أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - توماس برنابا - كتاب شمس الرجاء (4) --- الفصل الثاني --- القصة الثانية: رجاء الخُدام















المزيد.....

كتاب شمس الرجاء (4) --- الفصل الثاني --- القصة الثانية: رجاء الخُدام


توماس برنابا

الحوار المتمدن-العدد: 7553 - 2023 / 3 / 17 - 10:22
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


ترقد على سرير المرض أم مريضة، وهي هائمة واجمة.. بجانبها أصناف الفاكهة المختلفة أكثرها أصابها العطن، وعلب الزبادي.. فقد كانت تأكل ما استطاعت منها حينما ينتابها الجوع بين الوجبات الأساسية..

كان هذا في شهر إبريل في بداية فصل الربيع وكانت العصافير تبني أعشاشها مزقزقة في الشجرة المجاورة لحجرة نوم هذه الأم.. واستيقظت الأم من النوم وأخذت تنادي على عبير ابنتها:

- عبير، عبير، أين أنتِ؟
وقد كانت عبير في المطبخ تُعد الإفطار وردت على أمها:
- نعم يا أمي، إنني قادمة!

كانت عبير الابنة الصغرى لستة من الأبناء والبنات لهذه الأم المريضة التي تجاوز عمرها الثمانون عامًا..

- تعالِ يا عبير.. أين أختك نجاة؟
- يا أمي نجاة كانت عندك هنا أمس.. وأنتِ كنتِ نائمة وأطلتي في النوم، ولم أرِد أن أوقظك.
- هل حدث الأمر ثانيةً.. حالة الغيبوبة تلك التي تنتابني.. عمومًا كيف حال زوجها ياسر وأولادهما؛ جابر، ومُفيد، وهادي؟

- بخير، أنهم يسلمون عليكِ دائمًا يا أمي.
- ومُفيد هل يُذاكر جيدًا.. إنه في الصف الثالث من مرحلة الثانوية العامة هذا العام.. إياك أن يلعب ويهجر المذاكرة.. أريد له أن يصبح مهندسًا كبيرًا.

- بدعواتك يا أمي سيكون أحسن مهندس في أحسن شركة في البلد.

- وأختك هناء وبناتها الاثنتين.. كيف حالهم وكيف حال زوجها مراد؟

- بخير يا أمي.. كانوا هنا الشهر الماضي.. ومكثوا معكِ يومين، والآن هي بخير في بيتها.. وزوجها مُراد في أفضل حال وعمله عال العال.. وبناتها فرحة وبهجة كبرتا وأصبحنا في منتهى الجمال والرقة.. الآن فرحة عندها أربع سنوات وبهجة سنتين..

- ليعينها الله، ويفرح قلبها وقلبك أنتِ يا عبير.. ثم أجهشت في بكاء شديد..

- طيب يا أمي لماذا تبكي الآن؟ ماذا حدث؟

- أريد أن أراكِ عروسة يا عبير قبل أن أموت.. لم يتبقىَّ من العمر بقية..

وكانت عبير قد أصرت على رعاية أمها بعد زواج أخوانها الثلاثة وأختيها خاصة بعد موت أبيها منذ تسع سنوات..

لقد تخرجت في قسم علم النفس في كلية الأداب بتقدير جيد جدًا منذ عشر سنوات مضت.. وتولت رعاية أمها مع أختها هناء بعد أن أقعدتها أمراض الشيخوخة، إلى أن تزوجت هناء منذ خمسة أعوام.. وتُركت من الجميع لترعى أمها وحدها بجانب عملها المحدود الساعات بإحدى الجمعيات لتنمية وخدمة المجتمع المحلي في هذا الحي.. وكانت عبير تساعد في هذه الجمعية في تقديم خدمات لتقوية الفتيات في دروسهم المدرسية خاصة في مادتي اللغة العربية والدراسات الإجتماعية، بالإضافة إلى تدريبهم على حرفة ما، وبالطبع مع تقديم بعض الدروس الدينية والتثقيفية..

وكان راتبها متواضع.. لقد كانت في مقام المتطوعة لهذا العمل.. وقد رفضت بصورة قاطعة أن تعمل عمل أخر بدوام كامل حتى تتمكن من رعاية أمها المريضة.

رفضت إلى الآن ثلاث عرسان تقدموا لخطبتها.. وقد وصل عمرها الآن 32 عامًا.. ورفضت عرض إخوانها البنين بأن تتزوج، وأن توضع أمهم في دار مسنين.. ولكن عبير رفضت ذلك رفضًا باتًا، وأصرت أن تراعي أمها في بيتها بنفسها طوال عمرها ..

وقد أطال الله في عمر أمها.. إلى أن تخطت الثمانين.. وتجاوزت هي حاجز الثلاثين الرهيب بعامين..

- هل تفتكري يا أمي أن أتركك بمفردك.. هل يمكن أن يهون ذلك عليَّ.. هل يمكن أن أعيش في هناء في بيتي، وأنتِ مريضة هنا بمفردك؟

- يا ابنتي.. لا تعولي همي.. يارب لماذا تطيل في عمري بهذا الشكل.. يا رب أرحني.. يا رب أرحني...

وأخذت تجهش في بكاء شديد لوقت طويل مما جعل عبير تتحول بعينيها بعيدًا وتبكي هي الأخرى بكاءً مرًا، وانهمرت على خديها دموع مكبوتة ومصطلية أحر من الجمر.. وكأنها تغلي تحت نيران نفسها المضطرمة المضطربة داخلها لسنوات طويلة!

ثم قالت في هدوء..

- يا أمي.. لست أريد من الدنيا سواك.
- أتركيني يا عبير وحدي من فضلك، أتركيني..

خرجت عبير من الغرفة سريعًا والدموع تنهمر من عينيها بغزارة وهي تسمع صوت بكاء أمها المتواصل.. وراحت تتابع إعداد مائدة الإفطار لها ولأمها فقط.

وتذكرت حينئذ عرض الأستاذ معتز خطيبها الأخير من سنتين بأن تظل أمها معهما في شقة الزوجية بعد زواجهما.. ولكنها رفضت الزواج خوفًا من تقلبات الزمن والمزاج.. وخوفًا من إنجاب أطفال يشغلونها عن أمها..

تذكرت إصرار إخوانها على هذا العريس "اللُقطة".. وقد كان كذلك بالفعل! وراح خيالها يداعبها مصورًا إياها في "الكوشة" بجانب عريسها معتز والأولاد والبنات يتراقصون من حولهما.. والأغاني والصيحات والزغاريد تصدح في الأجواء ..

لكن فجأة إنتابها غضب شديد حينما تذكرت إصرار أخيها جاسر بأن توضع الأم في إحدى دور العجزة وأن تتزوج عبير بالأستاذ معتز قبل أن يفوتها قطار الزواج.. وألا تتمرغ بعد أن يفوتها هذا القطار في غباره وترابه دون رجاء!

ووجدت نفسها تقول بصوت مسموع؛ "أبدًا! أبدًا يا أمي! لن أتركك أبدًا .. أطل في عمري يا رب حتى أكون بجانبها."

- هل تقولين شيئًا يا عبير..
- أبدًا يا أمي! الإفطار سيجهز في خلال دقائق.. هل تريدين طعامًا أخر بجانب الجبن يا أمي؟
- لا يا ابنتي.. وحده الجبن يكفيني بل يزيد عن حاجتي.. تعالي بجانبي هنا..
- حالًا يا أمي.. نعم يا أغلى الغاليين.
- هل أتصل بك الأستاذ معتز مؤخرًا؟
- لماذا يا أمي تذكرينني بهذا الأمر؟ لا يا أمي لم يتصل أو حتى يسأل عنا..
- كل ما في الأمر وددت أن أعرف يا ابنتي.. لأنه انسان طيب وعلى خلق..

- منذ أكثر من سنة لا أعرف عنه أي شيء.. ربما خطب.. وربما تزوج أيضًا.. ولكن هذا الأمر بالتأكيد لا يعنيني في شيء..
نظرت أمها إلى وجه عبير طويلًا إلى أن غلبت الدموع عينيها لتجري مسرعة إلى المطبخ.. ثم نظرت الأم إلى الأعلى.. وأخذت تناجي ربها داعية بخشوع وترقب دون أن يُسمع لها أي صوت..

- يا أمي الإفطار جاهز..

قامت أم عادل من السرير.. وأخذت تبحث بجوار السرير عن "المشاية" حتى تتسند عليها وهي تسير نحو المائدة.. لقد فقدت بصرها منذ سنين طويلة.. واقتحمتها الشيخوخة بأمراضها الكثيرة دون رحمة منذ خمسة عشر عامًا مضت.. أَتعبت خلالهم زوجها أبو عادل وبناتها الأثنتين هناء وعبير.

أعانت عبير أمها على الجلوس على السفرة وأحضرت لها إفطارها المتواضع من الخبز والجبن.. ووضعت لنفسها القليل من الجبن والباذنجان وبعض السلطة الخضراء.. لقد كانت لا تأكل كثيرًا، واختفت نضارة الشباب من وجهها، ونحف جسمها بشكل ملحوظ من عدم الأكل والقلق والأرق..

- أخبرينني يا عبير هل الخلاف بين أخوك الأكبر عادل وأخوك جاسر ما زال موجودًا؟
- لا يزال يا أمي.. لا أعرف متى سيتم الصلح بينهما؟
كان عادل تاجر أقمشة وجاسر كان ميكانيكيًا.. كان لعادل الأكبر أربعة من البنات، وكان لجاسر الأصغر ابنتان..
- كيف حال شادية وفدوى ومايسة وغالية بنات أخيك الكبير وأمهم؟
- لقد أصبحن عرائس الآن.. وهناك من تقدم لخطبة الكبيرة شادية خريجة كلية الحقوق..
- ربنا يتمم الأمر على خير.. ويرزقهم أزواجًا صالحين.. وعقبالك أنتِ يا ابنتي.. وكيف حال ماجدة وماجي بنات أخيك جاسر وأمهما؟
- بخير يا أمي.. لا تنشغلي كثيرًا بهم.. فقط أنهي إفطارك الآن.
- ليس لي أي طاقة أو نفس للطعام يا ابنتي، صدقيني..
- لماذا يا أمي؟ أنتِ بحاجة إلى الطعام.. هل أحضر لك شيئًا أخر؟
- لا يا عبير.. حينما أجوع، سأدعك تعرفين..
- هل أخوكِ الأوسط ممتاز ما زالت زوجته "غضبانة"؟

- ما زال الحال كما هو عليه.. لطالما حلا مشاكلهما وترجع المياه لمجاريها لتعيد زوجتة الكرة من جديد وتغضب مرة أخرى عند بيت أبيها، وهما بذلك يعذبون أبنهما الوحيد ماجد ذو الخمس سنوات كثيرًا..

- ياليت الله يصلح أحوالهم يا ابنتي..
- سأنهض ذاهبة للسرير يا ابنتي.. أشعر بالحاجة الشديدة للرقاد وربما للنوم طويلًا!
سنَّدَت عبير أمها إلى السرير وقالت لها:

- على الأقل يا أمي تناولي ثمرة فاكهة واحدة أو علبة من الزبادي ..
- ليس لي نفس يا عبير.. أني أشعر بالبرد، قومي بتغطيتي.. وأذهبي لتناول إفطارك..

راحت الأم سريعًا في نوم عميق.. هدأ جسمها بعده سريعًا.. وابيض وجهها.. وحينما لمست عبير وجه أمها، وجست يدها، وشعرت ببرودة الموت، بدأت في الصراخ والعويل.. وتجمع الجيران ثم أخوانها وأخواتها في أقل من ساعة..

وفي هدوء، قام إخوانها مع الأقرباء بالإتصال بالمختصين بالتغسيل والتكفين وتسجيل حالة الوفاة بعد مجيء طبيب الصحة واستخراج تصريح الدفن..

وقام الرجال بواجب الصلاة على الميت ثم حملوها لتُنقل إلى مثواها الأخير في مدفن الأسرة..

كانت عبير واختيها نجاة وهناء وحولهن النسوة من الجيران والأقارب يواسونهن.. ولكن عبير كانت الأشد حزنًا وغمًا.. ومن شدة الحزن لم تستطع حتى البكاء.. بالرغم من نشيج وصراخ نجاة العالي والمتواصل.. وكانت هناء ترعى ابنتيها الصغار من حولها..

" يا أمي.. يا حبيبتي يا أمي.. كيف سأعيش بدونك.. لقد كنتِ لي أمًا وأختًا وابنةً.. كيف سأعيش بين جدران البيت وحدي بدونك" هكذا كانت عبير تبكي بحرقة رغم مواساة صديقاتها والفتيات الذين كانت تخدمهم في الجمعية من حولها..

وانفض العزاء.. ودخلت عبير في غياهب دوامة من الكآبة.. كانت ترفض أن يجلس معها أي شخص.. فكانت تذهب للعمل من 10 صباحًا إلى 4 مساءً.. ثم تنام نوم قليل متقلقل.. وازداد جسدها نحولًا.. وازداد وجهها صفرةً من قلة الطعام والنوم. لقد كانت أمها مصدر حنان لها، وإناء تفرغ فيه حنانها الفطري أيضًا! كانت تعاملها خلال الخمس أعوام السابقين في عجزها وكأنها طفلتها لا أمها!

وأخذت تطلب الموت لنفسها دون أي أمل في الحياة بعد هذا الفراغ الموحش الذي بدأ يدب في كيانها النفسي.. ولم تعد ترغب أو حتى تقوىّ على العمل.. وحينما كان يزورها إخوانها وأخواتها في البيت تصرخ بشدة:

" أتركوني.. أتركوني.. أتركوني بمفردي.. لا أريد رؤية أي شخص.. لا أريد صُحبة أي شخص.. لا أريد أن أكلم أي شخص.. أبتعدوا!" ثم تجهش في بكاء مرير.

اقترح الأخ الأصغر جاسر أن تودع عبير في مصحة نفسية حتى لا تؤذي نفسها.. ووافق الجميع على هذا المقترح.. فلم يكن في استطاعة أحدهم أو ذويهم أن يجالسها ويراعيها!

وكانوا في إنتظار سيارة المعلم عادل أخيهم الأكبر في صباح اليوم التالي لنقلها إلى المصحة.. وساروا بعبير نحو السيارة.. وعبير تنظر لهم في وجوم، خاضعة لهم، وهم يقتادونها نحو أجل محتوم ترجوه بل تتمناهُ أخيرًا.. فقد عانت الكثير.. وأخيرًا رغبت الراحة.. فأين وكيف ستكون هذه الراحة المنشودة؟!


*****

جاءت هذه الرسالة في نهار اليوم الثالث على إتصال الأستاذ مدحت بالأستاذ نشأت.. فأخذ يقرأها بتؤدة وتأني وفار من عينيه بخار غضب وحنق نحو هؤلاء الأخوة والأخوات.. أهم جاحدون، أم كانوا مؤدون لواجبهم نحو أمهم وأختهم؟!

ثم قام بقراءتها للمرة الثانية والثالثة، وانحنت نفسه كثيرًا، وسالت من عينيه الدموع رأفةً بحال بطلة القصة المآساوية عبير .. ولم يعلم لماذا شعر بالغضب نحو نفسه.. فقد كانت اخته مثل الأستاذة عبير تمامًا ولم يشعر من قبل بمشاعرها بذلك القدر من العمق!

وانتظر الأستاذ مدحت مترقبًا حوار العشاء بينه وبين الأستاذ نشأت بخصوص هذه القصة.. ثم جاء إتصال الأستاذ نشأت الصافي عبر الإنترنت في تمام الساعة السابعة مساءً ورد الأستاذ مدحت على الأتصال...


حوار الليلة الثالثة

- مساء الخير يا مدحت
- مساء النور.. عندي عليك شيء يضايقني يا نشأت..
- ما هو يا صديقي؟ كفىَّ الله الشر!

- لماذا يا رجل مثل هذه النهاية الكئيبة لهذه القصة.. هل جزاء ذلك العطاء الفياض بلا حساب، والخدمة المتفانية المُضحية للأم والمجتمع أن توضع عبير في مصحة نفسية نحو مصير من الجنون أو الموت؟

وأنت توحي بذلك في نهاية قصتك.. ما الفائدة من فعل الخير في هذه الدنيا؟ إن كان الأمر بذلك السوء، يتوجب على المرء أن يعيش لنفسه حتى ينجح في هذه الحياة.. وراح مدحت يبكي لفترة دون أن يتمكن من الكلام...

وتركه نشأت بحكمة وفطنة يبكي كيفما يشاء..
- يا نشأت، هل يصح ذلك المثل القائل؛ "خيرًا تعمل، شرًا تلقىَّ".. حتى من الأهل!

- يا مدحت يا صديقي هكذا الدنيا.. ألم تسمع أغنية عبد الحليم حافظ النادرة القصيرة التي تقول؛ "في ناس بِتخلق من الألم قوة.. وناس بتخلق من الدموع سِكة... بتمشي عليها بعديهم.. خلايق مؤمنة بيهم... دنيا!"

ألم تسمع عن ذلك القروي البسيط الذي كان يسكن في قرية نائية خلف جبل جسيم يفصلها عن المدينة. وحينما أتى أوان زوجته لتلد طفلها الأول وتعثرت الولادة واحتاج أن يحملها للمستشفى المركزي في المدينة ولم يجد الوسيلة التي بها يلف حول هذا الجبل ليصل سريعًا إلى المدينة ليسعف زوجته.. فلم يجد سوى حمار واحد.. عِلمًا بأن هذا الجبل الغاشم يقطع السكة بينهم وبين المدينة بخمس دقائق فقط، إذا ما تم شق نفق في هذا الجبل! وبالطبع ماتت الزوجة في الطريق.. وصمم القروي أن يحمل فأسه ومعوله طوال عشرون عامًا، قضاها دون زواج، كان يكسر فيهم صخر الجبل حتى يصنع هذا النفق ليتيح لأهل قريته والقرى المحيطة الإنتقال السريع للمدينة دون الإلتفاف حول الجبل.. لم يثنيه التعب المُضني رغم كبر سنه.. لم تثنيه شفقة الآخرين أو استهزائهم الدائم به وكأن لوثة عقلية أصابته من جراء موت زوجته.. وفي يوم اكتمال النفق ذهب لبيته حتى ينام بعد هذا الإنجاز.. ونام نومًا عميقًا لم يستيقظ منه أبدًا!

وخدم هذا النفق كل القرى القريبة للإنتقال السريع إلى سوق المدينة التجاري، ومشفاها المركزي، ولقضاء الكثير من الحوائج والطلبات الأخرى.

- لكن يا نشأت، لماذا لا يجني مَنْ يتعب ثمار تعبه؟ لماذا أتعب لأناس ظلت تستهزأ بي وتجحد جميلي نحوهم.. في نفس الوقت الذي أكون متأكدًا فيه أن لا خير سيعود عليَّ من هذا العمل الذي أتعب فيه. مرة أخرى، لماذا لا يجني الإنسان ثمار تعبه.. وثمار تعبه يجنيها أناس آخرون غيره وخاصة الجاحدون له؟!

- إذا فكر الناس بهذا المنطق يا مدحت، لم يذهب الجنود ليحاربوا ويموتوا في سبيل نصرة بلادهم.. ولم يقم فلاح بغرس شجرة أو نخلة.. ولم يقم مهندس بإقامة كوبري أو بناء مدينة جديدة.. ولم تُشق لذلك الترع وتستصلح الأراضي الصحراوية طالما ينظر الناس فقط إلى العائد الفوري الذي يعود عليهم هم شخصيًا قبل القيام بأي عمل إصلاحي!

فكل هؤلاء الناس وغيرهم يعملون لصالح مستقبل وطن ربما لن يعاصروه.. ولكن سيساعدوا في صنعه لصالح أولادهم وأحفادهم.. فأعظم الأعمال يا صديقي لا تأتي بثمارها سريعًا.. وأغلب من تعبوا فيها لا يتذوقون من ثمار تعبهم.. ولكنهم يواصلون التعب والكد رغمًا عن ذلك.

- كلامك مُستساغ من عقلي يا أستاذ نشأت، ولكن يرفضه وجداني.. ونهاية قصتك غير واقعية وغير مقبولة وتثير غضبي وحنقي..

- هل لك أن تذكر لي سبب ردة الفعل هذه؟

- ببساطة لأن أختي عزيزة كانت مثل الأستاذة عبير بل أكثر وخدمت أمي ليس 15 عامًا فقط بل 20 عامًا بأكملهم في تعب وسهر ومراعاة وعناية بها ومعاناة لا حصر لها.. وانتهى بها الحال بعد موت أمنا إلى أن تزوجت وأنجبت ولدين وبنتين يقروا عينيها، وإلى الآن وهي تعيش سعيدة فرحة تحصد ثمار ما زرعته من تعب ودموع..

- وهل يا مدحت أنا كتبت نهاية تنفي ذلك؟

- نعم! نهايتك توحي بجنون البطلة المآساوي أو موتها..

- يا صديقي.. من المؤكد لعبير أو أختك عزيزة أن يجتازا في حالة كآبة وفراغ نفسي وعاطفي بعد موت الأم التي كانا يفرغان فيها ونحوها عواطف الأمومة الفطرية التي تسيطر على أي فتاة، والتي كانا محرومين منها.. وهذه الحالة قد تقصر أو تطول.. والنهاية مفتوحة.. قد تنتصر عبير على هذا الإكتئاب ويرجع لها الأستاذ معتز أو غيره من العرسان.. لتعيش في هناء في بيت زوجها مع أولادها المرتقبين.. وقد لا يحدث ذلك وتستمر في حالتها إلى أن تموت في المصحة النفسية..

- ولكني يا نشأت أرفض هذا الاحتمال الثاني..
- ربما ترفضه.. ولكنها الدنيا يا صديقي التي يندر أن تأتي لنا بما نشتهيه.. وأحيانًا لا ترحم أحدًا ولا ترد الجميل لأحد!
- ولكن ما الهدف من حياة عبير على كل حال في هذه الدنيا؟

- ألم تنسْ يا صديقي أنها كانت تخدم فتيات حيَّها؟ ألنْ يتذكرها هؤلاء الفتيات بالخير ويتمثلنْ بها في عطاءها وتضحيتها في حياتهنْ وفي تربية أولادهنْ؟ ألا تكون بذلك ساهمت بقدر ما في إصلاح المجتمع ولو من أضيق أبوابه؟

- نعم يا أستاذ نشأت.. أنت على حق.. وسامحني على أسلوبي معك في الحوار.. وها أنا صرت أتشوق لقراءة المزيد من قصصك.. تُرىَّ عن ماذا أو عن منْ ستكون القصة التالية؟

- ستكون عن شاب تقيّ لا يُعيبه سوى شيء واحد قد أتعس حياته من جميع جوانبها.. وستعلم عن هذا الشيء غدًا.. فإلى لقاء قريب.. وتصبح على خير يا مدحت.

- تصبح على خير يا "دكتور" نشأت..



#توماس_برنابا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب شمس الرجاء (3) --- الفصل الأول --- القصة الأولى --- رجا ...
- شمس الرجاء (2) --- مقدمة
- كتاب شمس الرجاء (1) ---- رسالة من المؤلف إلى القارئ
- مذكرات ملحد تائب ( 14) ---- الأعضاء البشرية الثلاث الذين في ...
- مذكرات ملحد تائب (13) ---- حينما يكون السالب موجباً!!!
- سلسلة أسأل مجرب ولا تسأل طبيب (17) --- خاتمة
- مذكرات ملحد تائب (12) --- ملخص للربوبية
- مذكرات ملحد تائب (11) ---- مراحل الإلحاد الأثنى عشر
- سلسلة أسأل مجرب ولا تسأل طبيب (16) ---- ختام الأمر كله --- ر ...
- مذكرات ملحد تائب (10) ---- شذرات ملآنة حكمة
- سلسلة أسأل مجرب ولا تسأل طبيب (15) ---- الطب النفسي وعلوم ال ...
- سلسلة_أسأل_مجرب_ولا_تسأل_طبيب (14) ---- الأمراض التي أتى ذكر ...
- مذكرات ملحد تائب (9) ---- صلاة بعنوان رب الوجود والموجود
- مذكرات ملحد تائب (8) ---- قضية أخلاقية أخرى خطيرة مطروحة للن ...
- مذكرات ملحد تائب (7) ---- قضية أخلاقية إفتراضية صعبة مطروحة ...
- سلسلة أسأل مجرب ولا تسأل طبيب (13) --- الصيدلة في الكتاب الم ...
- مذكرات ملحد تائب (6) ---- قصيدة بعنوان (في ظلال العبثية)
- سلسلة أسأل مجرب ولا تسأل طبيب (12) ---- قوة البركات واللعنات
- مذكرات ملحد تائب (5) ---- ختام الأمر كله: نحن نعيش في عالم م ...
- مذكرات ملحد تائب (4) ---- روابط الدم أم أواصر الوطن؟!!


المزيد.....




- ماذا قال الحوثيون عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجام ...
- شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول ...
- الجيش الأميركي بدأ المهمة.. حقائق عن الرصيف البحري بنظام -جل ...
- فترة غريبة في السياسة الأميركية
- مسؤول أميركي: واشنطن ستعلن عن شراء أسلحة بقيمة 6 مليارات دول ...
- حرب غزة.. احتجاجات في عدد من الجامعات الأميركية
- واشنطن تنتقد تراجع الحريات في العراق
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- جامعة جنوب كاليفورنيا تلغي حفل التخرج بعد احتجاجات مناهضة لح ...
- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - توماس برنابا - كتاب شمس الرجاء (4) --- الفصل الثاني --- القصة الثانية: رجاء الخُدام