أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجيب علي العطّار - دِيكتاتورِيَّةُ البُؤس















المزيد.....

دِيكتاتورِيَّةُ البُؤس


نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)


الحوار المتمدن-العدد: 7573 - 2023 / 4 / 6 - 12:26
المحور: الادب والفن
    


هُنا ديكتاتوريَّةُ البُؤسِ.. هُنا لُبنان.. كان ذلكَ الخميسُ يومًا عاديًّا.. يومًا بائسًّا كعادةِ الأيّامِ التي يُقلّبُ مُعظمُ «اللُّبنانيين» صورَها في روزناماتِهمُ الذِّهنيَّةِ إذا جازَ التَّعبير.. وحتّى لا يُفهمَ منَ الجُملةِ الأخيرةِ أنّنا شعبٌ يُقدِّرُ الوقتَ حقَّ قَدْرِه، لا بُدُّ من إستدراكٍ يَنفي عنّا هذه التُّهمةَ إذ أنَّنا، نحنُ اللُّبنانيين، لم نفقِدْ بعدُ كُلَّ الذي يجمعُنا و«إخوَتَنا» من العَرَبِ، أو المُستعرِبينَ على وجه الدِّقّة...

على أيَّةِ حال، كان نهارُ الخميسِ ذاكَ يومًا لُبنانيًّا منذ ثلاثِ سنواتِ.. وكان على جدوَلِ أعمالي، الذي أحملُه في ذِهني، بعضُ المُشاكساتِ السياسيّةِ التي لا جرمَ أنّها ستذهبُ برأسي ذاتَ يوم.. قرّرتُ أن أذهبَ إلى مَسرِحِ جريمتي راكبًا في «فانٍ» لأسبابٍ لوجستيَّة.. الـ «فانُ» اصطلاحًا هو الحافلة التي تقلُّ الرُّكّاب.. أمّا في جُمهوريّةِ «الضّاحيةِ الجنوبيّةِ لِبيروت» فهو يتعدّى كَونَه آليّةً لنقلِ الرُّكّاب.. إنّه مَعلَمٌ ثقافيٌّ مُتَنَقِّل.. وهو وسيلةُ التَّنقُّل الوحيدة للبروليتاريا المسحوقة بلُغةِ إخوانِنا الشُّيوعيين.. أمّا «التّاكسي»، أي السيّارة، فهيَ للأرستقراطيين من مواطِني «الضَّاحية»...

كُنتُ أنتظرُ أحدَ الـ «فاناتِ» على طَرَفِ الطَّريق.. وقد اعتدتُ أنْ أجلسَ على المِقعَدِ الأماميِّ بجانب «الشُّوفير» تفادِيًّا لتجربةِ أيَّةِ قصّةٍ من القِصصِ الشَّعبيَّةِ التي تُروى عن «فانات الضَّاحية»؛ كأنْ يُزعجَكَ أحدُ الرُّكّابِ بدُخانِ سيجارتِه.. أو بصوتِه المُستفِزِّ وهو يأكُل.. أو بالكيفيَّةِ التي يُمارسُ فيها عادةَ البَصْقِ منَ النَّافذة.. أو ما إلى ذلكَ من تفاصيلِ الإنسانِ العاديَّةِ في «الضَّاحيةِ» وفي غيرِها.. ورغمَ أنَّ عادةَ الجلوسِ بجانبِ السّائقِ تُكلّفُني الكثيرَ منَ الإنتظارِ أحيانًا، إلّا أنّها كانتِ الأكثرَ تَناسُبًا مع مِزاجي الحادِّ بعضَ الشَّيء.. يا لَشعوري ببُطئ مرورِ الزَّمنِ إذا كُنتُ على عجلةٍ من أمري وكان «الشُّوفيرُ» ثرثارًا أو «اجتماعيًّا أكثرَ من اللّازم» أو إذا كان يستمعُ للأغاني «المْرِتِّة» بصوتٍ عالٍ كحالِ مُعظمِ السَّائقينَ الشَّباب.. في حالةٍ كهذه يُمكنُ لإنسانٍ مِزاجيٍّ مِثلي أنْ يُفكّرَ في ارتكابِ أبشعِ أنواعِ القَتلِ دِفاعًا عن «النفسيّةِ».. لذلكَ كُنتُ أنتقي الـ «فاناتِ» كما لو أنِّي أنتقي شريكةَ حياةٍ أبديَّةٍ.. ولا خوفَ عليَّ من عدمِ التوفيق إذ أنّ «فاناتِ الضّاحيةِ» وحدَها تكفي لنقلِ كُلِّ العَربِ دُفعةً واحدةً إلى المِرِّيخ.. ففرصةُ مُصادفةِ الـ «فان» الذي يُعجبُ مِزاجي تساوي مئةً في المئة، أو تِسعًا وأربعينَ في المئة بحسَبِ رياضيّاتِ «الضَّاحية»...

من حُسنِ حظِّي، وأنا المُتأخّرُ بعضَ الشَّيءِ عن موعدِ انطلاقي المُفتَرَض، كانَ أوَّلُ «فانٍ» إلتقيتُه مُطابقًا لمواصفاتِ وِزارةِ المِزاجِ في جمهوريّةِ الـ «أنا».. ركبتُ بجانبِ السَّائق.. لم أكنْ أنظرُ إلى أيِّ سائقٍ أركَبُ معه إلّا حين أسألُه إذا ما كانتْ وِجهتُنا واحدة..فإن كانتْ أجلسْ بجانبه وأراقبِ الطَّريقَ والماشِينَ عليه.. وهكذا كان مع هذا السَّائق.. وحتّى لا أبقى أذكُرُه بعبارةِ «هذا السَّائقِ»، أو ما يُعادلُها، سأُسمِّيه «الحاجّ علي» وأُناديه بالـ «حاجّ» على وجهِ الإختصار؛ فأمّا كلمةُ «حاجّ» فهي كلمةُ نِداءٍ عندَ الكثيرين من مواطِني «الضَّاحية»، وأمّا اسمُ «علي» فهو الإسمُ الأوّلُ الذي يتبادرُ بصورةٍ فِطريّةٍ إلى ذِهنِكَ إذا أردتَ أن تفترضَ اسمًا لغريبٍ ما في هذه الجُمهوريَّة.. ورغمَ أنّي أمقتُ التنميطَ مقتًّا عظيمًا إلّا أنّي لا أجدُ حَرجًا كبيرًا في استعمالِه لأغراضٍ أدبيّةٍ من جِهة، ولعُموميَّةِ الصُّورةِ من جهةٍ أُخرى...

قدَّرتُ عُمرَ «الحاجّ» بخمسينَ سنةٍ تزيدُ ثلاثًا أو أربعًا لكن لا تنقصُ عنِ الخمسين.. وكعادتي لم أتفحَّصْهُ لكنِّي انتبهتُ إلى يديهِ ترتجفانِ بِشِدَّةٍ وهو يضعُهما على المِقوَد.. لا أُخفي حقيقةَ أنّني شَعرْتُ ببعضِ الخَوفِ من أنْ نصطدمَ بشيءٍ ما إن لم يستطعِ السيطرةَ على الـ «فان» إذا خرجَتْ له من عالَمِ الغَيبِ إحدى الدرَّاجاتِ النَّاريَّةِ التي أصبحتْ هي الأُخرى مَعلَمًا ثقافيًّا أكثرَ دلالةً منَ الـ «فانِ» على انتماءِ راكبِها إلى «الضَّاحية».. كان الـ «فانُ» يرتجفُ أيضًا.. تمامًا كَيَدِ «الحاجّ علي».. كان الـ «فانُ» هَرِمًا كصاحبِه تمامًا.. شعرْتُ للحظةٍ، أو اثنتَيْن، أنّ بينَهما عِلاقةٌ أكبرُ من عِلاقةِ سائقٍ بآليَّتِه.. والواقعُ أنَّ الأمرَ كذلك بالنسبةِ لمُعظم سائقي الـ «فانات» والـ «تكاسي»، وكِبارِ السِّنِّ منهم على وجهِ الخُصوص.. قد يكونُ «الحاجُّ» مُجرّدَ سائقٍ بالنِّسبةِ للـ «فان».. لكنّ الـ «فانَ» ليس مُجرّدَ آليّةٍ بالنِّسبةِ للـ «حاجّ».. الـ «فانُ» ليس «فانًا».. إنّه رَغيفُ الخُبزِ وحبَّةُ الدَّواء.. إنّه أُجرةُ الطَّبيب.. وبَدَلُ إيجارُ البيت.. ورسمُ تسجيلِ الأولاد في المدرسة.. الرَّسميَّةِ طبعًا.. وهو فاتورةُ كهرباءِ مولّداتِ «الإشتراك».. وثمنُ كيلوغرامٍ أو اثنَيْنِ منَ المَوزِ أو اللَّيمونِ المخصَّصِ لزيارةِ مريضٍ منَ الأقارب.. وثمنُ الشَّاي والقَهوةِ للضُّيوف.. وثمنُ السَّجائرِ للـ «حاجّ علي».. والأكثرُ سُرياليّةً في المشهديَّةِ هي أنّ الـ «فانَ» يُعيلُ صاحبَه تمامًا كما يُعيلُ نفسَه.. فهو ثمنُ البنزين وقِطَعِ الغِيارِ أيضًا.. أجل! إنّ هذا الـ «فان» هو الذي يُبقي وجهَ الـ «حاجّ» رطِبًا.. هو ماءُ الوجهِ.. والكرامةُ الباقيةُ لسائقِه في هذا الجحيمِ الذي يُسمَّى «وَطَنًا».. هو الحِيلةُ الأخيرةُ في يدِ «الحاجّ» للإبقاء على إنسانيّتِه الهاربةِ من بين يديه ومن خلفِه.. هو الحِجابُ الوحيدُ الذي تتوارى خلفَه عورةُ الإنتماء لهذه المِزبلَة التي تُسمَّى «لُبنان»...

كانتْ هذه الأفكارُ تُقيمُ حفلةَ غضبٍ على إيقاعِ اللّعنِ والشَّتمِ في رأسي.. ألعنُ حُكّامَ هذه البُقعةِ البائسةِ منَ الأرض.. ألعنُهم كُلُّهم.. كأنِّي أسمعُ صوتَ الله الغاضِبِ يُنادي من الأرضِ والسَّماء؛ «لِمثلِ هذا فلْيغضَبِ الغاضِبون.. ولِمثلِه فلْيتمرَّدِ المُتمرِّدون».. لو لم أسمعْ هذا منَ اللهِ لما وجدتُّهُ أهلًا لأنْ يُعبَدَ في هذهِ الأرض.. ولا في غيرِها...

حينَ وصَلْنا إلى إحدى تقاطُعاتِ الطُّرُقِ مَدَّ «الحاجّ» يدَه إلى «تابلو الفان» حيثُ يضعُ السائقون «غَلَّتَهم».. كنتُ أرى حركةَ يدِه بطرَفِ عينيَّ وأنا أنظرُ إلى الشَّارعِ وأحاولُ تَناسيَ تلكَ الأفكارِ البَشِعة والمؤذية.. أخرجَ شيئًا ما من الـ «تابلو» ومدَّه إليَّ.. للوهلةِ الأولى ظننْتُ أنَّه سيُضيِّفُني سيجارةً قبل أنْ يُشعلَ سيجارتَه.. كانَ يُدخِّنُ «سيدرز قديم».. لا أعتقدُ أنَّه يُدخِّنُها لسِعرِها الرَّخيصِ نِسبيًا إذ يوجَدُ ما هو أرخصُ منها.. ولا لأنّه يُريدُ دعمَ صِناعةِ الدُّخانِ المَحليَّةِ، أو الوطنيَّةِ بعبارةٍ مُبتذلَة.. فهو حتمًا يكفُرُ بهذا البَلَد.. وبربِّ هذا البَلَد.. وبوالِدٍ وما وَلَد.. يكفرُ بكُلِّ شيءٍ أمامَ هذا الإنكشافِ المُرعبِ لإنسانيَّتِه على كُلِّ ما يُمزِّقُها.. وطنُه هو هذا الـ «فانُ» الذي يحضِنُ إنسانيَّتَه المُرقَّعة.. ظننْتُ أنّه أخرجَ عُلبةَ سجائرٍ رغمَ أنّي كُنتُ قد رأيتُ عُلبةَ سجائرِه في مكانٍ غيرِ الذي جلبَ منه ذلكَ الشَّيء.. كانتْ حالتُه تَذهَبُ بالعقلِ أكثرَ ممَّا تفعلُه الخَمرةُ بعقولِ السُّكارى.. نظرتُ إلى يدِه المُرتجفةِ فرأيتُها تَحملُ وَصفةً طُبِّيَّة.. وقبلَ أنْ أسألَه عن مُرادِه الذي باتَ معروفًا بالتَّجرِبةِ عندَ كُلِّ اللُّبنانيين، بادرَني بكلماتٍ جعلَتِ الإنتماءَ إلى هذا البلدِ جريمةً بحقِّ الإنسانيّة.. «حَقْ دَوَا إذا بِتْسَاعِدْنِي».. كان يقولُها وهو يُحاول قدرَ ما تسمحُ له قُوَّتُه مَنعَ دموعِه من الهِجرةِ الشَّرعِيَّةِ إلى خدّيْه.. لكن لا قُوّةَ تمنعُ دموعًا في حضرةِ البُؤس.. لعلَّ قلبَه أَمَرَ بالبُكاء.. وعقلُه أمرَ بمنعِه.. وفي حضرةِ هكذا صِراعٍ ينتصرُ القلبُ انتصارًا أشدُّ قسوةً من الهزيمة.. لقد بكى...

مددتُ يدي إلى جَيبي وأخرجتُ ما فيها من «فْراطَة» ووضعتُها في يدِه التي زادتْ رجفتُها بصورةٍ أقربُ إلى المَرَضِ منها إلى الإنكسار.. أخذَ النُّقودَ منِّي وقالَ جُملةً أصابتْ قلبي بنوبةٍ من الإرتجافِ والغَضب.. عبارةً لو أنّها وُزِنَتْ بانطباعي تِجاهَ كُلِّ بؤساءِ الأرضِ لَوَزَنَتْهُ.. «لا يْكُونْ مَا مَعَكْ غَيْرْهُمْ.. إِذَا مَا مَعَكْ غَيْرْهُمْ خُذْهُمْ».. ما هذا؟ ما الذي جَرَى للتَّو؟ مِن أيِّ شيءٍ خُلقَ هذا الرَّجُل؟ قبلَ ثانيَتيْنِ فقط كان يطلبُ أن أُعطيه ظنًّا مِنه أنِّي أمْلِكُ مالًا وهو لا يملِك.. الآن يطلُبُ أن يُعطيني ظنًّا مِنه أنَّه صارَ يملِكُ مالًا وأنا صِرتُ لا أملِك.. أيَّةُ حالٍ من البُؤسِ نحنُ نعيشُها؟ أيُّ جحيمٍ هذا الذي تُعذَّبُ فيه الملائكةُ وتُنَعَّمُ فيه الشَّياطين؟ هل هو حقًّا سيَرُدُّ إليَّ نقودي لو أنِّي قبِلْتُ أن أسترِدَّها؟ نعم! سيفعلُ ذلك.. حين قالَ لي «إِذَا مَا مَعَكْ غَيْرْهُمْ خُذْهُمْ».. قالَها وهو يمدُّ النُّقودَ إليّ.. لو أنّه يُخفي في نفسِه غيرَ ذلك لأبقى يدَه مضمومةً إليه.. لُغةُ الجَسَدِ فضَّاحة.. خصوصًا إذا كانتْ منْ هؤلاءِ الصَّادِقين...

نظرتُ رَغمًا عنِّي إلى وجهِه؛ شيبتُه.. آثارُ التَّعبِ والإرهاقِ والبُؤسِ على خدَّيه وجبينِه.. عيناهُ الغائرتان النَّازفتان دَمعًا وألمًا.. أنفاسُه التي تختنقُ بالكلمات.. فكَّرتُ في الذي يتصارعُ في عقلِه.. الكِبرياءُ والحاجة.. التعفُّفُ والطَّلَب.. اليأسُ والأمل.. الأنا والعائلة.. الرغبةُ في الرَّحيلِ والعَجزُ عنه.. تساءَلتُ عنِ اللَّحظةِ التي قرَّرَ فيها أن يطلُبَ؛ هل فكَّر كثيرًا أم أنَّه قرَّرَ ألَّا يُفكَّر في الأمرِ أبدًا؟ هل شَعرَ بالإنكسارِ أم أنّه اعتادَ ذلك؟ وهل حقًّا يَعتادُ الإنسانُ الإنكسارَ في هذا العمر؟ هل وَضَعَ سيناريوهاتٍ ليُقنعَني بإعطائه أم قرَّرَ الإرتِجال؟ تابعَ حديثَه بينما أنا أُحاولُ طَردَ هذه الأسئلةَ من رأسي؛ «كُنْتْ إِشْتِرِي الدَّوَا بْخَمْسِيْنْ أَلْفْ.. صَارْ بْمَلْيُوْنَيْنْ».. كانتْ أنفاسُه تُوحي بأنَّه نَفْسٌ كَلَّفَها طواغيتُنا فوقَ طاقتِها.. قُلتُ له بعضَ الكَلماتِ التي تُقالُ في مثلِ هكذا مواقفَ لكنْ لا مَفرَّ منَ السُّكوتِ والانْصات.. فهُنا يَسْكُتُ كُلُّ شيء.. حتَّى الله.. يسكتُ خجلًا ويُنصتُ لآلامِ هذا القِدِّيس...

العبارةُ الأخيرةُ أعلاه كانتْ من حَديثِ الشَّيطان في رأسي.. ليسَ للهِ ذَنْبٌ في كُلِّ هذا.. نحنُ المَلعونون.. وحُكَّامُنا أوَّلُ مَلعوني هذا العالَم.. حين انتهى من حديثِه وراحَ يُحاولُ تهدئةَ روحِه الرَّاغبةِ في الرَّحيلِ من جَسدِه ومن هذا العالَمِ شَعرْتُ بحاجةٍ هائلةٍ إلى إخمادِ غضبيَ الدَّاخلي قليلًا.. كُنتُ أُريدُ أن أنزلَ منَ الـ «فان» بأقلِّ انفعالٍ ممكن.. لم أجِد في جُعبتي إلَّا عُلبةَ سجائري لتَعقِدَ مُعاهدةً نفسيَّةً وكيميائيَّة بيني وبين غضبي حتَّى يَهدأَ قليلًا.. كانَ هذا في شهرِ رمضان.. ورغمَ أنِّي ممَّن يَصومون إلَّا أنَّني ممَّن يُدخِّنون وهُم صِيامٌ أيضًا.. فالحمدُ لِذي الحَمْدِ أنَّي أُفْتِيْتُ بأنَّ التَّدخين رغمَ حُرمَتِه إلَّا أنَّه ليسَ طَعامًا ولا شرابًا.. رغمَ أنَّي أملِكُ فتوًى لا تحتاجُ في واقعِ الأمرِ إلى إفتاءٍ إلَّا أنِّي كُنتُ أتحاشى أنْ أُدخِّنَ أمامَ «المُجتمعِ» تفاديًا لأيِّ جِدالٍ «بيزنطيٍّ» ومِن بابِ احترامِ الأكثريَّةِ التي تُفتي، أو يُفتى لها، بأنَّ تَدخينَ السَّجائرِ منَ المُفطِرات.. كالأكلِ والشُّرب.. والواقعُ لو أنَّ تدخينَ السَّجائرِ منَ المُفطِراتِ لكانَ أقربَ إلى الجِنْسِ منه إلى الأكلِ والشُّرب.. على أيَّةِ حالٍ قرَّرْتُ أنْ أُدخِّن.. ليسَ لأنِّي أُريدُ الدُّخولَ في جِدالٍ «بيزنطيٍّ» مع أحدِ المُتطَفِّلينَ، وإنَّما لأنِّي أدركْتُ، بالتَّجرِبةِ الشَّخصيَّةِ، أنَّ مُجتمعًا كهذا المُجتمع الزِّفتْ لا يستحقُّ أنُ يُحترمَ إلى هذا الحدِّ.. بل هو ليسَ جديرًا بالحياة على هذه الأرض.. كحالِ البقيَّةِ من مُجتمعاتِ لبنانَ خارج «الضَّاحية».. وكحالِ أيِّ مُجتمعٍ فيه أمثالُ «الحاجّ عليّ» ثُمَّ يبقى خانعًا ساكتًا خائفًا من آلهةٍ خلقَها بيدَيْه وهو قادرٌ على تحطيمِها متى شاء.. مُجتمعٌ يُسمِّي مشهدًا كمشهدِ «الحاجّ» هذا «حالةً إنسانيّةً» هو مُجتمَعٌ مَريض.. حالةٌ إنسانيَّة؟! يا لَوقاحةِ التَّعبير.. هذه ليس حالةً إنسانيَّة.. هذا تجريدٌ للإنسان من إنسانيَّتِه.. هذا إجرامٌ بحقَّ الإنسانيَّةِ جَمعاء.. وتدنيسٌ لحُرمةِ الإنسان.. إنّها جُرمٌ بحقِّ الإنسانِ والله على حدٍّ سَواء...

نزلتُ من الـ «فان» وفي نفسي يقينٌ واحِد؛ الإنسانُ المِزاجيُّ مِثلي لا يُفكِّرُ في القَتلِ إذا لم يكُنِ الـ «فانُ» مُطابقًا لشروط مِزاجِه.. الإنسانُ يُفكِّرُ في القَتلِ حين يكون بائسًا أو في حضرةِ البُؤْس.. يُفكِّرُ في الإنتقامِ من «آلهةِ الأرضِ» لأجل كُلِّ البُؤساء المَنسيين في مِزبلَةِ لُبنانَ الصَّغير.. في ديكتاتوريَّةِ البُؤس...



#نجيب_علي_العطّار (هاشتاغ)       Najib_Ali_Al_Attar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مِفصليَّةُ الإعلان عن الإندماج النُّووي
- رَبيعُ تِهران
- مأساةُ الحِمار العَربيّ
- سيمفونيّة الإرهاب
- قَوْنَنَةُ الثقافة
- ظاهرةُ عدنان إبراهيم
- رسالةٌ الى الله
- مأزوميّة الخطاب الإسلامي
- الصراع على السلام
- خصامٌ مع الذاكرة
- الأزمةُ البيضاء
- التَّسميمُ بالأسماء
- كارثيّة الإختزال
- الهولوكوست الأسديّ
- تسقط دولة فلسطين
- الهولوكوست اللبناني


المزيد.....




- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...
- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة
- -كذب أبيض- المغربي يفوز بجائزة مالمو للسينما العربية
- الوثائقي المغربي -كذب أبيض- يتوج بجائزة مهرجان مالمو للسينما ...
- لا تشمل الآثار العربية.. المتاحف الفرنسية تبحث إعادة قطع أثر ...
- بوغدانوف للبرهان: -مجلس السيادة السوداني- هو السلطة الشرعية ...
- مارسيل خليفة في بيت الفلسفة.. أوبرا لـ-جدارية درويش-
- أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة
- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجيب علي العطّار - دِيكتاتورِيَّةُ البُؤس