أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حامد خيري الحيدر - أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثاني















المزيد.....


أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثاني


حامد خيري الحيدر

الحوار المتمدن-العدد: 7590 - 2023 / 4 / 23 - 00:10
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تنويه: هذه الإستذكارات تَمتد الى سنوات بعيدة مَضت، رَسخت في ذاكرة الكاتب خلال عَمله الآثاري في محافظة نينوى عند أواسط التسعينات من القرن العشرين، وللأسف فأن مُعظم المَباني والمَعالم الدينية والتاريخية والرُموز الأثرية والتُراثية التي سَيتم التطرق إليها، قد تَم تَدميرها وتَخريبها على يد عصابات "داعش" الإجرامية لدى احتلالهم هذه المحافظة الأبيّة للفترة 2014_2017.... (الكاتب).

كانت مدينة الموصل بمَناطقها القديمة والحديثة خلال الأيام الخوال من عمرها، مُزدحمة الشوارع والأرجاء على الدوام، وخاصة شارع "الدواسة" و"السَرجخانة" في جانبها الأيمن أو "الدَركَزلية" و"المجموعة الثقافية" في جانبها الأيسر، حيث تراها عامرة بالمَقاهي والمطاعم، التي تكون على الدوام مُكتظة بمُرتاديها، وكذلك كان الحال مع الأسواق والمَحال التجارية على اختلاف بضائعها وسِلعها مَليئة بالزبائن، الذين تراهم يَتهافتون عليها صباحاً للتزود بما يحتاجونه، وفي مقدمتها طبعاً المَخابز وما كانت تصنعه وتعدّه إضافة الى الخبز من أصناف الفطائر، وأسواق المواد الغذائية بما تَعرضه من بضائع تشتهر بها المدينة دون غيرها، في مقدمتها منتجات الحبوب المطحونة والمُصَنّعة، مثل "البرغل" و"الرشتا" إضافة الى "الطحينة" أو "الراشي"، وكذلك مُشتقات ومُنتجات الألبان المتنوعة وفي مقدمتها "الجبن المثوَّم" بطعمه ورائحته الطيبة المتأتية من العُشبة الخاصة التي يحتويها، والتي تُجلب من سهول محافظة نينوى الشمالية، كما تَتميز من الأسواق أيضاً مَحال بيع المُخللات، بما تعرضه للناس بشكل جذاب من أصناف عديدة من "الطرشي" الموصلي المعروف بنكهته الخاصة ومذاقه الحاد ولونه الأصفر المُميّز، وكذلك دَكاكين القِصابة التي تشتهر بتعليق أصحابها قطع "البسطرمة" المُجففة عند أبوابها الى جانب ذبائح الغنم والبقر.
لكن تبقى مَحال بيع المُكسّرات أو "الكرَزات" هي الأجمل من كل تلك الأسواق، بما تحويه من أنواع الطيّبات المُملحة والسَكاكر المُلونة، من بُندق وفُستق وباقي أصناف الحبوب والمُحليّات المَحشوة بالجوز وبمختلف المذاقات، حيث تجلب واجهاتها النظر من مسافة بعيدة، مُسيلة لعاب جميع من يَمّر بجانبها باختلاف أذواقهم وما يشتهون، مُغرية إياهم بشرائها، حتى من كان منهم مُصاباً بارتفاع نسبة الكولسترول أو ضغط الدم، وكذلك مَحال بيع العَصائر خلال فصل الصيف، خاصة عصير الزَبيب ذي النكهة الطيبة الرائعة، والذي يتم إعداده في هذه المدينة بطريقة تختلف عن كافة مناطق العراق، وطبعاً لابد أن يمتد الحديث أيضاً الى شارع "النَجفي" أو الأصح "النُجيفي"، الذي تُماثل زَحمته واكتظاظ الناس فيه "سوق السراي" في بغداد وكذلك بتخصّص بضاعته في بيع الكتب والمواد القرطاسية والمكتبية، وقد سُميَّ‭ ‬الشارع‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬أسرة‭ ‬"النُجيفي" ‬التي‭ ‬سَكنت‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬فيها‭ ‬الشارع منذ القرن السابع عشر قادمة من قرى "النُجيفات" في بلاد الشام.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ولعل المُتعة التي لا تضاهيها أخرى لدى رَب الأسرة الموصلي، تكون خلال جولته الصباحية أيام الجُمَع بين المَحال والأسواق الشعبية في جانب المدينة الأيمن، للتنزه والتزوّد بما تحتاجه العائلة من قوتٍ يومي، حيث تصبح تلك الجولة فرصة للابتعاد عن جَو البيت، ومُتنفساً للترويح من الارهاق والتعب بعد أسبوع العمل الطويل، خاصة عند "شارع حلب" أو سوق العطارين الجميل بروائح توابله الطيبة، والذي يُمكن اعتباره توأم سوق "الشورجة" في بغداد، وكذلك أسواق الحَدادين والصَفارين عند طرف "الجسر العتيق"، بالإضافة الى مناطق أخرى مثل "باب الطوب" و"باب جديد"، التي تَغدو عند عطلة نهاية الأسبوع مختلفة كلياً عما يكون حالها خلال باقي الأيام الأخرى، إذ تتحول الى عالمٍ آخر تماماً يَرتاده جميع أهل المدينة، فشوارعها مُزدحمة للغاية بعد أن تمتلأ بعربات باعة الخضر والفواكه، المُنتشرة بشكل عشوائي في كل مكان بمختلف أشكالها وألوانها، كما كان المزارعون القادمين من القرى المُحيطة بالموصل، وأيضاً المحافظات الشمالية الأخرى مثل أربيل ودهوك قد اعتادوا القدوم في هذا اليوم لبيع منتجاتهم، من أنواع التبوغ والغزول والمَسابح وغلايين التدخين، وباقي الاحتياجات والأغراض المنزلية الخشبية والنسيجية، وكذلك المُكسرات والأعسال والمُربيات والمُخللات المُصنّعة داخل البيوت، والتي تكون مُفضّلة لدى عموم الناس لرُخص ثَمنها قياساً الى تلك التي تُباع في المحلات التجارية.
وضمن مُعترك الباعة هذا كان هناك الجانب الهام في هذه البيئة الصاخبة الذي يَسعى إليه أغلب الناس، ألا وهو "بَسطيات" بيع السلع والأدوات القديمة المستعملة المتضمنة شَتى الأغراض.. كهربائيات، عُدد يدوية، أدوات احتياطية للسيارات والمكائن، مواد منزلية مختلفة، ملابس مدنية وعسكرية قديمة، حيث ترى الناس يتجولون بينها بعيون فاحصة باحثين عن حاجتهم فيها بما يُناسب امكانياتهم وحجم جيوبهم، وطبعاً كان صياح الباعة في هذا المحيط المُكتظ هو الوسيلة الوحيدة للترويج لما كانوا يبيعوه، فكل يصيح بما أوتي من قوة كي يجذب الزبائن إليه، ويُكسّد على بضائع الآخر، وفي خضّم هذه الضوضاء والحركة الدبيبة الدائمة والضجيج المُهيمن على الأجواء، تغدو محاولة التحدث بصوت هادئ أو سماع ما يُقال خلال التجوال مُجرد فكرة عديمة الجدوى، بل بالأحرى نوعاً من العبث الذي لا طائل منه، حتى عند الشراء والسؤال عن الوزن والثمن أو عند المساومة لاقتناء حاجة ما، عندها يكون الصياح هو الحل الوحيد والأنجع ليفهمك المُقابل بما تبتغي.
أما الأحياء القديمة والمناطق الشعبية التراثية في الجانب الأيمن من مدينة الموصل، بأزقتها الضيّقة التي تتوسطها سواقي تصريف مياه الأمطار، حيث يطيب ويحلو التجوال بينها لجمالية روحها وأريحية سكانها، فكانت كحال شبيهاتها في عُموم مدن العراق الأخرى تعكس الواقع الحقيقي للناس من بساطة الحياة وفاقة في العيش، إذ تنعدم فيها معظم خدمات السكان الضرورية، من مَجاري الصرف الصحي وماء نظيف، لكن ما كان يُجمّلها ويبعث فيها الحياة وشيئاً من نفحات الأمل رغم واقع أهلها المُتعَب، هو منظر الأطفال الصغار بملابسهم الرَثّة البالية وهم يتقافزون ويلعبون كالعصافير بين جنباتها، بألعابهم الجميلة البريئة، التي غالباً ما يَصنعون أدواتها من مواد بسيطة للغاية، كصناديق الكارتون المُمزقة والعلب المعدنية والقناني البلاستيكية المستهلكة، وأي شيء آخر يغدو خارج إطار الفائدة في البيت أو الشارع، وبعضاً منهم حين يَرى أناس يَمرون بالزقاق بالقرب منهم، يبدئون بأصواتهم الطفولية الرَخيمة بترديد أحدى الأغاني الموصلية التراثية أو أية أغنية أخرى تكون شائعة حينها، في محاولة لإبراز انفسهم أو للفت الانتباه إليهم، غير عابئين بحرارة الجو القاسية وأشعة الشمس اللاهبة صيفاً، حيث أن وجودهم تحت رحمتها أهون عليهم بكثير من الحَشر داخل بيوت صغيرة مُكتظة بالقاطنين، لا تزيد مساحتها على السبعين أو الثمانين متر، مُشيّدة بالحَجر أو الطابوق الاسمنتي (البلوك)، يكون فيها التيار الكهربائي مقطوعاً.
وكانت هذه الأحياء العتيقة المتهالكة تحمل بين ثناياها صورة التاريخ بدون تزييف أو تزويق، ما كان يُميّزها ويَمنحها روحاَ ورمزية بالغة للتماسك بين أطياف المجتمع العراقي، هو وجود المساجد قريبة تماماً من الكنائس، والتي كانت من أبرزها وأكثرها قدماً، كنيسة "مار توما" للسريان الآرثودكس التي تُعتبر أقدم كنيسة في الموصل حيث بات من المؤكد أنها كانت عامرة منذ القرن السادس الميلادي، وكنيسة " القدّيسة مسنتة" التي تعود بداياتها الى القرن الثالث عشر، وكنيسة "الطاهرة" للسريان الكاثوليك المُشيّدة أواسط القرن السابع عشر، وأيضاً كنيسة "اللاتين" أو كنيسة "الآباء الدومنيكان" المعروفة شعبياً بـ"كنيسة الساعة" التي شُيّدت خلال القرن التاسع عشر، أما المساجد فكان أقدمها "الجامع الأموي" الذي تعود بداياته الى القرن السابع الميلادي، و"الجامع النوري" بمئذنته الحدباء الشاهقة المُشيد في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي، و"جامع النبي جرجيس" العائد الى القرن الثالث عشر الميلادي، و"جامع النبي شيت" الذي يعود الى القرن السابع عشر الميلادي، وما كان يُميّز هذه الأحياء أيضاً إضافة الى نظافة أزقتها رغم قِدمها، هي واجهات بيوتها المُشيّدة بالحجارة وأسكفات نوافذها وعَتبات أبوابها المَبنية بالمَرمَر الأخضر أو الرمادي المُعّرَق، والذي جُلب معظمه من أطلال المدن القديمة، لذلك ليس بمُستغرب أن تجد بعض تلك الأحجار منقوش عليها علامات مسمارية أو سطور لكتابات عربية أو آرامية قديمة، مكتوبة بخطوط وأشكال مختلفة.
ويقتضي التنويه هنا الى ذِكر واحدة من أعرق مَحَلات مدينة الموصل القديمة، ألا وهي "مَحَلة اليهود"، التي تقع عند الجانب الشمالي الغربي منها، وكانت تحوي العديد من الدكاكين التجارية إضافة الى معبدين أو "كنيسين" دينين، يُدعى الواحد منهما "بيت هاكنسيت"، لاتزال أطلالهما المُهَدمة باقية، يُمكن التعرّف عليهما من خلال الكتابات العبرية المنقوشة على أسكفات أبوابها الحجرية، كما بُنيّت في هذه المَحلة أحدى أقدم مدارس الموصل عُرفت آنذاك بـ"مدرسة "ريما خَضوري" أسسّها "إليعازر خَضوري" إكراما لوالدته، وقد ظلت المَحلة مَسكونة بأهلها الأصليين المُتعايشين بسلام مع باقي سكان المدينة حتى خمسينات القرن العشرين، حيث هَجرها قاطنوها مُرتحلين الى إسرائيل، حينها أبدل أسم المَحلة وباتت تُعرف بـ"مَحَلة الأحمدية".
كما يُعّد البيت التراثي الموصلي أحد مُميّزات مدينة أم الربيعين وأحد موروثاتها الجميلة، حيث كان خليطاً من عدة عناصر معمارية شرقية مختلفة، منها عراقية الجذور الى تركية وفارسية، بالإضافة الى تأثيرات أخرى قادمة من بلاد الشام، تَم مَزجها وفق أسلوب مُتناسق أنتج نموذجاً بنائياً جديداً، أملته مُقتضيات البيئة الموصلية السائدة خلال الحِقب السابقة، ليتم اعتماده بين سكان المدينة كونه يُلبي حاجتهم الاجتماعية والاقتصادية والمَناخية، مع استخدام المواد البنائية الإنشائية المُتوفرة في المنطقة الشمالية من العراق في عملية البناء مُتمثلة بالحَجر والجص، وتتصدر هذه العناصر المعمارية المُنفذة في تصميم البناء، الساحة أو الفناء المكشوف الذي يتوسط البيت تُحيط به مرافقه المختلفة، ثم الأواوين المُتناظرة المُطلة على الفناء، وأيضاً وجود السراديب وشُرفات الطابق العلوي المُميّزة، بالإضافة الى اعتماد شكل العقود الدائرية والمُدببة في تنفيذ أعالي النوافذ والأبواب، وكذلك الأعمدة المضّلعة ذات القواعد والتيجان المربعة في عملية الإسناد.
عليه فقد تم تَشييد البيت الموصلي التراثي التقليدي بشكل عام بطابقين وفق هيئة فخمة ذات تخطيط مربع أو مستطيل، له باب صغيرة بـ"سفاقة" واحدة أو "سفاقتين" لا يتناسب حجمها في الغالب مع ضخامة البناء، حيث لا تتسع لمرور أكثر من شخصين، تُصنع من عدة ألواح من الخشب الثقيل يتم تزيينها بمسامير حديدية على شكل زُخرفي جميل، تعلوها أسكفة عريضة من الحَجر أو المَرمَر، تكتب عليها آيات قرآنية أو زخارف ورُموز هندسية ونباتية، كما يتم أسناد جانبيها بدعامتين من الحجر أو المَرمَر أيضاً، ويؤدي المدخل الى رواق ضيق ينفذ الى فناء البيت، الذي تُحيطه حُجرات وغرف البيت ومَرافقه الخدمية الأخرى مُطلة بأبوابها عليه، ليغدو مَركزاً ومحوراً وفضاءً لحركة العائلة ضمنه، حيث أنه يَحوي مُعظم العناصر الأساسية التي تحتاجها في حياتها اليومية، وأحياناً يُجمّل الفناء بزراعة حديقة صغيرة في وَسطه تحوي بعض الشُجيرات والنبات المُزهرّة، أو أن يتم تزيينه بأصص الأوراد التي يتم توزيعها بين جوانبه بشكلٍ جَذاب جميل كي تمنحه نَفحة من الحياة والجمال، كما وتطل علي الفناء الذي يتم تبليط أرضيته بالحجر أو المَرمر عدد من الأواوين المختلفة السِعة والارتفاع تَبعاً لحجم وتصميم البيت، والتي كانت تُخصّص لمَعيشة سُكان المنزل وجلساتهم العائلية فيها خاصة خلال أيام الربيع والصيف، كما كانت تستخدم كأماكن لإنجاز الاعمال المنزلية المُميّزة من قبل نسوة البيت التي تحتاج الى تعاون وعمل مُشترك، مثل إعداد أطعمة الأعياد والمناسبات والحفلات الخاصة، أو خَبز الفطائر أو حَشي "البسطرمة" وتخزين وتتبيل "القليّة" أو كبس المُخلل "الطرشي".
أما من الداخل فيَنقسم البيت الى قسمين يَفصلهما جدار له باب صغير، أحدهما تُخصص حُجراته لاستقبال الضيوف والزوار، يُطلق عليه الموصليون تسمية تركية القديمة هي "السَلاملك" أو "الديوان خانة"، أما قسمه الآخر وهو الأكبر، فيتم تخصيصه لأفراد العائلة سُميَّ بالتركية أيضاً "الحَرملك"، أي مكان اقامة أفراد العائلة، ويَضّم عدداً من الحُجرات المُختلفة القياس والتصميم تطل على فناء البيت بعدد من الشبابيك لغرض الإنارة والتهوية، والتي تكون ذات أطر خشبية تُجمّل بالزجاج الملون، وتُدعّم للحماية بأسياخ حديدية مُتشابكة، وتحتوي جدران الحُجرات من الداخل عدداً من المِشكاوات المُستخدمة لوضع قناديل ومَسارج الإنارة والاحتياجات الأخرى مثل الكتب ولوازم التعبّد والصلاة، بالمقابل تكون غرف الطابق العلوي أكثر سِعة في الغالب من حُجرات الطابق الأرضي، وتطل من جانبها الخارجي على زقاق الحَي بشبابيك مستطيلة الشكل ذات عقود دائرية أو مدببة معمولة أطرها من الخشب، تُدّعم لغرض الحماية بكتائب حديدية مزخرفة بشكل فني جميل، أما نحو الداخل فَتطل على فناء المنزل بشرفةٍ واسعةٍ تُعد أجمل ما في تصميم البيت الموصلي، تُعرف بتَسمية تركية الأصل هي "يازلغ"، والتي تكون مَحمولة على أعمدة مربعة الشكل من الحجر أو المَرمَر، تنقش قواعدها وتيجانها بزخارف هندسية ونباتية جميلة.
كما يحتوى البيت أيضاً على سرداب كبير يُستخدم لحفظ مَؤونة العائلة ومَخزونها، يرتكز سقفه على عقود نصف دائرية تقوم على دعامات قليلة الارتفاع مربعة الشكلـ تُبنى بالحجر أو تُنحت من قطع ضخمة من المَرمر، ومن الجدير بالذكر أن بَنائي مدينة الموصل كانوا يَطلقون تَسميات مَحليّة طريفة على أساليب عِقادة السُقوف، حيث تُسمى عِقادة الحُجرة أو الغرفة المستطيلة التخطيط بـ"المَهد"، كونها تُشابه غطاء مَهد الطفل الرَضيع، أما إذا كانت بتخطيط مربع فتُسمى عِقادتها بـ"عَرقجين" تَشبهاً بطاقية الرأس الشعبية الشهيرة، التي كان يَعتمرها الرجال في عُموم مدن العراق ومنها أم الربيعين.
ومن أمثلة البيوت التراثية الموصلية "بيت مصطفى التوتونجي" الذي يقع في المدينة القديمة والمُشيد سنة 1817، و"بيت نعمان جلبي الدبّاغ" المُشيد في المدينة القديمة أيضاَ عند مطلع القرن العشرين، وكذلك بيت "الفخري" الذي بَناه "توفيق أفندي الفخري" أحد وجهاء مدينة الموصل عام 1913، عند ضفة نهر دجلة بالقرب من مستشفى المدينة العام، وقد أشتهر هذا البيت بشكل خاص رغم تَهدّم معظم أجزائه، كون بعض مشاهد الفلم الأمريكي الشهير "طارد الأرواح الشريرة" والمعروف لدى المُشاهدين العرب باسم "التعويذة"، قد تم تصويرها في هذا البيت، بالإضافة الى مشاهد أخرى منه كان قد تم تصويرها في مناطق أخرى من محافظة نينوى مثل مدينة "الحَضر" التاريخية وبعض أحياء وأزقة مدينة سنجار، علماً أن هذا الفلم المُنتج عام 1973 لمؤلفه "وليم بيتر بلاتي" ومخرجه "وليم فريدكين" قد تم تَرشيحه لنيل جائزة الأوسكار السينمائية حينها.
ولعل أكثر ما مَيّز مدينة الموصل بين مدن العراق الأخرى إضافة الى أصالتها وعراقتها، هي تلك اللهجة المُميّزة التي يتبادل بها أهلها أطراف الحديث، والتي أصبحت مدار تَندر وطرافة بين عموم العراقيين، بعد أن يُحوَّر الموصليون مفرداتها أو يُغيرون في ترتيب حروف كلماتها بشكل أو بآخر لتبدو لمُتلقيها كأنها كلمة جديدة.
ولعل أكثرها تداولاً وشيوعاً هي حين تُقلب "الراء" الى "غين" مثل.. (راح ~ غاح) و(رَماد ~ غَماد)، أو عند أبدال "الذال" بـ"الضاد" كالقول.. (يذوق ~ يضوق) و(ذرة ~ ضغة)، و"السين" بـ"الصاد" مثل.. (جَرس ~ جَغص) و(عَروس ~ عَغوص)، وأيضاً عند إضافة "الواو" و"الياء" الى جذر بعض من الكلمات كما في.. (أبي ~ أبويي) و(أخي ~ أخويي)، وفي حالات أخرى يتم قلب وتقديم وتأخير بعض الحروف كما في.. (مَلعقة ~ مَعلقة) و(أعطي ~ أطعي) و(حَدّق ~ دَحّق) و(لعنة ~ نعلة)، وغيرها الكثير من هذه المفردات التي بالتأكيد تبدو غريبة لمن يزور الموصل لأول مرة أو يَمّر بها مروراً عابراً، بالإضافة الى ذلك فأن اللهجة الموصلية تكتنز كلمات كثيرة يُرددها الموصليون خلال تفاهمات حياتهم، بعضها عراقية الأصل وأخريات أما مُقتبسة من الفارسية أو من موروثات الفترة العثمانية، وما أن يَتيسر للمَرء المَشي بين أزقة الموصل وشوارعها أو الجلوس في مقاهيها ومَطاعمها، حتى تتلقف أذناه تلك المفردات وهي آخذة بالطيران من هذا الجانب الى ذاك، لدرجة أنه يحتاج الى تركيز كبير ليتدارك عقله معانيها.
وللطرافة وإتماماً الفائدة لابد من ذكر بعضاً من هذه الكلمات، مثل...
(مَربيج ~ انوب الماء المطاطي أو "الصوندة")، (عَجايا ~ أطفال صغار ومفردها عَجي)، (زرزاوات ~ خضروات)، (مَيوة ~ فاكهة)، (أحشل ~ أرمي)، (بَيج ~ شخص لقيط)، (ونّاسي ~ شاهد القبر)، (حواس ~ ملابس)، (مَحفوغة ~ سجادة)، (بَلول ~ زجاج)، (كجَل ~ شخص أصلع)، (شَمزي ~ الرَقي أو البَطيخ الأحمر)، ومنه القول.. (شَمزي شَغط ) أي (رَقي على السكين)، (شَكاخة ~ شوكة الطعام)، (قوجة ~ نكتة)، (عَقوقة ~ ضفدعة)، (فرنجي ~ طماطة)، (قوغة ~ ضوضاء)، (كَزدغان ~ بَخشيش أو اكرامية)، (قويجة ~ زُرار)، (دوشمي ~ منشفة)، (جَقمق ~ قداحة)، (مجعمَص ~ قبيح الشكل)، (زابوقاي ~ طرف الزقاق أو نهايته)، (فرو ~ أحول العين)، (ينغشق ~ ينسكب)، (حَزيط ~ شخص مسكين ومغلوب على أمره)، وتقال عادة للزوج ضعيف الشخصية، (أتكندغ ~ تدحرج)، (دست ~ قِدر الطعام)، ومن هاتين الكلمتين يُقال المثل الشائع.. (أتكندغ الدست ولقالو قبغ)، أي (تَدحرج القِدر ووجد له غطاءً)، (يشنضغ ~ يؤذي الى حدٍ بعيد)، ومنه القول.. (مَغتي مَغمغتني وشَنضغتني)، أي (زوجتي مَرمرتني وأزعجتني الى أبعد حد)، أو القول بالعكس كي لا تَعتب النسوة.. (غَجلي مَغمغني وشَنضغني)، أي (زوجي مَرمرني وأزعجني الى أبعد حد)، (غَماد ~ رَماد/تُراب)، ومنه القول للتقريع.. (غَماد على غاسك وغاس أبوك)، أي (رَماد/تُراب على رأسك ورأس أبيك).
وكما في جميع مناطق عراقنا الحبيب، كان لأهل الموصل أمثالهم الخاصة النابعة من واقع حياتهم وتقاليدهم المُتوارثة، والتي تَتضمن حِكماً ونصائح دَوّنها الأسلاف من أجل إصلاح الناس والمجتمع، ومن هذه الأمثال نذكر بعضها بلهجتها الموصلية وما ترمز اليه...
_ (لا أبو الكثيغ مَلك ولا أبو القليل هَلك)... دلالة على وجوب القناعة بالحياة.
_ (يقعد بالسفيني ويقلع عين المَلاّح)... دلالة على وَقاحة وصَلافة الذين ينكرون لمن أحسن إليهم.
_ (البَزوني من أستعجالا تجيب أولادا عميين)... دلالة على وجوب التأني في إداء العمل وعَدم العَجلة فيه، وإلا فأنه لن يتم بصورة صحيحة.
_ (مَكَدي وبيدو بيضة)... دلالة على الذي يَغتني بسرعة فلا يُساعد أحداً، حيث أنه يَنسى ما كان عليه حاله سابقاً.
_ (إشتاكل العَنزي أيطلعو الدبّاغ)... دلالة على أن فِعل السوء لابد وراءه من حِساب وإن طال الزمن.
_ (إم البيت ماهينة صار البيت للطينة)... دلالة على الأمور التي لا يتولاها صاحبها بنفسه تؤول الى الفوضى، كحال البيت إن غابت عنه صاحبته وربته.
_ (أكلو علجيغان وضغاطو علحيطان)... دلالة على من كان عاطلاً بلا عمل وغدى عالة على غيره.
_ (السَبع لو غاب عِلي صوت الويوي)... دلالة على تجبّر الجبناء وعَبثهم بالأمور عند غياب الشجعان.
_ (بنت القغَج ما تصيغ خاتون)... دلالة على أن المرأة السيئة والوقحة (سليلة الغجر) لا يمكن أن تصبح من فتيات العوائل المحترمة مهما تفعل، حتى وأن تزوجت من شخص مَرموق في المجتمع.
_ (شفتوها بَيضا ولمّاعة طلعت خرقة وطقاعة)... دلالة على من عُلّق عليه أمل كبير فخاب الظن فيه.

المصادر:

_ أحمد علي الصوفي ... تاريخ بلدية الموصل/ الجزء الأول ... الموصل 1970
_ أزهر العبيدي ... الموصل أيام زمان ... الموصل 1989
_ سعيد الديوجي ... الموصل أم الربيعين ... بغداد 1965
_ سعيد الديوجي ... جوامع الموصل في مختلف العصور ... بغداد 1963
_ سعيد الديوجي ... بحث في تراث الموصل ... بغداد 1982
_ سمير بشير حديد ... الموصل قبل نصف قرن ... بيروت 2012
_ طه باقر ، فؤاد سفر ... المُرشد الى مواطن الأثار والحضارة/ الرحلة الثالثة ... بغداد 1966
_ محمد رؤوف الغلامي ... المُرَدد في الأمثال العامية الموصلية ... بغداد 1964



#حامد_خيري_الحيدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الأول
- مدينة الحَضر التاريخية .. متحف وسط الصحراء
- بناية القشلة وصور من ذكريات بغداد
- إلمامة بتاريخ المؤسسة الآثارية العراقية
- إشارة تاريخية إلى الزَلازل في شَمال العراق
- التنقيب الأثري ... مهنة المَتاعب والمَشاق والمَهارات المُتعد ...
- مدخل الى علم الآثار
- مناضلٌ من ذاك الزمان ... سيرة حياة المناضل الشيوعي الراحل خي ...
- البيت العراقي القديم ... القسم الثاني
- البيت العراقي القديم ... القسم الأول
- أهم المدن التاريخية والمواقع الأثرية في وادي الرافدين ... ال ...
- أهم المدن التاريخية والمواقع الأثرية في وادي الرافدين ... ال ...
- المعتقدات الدينية والمجتمع العراقي القديم ... القسم الثاني
- المعتقدات الدينية والمجتمع العراقي القديم ... القسم الأول
- هل قُتِل فؤاد سَفر؟
- ملاحظة على موضوع بلاد ما بين النهرين أزلية الوجود
- بلاد ما بين النهرين أزلية الوجود
- لأجلِ عُيونكم ... مهداة لشهدء انتفاضة تشرين الباسلة
- سَيبقى حُلمك يا وَطني
- دراسة تحليلية لرمزية الإناء النذري المكتشف في مدينة الوركاء


المزيد.....




- بعدما حوصر في بحيرة لأسابيع.. حوت قاتل يشق طريقه إلى المحيط ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر مشاهد لأعمال إنشاء الرصيف البحري في قط ...
- محمد صلاح بعد المشادة اللفظية مع كلوب: -إذا تحدثت سوف تشتعل ...
- طلاب جامعة كولومبيا يتحدّون إدارتهم مدفوعين بتاريخ حافل من ا ...
- روسيا تعترض سرب مسيّرات وتنديد أوكراني بقصف أنابيب الغاز
- مظاهرات طلبة أميركا .. بداية تحول النظر إلى إسرائيل
- سائق يلتقط مشهدًا مخيفًا لإعصار مدمر يتحرك بالقرب منه بأمريك ...
- شاب يبلغ من العمر 18 عامًا يحاول أن يصبح أصغر شخص يطير حول ا ...
- مصر.. أحمد موسى يكشف تفاصيل بمخطط اغتياله ومحاكمة متهمين.. و ...
- خبير يوضح سبب سحب الجيش الأوكراني دبابات أبرامز من خط المواج ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حامد خيري الحيدر - أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثاني