أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - -ديمقراطية- الطبيعة و-ديكتاتورية- التاريخ!















المزيد.....

-ديمقراطية- الطبيعة و-ديكتاتورية- التاريخ!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 1702 - 2006 / 10 / 13 - 10:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"الانتخاب (الاختيار، الانتقاء، الاصطفاء)" هو سنة الحياة، وناموس طبيعي، وقانون موضوعي للتطور، في الطبيعة والمجتمع والتاريخ. ولا يكون "الانتخاب"، ولا يكون له معناه الحقيقي، في وجود مرشح واحد، فهو أن تختار وتنتقي من بين مرشحين عديدين؛ والمرشح الذي يقع عليه الاختيار هو الأصلح، وفق مقاييس ومعايير معينة. إنَّ "نظام التطور"، حتى في الطبيعة، في معناه هذا أشبه ما يكون بالنظام الديمقراطي، وكأن الحياة، في سننها، يجب أن تكون ديمقراطية القلب والقالب!

يحدث في الطبيعة، في عالم الحيوان والنبات، أنَّ الكائن الحي يتكاثر، فيقذف إلى الحياة (إلى البيئة الطبيعية التي فيها ومنها يعيش) بمواليد جدد (بالعشرات أو بالمئات أو بالآلاف..) من نوعه، فلا يبقى منها على قيد الحياة، وينمو، ويتكاثر، إلا القليل القليل.. إلا الذي تستصلحه (أي تعده أو تراه صالحا) البيئة.

بيئة الكائن الحي ليست بالثابتة الجامدة الساكنة؛ فهي في تبدل دائم لا يتوقف أو ينقطع؛ ويأتي هذا التبدل على كل جوانبها ونواحيها ولاسيما المناخية والغذائية. وينبغي للكائن الحي، الحيواني أو النباتي، إذا ما أراد البقاء، أن يكيِّف نفسه وفق التبدلات التي طرأت على بيئته، فإذا استطاع بقي، وإذا لم يستطع هلك. ينبغي له أن يملك من الصفات والخواص، ومن القوى والإمكانات الذاتية الطبيعية، ما يمكِّنه من أن يدرأ عن نفسه المخاطر التي تتهدد حياته، والمتأتية من بعض الكائنات الحية المجاورة له في بيئته، ومن الحصول على الغذاء، واتقاء "الشرور المناخية"..

بيئته تتبدل أولا، فيصبح مدعوا، بقوة الضرورة الطبيعية، إلى أن يتبدل هو أيضا.. إلى أن يكيِّف نفسه بما يتلاءم وهذا التبدل البيئي، الذي، في جزء منه، كان ثمرة وجود وحياة هذا الكائن في هذه البيئة.

ولكن هذا التكيف ليس هو الأصل والأساس في التطور في عالم الحيوان والنبات، فالأصل أو الأساس يكمن في "التكاثر"، وموقف البيئة من المواليد الجدد للكائن الحي. إنَّ هذا الكائن يزود البيئة (المتبدلة) بعشرات أو مئات أو آلاف.. المواليد الجدد من نوعه، التي، على وحدتها وتماثلها في "صفات النوع"، تتفاوت وتختلف في صفات وخواص، وفي قوى وإمكانات وقدرات، ذاتية (طبيعية، فطرية) أخرى. هذه المواليد الجدد تقف أمام "البيئة المتبدلة" كما يقف "المرشَّحون" أمام "الناخبين" في "انتخابات حرة ديمقراطية نزيهة"، فلا يفوز فيها (أي يبقى حيا وينمو ويتكاثر، مورثا نسله الصفات الجديدة الجيدة) سوى الذي يملك، في ذاته، من الصفات والخواص والقوى والإمكانات والقدرات ما يؤهله للعيش والبقاء في هذه البيئة. وهكذا لا يبقى من ملايين المواليد الجدد سوى قليلها الجدير بالبقاء.. الذي يقع عليه اختيار الطبيعة، فيكون البقاء للأصلح وفق معايير ومقاييس البيئة الطبيعية.

وفي هذا الدرب الطويل الشاق من التطور تظهر الأنواع الجديدة من الكائنات الحية، التي بفضل فعل قانون "الانتخاب (أو الاصطفاء) الطبيعي" تكون أرقى من أسلافها.

وحده الإنسان استطاع أن ينأى بنفسه (بنوعه) عن تأثير هذا القانون الطبيعي الموضوعي؛ ولكن نأيا جزئيا محدودا، فالإنسان، الذي انفصل عن المملكة الحيوانية بفضل "العمل"، صار، مثلا، يكيِّف نفسه وفق التبدل المناخي بثياب يصنعها، وبمنازل يبتنيها ويجهِّزها بأجهزة ضد الحر الشديد أو البرد القارس؛ ويكيفها وفق التبدل الغذائي بإنتاجه كل ما يحتاج إليه من الغذاء، كمَّا ونوعا.

لولا "العمل"، بنتائجه الحضارية المختلفة، لبقي الإنسان خاضعا بالكامل لفعل وتأثير قانون "الانتخاب الطبيعي"، الذي من عواقبه، انقراض النوع الإنساني، أو ظهور أنواع جديدة منه.

الإنسان، الذي يتطور، مذ كان "العمل" و"المجتمع"، ليس "الإنسان الطبيعي"، أي النوع البشري، وإنما "الإنسان الاجتماعي"، أي النوع التاريخي. أمَّا "البيئة"، التي تختار وتَنْتَخِب، فليست "البيئة الطبيعية" وإنما "البيئة الاجتماعية (الاصطناعية، التاريخية)".

هذه البيئة الاجتماعية تتبدل في استمرار، وبفعل القوانين الموضوعية لتطورها؛ وينبغي للإنسان، في شكله ومحتواه التاريخيين، المحدَّدَيْن بظرفي المكان والزمان، إذا ما أراد البقاء، أن يكيِّف نفسه بما يتلاءم والتبدلات، المختلفة الدائمة، في بيئته الاجتماعية التاريخية.

وهكذا ظهرت، مثلا، أنواع عديدة ، عبر التاريخ، من الإنسان الفرنسي أو الروسي أو العربي.. أنواع تختلف في نمط الحياة، والصفات والخواص الاجتماعية، في الثقافة والطباع والسلوك.. فالفرنسي، الآن، في فرنسا، الآن، كان مستحيل الوجود في فرنسا قبل مئات أو آلاف السنين.. ونابليون بونابرت مستحيل الوجود في أفغانستان الآن. هذا هو "جوهر" الإنسان الذي يتبدل. إنه جوهره التاريخي لا الطبيعي البيولوجي.

القانون ذاته، قانون "الانتخاب الطبيعي" يفعل فعله، أيضا، في ميدان عقائد البشر وأفكارهم؛ ولكن فعله لا يكون حرا من القيود حيث تنعدم أو تتصحر الحياة الديمقراطية، أي حيث تقوم وتسود أنظمة الحكم الشمولي الاستبدادي، فهذه الأنظمة لا تبقى ولا تعيش إلا بإقامتها أسوارا عالية بين "البيئة الاجتماعية المتبدلة" وبين العقائد والأفكار، التي تكون في "أبراج مشيدة" لا تطالها يد "التغيير البيئي"، فيظل قديم الفكر على قدمه؛ أمَّا جديده فلا يعدو أن يكون ثوبا جديدا يلبسه القديم والبالي من الفكر، ليمثِّل على خشبة مسرح هذه الأنظمة دور "الفكر الجديد"، الذي، في الحقيقة، يكون قابعا في الزنازين والسجون أو معلقا على أعواد المشانق!

"الانتخاب الفكري" يُجرى، على أيدي أنظمة الحكم الشمولي الاستبدادي، كما يُجرى "الانتخاب السياسي"، فمرشحه واحد أحد؛ أمَّا إذا تعدد هذا الواحد فلا يتعدد باللون؛ وإنما بدرجته أو كثافته.

و"الناخب" لا يكون "البيئة الاجتماعية الجديدة المتجددة"؛ وإنما بيئة اجتماعية أكل عليها الدهر وشرب. إنه، كمثل مرشحه، من اللون ذاته، يُفرض على ملايين الناخبين أن يلوِّنوا إرادتهم وعقلهم وشعورهم به!

الفكر لن يتطور، أبدا، في مناخ هذه الأنظمة، التي تمعن في محاربة تأثير قانون "الانتخاب الطبيعي". هذا القانون يحتاج، قبل ومن أجل أن يفعل فعله التاريخي التقدمي التحديثي، إلى أن يُرفع عنه القيد التوتاليتاري الاستبدادي، فيقوم نظام حكم ديمقراطي، يُخْصب "التربة الفكرية" للمجتمع حتى تنبت وتنمو فيها "التعددية الفكرية". وهكذا تتمكن "البيئة الاجتماعية الجديدة المتجددة" من أن تختار، دائما وفي حرية تامة، ما يناسبها ويتفق معها من بين مرشحين فكريين كثر، فتأخذ بيد بعض العقائد والأفكار حتى تنمو وتسود وتنتصر، وتزج ببعضها، الذي تقادم عهده وانتفت الحاجة إليه، في غياهب الانقراض، فلا يبقى إلا "الأصلح" ولا يهلك سوى "الأطلح"!

الإرادة المغتصبة!

تاريخيا، يميل الشرقيون إلى "الجبرية" بينما الأوروبيون يميلون إلى "الحرية". وهذه الظاهرة الإنسانية المتناقضة تحتاج إلى تحليل وتعليل تاريخيين علميين، يكمن مفتاحهما في أن نسأل عن السبب (أو الأسباب) التي تجعل، "الجبرية" ميلا شرقيا، و"الحرية" ميلا أوروبيا (غربي).

"الجبرية"، ومنذ أقدم العصور، كانت، في الشرق ولدى الشرقيين، مشكلة فكرية ضاغطة، فخلَّفت في إبداعهم الفكري (الفلسفي والأيديولوجي) آثارا عظيمة لا تُمحى، لعل أهمها "عقيدة القضاء والقدر"، وسؤال "هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر"، ومفهوم "الحظ"، وظاهرة "العرافة".

آمن الشرقيون إيمانا لا يتزعزع بأن للقدر اليد الطولى في رسم مسار حياتهم من البداية حتى النهاية، وبأن "الإرادة الحرة"، التي في مقدورها فعل كل شيء، وأي شيء، هي وهم خالص، ناظرين إلى الإنسان (في تدبيره لا في تفكيره) نظرتهم إلى نهر لا يملك تغييرا لمجراه، فالإنسان، في تصوُّرهم، يمكن أن يريد شيئا، أو يرغب فيه؛ كما يمكن أن يسعى في تحقيقه؛ ولكن "النتيجة النهائية العملية"، أكانت نجاحا أم فشلا، لم تصنعها إرادته، أو رغبته، أو سعيه؛ إنما صنعتها يد "القدر"، أو "الحظ".

وكان أمرا يثير الدهشة، حقا، أن يستثني الشرقيون، عن غير قصد، إرادتهم من مجال تأثير ونفوذ سلطان "القدر"، فالإنسان لديهم حرٌّ حرية مطلقة في التقرير والتفكير والإرادة والرغبة.. وكأن "القدر" لا أثر له ولا تأثير في هذه "المملكة المثالية"؛ ولكن "نتائج" أفعاله ومساعيه ليست ملكه، ولا تمت بصلة إلى هذه المملكة. إنها من صنع "المملكة الأوتوقراطية" لسلطان "القدر".

ودرءا لهذا "التناقض المنطقي" كان ينبغي للشرقيين أن ينظروا إلى إرادتهم، أيضا، على أنها جزء من إرادة "القدر"، أي أننا لا نريد ما نريد إلا لأن "القدر" أراد!

أمر آخر كان مثيرا للدهشة أن الإنسان الشرقي، أكان حاكما أم محكوما، يميل إلى أن يعزو فشله إلى "القدر"، أو "الحظ"؛ أمَّا نجاحه فيصر على أن يعزوه إلى قواه الذاتية.. إلى ما يملك من موهبة وذكاء وكفاءة وقدرة..!

انظروا، مثلا، إلى النتائج المخزية، عربيا، لحرب سنة 1948.. فالحكومات العربية نظرت إليها، وفهمتها، على أنها من صنع "القدر"، فكان أن اعتبرتها "نكبة"، كمثل نكبات الزلازل والبراكين والفيضانات..

أمَّا أقل أو أتفه إنجاز لحكومة من حكوماتنا العربية فلا يُعزى إلى "القدر"، في أي اسم من أسمائه؛ وإنما إلى من هو نسيج وحده من القادة والحكام، ولو كان هذا "الإنجاز" تعبيدا لطريق!

وأذكر أنني قرأتُ، ذات مرة، في مجلة صينية، أن عملية جراحية في القلب قد تكللت بالنجاح بفضل "تعاليم الرفيق ماوتسي تونغ"!

وأذكر، أيضا، مقابلة صحافية أجرتها صحافية إيطالية مع قائد عربي "عظيم"، نسب إلى فكره العبقري كل إنجاز إنساني عظيم.. حتى أهم الإنجازات الحضارية لمصر الفرعونية (!) ومجَّد نفسه تمجيدا إلهيا؛ ولكن في ختام المقابلة فاجأته الصحافية الذكية بالسؤال الآتي:"هل تؤمن بوجود الله؟"، فأجاب مستغربا بالسؤال الآتي:"ولمَ تسألينني هذا السؤال، الذي لا صلة له بموضوع المقابلة؟"، فما كان منها إلا أن أجابته قائلة:"خشيتُ أن تدَّعي أنك الله!".

وإذ زار صاحبنا أحد أشقائه من القادة الذي لا يقل عنه عظمة، خاطبه، في المطار، قائلا:" في بلدي توجد قيادة؛ ولكن لا يوجد شعب؛ أمَّا في بلدكم الشقيق فيوجد شعب؛ ولكن لا توجد قيادة، فلِمَ لا نقيم وحدة تكاملية.. منِّي القيادة، ومنك الشعب"!

القائد العربي المضيف لا يقل عن ضيفه، كما قلنا، شعورا بالعظمة، فهو، وبعدما اطمئن إلى رسوخ "دولة القانون والمؤسسات.. والعلم والإيمان"، التي أقامها بعرق جبينه، وإلى أن "قانون العيب"، الذي استنه، يُعطي أُكله، وإذ خشي من عواقب سوء فهم "المعارضة" لمعنى "الديمقراطية"، التي وهبها لشعبه عن طيب خاطر، خطب بالأمة، شارحا وموضحا معاني الديمقراطية، فقال:"للمعارضة ملء الحق في قول أي شيء، ولي ملء الحق في فعل أي شيء"؛ ثم أخرج من جعبته "قانون العيب"، وخاطب معارضيه، قائلا:" ولكن ليكن قولكم قولا حسنا لا يخدش الحياء (السياسي).. فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.."!

قصارى القول أنَّ "القدر" يظل قدرا.. يظل حاكما مطلقا، عظيم الجبروت، إلى أن تطأ قدماه بلاط "الحاكم الشرقي"، فيَعْظُم هذا الصغير، ويَصْغُر ذاك العظيم؛ أمَّا "الإنسان"، عقلا وإرادة وعملا، فيُهمَّش ويُسحق ويُلغى على يديِّ كلا الحاكمين، فهو، في أفعاله، دائما، أسير إرادة "القدر" و"الحاكم"، له "التفكير"، ولهما "التدبير"، فمتى يُصبح "الشرقي" حرا، وفق الفهم الصحيح لمعنى "الحرية"؟!

"المُعلِّم الأبدي" للبشرية

إذا نظرنا إلى البشر، جميعا، في كل زمان ومكان، على أنهم "تلاميذ أبديون" فإنَّ "الحاجات" و"الضرورات" هي "المُعلِّم الأبدي الأوحد" لهم، مع أنَّ غالبيتهم العظمى لا تعي، دائما، هذه الحقيقة البسيطة الثابتة، ومع أنَّ قلَّة قليلة منهم، هم "القادة العظام" بفضل السلطة والتسلط، ينكرون فضل هذا المُعلِّم عليهم، مرغمين عامة الناس على أن ترى فيهم صفات خرافية لا وجود لها في البشر "الواقعيين"، فإذا ما هاجر شعب بكامله من موطنه الأصلي إلى مكان آخر، عن اضطرار معيشي، فإن قائده الأعلى الأعظم يُدوِّن في "كتاب التاريخ" أنَّ ذلك حدث لأنه أراد حدوثه ورغب فيه وقرره؛ أمَّا إذا ما اضطرت "الحاجات" و"الضرورات" التاريخية مجتمعا ليصلح حاله عبر "قيادة" تُنجبها و"تنتخبها" تلك الحاجات والضرورات فإنَّ "كتبة التاريخ" من حاشية وبطانة "الرجل الأول" في هذه القيادة يكتبون أن هذا الإصلاح التاريخي الثوري ما كان له ليتحقق لو لم تلد تلك "المرأة العظيمة" هذا القائد الفذ، الذي أنعم الله به على الأمة العاجزة القاصرة، في ذاتها، وخصَّه من دون سواه بأفق يسع كل شيء ولا يسعه شيء؛ ثم يُسمِّى كل شيء جميل وعظيم باسمه.. حتى "التاريخ" يُصبح، على طوله، مؤلفا من مرحلتين اثنتين: مرحلة ما قبل "العظيم"، الذي ليس قبله قبل، ومرحلة ما بعده، وهو الذي ليس بعده بعد!

إننا، ونحن مشدودين إلى مشاهدة فصول هذه "المسرحية التاريخية"، التي ليست بالأولى ولن تكون بالأخيرة، ننسى أو نتناسى حقيقة بسيطة، هي أن "القيادة" لا تعدو أن تكون "اختراعا" تلده "الحاجة" كما تلد سائر الاختراعات، فالبشر، وفي كل مجالات حياتهم، لم يخترعوا، قط، ولن يخترعوا، أبدا، شيئا لم تشتد حاجتهم إليه من قبل، فالحاجة تظل تضغط، وتفعل فعلها في عقول الناس وقلوبهم حتى تلد على أياديهم "الاختراع"، الذي بفضله يتمكنون من تلبيتها وإشباعها.

انظروا، مثلا، إلى "الرأسمالية"، مع أسمائها الحسنى كافة كمثل "المبادرة الفردية" و"نظام السوق الحرة".. أين كانت قبل أن تغدو "حقيقة تاريخية واقعة"؟ كانت تسكن حاجات البشر في عصر الإقطاع؛ وكانت هذه الحاجات تنمو وتقوى في استمرار مؤكِّدة عجز، وتزايد عجز، "النظام الإقطاعي" عن تلبيتها، على الرغم من أنها تكونت في رحمه. كانت كمثل "بنت" لا يمكنها أن ترى النور إلا إذا قتلت أمها. واشتد ضغط هذه الحاجات الإنسانية التاريخية حتى خلقت للرأسمالية، التي لم تُخلق بعد، أنبياءها وقادتها من مفكرين وفلاسفة وأدباء وفنانين..

وانظروا، أيضا، إلى "العقائد"، إذ سطع نجمها وإذ أفل من ثمَّ. كانت تنتصر وتسود وتغلب سواها، ويُقبل الناس عليها إقبالا منقطع النظير؛ لأنها تكونت ونمت في رحم حاجاتهم الإنسانية التاريخية؛ ثم ولدت لتلبي وتُشبع، على خير وجه، هذه الحاجات. وإذ تبدلت هذه الحاجات (التي لا تنشأ، أصلا، إلا لتزول، ولينشأ من زوالها حاجات جديدة) دخلت العقائد ذاتها (وبسبب نمطها السكوني) في نزاع متزايد مع أجنَّة الحاجات الجديدة، فأخذت تلقى صدَّا لها في عقول البشر وأفئدتهم ومشاعرهم ووجدانهم، فاقدة، بالتالي، رصيدها الشعبي ومبرِّر وجودها.

وكثيرا ما حار الناس في تفسير هذا التناقض في التطور التاريخي للعقائد (مدها فجزرها) فوقعوا في فخ التفسيرات المجافية لمنطق التطور التاريخي للظواهر والأشياء؛ وكان في مقدورهم، لو حرروا عقولهم من تأثير "المصالح" الكامنة في أساس تلك التفسيرات، أن يروا "الهلاك الحتمي" في كل ما تأتي به الحياة، فسرُّ موت الدوحة يكمن، دائما، في السبب ذاته الذي يجعلها تعيش وتنمو وتكبر!

إنَّ الوقوف على "الحاجات الإنسانية" هو الشرط الأولي لكل تفكير سليم سوي، يسعى لتغيير الواقع. عندما تبرز الحاجة الإنسانية وتشتد، أي عندما لا تكون وسائل وطرائق تلبيتها قد "اختُرعت" بعد، يظهر ما يسمى "المشكلة". ونحن لو أمعنا النظر في الأمر لوجدنا أن "المشكلة"، أي مشكلة، لا تظهر، ولا يمكنها أن تظهر، إلا جنبا إلى جنب مع وسائل وطرائق حلها، المكتملة أو التي في طريقها إلى الاكتمال، فالبشر لا يعرفون من المشكلات إلا التي في مقدورهم حلها، فمشكلات البشرية في القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن تظهر في القرن الخامس عشر، مثلا، لأن البشرية في القرن الخامس عشر ما كانت قادرة لأسباب موضوعية على "اختراع" وسائل وطرائق لحلها، فلكل عصر مشكلاته؛ وكذلك حقائقه وأوهامه.

وحتى لا يكون في تفكيرنا وعملنا "حلقة مفقودة"، فلا بد لنا من "وعي الضرورات"، فمن دون وعيها نفقد "الإرادة الحرة"، وفق المعنى الصحيح للحرية. إنَّ "وعي الضرورة" هو ما يرشدنا إلى "الممكن" عمله وإنجازه لتلبية حاجاتنا الجديدة وحل مشكلاتنا الجديدة، فالذي يُحاول حلا لا يتفق مع "الضرورة"، أكانت طبيعية أم تاريخية، إنما يُحوِّل نفسه إلى عبد للواقع، الذي يرغب في تخطيه وتغييره!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -الفوضى البناءة- في وجهها النووي!
- آخر خيارات عباس
- سياسة -الإفقار الاقتصادي- للمواطن!
- حلٌّ يتحدى الفلسطينيين على الأخذ به!
- وزن -الكلمة-
- مشاعر الكراهية للآخر..
- كل قيادة سُلْطة ولكن ليس كل سُلْطة قيادة!
- -الهزيمة- التي يحتاج إليها الفلسطينيون!
- قرار العرب إعادة -الملف- إلى مجلس الأمن!
- التبديد الاقتصادي عبر النساء!
- -النسبية- في القرآن كما شرحها الدكتور النجار!
- الحرب -الإلهية-!
- الميزان الفلسطيني المفقود!
- -حزب الله- ينتقل إلى الهجوم!
- مرض -التسليم بما هو في حاجة إلى إثبات-!
- جدل الاعتراف بإسرائيل!
- ثنائية -الإيمان والعقل- لدى البابا!
- الخطأ والاعتذار!
- -الفَرْد- و-السياسة-!
- -العصر الوسيط- يُبعث حيا!


المزيد.....




- طبيب فلسطيني: وفاة -الطفلة المعجزة- بعد 4 أيام من ولادتها وأ ...
- تعرض لحادث سير.. نقل الوزير الإسرائيلي إيتمار بن غفير إلى ال ...
- رئيسي: علاقاتنا مع إفريقيا هدفها التنمية
- زيلينسكي يقيل قائد قوات الدعم الأوكرانية
- جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة الجعف ...
- طفل شبرا الخيمة.. جريمة قتل وانتزاع أحشاء طفل تهز مصر، هل كا ...
- وفد مصري في إسرائيل لمناقشة -طرح جديد- للهدنة في غزة
- هل ينجح الوفد المصري بالتوصل إلى هدنة لوقف النار في غزة؟
- في مؤشر على اجتياح رفح.. إسرائيل تحشد دباباتها ومدرعاتها على ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - -ديمقراطية- الطبيعة و-ديكتاتورية- التاريخ!