن التعبير عن مصالحها بشكلٍ مستقل عن الطوائف السائدة (مثلًا حزب الأمة المعبِّر عن طائفة الأنصار، وحزب الاتحادي المعبِّر عن طائفة الختمية). وهذا في حدِّ ذاته انعكاسٌ للتطوُّر المركب المتفاوت في حقل السياسة، حيث الحفاظ على أشكال قديمة موروثة من ماضٍ سحيق للتعبير عن مصالح عصرية حديثة.

وفي المقابل، لم تكن الطبقة العاملة، رغم صغر حجمها في البداية، مُكبَّلة بأيِّ مصالح تمنعها من المُضي قُدمًا في النضال الديمقراطي والوطني إلى نهايته، أي أنها كانت ثورية. وأخذت هذه الطبقة تعبِّر عن نفسها ومصالحها بالأشكال الحديثة المتلائمة مع هذه المصالح. ولعل الأدوار التي قامت بها النقابات والحزب الشيوعي في تاريخ ثورات السودان لهو أبرز دليل على ذلك.

ثانيًا، بينما كانت الطبقة العاملة صغيرة نسبيًا مقارنةً بإجمالي السكَّان، كانت قوتها السياسية تتنامى بصورةٍ أكبر كثيرًا من حجمها العددي، نظرًا لتكثيفها الشديد وظروف معيشتها شديدة التقارب ومصالحها الموحَّدة، مما انعكس إيجابيًا على قدرتها على قيادة النضال في مراحل مفصلية في تاريخ السودان.

ثالثًا، كان الفلاحون والرعاة على النقيض التام من ذلك، إذ ظلَّ معظمهم يعيشون تهميشًا اقتصاديًا وتنمويًا بالغًا، ورغم أنهم شكَّلوا أغلبية المجتمع، كانت هذه الأغلبية مُبعثَرة عبر أرجاء شاسعة من البلاد، ومصالحها متفاوتة بين الفلاحين الأغنياء والمتوسطين والمستأجرين والفقراء، ومالكو الماشية، بالتفاوتات الكبرى في ملكياتهم، والرعاة العاملين لديهم. وهذه التفاوتات الكبيرة انعكست سلبًا على قدرتهم على الاضطلاع بدور قيادي أو مستقل في النضالات عبر تاريخ البلاد، لكنها أيضًا جعلت منهم (بالإضافة إلى العاطلين والفقراء على هامش الإنتاج الرأسمالي) حلفاءً للطبقة العاملة المنظِّمة في النضال، وجعلت هذا التحالف ضروريًا لمشروع الثورة.

لقد حدَّدت هذه التناقضات المسارات السياسية التي اتخذتها الطبقتان الرئيسيتان في المجتمع الرأسمالي في السودان (البرجوازية والطبقة العاملة)، ولابد من الانطلاق منها لفهم مواقف القوى الطبقية في ثورات الماضي، وللإجابة على سؤال لماذا أُهدِرَت ثورات الماضي، بل ولتحديد مهام المستقبل.

الطريق إلى الاستقلال
خلال العقود الأولى من الاستعمار البريطاني-المصري، كان كبار ملاك الأرض، الذين شكَّلوا لاحقًا الرأسمالية الزراعية، يعارضون بوضوح الحركات المناهضة له، إذ كان هؤلاء خاضعين كليًا للنظام الاستعماري، نظرًا لما وفَّره لهم من وسائل نقل وسكك حديدية وقنوات للتجارة الخارجية وميكنة للزراعة الآلية، إلخ. بل كانوا حتى يتفانون في إثبات الولاء لبريطانيا بالأخص. على سبيل المثال، عندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، من بين الوفد السوداني الذي سافر إلى إنجلترا في العام 1919 لتهنئة الملك جورج الخامس بالانتصار، كان هناك عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني، وكلاهما زعيمان دينيان، لكنهما أيضًا من كبار ملاك الأرض وأصبحا في ما بعد رأسماليَّين زراعيَّين بارزَين. وقد قدَّم عبد الرحمن المهدي “سيف المهدي” الشهير هديةً لملك إنجلترا برهانًا على ولائه التام له (6).

تطوَّرَت الحركة الوطنية السودانية لاحقًا، متأثِّرةً بثورة 1919 المصرية، وكانت ذات طابع برجوازي صغير بالأساس، فقد كانت الطبقة العاملة آنذاك حديثة النشأة، ولم يكن لديها بعد لا خبرات سابقة ولا تراث نضالي ولا تنظيمات مستقلة. وجاء أقوى تعبير عن الحركة الوطنية في ذلك الوقت في جمعية اللواء الأبيض، التي تأسَّسَت في العام 1923 على يد علي عبد اللطيف، وتنوَّعَت تركيبتها بين موظفين وتجَّار وضباط جيش صغار، وكذلك معلِّمين ومثقفين وطلاب، إلخ. وفي العام التالي على تأسيسها، نظَّمت الجمعية مظاهراتٍ حاشدة في المدن السودانية شارك فيها الجنود والضباط السودانيون إضافةً إلى الجنود المصريين المتمركزين في السودان، واندلع قتالٌ عنيف سقط خلاله عددٌ كبير من الضحايا بعد تحرُّك الاستعمار البريطاني لقمع اللواء الأبيض.
وهنا سارعت الزعامات الدينية وكبار ملاك الأرض، وعلى رأسهم أيضًا عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني، لإدانة الحركة الوطنية والتبرؤ منها، وبعثوا مذكرةً للحاكم العام قالوا فيها:

“نحن نقدِّر كثيرًا ما قام به المسئولون البريطانيون من أجل رفاهية السودان … نبعث بولائنا العميق وإخلاصنا للحكومة البريطانية والتي لا نرى لها بديلًا. ونودُّ أن نؤكِّد عدم وجود أي علاقةٍ بيننا وبين ما يحدث الآن في مصر” (7).

تعرَّضت الحركة الوطنية السودانية لانتكاسةٍ قوية بعد هزيمة 1924، ولكنها بدأت تستجمع قواها تدريجيًا ليشهد العام 1938 تأسيس مؤتمر الخريجين كممثِّل لـ”الأمة السودانية”. ورغم البداية علمانية الطابع، سرعان ما سقط المؤتمر فريسةً للتناحر بين القيادات الطائفية التقليدية الختمية والمهدية. وقد شكَّلَ إسماعيل الأزهري حزب الأشقاء، المرتبط بالطائفة الختمية (انقسم لاحقًا إلى حزبيّ الاتحادي الوطني والشعب الديمقراطي) في العام 1943، مناديًا بالوحدة مع مصر، فيما أسَّس الموالون لآل المهدي حزب الأمة في العام 1945، ليناهضوا الوحدة مع مصر ويطالبوا بتعزيز الارتباط ببريطانيا.

لم يكن هذا التضارب في الهدف الإستراتيجي خلافًا عارضًا، بل انعكاسًا لمصالح اقتصادية أعمق لدى قادة كلا الحزبين الطائفيَّين. لم يكن من قبيل المصادفة آنذاك أن يطالب حزب الأشقاء، الذي قاده عددٌ من أغنى التجاريين في تصدير الماشية إلى مصر، بالوحدة مع مصر. أما حزب الأمة، الذي أيَّد الارتباط ببريطانيا، فقد ازدادت ثروة الكثير من قادته على خلفية السياسة البريطانية الرامية إلى خلق طبقة رأسمالية سودانية تتفق مع المصالح البريطانية، وارتبطت ثروة بعضهم بتصدير القطن إلى بريطانيا. كان إذًا الخلاف في إستراتيجية الاستقلال بين الحزبين انعكاسًا لتناقضٍ بين شرائح مختلفة من رأس المال في السودان، فصار الاستقلال بالنسبة لكبار الرأسماليين يعني إما الارتباط ببريطانيا وإما الالتحاق بمصر، لكن لا بناء سودان مستقل عن كلا الطرفين. وهكذا فرَّغت المصالح الاقتصادية للبرجوازية إستراتيجياتها للاستقلال من مضمونها.

في تلك الأثناء، كانت الطبقة العاملة السودانية تتشكَّل بوتيرة سريعة، إذ وجدت نفسها فجأة وقد تجمعت في أعداد غفيرة في مراكز محددة ومكثَّفة، وتحت تصرفها تشغيل المفاصل الرئيسية في السودان. نشأ الجيل الأول من الطبقة العاملة السودانية في مؤسسات النقل والمواصلات والصيانة والخدمات، وكانت أكبر كتلة عمالية هي عمال السكك الحديد، الذين أسسوا الحركة النقابية ولفوا حولهم عمال الصيانة والخدمات. ولاحقًا، توسعت صفوف الطبقة العاملة بعمال الصناعات الخفيفة، وصار هناك عمالٌ من خريجي الثانويات والمعاهد الفنية، وبدأوا يشكِّلون مجموعات ذات تأثير داخل حركة الطبقة العاملة.

وجدت الطبقة العاملة نفسها مدفوعةً إلى النضال مباشرةً بعد ولادتها. في أعقاب موجة التضخم إبان الحرب العالمية الثانية، قامت الحركة العمالية المنظمة وكان مركزها مدينة عطبرة، شمال الخرطوم، خاصةً في ورش وعنابر السكك الحديدية، التي عمل بها آنذاك حوالي 20 ألف عامل. ولم يكن غريبًا على الإطلاق أن تشق الحركة العمالية طريقها إلى الوجود منذ البداية في هذه المدينة، حيث مثَّلَ عمال السكك الحديدية وعائلاتهم تسعة أعشار سكَّان المدينة في العام 1946، وهؤلاء العمال شكَّلوا 40% من إجمالي عمال السكك الحديدية في السودان برمته (8). وبشكلٍ عام، نظَّم العمال المهرة أنفسهم في “هيئة شئون العمال”، التي أجبرت الحكومة على الاعتراف بها وإقرار قانون النقابات العمالية عام 1948، وفي غضون 4 سنوات فقط سُجِّلَت نحو 100 نقابة، واتحدت كبرى هذه النقابات في “مؤتمر العمال”، الذي تحوَّل في العام 1950 إلى “الاتحاد العام لنقابات عمال السودان”، تحت هيمنة نقابة عمال السكك الحديدية.

الأمر المهم في كل ذلك هو قدرة الطبقة العاملة على تعميم مطالبها بمجرد أن بدأت نضالها، فعلى سبيل المثال، طالبت نقابة السكك الحديدية في نوفمبر 1950 بزيادة قدرها 75% في الأجور لكل عمال السودان (9). المُلفِت أيضًا هو حالة التسييس المتصاعدة آنذاك بين العمال المنظَّمين في اتحاد النقابات، والتي دفعتهم إلى رفع مطالب سياسية من قبيل إنهاء الاستعمار وحق السودان في تقرير المصير، وكان معظم قادة الاتحاد منغمسين في أنشطة الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو)، التي تحوَّلَت لاحقًا في فبراير 1956 إلى الحزب الشيوعي السوداني.

الاستقلال والانقلاب
أعلن السودان استقلاله في 1 يناير 1956. وفيما سيطرت البرجوازية على حكومة بعد الاستقلال، لم تسع هذه الطبقة إلى أيِّ تغييرٍ جوهري في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية التي أرساها الحكم الاستعماري، فقد حقَّقَت منافع كبرى في ظلِّ هذا الحكم، وكانت لديها مصلحة طبيعية في الحفاظ على الإطار الاقتصادي والاجتماعي الذي خلَّفه.

واجهت سلطة البرجوازية أربع مشكلات رئيسية. أولًا التوترات العنيفة مع الجنوب الذي لطالما عاش تهميشًا على يد الاستعمار وآن الأوان ليطرح مطالبه، وجاء ذلك عبر النضال المسلح. ثانيًا، تفاقم الحركة العمالية والنقابية بقيادة الحزب الشيوعي. ثالثًا، التوتُّرات مع مصر في ما يتعلَّق بتقسيم مياه النيل، حيث طالب السودان بإعادة التفاوض حول الاتفاقية الأنجلو-مصرية لعام 1929 بشأن نصيب البلدين من مياه النيل. ورابعًا، العلاقة مع الولايات المتحدة، إذ طلب السودان بصورةٍ رسمية دعمًا اقتصاديًا وعسكريًا من الولايات المتحدة في فبراير 1957، ومن ثم قدَّمَت الولايات المتحدة عرضًا بمدِّ العون في صورة قروض. وكانت مشكلة العون الأمريكي مرتبطة بشدة بالتوترات مع مصر، إذ رأت سلطة عبد الناصر العرض الأمريكي باعتباره بسطًا لنفوذٍ إمبريالي من نوع جديد يحل محل الوجود البريطاني السابق في امتدادها الإفريقي.

دبَّت الخلافات بين حزبيّ الحكومة (الأمة والشعب الديمقراطي) بالأخص حول مشكلتيّ التفاوض مع مصر والعون الأمريكي. فبينما كان حزب الأمة يدفع باتجاه التصعيد في المفاوضات المتوترة مع مصر وكان متحمسًا بالقدر نفسه للعرض الأمريكي، اتخذ حزب الشعب موقفًا يميل إلى التهدئة مع مصر وعزف عن قبول القروض الأمريكية. كان ذلك الخلاف المزدوج يشير بقوة إلى عجز البرجوازية السودانية عن توحيد نفسها، عبر أحزابها السياسية، في مسائل بهذه الأهمية الكبرى.

قوبِلَ العرض الأمريكي بمعارضة ضارية من أسفل كان في صدارتها الحزب الشيوعي والنقابات، وبتعاون تكتيكي من الحزب الاتحادي، الأمر الذي ولَّد تخوفًا كبيرًا لدى حزب الأمة من فقدان الثقة حال الموافقة على العرض الأمريكي بمفرده في مواجهة شريكه في الحكومة والمعارضة المتصاعدة في الشارع. وفي مواجهة هذا المأزق، الذي زادت طينته بلة بتصاعد الحركة العمالية والتمردات في الجنوب، سلَّمت الحكومة، برئاسة عبد الله خليل، الأمين العام لحزب الأمة، السلطة للجيش بقيادة اللواء إبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958، ليؤسس أول حكم عسكري في السودان بعد الاستقلال.

لم يكن ذلك انقلابًا عسكريًا بقدر ما كان تسليمًا طوعيًا للسلطة على طبق من ذهب للجيش. وما وقف وراء هذه الخيانة لآمال الجماهير السودانية هو المصالح الرأسمالية المباشرة لقيادات حزبيّ الحكومة. فمن بين العدد الصغير آنذاك للرأسماليين في السودان، كان أربعة منهم يقودون حزب الأمة؛ أحدهم رأسمالي زراعي، واثنان مرتبطان بالتجارة الخارجية، والأخير أحد أكبر الرأسماليين الصناعيين. حزب الشعب أيضًا لم تكن معارضته للعون الأمريكي معارضةً من حيث المبدأ، بل كان حريصًا فحسب على عدم إغضاب السلطة في مصر، وكان يقوده عددٌ من الرأسماليين البارزين المرتبطين بمصر (10). كان القطاع الأهم في البرجوازية السودانية شديد الارتباط بالسوق الرأسمالية خارج بلده، ومن أجل تعزيز هذا الارتباط قدم الديمقراطية قربانًا للجيش.

مرَّر عبود القروض الأمريكي، وصعَّد من القتال في الجنوب، والتفت كذلك إلى الحركة العمالية، التي كانت قد بدأت للتو فقط تلتقط أنفاسها في أعقاب الاستقلال، ودشن جملةً من الإجراءات القمعية، من أبرزها حل النقابات، وإقرار الإعدام عقوبةً للإضراب، واعتقال عدد غفير من القيادات العمالية وتقديمهم لمحاكمات عسكرية صورية.

ثورة أكتوبر المُجهضة
بيد أن القمع لم يوقف الحركة العمالية، فقد توالت الإضرابات للمطالبة برفع الأجور، ولم تنحصر في المطالب الاقتصادية، بل امتدت إلى الاحتجاج ضد حل النقابات وحالة الطوارئ، علاوة على التضامن مع المعتقلين. كانت الطبقة العاملة خلال سنوات عبود تبني الزخم للثورة عليه، وساعدها في ذلك ما طرأ من توسع كبير في صفوفها، لاسيما في الصناعة، التي شهدت طفرةً عما كانت عليه إبان فترة الاستعمار.

بالإضافة إلى هذا الزخم، فشل عبود في تسوية مسألة الجنوب، وكانت الهزائم المتتالية هناك تشعل الغضب تجاه السلطة العسكرية. وأجبرت هذه الهزائم النظام على فتح الموضوع للنقاش أمام الرأي العام، فنظَّم الطلاب ندوات واجتماعات للنقاش، وسرعان ما تحوَّلت النقابات إلى التحريض المباشر لإسقاط النظام. وفي 21 أكتوبر 1964، تدخلت قوات الأمن لفض ندوة بجامعة الخرطوم، وقتلت الطالب أحمد القرشي وأصابت عددًا كبيرًا من الطلاب. وفي اليوم التالي انطلقت جنازة القرشي في مظاهرة حاشدة، انضم إليها المهنيون، الذين نظَّموا أنفسهم في “جبهة الهيئات”. وأخيرًا، أعلنت النقابات العمالية بقيادة الحزب الشيوعي إضرابًا عامًا في 26 أكتوبر، وأدى إلى شلل كامل في الخرطوم والمدن الرئيسية الأخرى، حتى أنه قطع خطوط الإمداد عن الجيش في الجنوب (11). وجراء ذلك أُجبِرَ عبود ومجلسه العسكري على التنحي في 15 نوفمبر.

كانت قيادة الطبقة العاملة لثورة أكتوبر لا منازع لها، وقد حسمت المعركة بإضرابها السياسي العام، وذلك حتى رغم الصغر النسبي لحجمها، بينما كان القطاع التقليدي يحاصر آنذاك 75% من السكان في إطار علاقات الإقطاع القبلي وشبه الإقطاع (12). لقد منح التطور المركب للطبقة العاملة وزنًا سياسيًا أكبر بكثير من حجمها. وبشكل عام يمكننا القول إن الطبقة العاملة في ثورة أكتوبر استعادت بنضالها المسار الديمقراطي الذي خرَّبته البرجوازية بانقساماتها وخانته بتسليمها السلطة للجيش في 1958.

لكن بينما وقفت الأحزاب البرجوازية التقليدية متفرِّجةً على الثورة من موقعها في ما سُمِّيَ بـ”جبهة أحزاب المعارضة”، كانت هي من تسلَّمت السلطة بعد إسقاط عبود. كانت الطبقة العاملة تفتقر آنذاك إلى قيادةٍ تشق طريقها إلى السلطة السياسية بدلًا من أن يتسلَّمها آخرون خانوا الديمقراطية من قبل. لم يكن الحزب الشيوعي، الذي هيمن على حركة الطبقة العاملة سياسيًا، يتبنى هذه الإستراتيجية من الأصل (ربما لا يتسع المجال هنا لتناول هذا الموضوع، وسنعود إليه في مقال آخر).

تشكَّلت حكومة ما بعد عبود من الأحزاب البرجوازية الثلاثة (الأمة والشعب والاتحادي)، وللأسف بمشاركة الحزب الشيوعي، الذي قيَّد نفسه بالجبهة معهم وأضعف استقلاله السياسي عنهم كممثل للطبقة العاملة. حصل الحزب على 11 مقعدًا في البرلمان، الذي أثار فيه مناقشات عديدة بناءً على مطالب وشعارات ثورة أكتوبر، مما صعَّد من غضب البرجوازية تجاهه وخوفها من هذه المطالب، ولم تقف مكتوفة الأيدي إزاء ذلك. في 6 نوفمبر 1966، نظَّمت هذه الأحزاب، إضافةً إلى جبهة الميثاق الإسلامي (الإخوان المسلمون آنذاك في السودان) وبتحريضٍ منها، حلفًا برلمانيًا لطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان وحظره من الحياة السياسية، بل وعدلوا الدستور خصيصًا لهذا الغرض. وكان الغطاء السياسي لذلك هو ادعاء “مواجهة الإلحاد” الذي شنوا به حملةً شعواء ضد الحزب ومنظماته وصحيفته المركزية “الميدان”.

ردَّت البرجوازية الجميل للطبقة العاملة بطرد حزبها السياسي من البرلمان وحظره، بعد أن كانت واقفةً في الثورة يأكلها القلق من نتائجها المحتملة. أرادت البرجوازية السودانية، ككل برجوازية أخرى بالأخص في البلدان المتأخرة، ديمقراطيةً على مقاسها دون إزعاج أي مطالبات اجتماعية واقتصادية، فكانت حريصةً على تجريد الطبقة العاملة من سلاحها الأهم، الحزب السياسي، ولو كان ذلك يعني إجهاض الديمقراطية.

لكن إذا كانت البرجوازية قد اتحدت ضد الحزب الشيوعي، فهذا لا يعني أنها كانت موحَّدة في كل القضايا الأخرى. كان إسقاط عبود بالنسبة لهذه الطبقة يعني فرصةً لتقسيم الكعكة، وقد ولَّد ذلك خلافاتٍ شلَّت السلطة وأغرقت المشهد في الانقسامات وفاقمت من المشكلات المزمنة في المجتمع السوداني وشوَّهت المرحلة الديمقراطية. وفي الإجمالي، تعاقبت 5 حكومات بعد ثورة أكتوبر، لم تستمر أي منها أكثر من 11 شهرًا. وفي ظل هذا الجمود والشلل، تدخَّل الجيش بانقلاب عسكري آخر، هذه المرة بقيادة جعفر نميري في مايو 1969، وفرض ديكتاتورية ساحقة.

ديكتاتورية – أبريل – ديكتاتورية
أعلن نميري حل جميع الأحزاب السياسية وأوقف العمل بالدستور وفرض الطوارئ، ومرةً أخرى جرَّم الإضرابات وأقرَّ الإعدام عقوبةً لمن يحرض عليها. وصحيح أنه ألغى هذه العقوبة لاحقًا، لم يكن ذلك إلا بغرض دمج النقابات في الاتحاد الاشتراكي الذي أسسه نميري أسوةً بعبد الناصر في مصر (13). وبصورةٍ عامة، مارس نميري قمعًا شرسًا على العمال، ولعل المثال الأبرز على ذلك هو نشر قوات الجيش لضرب عمال السكك الحديدية في إضرابهم في عطبرة، يونيو 1981، وحظر نقابتهم التي ضمت آنذاك 45 ألف عامل وحذفهم من سجلات العاملين بالحكومة (14). وتضخمت الأجهزة الأمنية بصورةٍ هائلة على مدار سنوات نميري، بالنظر أيضًا إلى التمردات المتواصلة في الجنوب.

لكن القمع لم يوقف الحركة العمالية إلى الأبد، فنهضت على يد المهنيين الذين بدأوا يقومون بدور متنامٍ. ومع تصاعد إضرابات المحامين والأطباء على وجه التحديد، أعلن نميري الأحكام العرفية في 30 أبريل 1984، ولم يكن يعلم أنه على موعد مع الثورة في العام التالي. استمرت الإضرابات العمالية والمظاهرات على مدار العام، وفي 3 أبريل 1985 سارت مظاهرة قوامها 20 ألفًا قادها أطباء ومحامون ومهندسون وموظَّفو طيران، وأسفرت عن تشكيل تحالف للمنظمات المهنية والعمالية أُطلِقَ عليه “التجمُّع النقابي”.

وفي اليوم التالي، 4 أبريل، دعا التحالف إلى إضرابٍ عام شارك فيه عمال السكك الحديدية والعمال في الخدمات وفي الكثير من الصناعات. تسبَّب الإضراب في قطع التيار الكهربائي وتعطيل خطوط الهاتف والمواصلات والملاحة الجوية والأسواق. حتى أن الإضراب شمل وكالة أنباء السودان وهيئة الإذاعة والتلفزيون، التي اكتفت بمذيعٍ واحد فقط لم يشارك في الإضراب (15). وتمكَّن الإضراب بعد يومين فقط من إسقاط نميري في 6 أبريل 1985. والمُلاحَظ هنا هو تحوُّل مركز الثقل في حركة الطبقة العاملة من عمال الصناعة والنقل، الذين لعبوا الدور القيادي في ثورة 1964، إلى المهنيين في ثورة 1985، مما يعكس التغيُّر في بنية الطبقة العاملة على مدار العقدين الفاصلين بين الثورة الأولى والثانية.

لكن مرةً أخرى هيمنت الأحزاب البرجوازية التقليدية على السلطة في ما بعد نميري. ولم يمانع الحزب الشيوعي في ذلك (اعتراضه الوحيد كان على مشاركة الجبهة الإسلامية القومية)، إذ كان بصورةٍ عامة يهدف إلى ترسيخ حلف طبقي واسع تكون فيه الطبقة العاملة خادمًا أمينًا للبرجوازية، وليس التعلُّم من أخطائه في الثورة الأولى والحفاظ على استقلالية الطبقة العاملة وشق طريقها إلى السلطة بدلًا من البرجوازية التي كبحت الثورة وأهدرت الديمقراطية من قبل.

فشلت الحكومات المتعاقبة بعد ثورة أبريل في الاتفاق على حلولٍ للمشكلات الاقتصادية المزمنة وقضية الجنوب، وخضعت بصورةٍ تامة لشروط صندوق النقد الدولي وطبَّقت برنامجًا تقشفيًا قاسيًا أشعل مظاهراتٍ كبرى في أكتوبر 1987. وصار المشهد السياسي يطغى عليه فساد الوزراء والمسئولين مع رجال الأعمال والخلافات الحادة حول تقسيم كعكة السلطة، وظلَّ الانقسام بين الأحزاب التقليدية حادًا إلى درجة انهيار الائتلاف الحكومي مرتين خلال ثلاثة أشهر فقط في العام 1987، وإلى درجة أن السودان أصبح بلا حكومة خلال الفترة من أغسطس 1987 إلى مايو 1988 (16).

لم تسع هذه الحكومات إلى تقديم أيٍّ من الإصلاحات التي نادت بها الثورة، وحتى خدمات الكهرباء والمياه واصلت التدهور. وواجهت الجماهير هذه الأوضاع المتردية بالإضرابات والمظاهرات، التي توالت حتى انفجرت في موجةٍ كبرى في منتصف العام 1988 احتجاجًا على نقص الخبز ومياه الشرب وقطع الكهرباء لساعاتٍ طويلة يوميًا. ونظَّم اتحاد المحاسبين إضرابًا استمرَّ 5 أيام، وخاض العمال الزراعيون إضرابًا لمدة 5 أيام أيضًا احتجاجًا على تدني الأجور، وخاض موظَّفو البنوك احتجاجاتٍ ضخمة مُنسَّقة بين 22 نقابة أخرى ضد خصخصة 76 مشروعًا مملوكًا للدولة، بما في ذلك 4 بنوك تابعة للقطاع العام (17).

لكن ارتباك وانقسام الأحزاب التقليدية في السلطة خلق المناخ الذي هيَّأ لانقلاب البشير في 30 يونيو 1989، بدعمٍ من الجبهة الإسلامية القومية، ليقطع الطريق على الحركة العمالية، التي كان يخشاها هو الآخر مثل نميري من قبله. أُعيدَت الكرَّة من جديد، وكان من أوائل مراسيم البشير أن حلَّ النقابات وصادر ممتلكاتها. ألغى نظام البشير النقابات الشرعية الموجودة بالفعل، ووضع مكانها نقابات أخرى غير مُنتخبة وعيَّن مجالس إدارة موالية له، ثم أصدر في العام 1992 قانون النقابات الذي جرَّم الحق في التنظيم أو الانضمام لنقابة في قائمة واسعة من المهن. حوَّل البشير جهاز الأمن الداخلي إلى قوةٍ هائلة ومخيفة، وصار النظام يلاحق القادة العماليين والنقابيين ويعتقلهم في ما عُرِفَ آنذاك بـ”بيوت الأشباح”، حيث يذوقون أبشع أشكال التعذيب.

البشير وعساكره.. والثورة
في مواجهة قمع البشير، أُعيدَ إحياء “التجمُّع الوطني الديمقراطي”، الذي كان جبهةً للقوى السياسية المعارضة إبان عهد نميري، بعد أشهر قليلة من الانقلاب، وإلى جانب 13 حزبًا سياسيًا في التجمُّع، كانت مشاركة منظمات الطبقة العاملة بارزة، إذ انضمت 65 نقابة إلى هذه الجبهة (18).

كانت العقود الطويلة من القمع الذي مورِسَ على الطبقة العاملة قد أضعف تنظيماتها، لكن حركتها لم تختفِ تمامًا، إذ ظلَّت الظروف التي ناضلت ضدها في الماضي كما هي، بل وازدادت سوءًا. في التسعينيات، بدأت قطاعات من المهنيين في التحرك، وتصاعدت في العام 1994، وكذلك في 1996 حين نظَّم الأطباء إضرابًا كبيرًا في أبريل من ذلك العام.

اعتمد البشير، مثل نميري وحكومات ما بعد 1985، على سياسات اقتصادية ترتكز على التقشف ورفع الدعم وخصخصة منشآت الدولة واللهاث وراء استثمارات الخليج. وفاقمت هذه السياسات من ديون السودان، التي كانت هائلةً بالفعل منذ سنوات نميري، التي ازدادت فيها الديون الخارجية من 3 مليارات دولار في العام 1978، إلى 9 مليارات في وقت إطاحة نميري (19)، وصولًا إلى 13 مليار دولار عقب انقلاب البشير مباشرةً، وكان ذلك يعادل ربع الناتج المحلي الإجمالي السنوي (20).

استقرت الأمور نسبيًا مع اكتشاف حقول النفط في السودان في بداية الألفية، فسجَّل السودان أول فائض في ميزانه التجاري في 1999-2000 مع نمو اقتصادي بلغ 6% (21). وأدى الاستقرار الاقتصادي وتزايد عائدات النفط منذ العام 2000 إلى اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية من السعودية وبلدان الخليج وآسيا. وقد حقَّق الاستثمار الأجنبي زيادةً هائلة من 128 مليون إلى 2,3 مليار دولار في العام 2006 (22). كان المشهد الاقتصادي قاتمًا بالفعل مع العقوبات الاقتصادية التي استمرت نحو 20 عامًا إبان عهد البشير، لكن حتى فورة النفط هذه التي منحت البشير مُتنفسًا من الأزمة الاقتصادية المزمنة قد تلاشت مع انفصال جنوب السودان. فقد السودان إثر ذلك 75% من الإنتاج النفطي، الذي شكَّلَ من 85 إلى 93% من الصادرات السودانية في العقد الأول من القرن (23).

بالطبع عالج البشير أزمته بمزيدٍ من التقشف ورفع الدعم، في مقابل مواصلة تعزيز قبضته الأمنية والعسكرية. على سبيل المثال، خصَّصت ميزانية 2018، المعروفة بـ”ميزانية الجوع”، أقل من 6% لقطاع الصحة، بينما وصلت مخصَّصات الجيش إلى 60%.

دفعت هذه السياسات السودانيين لاستعادة النضال ضد نظام البشير، وانتفضوا في 2012 و2013، لكن دون نجاحٍ في مواجهة أمن النظام الذي أوقع شهداءً ومصابين يصعب حصرهم. وفي مقابل الإحباط من هذه الهزائم، التقطت بعض فئات الجماهير أنفاسها وبدأت من جديد تدريجيًا تحتج على خطط التقشف. وكان في مقدمة هؤلاء قطاعات من المهنيين الذين واصلوا احتجاجاتهم. وبعد إضرابٍ كبير للأطباء في 2016 امتدَّ إلى 65 مستشفى عبر السودان في 9 أكتوبر 2016، انضمَّت إحدى الهيئات المركزية في تنسيق حركة الأطباء، وهي اللجنة المركزية لأطباء السودان، إلى شبكة الصحفيين السودانيين وتحالف المحامين الديمقراطيين، لتشكيل تجمُّع المهنيين السودانيين، الذي ضم بعد ذلك أيضًا قطاعات مهنية أخرى، وقاد المرحلة الأولى من ثورة ديسمبر 2018 التي أسقطت البشير.

اندلعت الثورة ضد سياسات البشير الاقتصادية المجحفة، وديكتاتوريته العسكرية/الإسلامية، وجرائمه الممتدة في الأقاليم السودانية شاسعة الأرجاء، التي نهبها لصالح العسكر ورجال الأعمال ورأس المال الخليجي، والتي مارس اضطهادًا عرقيًا ودينيًا إزاء سكانها. سقط البشير في أبريل 2019 بعد أكثر من أربعة أشهر من الاحتجاجات المتواصلة والإضرابات القوية التي شلَّت قطاعاتٍ اقتصادية حيوية في البلاد، واضطلع تجمع المهنيين بدورٍ رائد تتطلَّع إليه الجماهير لقيادة احتجاجاتهم. وبعد أن أُجبِرَ جنرالات الجيش والدعم السريع (الذي أنشأه البشير لحماية سلطته وخوض حربه القذرة في دارفور) على التخلي عن البشير، بدأت سلسلة من المفاوضات من أجل التوصُّل إلى صيغة لتسليم السلطة للمدنيين بعد فترة انتقالية تجري فيها الترتيبات اللازمة لذلك.

على نفس منوال 1964 و1985، تصدَّرت الأحزاب البرجوازية التقليدية المشهد هذه المرة أيضًا، وخاضت المفاوضات نيابةً عن ثورة لم تكن ضلعًا فيها إلا بالكاد، وتوصَّلت إلى اتفاقٍ بعد آخر بشروط مُجحفة خلت من أي ضماناتٍ لتسليم السلطة. هرعت هذه الأحزاب، تحت مظلة “قوى الحرية والتغيير”، للجلوس مع العسكر على طاولة التفاوض، من أجل تأمين مصالحها، غير عابئة بالمطالبات الجماهيرية التي ظلت الثورة تنادي بها، وفي تجاهلٍ أيضًا للمذابح التي ارتكبتها السلطة في تلك الأثناء (مذبحة القيادة العامة، يونيو 2019، مثلًا أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 110 شهيدًا، علاوة على إصابة واغتصاب واعتقال وتعذيب أعداد لا تُحصى من المتظاهرين).

كانت هذه الأحزاب مجردة تمامًا من أي سلطة في الشراكة المفترضة بين المدنيين والعسكريين في المجلس الانتقالي، وارتضت بدورها كواجهة للحكم العسكري، وأطلقت نداءاتها إلى الجماهير للتوقف عن المظاهرات والإضرابات، لكي تواصل تفاوضها مع العسكر دون إزعاج الضغوط من أسفل. كان دورها عمليًا هو احتواء الثورة.

في تلك الأثناء، انتقل دور قيادة الحركة الجماهيرية وتنظيمها على الأرض إلى لجان المقاومة، التي نهضت في أحياء الولايات وانتشرت على نطاقٍ شديد الاتساع وحتى في مواقع لا تخطر على بال؛ في مشاريع نهر القاش الزراعية نواحي كسلا، وفي الزريبة في شمال كردفان، وفي نيرتتي في جبل مرة. عملت اللجان، ولا تزال، على تنسيق وتوحيد الاحتجاجات الجماهيرية، وتدخلت لمراقبة الكثير من الخدمات، بل وتنظيمها وإدارتها في بعض الحالات، وتوزيع المواد الغذائية في بعض المناطق. والأهم أنها في خضم ذلك ضربت أروع النماذج في الممارسة الديمقراطية القاعدية في اتخاذ القرارات وصياغة التصورات والمقترحات السياسية، ووضعت الجماهير في قلب المعادلة السياسية، ووقفت حائط صد لمقاومة الحكم العسكري والتعبئة ضده. ولا يزال لديها طاقات ثورية أكبر يمكن أن تطلقها في المستقبل، رغم التحديات الهائلة.

تاريخ آخر كان ممكنًا.. مستقبل آخر لا يزال ممكنًا
هذا السرد العابر للمراحل الرئيسية في ثورات السودان إنما يقدم وجهًا آخر لتاريخ هذا البلد، على النقيض التام من تلك الصورة السائدة لشعب منكوب بالحكم العسكري ومجرد ضحية للصراعات على السلطة. هذا التاريخ الموازي هو ما تريد القوى الرجعية طمسه، وهو ما تريد قوى الإصلاح البرجوازي تشويهه من خلال تجاهل الدور القيادي الذي نهضت به قطاعاتٌ قوية من الطبقة العاملة في هذه الثورات.

إذا عدنا للسؤال حول حتمية هزيمة الثورات في السودان، فإن هذا المقال يسوق الادعاء بأن ما تثبته تجارب الشعب السوداني ليس حتمية فشل الثورة بل حتمية فشل القيادة البرجوازية للثورة في تحقيق ولو حد أدنى من الديمقراطية المستقرة. لقد أصبغ التطور المركب لتاريخ السودان سمات المحافظة والانتهازية على هذه الطبقة، فجعل منها خادمًا ذليلًا لرأس المال الأجنبي ومُلحقًا لا حيلة له أمام الحكم العسكري.

وإذا كان الحل الإصلاحي البرجوازي قد أثبت فشله في ثورات الماضي، فقد دمغ هذا الفشل بمزيد من الإثبات في ثورة ديسمبر، التي لم تضع أوزارها بعد رغم الصراع المرير بين طرفيّ الثورة المضادة العسكرية. يقوم المشروع السياسي للإصلاح البرجوازي على تحقيق أكبر قدر من الاستقرار في أسرع وقت، وإن كان بصورةٍ مُلفَّقة مع العسكر، بغرض توفير المناخ المناسب لجذب الاستثمارات والتمويلات الأجنبية (كان هذا هو الهدف نفسه للجيش والدعم السريع قبل أن ينقلبا ضد بعضهما). كان عبد الله حمدوك تجسيدًا لهذا المشروع. أخذ الخبير الاقتصادي البارز يمجِّد في الثورة فقط بالقدر الذي أتاحته لإطاحة البشير، لكن استمرارها أبعد من ذلك كان يعني تهديد قاعدة الاستقرار التي قام عليها مشروعه بأكمله. لذا، حين أطاحه العسكر في انقلاب 25 أكتوبر 2021، لم ينطق ببنت شفة لتحفيز الجماهير لمحاصرة سلطة الانقلاب، بل حتى دعا إلى التهدئة. وحين عاد إلى منصبه بفضل الضغط الهائل لهذه الجماهير على البرهان/حميدتي، وجد نفسه في مأزق لا يُحسَد عليه؛ فالسبيل الوحيد لمواجهة العسكر آنذاك كان تصعيد الحركة من أسفل، لكن هذا بالذات ما يقوِّض مشروعه السياسي. وبين مطرقة العسكر وسندان الجماهير، استقال حمدوك في عجزٍ ومهانة متخليًا عن المعركة في أوجها. حمدوك وأمثاله ينطبق عليهم قول لينين الساخر بأن “الليبرالي حين يُشتَم، يهتف حمدًا لله أنهم لم يضربونني. وحين يُضرَب يشكر العناية الإلهية لأنه لم يُقتَل. وحين يُقتَل يشكر السماء لأنها حررت روحه من جسدٍ زائل” (24).

يرتبط انتصار الثورة في السودان أشد الارتباط بتجاوز مصالح رأس المال وتقديم قيادة بديلة متحررة من هذه المصالح لتشق الطريق إلى الديمقراطية. وهذه القيادة البديلة لابد أن تكون قيادة الطبقة العاملة، التي فرضت نفسها على الأرض في ثورات الماضي، لكنها لم تُتوَّج بالوصول إلى السلطة السياسية. لم تفتقر الطبقة العاملة إلى أيٍّ من الشروط “الموضوعية” التي تؤهِّلها لذلك، بل ما افتقرت إليه كان حزبًا سياسيًا ينظِّمه القطاع الأكثر ثورية من داخلها ويتبنى هذه الإستراتيجية (وهو شرط “ذاتي” لابد منه في هذا المسار ولا يزال إلى الآن لابد م توفيره). كان ذلك ليضفي أبعادًا اجتماعية جذرية للثورة، ويوحِّد معركة الديمقراطية بالنضال من أجل العدالة الاجتماعية. كان ذلك ليفسح المجال أمام ما أطلق عليه ليون تروتسكي “إنضاج” الثورة الديمقراطية إلى ثورة اجتماعية شاملة. ومن دون هذا “الإنضاج”، ظلَّت ثورات الماضي تتأرجح بين هذه القيادات البرجوازية أو تلك، التي كبحت طاقات الجماهير لكي تضمن عدم تجاوز الإطار الذي تتحقق فيه مصالحها.

هذا ليس رثاءً للماضي، بل محاولةً لفهمه واستخلاصًا لإستراتيجيات للمستقبل. إذا كانت الطبقة العاملة قد مارست في الماضي قدراتٍ نضالية فائقة بينما كانت أقليةً في المجتمع السوداني، فهي حتى لم تعُد أقليةً الآن. ربما تكون الصورة الشاملة للطبقة العاملة الآن قد تعقَّدت كثيرًا بسبب عقودٍ من الحرب والهجرة، وبالتأكيد الخصخصة التي جرَّفت الشركات والبنى التحتية المملوكة للدولة وشرَّدت أعدادًا هائلة من العمال. لكن لا تزال هناك نقاط تمركز عمالية تتمتع بقوةٍ كبيرة، بل تشير الإحصاءات بين عاميّ 2010 و2021 إلى اتساعٍ في صفوف الطبقة العاملة في المدن، مقارنةً بالفلاحين مثلًا. ففي حين انخفضت نسبة التوظيف في الزراعة في تلك الفترة من 45.6% إلى 39.7% من إجمالي القوى العاملة، زادت النسبة في الفترة نفسها في الصناعة والخدمات من 54.4% إلى 60.3% (25).

على مدار السنوات القليلة السابقة، تسلَّمت لجان المقاومة راية الثورة وقادتها على الأرض ببطولة منقطعة النظير خلال مراحل شديدة الصعوبة. ولابد أن ترتكز على القوة الجبارة الكامنة للطبقة العاملة. والآن لا تزال لجان المقاومة تقدم نموذجًا مبهرًا في الصمود في أثناء الصراع الدموي بين شقيّ الثورة المضادة العسكرية، ذلك الصراع الذي يهدِّد بإغراق الثورة في الدماء. تبرز هذه اللجان الآن قدرةً تنظيمية هائلة بناءً على الاحتياجات الملحَّة خلال هذا الصراع، حيث توزيع المواد الغذائية والإغاثات الطبية والحماية المدنية وغير ذلك.

رغم التحديات الكبرى، لا يزال أمام الثورة جولات أخرى، وكما كتب الرفاق الاشتراكيون الثوريون في حركة “قدام” في السودان، فإن “من يخرج منتصرًا من هذه المعركة -إن لم تتحول إلى حرب أهلية- سينكل بقوى الثورة … على الثوريين من الآن الاستعداد للعصيان المدني العام”. واستناد لجان المقاومة إلى مواقع الطبقة العاملة والتشكيلات المهنية والعمالية المناضلة سوف يمنحها قوةً جبارة استعدادًا للموجة المقبلة من الثورة.

هوامش:
(1) مذكور في: يوسف الشريف، السودان وأهل السودان: أسرار السياسة وخفايا المجتمع، دار الشروق، 2003.
(2) حسام الحملاوي، السودان: الشمال والجنوب والثورة، 1998، نسخة إلكترونية.
(3) المصدر السابق.
(4) فلاديمير لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، دار التقدم، موسكو، 1966، ص360.
(5) المصدر السابق.
(6) الحملاوي، 1998.
(7) فاطمة بابكر، البرجوازية السودانية: هل هي طليعة التنمية؟، جامعة الخرطوم، 1986، ص139.
(8) تيم نيبلوك، السلطة والطبقة في السودان، ماكميلان، 1987، ص113.
(9) طارق إسماعيل، الحزب الشيوعي السوداني، روتليدج، 2013، ص13.
(10) بابكر، ص142.
(11) نيبلوك، ص226.
(12) دستور الحزب الشيوعي المُجاز في المؤتمر الرابع، أكتوبر 1967.
(13) حوار مع القيادي النقابي محمد علي خوجلي، قناة سودان بكرة، يوتيوب.
(14) روبرت كولينز، تاريخ السودان الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015، ص181.
(15) عمرو عمر، السودان: تاريخ مضطرب ومستقبل غامض، ص46.
(16) بيتر وودورد، السودان بعد نميري، روتليدج، 1991، ص80.
(17) كولينز، ص219.
(18) المصدر السابق، ص253.
(19) نيبلوك، ص283.
(20) كولينز، ص281.
(21) المصدر السابق، ص275.
(22) المصدر السابق، ص284.
(23) مشروع البرنامج المُقدم للمؤتمر العام السادس للحزب الشيوعي السوداني، 2014.
(24) فلاديمير لينين، الأعمال الكاملة بالإنجليزية، المجلد 11، ص385.
(25) بيانات الأمم المتحدة.



#سيد_صديق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جنرالات السودان يتصارعون ضد بعضهم.. ولابد أن يتخذ الشارع موق ...
- كلمة للمؤرخ الإيراني بيمان جعفري: “الانتفاضة دخلت في عملية ث ...
- جون مولينو.. ستبقى ذكراك ملهمة
- ماذا وراء إسقاط الرئيس اليساري بيدرو كاستيو في بيرو؟
- موجة جديدة من الاحتجاجات في إيران تكثف الضغط على النظام
- انتصار اليمين المتطرف في الانتخابات الإسرائيلية: نتاج الأساس ...
- إيطاليا: انتصار جديد لليمين المتطرف.. لكن المقاومة لا تزال م ...
- اليسار والموقف من الحرب على أوكرانيا – الجزء 1
- الرأسمالية.. كيف يُستخدَم الغذاء كسلاح
- الإنفاق العالمي على التسليح يصل إلى معدلات قياسية
- عام على الانتفاضة الفلسطينية.. دروس في المقاومة ضد القمع وال ...
- عمال توصيل الطعام في «طلبات» يضربون عن العمل في الإمارات
- ماذا عن عمالة الأطفال في مصر؟
- مواجهة بين ماكرون النيوليبرالي ولوبان الفاشية
- لا للحرب على أوكرانيا: الأوكرانيون هم من يقررون مصيرهم
- حوار مع اشتراكي روسي يعارض حرب بوتين
- مظاهرات غاضبة في جلاسكو بالتزامن مع قمة المناخ للأمم المتحدة
- أمازون في مصر: هكذا تجني شركة أغنى رجل في العالم أرباحها
- أفغانستان: نهاية الاحتلال
- نساء أفغانستان بين الاحتلال وطالبان


المزيد.....




- إيلون ماسك ونجيب ساويرس يُعلقان على حديث وزير خارجية الإمارا ...
- قرقاش يمتدح -رؤية السعودية 2030- ويوجه -تحية للمملكة قيادة و ...
- السعودية.. انحراف طائرة عن مسارها أثناء الهبوط في الرياض وال ...
- 200 مليون مسلم في الهند، -أقلية غير مرئية- في عهد بهاراتيا ج ...
- شاهد: طقوس أحد الشعانين للروم الأرثودكس في القدس
- الحرب على غزة| قصف إسرائيلي مستمر وبلينكن يصل السعودية ضمن ج ...
- باكستان.. مسلحون يختطفون قاضيا بارزا ومسؤول أمني يكشف التفاص ...
- كلاب المستوطنين تهاجم جنودا إسرائيليين في الخليل
- بلينكن يصل إلى السعودية للاجتماع مع وزراء خارجية دول مجلس ال ...
- ما علاقة الحطام الغارق قبالة سواحل الأردن بالطائرة الماليزية ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سيد صديق - ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان