أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - قطار آخن 48














المزيد.....

قطار آخن 48


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 7484 - 2023 / 1 / 6 - 21:00
المحور: الادب والفن
    


الخمّارة في لندن توحّد الناس، تجمع الصغير والكبير، الغني والفقير، الأكاديمي والعامل، المرأة والرجل. طقوسها مائزة هنا، حين تلج مجموعة صغيرة باب الخمّارة يقترب أحدهم من البار، يطلب كأس بيرة لنفسه ولرفاق مجموعته ثم يحاسب البارمان عن الجميع، لا أحد يدفع البخشيش كما الأمر في ألمانيا مثلاً، بعد نهاية يوم عمل طويل تشاهدين الإنكليز واقفين باحتفالية مدهشة أمام خمّاراتهم المفضّلة آخذين بالتحدّث والتدخين واحتساء البيرة غالية الثمن.

ونحن نتناول البيرة في إحدى الخمّارات رحت أحكي لمن يجلس معي كيف تسبح في مخيلتي مئات الصور مما شاهدته وسمعته خلال الساعات الآخيرة في لندن، وكيف أني آن أعود للنوم في غرفة الأوتيل أُصاب بالأرق كأنني طفل كان في رحلةٍ برفقة والديه، طفل يُعيد اِستذكار وإنتاج ما شاهده، يُعيد بناء الصور والأصوات والخبرات التي تشكّلت لديه خلال النهار.

سأكتشف بعد يومين من تجوالي أن لندن الحقيقية تكمن في الضواحي لا في المركز حيث أجلس الآن. من يرغب بالتعَرُّف على المدن الهامة عليه أولاً أن يتأمَّل ضواحيها المظلمة أو أن يقرأ لكُتابها السوداويين. في ضواحي "فيمبلي" و"إيدجوي" و"كولينديل" وغيرها يتغير المناخ السكاني، يختفي الإنكليز، هناك سيرى الواحد أطفالاً يلعبون وعائلات ومساكن بالية غير ما يراه هنا في المدينة، سيشم روائح طبخاتهم عن قرب وسيسمع شتائمهم المقذعة.

نجحت لندن أَيْم نجاح في إحضار وتجنيد بعض المساكين من مجتمعات العالم الثالث ومن مستعمراتها السابقة، لتشكّل بهم ومنهم طبقة العبيد الحديثة ذات الطابع الحضاري، الطبقة الحزينة الفقيرة التي يتوّجب عليها وبكامل الرضا والشكر خدمة البُنى التحتيّة في المجتمع البريطاني. لا قيمة إنسانية حقيقية تُذكر لمن يعيش في أوروبا الغربية قادماً من القارات البعيدة، قيمته تأتي فقط مما يمنحه النظام الرأسمالي له من فتات كي يبقى خادماً أميناً.

يكدح هؤلاء العبيد ليل نهار ـ دون أن تتطور آفاقهم المعرفية ـ في سبيل أن يساهموا في تضخيم رأس المال، ومن غيرهم في لندن سينهض بأعباء أعمال التنظيف والطبخ والصيانة والحراسة والبيع في المحلات الرديئة وتعبيد الطرقات وسياقة الآلاف من سيارات الأجرة وقيادة الباصات الحمراء والقطارات التي تعمل تحت الأرض وفوقها، ومن غيرهم سيخدم المئات من محطات المترو ومحطات القطارات السريعة والمطارات العالمية!

**

وأنا أغادر محطة المترو كاد يصدمني الباص الأحمر فقد نسيت أن أنظر إلى الجهة اليمنى كما العادة هناك ورحت أنظر إلى الجهة اليسرى حيث لفت نظري واحد من فقراء طبقة العبيد بينما كان ينظّف أوساخ المحطة.

فكرت بذلك الرأي الذي نطق به المفكر الثوري "لينين" على ما أعتقد حين ظنّ أن الأعمال الرخيصة، أي الأعمال اليدوية ثقيلة الطبع وغير الإبداعية، سوف تكون ذات قيمة في المستقبل بحجة أن وسائل الإنتاج ستشهد تطوراً واسعاً.

ها قد شهدت وسائل الإنتاج تطورها الحتمي إلى درجة غير معقولة يا رفيق "لينين" وما زالت هذه الأعمال رخيصة ومملة وبائسة ومحصورة بفقراء العالم، ولن يتغير شيء من هذا الوصف حتى لو كان هؤلاء يكدحون في ظل مجتمع شيوعي بحت.

أثناء تجوالي صباحاً في شوارع ضاحية "كولينديل" اللندنية ـ حيث لا أثر للطبقة المتوسطة ـ رأيت كيف هي حياتهم مملة وكئيبة، ولا سيما إذا كان واحدهم دون عمل، رأيت واحداً منهم وكأنني رأيتهم جميعاً. كان يقف أمام منزله المهترئ، كان المكان بارداً وفارغاً إلّا منه ومن قطة تبحث قربه عن فأر تلتهمه، كان يقف بقميصه الداخلي الأبيض وبيجامته القماشية المخططة بالأصفر والبيج، يستند بيديه العاريتين على غطاء برميل القمامة المخصص لمنزله، ينظر بعينيه الحائرتين إلى الشارع الميت وهو يدخن سيجارته بهدوء، راح يتأمل عابر سبيل غريب، يتأملني، كنت أمشي وأتأمل بدوري الرجل الستيني الحزين، الذي يعانق برميل القمامة من شدة الوحدة.

**

ما أن تصلين محطة المترو "أورك" مثلاً، شمال لندن، المحطة التالية مباشرة بعد محطة "كولينديل" التي تبعد حوالي أربعين دقيقة عن مركز مدينة لندن، حتى ترين شارعاً أفعوانياً طويلاً طويلاً مكتظاً بالناس الغرباء، ناس من مختلف الألوان والأحجام والأشكال والأصوات والأديان والطوائف والمذاهب والأعراق والتوجهات، ناس من مختلف بقاع العالم، من الصين وإيران وتركيا والباكستان والهند وأفغانستان والصومال ومصر وسوريا وبلدان أخرى، يعيشون جميعهم في سلام واحترام متبادل ولا أحد يبالي بما يفعله الآخر.

المنازل على طرفي الشارع متلاصقة مهترئة وغالباً تحتوي على طابقين، تحوّل الطابق الأرضي في كل منها إلى دكان أو متجر أو مقهى، لدرجة أنّك ترين بوضوح أنّه بين دكان الحلّاق والحلّاق دكان حلّاق، وبين مكتب العقارات والعقارات مكتب عقارات، وبين دكان الخضراوات والخضراوات دكان خضراوات، وبين دكان الحلويات والحلويات دكان حلويات، وبين دكان الملبوسات والملبوسات دكان ملبوسات.

والناس تمشي في هذا الشارع الواسع أفواجاً، جميعهم، نساء ورجال وأطفال، من حملة الكروش العالية والأرداف العريضة، ناس يتكلمون عشرات اللغات في الوقت نفسه، لأجسادهم روائح غريبة، روائح لا تُطاق أحياناً، لملابسهم روائح تشبه تلك التي تنبعث حين لا يغسل الإنسان ملابسه لمدة طويلة، ناس لا أثر للإنكليز بينهم، ناس فقراء مساكين مثل أولئك الذين يعيشون في ضواحي عواصم أفقر البلدان، ناس طالما ذكّروني بسكان "السيدة زينب" و"نجها" و"المطلة" المحيطة بمدينة دمشق.

**



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قطار آخن 47
- قطار آخن 46
- قطار آخن 45
- قطار آخن 44
- قطار آخن 43
- قطار آخن 42
- قطار آخن 41
- قطار آخن 40
- قطار آخن 39
- قطار آخن 38
- قطار آخن 37
- قطار آخن 36
- قطار آخن 35
- قطار آخن 34
- قطار آخن 33
- قطار آخن 32
- قطار آخن 31
- قطار آخن 30
- قطار آخن 29
- قطار آخن 28


المزيد.....




- الحكم بسجن المخرج المصري عمر زهران عامين بتهمة سرقة مجوهرات ...
- بعد سحب جنسيتها .. أنباء عن اعتزال الفنانة نوال الكويتية بعد ...
- الجامعة العربية تستضيف فعاليات إطلاق الرواية الفلسطينية مليو ...
- بدء تصوير أول فيلم سينمائي روسي هندي
- -طفولة بلا مطر-.. سيرة أكاديمي مغربي بين شفافية الوصف ورومان ...
- فنانة مصرية تعلق على اتهامات بقتل زوجها
- هل العنف في الأفلام يجعلنا نعتاد المشاهد الواقعية؟ ريتا تجيب ...
- فيلم -إميليا بيريز- يتصدر ترشيحات -غولدن غلوب- بـ10 جوائز مت ...
- فنانة سورية تثير الجدل بعد إعلان شفائها من مرض السرطان
- فنانة مصرية مشهورة تعلن إصابتها بشلل المعدة


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - قطار آخن 48