التراجيديا في ملحمة نارت الشركسية

امين حافظ
(Amin Hafez)

الحوار المتمدن-العدد: 7496 - 2023 / 1 / 19 - 22:38
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

يفهم القفقاسيون التراجيديا باعتبارها تجريدا يعبر عن وجهات نظر لحزمة قيم جمالية وأخلاقية تمس حياة الانسان وتهزه وتعنفه أحيانا لكنها لا تضطهده مع انها تحمل في طياتها الموت والحزن والدمار، بل تمنحه مزيدا ًمن الطاقة والامل والاستمرار في النضال.
عندما نقرأ قصص وقصائد القتال الفردي بالتحدي حتى الموت بين الابطال انصاف الالهة وقصة موت ستناي ام البطل ساوسروقه وتضحيتها بروحها عندما تحتضن ابنها الجريح ساوسروقه قبل موته وتنتقل اليه بإرادتها روحها وتموت هي ويحيى ابنها ،تتلبد الأجواء عادة في بداية المشهد التراجيدي وتتشكل الخصومة ويشتد الصراع ما بين مشاعر الشخصيات التراجيدية وبين قيمها الأخلاقية القومية وتبدو المسالة وكأنها صراع ما بين الحرية وبين الضرورات الموضوعية ،وهذا يجعلنا نتساءل فيما إذا كانت التراجيديا جاءت في (م.ن.ش) لتبرز مسائل الضرورة والحرية والقدر وتأكيد الذات البشرية وبروز الهدف بأشكال مختلفة.
تملك التراجيديا النارتية أهدافاً داخلية وتستمر المعاناة والنضال لتحقيقها وغالباً ما تأتي عبر الموت والفناء فيصبح القدر من أهم ركائز التراجيديا وبلوغ الهدف من عدمه وبعدها يأتي المصير وهو الموت، ثم يبرز أمام القارئ سؤالان أولهما، لماذا يحصل كل ذلك؟ والثاني يأخذ صيغة السؤال والجواب وهو، هل لأن المصير هو أيضاً عدالة عظيمة؟ ... هكذا تبدو الأمور في (م.ن.ش) أو ملحمة نارت الشركسية لكنها عدالة تراجيدية، حيث الشخصية الأسطورية تحاكم على أفعالها كما في حالة دفن البطل ساوسروقه الجريح من قبل اعدائه وهو حي.
العدالة العظيمة أو القدر في (م.ن.ش) لا يمكن إنجازها الا عبر التراجيديا والحكم على البطل من خلال أعماله، وهذه العدالة لا تحصل الا عندما يبدو الفعل اللازم أكبر من أن يتحمله وينجزه البطل لوحده، وغالباً عندما تتكامل أمزجة الأبطال مع نفسياتهم فتصبح تصرفاتهم وكأنها تعبر عن روح الأمة ومزاجها، حتى أنهم يختزنون بداخلهم كل ما هم موجود وبارز في مزاج قومهم.
تظهر التراجيديا في (م. ن. ش) كلازمة ضرورية إلى جانب العمل البطولي في الزمن النيوليتي وبداية ظهور المعدن في نهاية الألفية الرابعة وبداية الثالثة مرت خلالها التراجيديا في مراحل متعرجة طويلة لمست خلالها كل وجهات النظر والآراء عبر الصراع يجدها القارئ مقرونة بالتراجيديا، مع ملاحظة أن كافة النارتيات القفقاسية فيها دلالات كثيرة لعناصر تراجيدية تعبر عن خصوصية التاريخ التراجيدي لكل شعب ومعظمها ذات حركة التفافية فردية متكررة، يظهر بجلاء في النارتيات الشيشانية والشركسية والاستينية والأبخازية.
الشخصية التي تنطق بالصدام التراجيدي وتذهب باتجاهه لا تعكس أفعالها بسبب وضعها التراجيدي، أما مسألة الشروط التراجيدية فهي تبقى بأشبه بوجهة نظر في الفضاء تبرز من خلال " أنا والغريب " ويبدو ان المشهد العدائي بين البطلين يتضخم لأن كل واحد منهما لم يعد قادراً أن يحل محل الآخر لا بعقله ولا بجسده.
أهم مظاهر وجود التراجيديا في (م.ن.ش) هي الوجدانية والعزلة و التوحد مع طغيان ذهنية تحمل الألم التراجيدي، وهذه الصفات ذات تأثير ضاغط على المعنويات والقيم والتصرفات وتنتقل لمستوى التراجيديا الإنسانية فحياة الفارس النارتي الجوال مليئة بالغربة و التوتر و التوحد وعدم الاستقرار العائلي و الغياب شبه الدائم عن البيت و المجتمع وبالتالي فهو غريب عن الواقع الاجتماعي وموجود في فضاء خاص بعيد عن الناس و عن الآلهة، وهذه وحدانية – ثقافية – نفسية قاسية لكن فيها جوانب إيجابية تذهب بصاحبها للتركيز على الذات الشخصية وتطوير مؤهلاتها وتفسح المجال للبطل وتعطيه الوقت اللازم للتفكير السليم و الوعي الذاتي وإدراك ما يلزم والارتقاء بالفطنة والمؤهلات الثقافية والفعّالية.
تتصاعد عزلة البطل- الفارس المتوحد مع تزايد الترحال والسفر الطويل ويتضخم توحده مع ذاته ثم تطفو شخصيته وترتفع فيها القيمة المطلقة "للأنا" فتحدث القطيعة بينه كإنسان وبين العالم وتتقدم على مسائل الموت والأبدية وتبطل أن تبقى تلك القطيعة مجرد وحدانية – اجتماعية فقط، بل تصبح وحده وتوحد في النظرة للعالم.
جوهر التراجيديا الشركسية هو قانون وحدة ونضال الأضداد ويظهر ذلك جلياً من خلال نضال وصراع القوى المتعارضة ومقتل أحد البطلين.
عند قراءة القصيدة التراجيدية يلاحظ القارئ مدى انفعال الأبطال وتأثرهم من مواقف احتمالات وقوع الموت أو لحظة الشعور باقتراب الموت التي درسها العالم " ويليبز " زسماها " الزمن التراجيدي " ففي الموت يتحطم كل الزمن الماضي والحاضر والمستقبل ويموت الإنسان ثلاث مرات وبثلاث وجهات نظر زمنية، لكنها أزمنة مضغوطة في لحظة واحدة لذلك لا يحس بها الإنسان.
مقدسات البشر هي أهم ما في التراجيديا القفقاسية ويضاف إليها قيمهم الجمالية والروحانية والأخلاقية وما فيها من ثنائيات ضدية قادرة على كشف الزور ومن يصور الشر خيراً وبالعكس باسم شعارات أخلاقية أو تبشيرية في ظاهرها لكن جوهرها وغايتها هي السيطرة والتحكم والاستيلاء على الثروات.
تغمر مسألة الحياة والموت والخلود أهم القصص والقصائد التراجيدية في (م.ن.ش) وتأتي كلها من خلال الثنائيات الضدية وهي تهز المشاعر فالموت والخلود مرتبطان ومتلازمان مع القلق الإنساني منذ أن بدأ الإنسان يشك ويفكر.
تملك أسطورة نارت خواص تراجيدية فريدة وفيها ملامح مأساوية محددة داخل القصيدة في سياقها العام تؤسس للثقافة الأدغية لقدماء الشراكسة جاءت معظمها من الروحانيات القيم الجمالية والأخلاقية وبلغت ذروتها في مراحل متقطعة ومتتابعة من التاريخ استمرت حوالي /300/ عام بعد اجتياح التتار و المغول تشركيسيا أعوام /1227/، ثم دخلت ذروتها العالمية مرة أخرى ما بين أعوام /1763 – 1864/ م خلال الحروب القفقاسية ومازالت حتى الآن في تصاعد وهبوط تبحث عن أساليب عيش جديدة لظروف معيشية وثقافات مختلفة في أكثر من /50/ بلد يعيشون فيه وهم يسعون لتطوير عقائدهم وأفكارهم بأشكال مختلفة ويسعون للعودة إلى تشركيسيا لإعادة إحيائها في إطار الفيدرالية الروسية.
أسطورة نارت ملحمة قومية أصيلة لأنها عكست بأصالة تقاليد وأساليب العيش ولعلها كانت الحاضنة الثقافية التي تشكلت من خلال الخابزة والمينتاليثيت الشركسي.

يجري تعميق عناصر الهول ولمفاجأة في النص الشعري التراجيدي الشركسي بشكل راق أدبياً ومؤثر لدقة انتقاء معاني الكلمات وأسلوب رصفها كجمل مع مراعاة رنتها الموسيقية في المقطع الشعري لتخدم الحالة وتعمق المفاجأة في الأحداث وفي العناصر التراجيدية الداخلة في جوهر النص.

حلب 20/10/2022 أمين حافظ

مقالة مختصرة من كتاب " أسطورة نارت الشركسية ودور الأسطورة في أجناس الآداب العالمية " للكاتب أمين حافظ، سيصدر قريباً.

#امين_حافظ (هاشتاغ)       Amin_Hafez#          

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل