أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نايف سلوم - -عنبر رقم 6-: فيما يشبه الاعداد المسرحيّ















المزيد.....



-عنبر رقم 6-: فيما يشبه الاعداد المسرحيّ


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 7416 - 2022 / 10 / 29 - 02:35
المحور: الادب والفن
    


I
عنبر، نكرة بلا اسم، مجرد رقم من الأرقام المشابهة. في مواصفات العدد (6) أقول: أنه ناتج ضرب ثلثه في نصفه. وإذا جمع نصفه إلى ثلثه كان خمسة. ينعطف عجزه على صدره في تكوّر. مزدوج أو زوجي. إذا جمع مع نصفه كان تسعة، ومربّعه تسعه، ومكعّبه تسعة، مثله في ذلك مثل نصفه.
(عنبر 6): عنبر للمجانين الذين تفلّتوا من "النظام" الآفل على طريقتهم الخاصة، في رحلة تكوّر نحو الداخل المظلم.
يأخذ السرد صيغة مضارعة الحاضر، وهي صيغة الرؤيا والحلم. لهذا نرى تشيخوف يقدم إرشاداً مسرحياً حول الشخصيات، كما لو كانوا شخصيات مسرحيّه.
في صيغة مضارعة الحاضر نقول أن ما يقوله الكاتب عن الفساد المزري والإهمال يصلح لأيامنا، يعكس صور التخلف، ويصلح لواقع بلد متخلف تحكمه بورجوازية رثة وتسوسه حكومة من اللصوص (كليبتوقراط) واللفظ مركّب من مقطعين باللغة الإغريقية؛ أولهما " كلبتو" (Κλεπτο) بمعنى لص، وثانيهما "قراط" (κρατ) بمعنى حُكم.)
وأول ما يظهر لنا هذا الإهمال الفاجر، وقسوة الفساد نراه في المستشفيات والسجون. نقرأ: "هذه المسامير (الناتئة) بأسنانها إلى أعلى، والسور، والجناح نفسه تبدو بتلك الصورة الخاصة الموحشة اللعينة التي لا تجدها عندنا إلا في مباني المستشفيات والسجون" [1: 83]
وفي مضارعة الحاضر يمشي "الراوي" بجانبنا في الطريق إلى جناح المجانين في المستشفى، يقول: "وإذا كنتَ (أيها القارئ) لا تخشى أن يلسعك القريص فلنمض عبر درب ضيق يفضي إلى الجناح، ولنلق نظرة على ما يدور في داخله. بعد أن نفتح أول باب ندلف إلى المدخل. هنا تتكدس بجوار الجدران والفرن جبال من نفايات المستشفى .. أرواب قديمة ممزقة، سراويل وقمصان ذات خطوط زرقاء، أحذية بالية لا جدوى منها، وقد كومت هذه الحثالة أكواماً، مجعدة مختلطة، وتتحلل فتنبعث منها رائحة خانقة" [1: 83] وعلى تلتها يجلس الحارس الفظ عديم القلب نيكيتا.

تعريف بشخصيات القصة:
1-الحارس نيكيتا: جندي متقاعد عجوز ذو أشرطة كالحة، وجهه قاس غائر الخدين، وحواجب كثة يشبه كلب المراعي، وأنف أحمر، قصير القامة بجسد ضامر ومعروق، هيأته مهيبة وقبضتاه ضخمتان.
(إرشاده المسرحي): يتمدد دائماً والغليون بين اسنانه. ينتمي إلى ذلك الطراز من الناس البسطاء الإيجابيين المطيعين والبلداء، الذين يحبون النظام (حتى لو كان متعفناً) أكثر من أي شيء في العالم، لذلك فهم على يقين من أنه يتوجب ضرب هؤلاء "الفارين" من النظام المعتكفين والمعتزلين له، الجانين المغيبين عنه. يعتقد نيكيتا أنه لولا هذا الضرب وهذه القسوة لما استتيب "نظام الإهمال"؛ إهمال "تل الروث" هذا.
نحن في أواخر الصيف، والمكان غرفة كبيرة تشغل كل الجناح باستثناء المدخل. مطلية بدهان أزرق قذر، السقف سوّده السناج، النوافذ شُوهت منظرها من الداخل قضبان حديدية (القضبان الحديدية في النوافذ علامة العبودية والطغيان). الأرضية رمادية مليئة بالشظايا. تفوح في المكان رائحة الكرنب الحامض ودخان الفتيل والبق والنشادر. يخيل إليك للوهلة الأولى أنك تدخل حظيرة حيوانات.
المجانين في الغرفة خمسة أشخاص؛ هم الخمسة الإلهيين الذي تركتهم السماء على الأرض كعلامة على الانحلال والفساد والطغيان على هذه الأرض. أرض هجرتها العدالة وغاب عنها الحق.
أصولهم: نبيل واحد وأربعة من الطبقة الوسطى. إله واحد وأربعة رسل، على طراز المسيح بأقواله الشفاهية، والرسل الأربعة مدوّني الأناجيل المكرّسة. وقد يكون الرقم على سبيل التهكم.
2-اليهودي مويسيكا الأبله: عجوز صغير خجول، خفيف الحركة جداً، ذو لحية قصيرة مدببة وشعر أسود مجعد كشعر الزنجي. يجلس على سريره، على يسار إيفان، ضاماً ساقيه تحته على الطريقة التركية (يتربّع)
(إرشاده المسرحي): في النهار يتجول في العنبر من نافذة إلى نافذة، يصفر بلا كلل كطائر الثلج، يغني ويقهقه بصوت خافت. عندما ينهض ليصلي يدق بقبضتيه على صدره، وينقب بإصبعه في الأبواب. فقد صوابه منذ عشرين عاماً، حين احترقت ورشته الخاصة بتفصيل طواقي الفرو. هو الوحيد الذي يسمح له، من بين النزلاء، بالخروج من الجناح ومن فناء المستشفى إلى الشارع. وهو يتمتع بهذا الامتياز منذ زمن طويل. وهي إشارة إلى امتيازات اليهود، رغم احتقارهم وكراهيتهم من قبل مساكنيهم، كامتياز أخذ الربا لليهود في أوربا العصور الوسطى.
يطعم بالملعقة جاره الأيسر المشلول، وهو لا يفعل ذلك بدافع العطف، ولا لأية اعتبارات إنسانية، بل تقليداً وخضوعاً لجاره الأيمن جروموف. واليمين علامة القدرة والهيمنة، وجمعها أيمان. (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) [الواقعة:91] الفلاحين!
3-فلاح على يمين إيفان، غطّاه الشحم مستدير تقريباً، ذو وجه بليد لا يعبر عن أي شيء. عديم الحركة شرهاً قذر الجسم، تنبعث منه باستمرار رائحة عفونة حادة.
(إرشاده المسرحي)
عندما ينظف له نيكيتا مكانه يضربه بفظاعة وبكل قوته، والمرعب أن هذا الحيوان البليد لم يكن يند عنه أثناء الضرب صوت أو حركة أو نظرة، بل كان يتمايل قليلاً فحسب، كبرميل ثقيل.
4-فراز في البريد: من الطبقة الوسطى، صغير نحيل، أشقر ذا وجه طيب ماكر بعض الشيء.
(إرشاده المسرحي)
يبدو من عينيه أنه حريص، يحتفظ بسر مهم للغاية وسار. لديه تحت الصدارية شيء لا يريد لأحد أن يراه، لا خوفاً بل خجلاً. أحياناً يقترب من النافذة ويولي ظهره لرفاقه، ويضع شيئاً ما على صدره. وإذا اقترب منه أحد نزع ذلك الشيء عن صدره فوراً. وسرّه قريب، حيث قال لإيفان: هنئني لقد رشحت لوسام ستانيسلاف من الطبقة الثانية وبنجمة. وهذا الوسام لا يمنح إلا للأجانب، أي للغرباء؛ غرباء الاطوار!
5-إيفان ديميترتش جرموف: محضر محكمة سابق وسكرتير المحافظة (المحافظة على النظام). قال المسيح: (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ) [مت 5: 17]. في الثالثة والثلاثين، نبيل الأصل (عمره بعمر يسوع المسيح حين أعدم، على يمينه لص وعلى يساره لص آخر)، الشخص الإلهي برسله الأربعة على سبيل السخرية، سخرية من الزهد المسيحي ذو الملمح الرواقيّ الفارّ من التاريخ، والذي يحاول أن يواجه معضلة القيصرية المتعفنة الآفلة ومسألة النظام الجديد. المسيح بآلامه passion يظهر مرتين، الأولى (يسوع) مأساة والثانية (جرموف) مسخرة.
(إرشاده المسرحي)
يقول الراوي: يعجبني وجهه العريض البارز الوجنتين، الشاحب والبائس دائماً، الذي تنعكس فيه كما في المرآة روحه التي عذبها الصراع والخوف الطويل. يعاني من جنون الاضطهاد. فهو إما راقد في سريره متكوراً كالكعكة، وإما يروح جيئة وذهاباً من ركن إلى ركن، على سبيل الرياضة، لا يجلس إلا نادراً جداً. دائماً مضطرب ومنفعل ومتوتر يؤرقه انتظار ما غامض وغير محدد (ربما كان في انتظار اليوم الآخر: آخر الأيام أو القيامة). يكفي أن يتردد حفيف في المدخل أو صيحة في الفناء حتى يرفع رأسه ويصيخ السمع: أليسوا قادمين في طلبي؟ ألا يبحثون عني؟ ويعبر وجهه في هذه الحالة عن منتهى القلق والاشمئزاز.
مؤدب خدوم، مهذب فوق العادة مع الجميع إلا مع نيكيتا. عندما يسقط زر أو ملعقة من شخص يقفز من فراشه ويرفعها. كل صباح يحيّ رفاقه بصباح الخير وفي المساء يتمنى لهم ليلة سعيدة.
إضافة إلى التوتر المستمر وتقلصات وجهه، أحياناً في المساء يلتف بروبه بينما جسده كله يرتعش وأسنانه تصطك، يذهب ويجيء من ركن إلى ركن بين الأسرة، يبدو كأنه مصاب بحمة شديدة، أو كأن الوحي ينزل عليه للتو. ومن توقفه المفاجئ وتحديقه في رفاقه يلوح أنه يريد أن يفضي بشيء مهم للغاية، ولكنه على ما يبدو يدرك أن أحداً لن يصغي إليه أو يفهمه، فيهز راسه بنفاذ صبر ويواصل سيره كما لو كان ذا النون. إلا أن الرغبة في الحديث سرعان ما تتغلب على شتى الاعتبارات، فيطلق العنان لرغبته ويتكلم بحرارة وحماسة، حديثه مضطرب محموم كالهذيان، غير مترابط وليس مفهوم دائماً، إلا أنك تسمع في كلماته وصوته شيئاً طيباً إلى أقصى حد. من الصعب أن تنقل إلى الورق حديثه المجنون. وهو يتحدث عن الوضاعة البشرية وعن الطغيان الذي ينتهك الحق، وعن الحياة الرائعة التي ستكون على الأرض "آخر الأيام"، وعن قضبان النوافذ التي تذكره كل لحظة ببلادة الطغاة وقسوتهم. ويتألف من ذلك خليط مشوش من الأغاني القديمة التي لم تكتمل بعد. [1: 86] إنه يهزأ من الطغاة بقوله: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) [النساء: 157]
الكورس: ألم يضع في يديك أغلالاً حديدية؟
ديونوسوس: عاملته باستخفاف شديد، فبينما خُيّل إليه أنه كان يقيدني، فإنه في الواقع لم يلمسني، ولم يقيدني، إذ كانت تغذيه الأوهام. " كان شخصاً آخر. هو الذي شرب المرارة والخل، لم أكن أنا. كان آخر الذي حمل الصليب فوق كتفيه، كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه، وكنت أنا مبتهجاً في العلا. أضحك لجهلهم" (نقد النساء-قراءة في عابدات باخوس)


II
إن مصير عائلة جروموف كمصير عائلة قدموس التي ضربتها اللعنة لأجيال، أما عائلة جرموف فقد نكبت نكبات متتالية في جيل واحد. "كان لدى جرموف ولدان: سرجي وإيفان، وقد مرض سرجي وهو في الصف الرابع بالسل وتوفي بسرعة، وكأنما كانت هذه الوفاة بداية لسلسلة من المصائب التي انهالت فجأة على أسرة جروموف. فبعد أسبوع من وفاة سرجي قُدم الاب العجوز للمحكمة بتهمة التزوير والاختلاس وسرعان ما توفي في مستشفى السجن من التيفوس. وبيع المنزل وكل المنقولات في المزاد العلني، وأصبح إيفان دميتريتش هو ووالدته دون أي مصدر دخل" [2: 87]
لم يستطع إيفان تحمل الجوع وحياة العوز والكدح اليومي فانهارت معنوياته. "مرض وهجر الجامعة ورحل إلى داره" بعدها حصل على وظيفة مدرس في مدرسة مركز إقليمي، وسرعان ما ترك الوظيفة. ثم ماتت أمه. وقضى نصف سنة بلا عمل، وهو لا يذوق سوى الخبز والماء، ثم التحق بوظيفة محضر محكمة، وظل في الوظيفة إلى أن فصل بسبب المرض" [2: 87]
إرهاصات مرض إيفان:
حتى في سني شبابه الدراسية، لم تبدو عليه ملامح الصحة. كان دائماً شاحب الوجه، نحيلاً، سريع الإصابة بالبرد، يأكل قليلاً وينام نوماً سيئاً. لا يتحمل الخمر، من كأس نبيذ واحدة يدور رأسه وتنتابه الهستريا. دائماً يميل إلى معاشرة الناس، لكن بسبب عصبيته وارتيابه لم تربطه علاقة حميمة بأحد ولم يكن لديه أصدقاء. كان يتحدث عن أهل المدينة باحتقار. كان يقول إن جهلهم الفظ وحياتهم الحيوانية البليدة تبدو له حقيرة ومقززة. كان يتكلم بصوت حاد وبحرارة، بغضب واستنكار أو بإعجاب ودهشة لكن دائماً بصدق. وأيا يكن موضوع الحديث يحوله إلى شيء واحد: الحياة في المدينة خانقة ومملّة، وليس لدى المجتمع اهتمامات سامية، بل يحيا حياة ذابلة فارغة، يرفقها بالطغيان والانحلال الفظ والنفاق. الأوغاد شبعى ومترفون، بينما يأكل الشرفاء الفتات. لا بد من مدارس وجريدة محلية ذات اتجاه شريف، ومسرح وحفلات القاء عامة وتلاحم القوى المستنيرة. في أحكامه يعرف الأبيض والأسود فقط. وكانت البشرية لديه مقسمة إلى شرفاء وأوغاد، ليس بينهما وسط. كان يتحدث عن النساء والحب دائماً بإعجاب، مع أنه لم يجرب الحب مرة" [2: 88]
كان محبوباً رغم عصبيته ومزاجه الحاد، محبوب لتهذيبه ولسترته الرثة وهيئته المريضة ومصائب عائلته. وفوق كل ذلك كان متعلماً ومطلعاً بصورة جيدة. كان يقرأ كثيراً جداً. وكان يبدو على وجهه أنه لا يقرأ بل يزدرد قبل أن يتمكن من المضغ. ولا بد أن هذا النوع من القراءة كان إحدى عاداته المرضية، لأنه ينكب بنفس النهم على كل ما تقع عليه يداه، حتى جرائد وتقويمات العام الماضي. وفي داره كان يقرأ دائماً وهو راقد"
III
تفاقم الارهاصات وظهور أشراط المرض:
كان مزاجه عابساً كما هو الحال دائماً في الصباح. في إحدى الحارات قابل سجينين مكبلين بالأغلال ومعهما أربعة حراس ببنادق. كان إيفان في السابق كثيراً ما يقابل المساجين (بحكم عمله كمحضر محكمة). وكل مرة كانوا يثيرون فيه مشاعر العطف والحرج، أما اليوم فقد ترك هذا اللقاء في نفسه انطباعاً غريباً خاصاً. فقد خيل إليه بغتتة ولسبب ما أنه أيضاً يمكن أن يكبل بالأغلال ويساق في الوحل إلى السجن على هذا النحو. وبعد أن زار المواطن المقصود التقى في طريق عودته عند البريد بمفتش شرطة يعرفه فحياه، وسار بجواره في الشارع بضع خطوات. ولسبب ما بدا له هذا مريباً. في البيت لازمته طوال اليوم صورة المساجين والحراس ذوي البنادق، وعاقه عن القراءة والتركيز قلق نفسي غامض. في المساء لم يشعل الضوء ولم ينم طوال الليل، وهو يفكر في أنه قد يعتقل ويكبل ويلقى في السجن.
كان يعرف أنه لم يرتكب جرماً، ولكن هل من العسير أن يرتكب المرء جريمة من غير قصد، بصورة عفوية، وأليس الافتراء محتملاً، وأخيراً ألا يمكن أن تخطئ المحكمة؟" [3: 89]
ويخطر بباله "الأشخاص الذين لهم علاقة وظيفة أو عمل بمآسي الآخرين، كالقضاة ورجال الشرطة والأطباء، يكتسبون بمضي الزمن وبحكم العادة، مناعة إلى درجة أنهم لا يستطيعون إلا أن يتعاملوا مع زبائنهم بصورة شكلية. من هذه الزاوية فهم لا يختلفون في شيء عن الفلاح الذي يذبح الخراف والعجول في الفناء الخلفي ولا يلاحظ الدماء. وفي ظل الموقف الشكلي المجرد من المشاعر تجاه الفرد، لا يعود القاضي بحاجة إلا إلى شيء واحد هو الزمن لكي يُجرّد الشخص البريء من جميع حقوق الملكية، ويحكم عليه بالأشغال الشاقة" [3: 89-90]
في الصباح نهض إيفان من فراشه فزعاً والعرق البارد يتصبب من جبينه وقد تلبسه جنون الارتياب. وكان كلما فكر بمزيد من التعقل والحكمة ازداد قلقه النفسي شدة وعذاباً. كان ذلك أشبه بالناسك الذي أراد أن يقتطع لنفسه مكاناً في غابة عذراء، فكلما أعمل فاسه بهمة، ازدادت الغابة كثافة ونمواً. وعندما أدرك إيفان في النهاية أن كل ذلك لا طائل منه، ترك عنه التفكير واستسلم لليأس والخوف" [3: 90-91] والغريب أن خياله الذي هو من يرتكب الجريمة "لم يكن أبداً مرناً وخصباً كما هو الان. ولكن في مقابل ذلك ضعف إلى حد كبير اهتمامه بالعالم الخارجي، وخاصة بالكتب، وأصبحت ذاكرته تخونه كثيراً" [3: 91] ومثال "جريمة الخيال" الناجمة عن الشعور بالذنب لعدم تألمه لألم الآخرين، وما يصوره الذعر والخوف، أنه عندما ذاب الثلج وانحسر، اكتشف في الغور المقابل للمقابر جثتا امرأة عجوز وصبي وبهما آثار وفاة غير طبيعية. ولم يعد الحديث يدور في المدينة إلا عن هاتين الجثتين والقتلة المجهولين. ولكن لا يظن أحد أن إيفان دميتريتش هو القاتل، أخذ يسير في الشوارع مبتسماً، وعندما يلتقي بمعارف يشحب وجهه ثم يتضرج، ويأخذ يؤكد أنه ليس هناك جريمة أشد دناءة من قتل الضعفاء والمساكين. ولكن هذا الكذب سرعان ما أرهقه، وبعد قليل من التفكير قرر أن أفضل شيء له في وضعه هذا أن يختبئ في قبو ربة الدار" [3: 91]
حين جاء البناؤون ليعيدوا بناء الفرن في المطبخ، صوّر له الخوف أنهم رجال شرطة متنكرون في زي بنائين، فخرج من الشقة في هدوء بدون سترة أو غطاء رأس وقد استولى عليه الرعب، وركض في الشارع، وانطلقت وراءه الكلاب وهي تنبح، وصاح خلفه شخص ما، وصفرت الريح في أذنيه، وخيل لإيفان دميترتش أن طغيان العالم قد تجمع وراءه يطارده" [3: 92]
عندما عاينه الطبيب أندريه يفيميتش "هزّ رأسه في أسى وأنصرف بعد أن قال لربة الدار إنه لن يعوده (يزوره) بعد ذلك لأنه لا ينبغي إعاقة الناس عن الجنون" [3: 92]
ولما لم يكن لدى إيفان في المنزل ما يقيته ويتعالج به فقد أرسل إلى المستشفى ووضع في هناك في عنبر الامراض الجنسية، "وسرعان ما نقلوه بأمر من أندريه يفيمتش إلى عنبر رقم 6 "
IV
في الصباح يشرب المرضى الشاي في أكواب معدنية، وفي منتصف النهار يتناولون حساء من الكرنب الحامض وعصيدة، وفي المساء يأكلون ما تبقى من العصيدة. وبين ذلك يستلقون وينامون ويتطلعون من النوافذ ويسيرون من ركن إلى آخر. هكذا كل يوم، والفرّاز يتحدث دوماً عن الأوسمة نفسها.
والكرنب الأخضر او الملفوف الأخضر مفيد للصحة، حيث يقوي الجهاز المناعي والعصبي فهو غني بالفيتامينات والألياف والحموض الأمينية، كما أن طعمه لذيذ ويمكن طبخه بأكثر من طريقة. والكرنب الحامض هو مخلل الملفوف، أو ساوركراوت بالألمانية Sauerkraut) )، وتعني حرفيا العشب الحامض، ويدعى أيضا مخلل الملفوف أو الملفوف المخمّر. هو ملفوف مقطع يتم تخميره عن طريق بكتيريا حمض اللبنيك. (ههها)
لا أحاديث في (عنبر رقم 6)، وإن كانت فهي نادرة. الدكتور لم يعد منذ زمن طويل يقبل مجانين جدد. أما هواة زيارة مستشفيات المجانين فقليلون في هذا العالم. مرة كل شهرين يأتي الحلاق يعاونه الحارس نيكيتا. لن نروي مدى الاضطراب الذي يعتري المرضى في كل مرة يظهر فيها الحلاق. لدرجة أنه يمكننا القول: الحلاقة عقدة المجنون!
بخلاف الحلاق، لا يرى المرضى على طول الايام سوى نيكيتا. بيد أنه ترددت في مبنى المستشفى منذ فترة قريبة شائعة غريبة إلى حد كبير.
لقد قيل إن الدكتور أندريه أخذ يتردد على عنبر رقم 6.
وقبل أن نضيء على الحوار التاريخي بين إيفان دميتريتش والدكتور أندريه يميفيتش، أود أن أنوه أن اندساس الدكتور أندريه يفيميتش في "الخمسة المجانين" كاندساس جبريل في الخمسة الإلهيين على سبيل المحاكاة الساخرة (irony). قال الثعالبيّ: وفيهم قيل: أفضل من نحت الفلك، خمسةُ رًهْطٍ وملك" [ثمار القلوب: 1001]
V
الشخص السادس
6-الدكتور أندريه يفيميتش راجين: ذو هيئة ثقيلة ثخينة كهيئة فلاح. متخم متهور حاد الطباع قاسي الوجه، مغطى بعروق زرقاء، عيناه صغيرتان وأنفه أحمر. طويل القامة كتفيه عريضين ضخم الساقين واليدين، لو لكم أحدهم لأزهق روحه هكذا يبدو لأول وهلة.
(إرشاده المسرحي المعتمد على شائعة غريبة)
يقال أنه كان في صباه شديد التدين، وأنه بعد أن انهى الدراسة عام 1863 كان يعتزم الالتحاق بالأكاديمية اللاهوتية، لكن أباه الجرّاح سخر منه سخرية لاذعة، وأعلن له بشكل قاطع أنه سيتبرأ منه إذا ما أصبح قسيساً. وأندريه نفسه اعترف غير مرة أنه لم يشعر أبداً بميل للطب وللعلوم المتخصصة بشكل عام. وبعد أن تخرّج لم يبد عليه تدين خاص. مع أنه ضخم لكن وقع خطواته خفيف ومشيته حذرة متلصّصة. عندما يقابل أحداً في ممشى ضيق يتوقف ليقول بصوت رفيع "آسف". في رقبته ورم يعيقه عن ارتداء الياقات، عموماً ليس هندامه هندام دكتور، فهو يلبس نفس البدلة عشر سنوات. في السترة نفسها يستقبل المرضى ويتناول الغداء ويزور المعارف. لم يكن ذلك بسبب البخل، بل لعدم اهتمامه بمظهره على الاطلاق " [5: 95]
عندما سمع الدكتور أندريه أنهم كانوا في المدينة يعرفون هذه الفوضى التي تضرب المستشفى، وأنهم يقولون: لا ينزل في هذا المستشفى سوى متوسطي الحال والفلاحين، وهؤلاء حياتهم في المنزل أسوأ منها في المستشفى، ومن غير المعقول ان تقدم لهم الديوك البريّة، والحمد لله أن لدينا مستشفى حتى لو كان سيئاً، عندما سمع كل ذلك قال: هذه المؤسسة لا أخلاقية ومضرة إلى أقصى حد بصحة النزلاء" والاصوب إغلاق المستشفى. إلا أنه يستدرك ويقول: إذا أزيلت القذارة الجسدية والخلقية من مكان انتقلت إلى مكان آخر. ينبغي الانتظار إلى أن تتبخر بنفسها. ويضيف: فالخزعبلات وكل هذه الوضاعة والحقارة المعيشية مطلوبة لأنها بمضي الزمن تتحول إلى شيء مفيد، كما يتحول الروث إلى سماد. وليس هناك في الدنيا شيء طيب إلا وكان هناك شيء ما حقير في أصله.
(إرشاد مسرحي إضافي بخصوص الدكتور أندريه يفيميتش)
يهوى للغاية الحكمة والشرف، بيد أنه لا يملك من الايمان والإرادة ما يكفي ليجعل الحياة من حوله حكيمة وشريفة. لا يجيد أبداً إصدار الأوامر والمنع والإصرار، كأنه قطع عهداً على نفسه بألا يرفع صوته أبداً وألا يستخدم صيغة الامر. عندما يريد أن يأكل، يسعل بتردد ويقول للطاهية: لو أمكن شاي. وعندما يخدعونه أو يتملقونه أو يقدمون له حساباً مزوراً عمداً ليوقّع عليه يحمرُّ كسرطان البحر، ويحسّ بنفسه مذنباً، بيد أنه يوقّع الحساب. وعندما يشكو له المرضى من الجوع أو من فظاظة المربيات يخجل ويدمدم بنبرة اعتذار ويقول: حسناً، حسناً
سأنظر في ذلك فيما بعد.. يبدو أن هناك سوء فهم.
بمرور الزمن سئم العمل بشكل ملحوظ لرتابته وعدم جدواه. يكتب في التقرير السنوي أنه تم الكشف عن اثني عشر مريضاً خارجياً، ، أي ببساطة تم خداع هؤلاء. كذلك فمن المستحيل وضع المرضى الخطرين في العنابر ومعالجتهم حسب القواعد العلمية لأن القواعد موجودة أما العلم فغير موجود. وإذا تركنا الفلسفة جانباً واتبعنا القواعد بدقة كما يفعل أطباء آخرون، فلا بد أولاً من توفر النظافة والتهوية لا القذارة، والغذاء السليم لا حساء الكرنب الحامض الكريه الرائحة، والمعاونين الجيدين لا اللصوص.
لكن وحسب فلسفته في "الاستسلام والتشابه" نقول: لماذا نمنع الناس من أن يموتوا طالما أن الموت هو النهاية الطبيعية المشروعة لكل انسان. وإذا كانت الادوية تخفف الآلام فما الداعي لتخفيفها، إذا كانت الآلام تفضي بالإنسان إلى الكمال. ولو أن البشرية تعودت أن تخفف آلامها بالحبوب والقطرات لهجرت الدين والفلسفة اللذين وجدت فيهما حتى الآن لا مجرد الحماية من شتى المصائب، بل العزاء والسعادة أيضاً.
يقول الدكتور أندريه يفيميتش: لقد عانى بوشكين قبل موته عذاباً رهيباً، وهاينة المسكين رقد مشلولاً عدة سنوات، فلماذا لا يمرض من يدعى أندريه يفيميتش؟ ولولا الآلام لأصبحت الحياة فارغة كحياة الآميبا. إن إحساسه بالذنب كامن ينتظر. [6: 97] فقد أثقلت هذه الأفكار وهذا الضمير المتعب على أندريه يفيميتش فتراخى ولم يعد يتردد على المستشفى كل يوم. وأصيبت عاطفته بالهشاشة، وأصبح منظر الدماء يثير فيه اضطراباً كريهاً. وسرعان ما يملُّ من وجل المرضى وقلة حيلتهم.
VI
(إرشاد مسرحي إضافي) هوايات أندريه يفيميتش: يقرأ كثيراً وباستمتاع كبير، ينفق نصف راتبه في شراء الكتب، يهوى أكثر شيء كتب التاريخ والفلسفة، أما الطب فلا يشتري سوى مجلة "الطبيب" التي يبدأ قراءتها من آخر صفحة" [6: 99]
في المساء يأتي مدير مكتب البريد ميخائيل أفيريانيتش، الوحيد في المدينة الذي لا تثقل صحبته على الدكتور أندريه يفيميتش. كان ميخائيل هذا في وقت ما اقطاعياً غنياً جداً يخدم في سلاح الفرسان، لكنه أفلس واضطره العوز إلى الالتحاق بإدارة البريد وهو في شيخوخته. يحترم أندريه ويحبه لثقافته ونبل أخلاقه، أما الآخرون فينظر إليهم بتعال نظرته إلى مرؤوسيه [6: 100]
يبدأ الدكتور إيفان حديثه مع صديقه الوحيد ميخائيل: مما يؤسف له-يقول ببطء وصوت خافت وهو يهز رأسه ولا يتطلع إلى عيني محدثه (هو لا ينظر أبداً في العينين) -مما يؤسف له أشد الأسف يا ميخائيل أفيريانتش المحترم، أنه لا يوجد في مدينتنا على الاطلاق أناس يستطيعون ويحبون أن يتحدثوا حديثاً ذكياً شيقاً. هذه خسارة كبيرة لنا (ولنا هذه تعود إلى الاثنين، فكلاهما يعتبر نفسه ذكياً ومن سلالة نبيلة وراقية). حتى المثقفون لا يرقون فوق مستوى الوضاعة. أوكد لك أن مستوى رقيهم لا يعلو أبداً على مستوى الطبقة الدنيا.
ويستطرد الدكتور بصوت خافت وبتمهل: أنت نفسك (هنا يخاطب صديقه الوحيد كأنه يخاطب نفسه الأخرى) تعلم أن كل شيء في هذه الدنيا تافه وممل باستثناء أسمى مظاهر العقل الإنساني. (ونحن نلاحظ هنا أن شيطان الدكتور عقلي غير حسي، وهو شيطان تحدث عنه ابن عربي في "الفتوحات المكية"، على قولة المسيحية "القويمة": "العقل شيطان والجسد خطيئة"
نتابع الدكتور: فالعقل يضع فاصلاً حاداً (لاحظ الشُقّة (aporia) في فصل الاشياء) بين الحيوان والانسان، ملمحاً إلى ألوهية الأخير، وإلى حد ما يعوضه عن الخلود الذي لا وجود له. وهنا يدخل الدكتور في قائمة الصابئة (صابئة القرآن) من عبدة الملائكة وعلى رأسهم جبريل، وهم يؤمنون بالله وبكتبه، لكنهم لا يؤمنون بالأنبياء والرسل. والدكتور هنا قائم مقام الملاك جبريل على سبيل المحاكاة الساخرة، مُندسّ في الخمسة المجانين.
ويضيف: وانطلاقاً من هذا يصبح العقل المصدر الوحيد المتاح للمتعة. صحيح أن لدينا كتب، ولكن ذلك يختلف تماماً عن الحديث الحي والتخاطب، كاختلاف أقوال يسوع الحي عن مدونات سيرته المزعومة في الأناجيل الأربعة المكرسة. الكتب حسب تشبيه الدكتور غير الموفق، هي النوتة، والأحاديث والاقوال Logia هي الغناء.
نلاحظ أن هذا التشدد في نفي كل جسدية أو متعة جسدية، مصدره تأثر الدكتور أندريه بالفلسفة الرواقية الموغلة في الزهد، كما تأثرت المسيحية المبكرة بها، بحيث يمكن اعتبار الرواقية واحدة من مصادرها الأساسية، عبر سينيكا مستشار نيرون، والفيلسوف اليهودي فيلون السكندري. لكن المفارقة ان العقل الذي يشيد به عقل "طبيعي" بلا اعتبار ولا وجدان ولا غاية تحكمه.
يتحدث الدكتور عن أن الحياة في الماضي الاقطاعي كانت رائعة، مقابل حياة البورجوازية المحدثة في روسيا سنة 1863، أي بعد عامين من الإصلاح الليبرالي وقانون تحرير الاقنان. يقول: كانوا يقدرون مفاهيم الشرف والصداقة. ويتحدث عن النبلاء ونسائهم، وكيف كانوا يشربون، وكيف كانوا يأكلون، وأي ليبراليين جسورين كانوا بينهم! ويظن الدكتور أنه ينتمي إلى نفس السلالة النبيلة هذه. كل ذلك يعبر عن اعجاب الدكتور أندري يفيميتش بالجماعات الليبرالية التي راحت تظهر في روسيا الاقطاعية القيصرية من أيام بوشكين بداية القرن التاسع عشر.
يقول أندريه مقاطعاً حديث ميخائيل، وكأنه يكلم نفسه، ومكرراً ما قاله عن العقل: كثيراً ما أرى في الحلم أناساً أذكياء وأنا أتحدث معهم. لقد منحني أبي تعليماً ممتازاً، ولكنه تحت تأثير أفكار الستينيات (الإصلاحية البورجوازية الليبرالية)، أجبرني أن اصبح طبيباً. يخيل إلي أنني لو لم أطاوعه لكنت الآن في قلب الحركة الفكرية. وربما كنت منضماً إلى عضوية جماعة ما. العقل بالطبع غير خالد بل زائل، لكنك تعلم الآن لماذا أشعر بالميل إليه. فالحياة فخ محزن. عندما يبلغ الشخص المفكر درجة النضج، يحس بنفسه لا إرادياً كأنه قد وقع في فخ لا مهرب منه، وبالفعل فقد جاء إلى الحياة من العدم رغم إرادته بفعل عوامل عارضة. فلماذا؟ إنه يريد أن يعرف مغزى وهدف وجوده فلا يقال له، أو تقال له حماقات. ويدق الباب فلا يفتح له أحد. ولوكان انضم إلى واحدة من الجماعات الليبرالية، واجتمع مع الذين جمعتهم المأساة المشتركة كما في السجن حيث لا يشعر هؤلاء الميالون إلى التحليل والتعميم بوجود الفخ، حيث يوجد مغزى لحياتهم، عندما يجتمعون معاً ويقضون الوقت في تبادل الأفكار الحرة الأبيّة، وبهذا المعنى يعتبر العقل الذي خرج إلى الممارسة الاجتماعية السياسية التاريخية متعة لا بديل لها. وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا، اُطْلُبُوا تَجِدُوا، اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ" [لوقا 11: 9]
ولأن الدكتور أندريه علم بلا عمل فهو يقول: (هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي) [رؤيا يوحنا اللاهوتي 3: 20]
وفجأة يسأله مدير البريد: ألا تؤمن بخلود الروح؟
-كلا يا ميخائل الموقر، لا أومن وليس لدي سند للإيمان (الدكتور ملحد عدمي يرى وجودنا في الحياة ضرب من العبث) في داخله صوتان واحد يقول له: لن تموت ستخلد، وآخر يقول له: حان الوقت لتموت، وقد مات بجنونه موتاً فاسداً.
وفي إشارة رمزية إلى موت الاقطاع وأفوله يقول ميخائيل مشركاً أندريه معه كصاحب نسب نبيل: أنظر إلى أي ركن مهجور ألقت بنا الاقدار! أكثر ما يحزن أننا سنموت هنا. إيه!
وواضح هنا أن عدمية الدكتور مصدرها خذلان الإصلاح الليبرالي البورجوازي سنة 1861 ورهانه الاخرق على خلود روح النبالة والاقطاع! فهو تارة يؤمن بموته وأفوله، وأخرى يتوهم خلوده. وبينهما فهو لا يؤمن باي مستقبل آخر.
"إصلاح الفلاحين وإلغاء القنانة في سنة 1861")): هو أول وأهم الإصلاحات الليبرالية في عهد ألكسندر الثاني قيصر روسيا. أنهى الإصلاح القنانة في روسيا التي عانى منها الفلاحون الروس. أقر بيان إصلاح التحرر 1861 حرية الأقنان في تملك الأراضي والمنازل تملكاً بورجوازياً. بهذا القرار تحرر ما يزيد عن 23 مليون روسي". وكان الاصلاح في الامبراطورية العثمانية أو ما سمي بـ "التنظيمات العثمانية " قد سبق الاصلاح الروسي بأكثر من عقدين وتوّج بقانون "الطابو" أو التملك الخاص البورجوازي للأراضي والمنازل سنة 1858. (طابو): كلمة تركية الأصل (Tapu) مشتقة من الكلمة اليونانية طوپوس (τόπος) أي قطعة الأرض. وتأتي بمعنى وَثِيقَةُ المِلْكِيَّةِ، حُجَّةٌ، صك أو حجة ملكية الأرض، سند أو وثيقة الامتلاك لعقار أو عرصة معينة.
والتنظيمات العثمانية اصطلاح مأخوذ من قانون "تنظيم إتمك"، ويقصد به الإصلاحات التي أدخلت أداة للحكم والإدارة في الدولة العثمانية مطلع عهد السلطان عبد المجيد الأول. وقد تزامن مع فترة الحكم المصري لسورية الذي شكل أداة ضغط تاريخية لإعلانه. ففي الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) 1839، دعا السلطان الجديد عبد المجيد الأوّل وجهاء القوم وأرباب الحكم إلى قصر الزهور (الكلخانة)، حيث قرئ البيان الذي عرف باسم "خط الكلخانة الشريف"، الذي صاغه مصطفى رشيد باشا ناظر الخارجية، بمساعدة المستشارين الفرنسيين. لم يحظ "الخط الشريفط بالاهتمام اللائق من قبل جمهور السوريين حتى بعد عودة الحكم التركي المباشر لسورية إثر رحيل قوات إبراهيم باشا سنة 1841.
هكذا كانت المفارقة بالنسبة للدكتور أندريه يفيميتش: هو مأخوذ بالتنوير الليبرالي وانتفاضة الديسمبريين؛ هذا المسار التغريبي الذي تحوّل إلى اتجاه فكري–سياسي عند الحركة الديسمبرية عام 1825 بقيادة الضباط النبلاء الليبراليين الذين تأثروا بأفكار الثورة الفرنسية بعد أن دخلوا باريس عام 1815 إثر هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو أمام الجيوش البريطانية والنمسوية والبروسية والروسية، والذين تحمس لهم بوشكين من قبل في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، رغم هزيمتهم على يد نقولا الأول السلافي -الأرثوذوكسي المعادي للغرب . لكن مفارقة الدكتور كبيرة، فبعد اصلاح ألكسندر الثاني ظهرت في روسيا بورجوازية ليبرالية رثّة جاءت بعيوب البورجوازية وأضافتها إلى عيوب تأخر روسيا وتقاليدها الاقطاعية العبودية. لم تأت البورجوازية المتأخرة في روسيا (شأنها شأن بورجوازيات البلدان المتخلفة في أيامنا) بالتنوير المأمول ولا بالتحديث المطلوب. فخذل الإصلاح الليبرالي والبورجوازية الضعيفة المتأخرة يفيميتش فنكس إلى ماض اقطاعي آفل راح يصوره له عقله "المعبود الوحيد"، عصراً ذهبياً بتقاليده الليبرالية التنويرية. إن استحواذ الماضي على عقل أصابته المفارقة التاريخية بالانحلال والخَوَر، هو استحواذ مولد للجنون.
VII
ما يزال الكاتب يستخدم صيغة مضارعة الحاضر ليشير إلى توقف الزمن لدى دكتورنا.
فبعد “أن يودع أندريه يفيميتش صديقه (الوحيد) يجلس إلى الطاولة ويشرع بالقراءة مباشرة. ولا يعكّر صمت المساء ثم بعد ذلك صمت الليل، أي صوت، ويبدو أن الزمن قد توقف وتسمّر مع الدكتور فوق الكتاب.. وشيئاً فشيئاً يهلل وجه الدكتور الخشن الفلاحي بابتسامة هيام واعجاب بحركة العقل الانساني" [7: 104] اعجاب وهيام الفلاح القن بسيده ومالكه النبيل، على طريقة أن العبيد يتقمصون سلوك أسيادهم. إعجاب وهيام بحركة العقل الاقطاعي وإيمان بخلوده، هذا العقل السامي "النبيل" الذي يستخرج الانسان من العدم، يكاد يكون عقل إله. ولكن ياللهول من طغيان هذا الاستحواذ!! وعلى أساس هذا العقل الاقطاعي، يتساءل الدكتور بقوله: لما لا يكون الانسان خالداً؟ وهذا السؤال غرضه أيضاً السخرية من فكرة الخلود الجسدي في "التمثيل الغذائي" أي انحلال الجسد البشرى وتحوله إلى سماد للنبات.
ومع ذلك ما تزال المفارقة تشاغل عقل اندريه يفيميتش، فمع أن الماضي "النبيل" يستحوذ عليه كنسب له، إلا أنه و"تحت تأثير الأفكار الجيدة التي قرأها في الكتب، يلقي نظرة على ماضيه وحاضره. الماضي كريه، من الأفضل ألا يتذكره. والحاضر مثله مثل الماضي" [7: 104]
ورغم التطور الهائل في الطب وفي الطب النفسي والمعاملة الإنسانية للمجانين، فإن أندريه يفيميتش يعرف أنه في ظل الآراء والأذواق الراهنة، فإن وضاعة مثل "عنبر رقم 6 “لا يمكن أن توجد إلا على بعد مائتي فرسخ من السكة الحديدية، وفي مدينة رئيسها وجميع نواب بلديتها من صغار البورجوازيين أنصاف المتعلمين الذين يرون في الطبيب كاهناً ينبغي تصديقه بلا أي انتقاد حتى لو صب في الفم قصدير مصهور. ولو كان هذا في مكان آخر (في أرض البورجوازية الليبرالية المتطورة العريقة) لكان الجمهور والصحافة قد مزقا قلعة الباستيل الصغيرة هذه إرباً منذ زمن بعيد، (في إشارة إلى الثورة البورجوازية الفرنسية واقتحام سجن الباستيل الشهير) " [7: 105] ويخرج دكتورنا، رغم التطور الطبي وتطور العلوم، بنتيجة مفادها أن جوهر الامر لم يتغير أبداً، في اعتراض على مجيء البورجوازية التاريخي بشقيها المتطور والمتأخر المتخلف. كل ذلك هراء وأباطيل. وليس هناك في الواقع أي فرق بين عيادة جيدة في فيينا وبين مستشفاي قرب سكة الحديد. لقد فقد يفيميتش إيمانه التاريخي بالبورجوازية الليبرالية بكل أشكالها بما فيها المتطورة العريقة. ومع هذا يشعر بحسد حزين تجاه عيادات فيينا. "فالحزن وإحساساً يشبه الحسد يعوقانه عن أن يكون لامبالياً. يبدو أن ذلك من أثر الارهاق"
ويشعر بالذنب، ومن ثم ينسبه للعصر الذي يعيش فيه ليخفف من وطأته، يقول: "إنني أخدم قضية مضرة وأتقاضى أجراً من الناس الذين أخدعهم، أنا غير شريف. ولكني مجرد جزء صغير من الشر الاجتماعي المطلوب. إذاً فلست أنا المذنب في عدم شرفي، بل الزمن. وعنما تدق الساعة الثالثة يطفئ المصباح ويتجه إلى غرفة النوم، ولا يشعر برغبة في النوم " [7: 106]
VIII
حضور طبيب ريفي شاب يشعر بالحسد تجاه أندريه يفيميتش "العجوز" "الثري".
منذ حوالي عامين تكرم مجلس الإقليم فقرر تخصيص ثلاثمائة روبل سنوياً كمساعدة لتعزيز الطاقم الطبي في مستشفى المدينة لحين افتتاح مستشفى للإقليم، ودعت المدينة الطبيب الريفي يفجيني فيدوروفيتش خوبوتوف لمعاونة أندريه يفيميتش.
هذا الطبيب الشاب ذو الثلاثين عاماً قد جاء إلى المدينة خاوي الوفاض، ليس في شقته سوى كتاب واحد هو "أحدث وصفات فيينا لعام 1881 " وعند زيارته لأي مريض يأخذ الكتاب معه. في المساء يلعب البلياردو في النادي، ويهوى في كلامه كلمات مثل: التسويف، وخزعبلات بالخل، وكفاك مراوغة." في المستشفى لا يضع نظاماً جديداً خوفاً من أن يهين الدكتور أندريه، وهو يعتبر زميله يفيميتش محتالاً عجوزاً، ويظن أن لديه أموالاً كثيرة ويحسده في سريرته، ويود لو حل محله" [8: 107]
IX
وأحدثكم كيف كانت الحالة المزرية لليهودي مويسيكا "سبباً سماوياً" في المواجهة التاريخية بين المسيح "إيفان دميتريتش" والروح القُدُس "أندريه يفيميتش"
قال الراوي: في إحدى أمسيات الربيع في نهاية مارس، عندما لم يعد هناك ثلج على الأرض، وصدحت في فناء المستشفى الزرازير خرج الدكتور إلى البوابة ليودع صديقه مدير البريد. في تلك اللحظة دلف اليهوديّ مويسيكا إلى الفناء عائداً من جولته. كان بلا غطاء رأس، وفي نعل خفيف بلا جورب، ويحمل في يده كيس صغير من الصدقات. وقال للطبيب وهو يرتعد من البرد:
-أعطني كوبيكاً!
وأعطاه أندريه يفيميتش الذي لم يكن يستطيع أبداً أن يرفض، عشرة كوبيكات. وفكر وهو ينظر إلى قدميه العاريتين برسغيه الأحمرين النحيلين (بحياد وجداني): يا له من شيء سيء، إن الأرض رطبة"
وبدافع هذا الإحساس الذي يشبه الشفقة والتقزز-التقزز لكون أندريه من أصل ملكي نبيل، والشفقة لكونه ليبرالي إنساني-مضى إلى الجناح في أثر اليهودي، وهو ينظر تارة إلى صلعته وأخرى إلى رسغيه،" حيث يقبع إيفان دميتريتش في عنبر رقم 6.
قال الراوي: كان الباب (باب السماء) المفضي من المدخل إلى العنبر مفتوحاً. أصغى إيفان دميتريتش، الذي كان راقداً في السرير وقد هم قليلاً معتمداً على مرفقيه وأصغى إلى الصوت الغريب بقلق، وفجأة عرف فيه الدكتور، وارتجف بدنه كله من الغضب، وقفز إلى وسط العنبر بوجه محتقن ساخط وعينين جاحظتين.
حقاً لقد أيقظ يسوع المتلألئ، بصوته الحي، آدم من الرقاد، فانتصب وقام معتمداً على مرفقيه وأصغى بقلق وتوجّس إلى الصوت الغريب!
اللقاء العظيم بين إيفان دميتريتش وأندريه يفيميتش وبدء الحوار الذي أدى إلى اندساس الدكتور في الخمسة المجانين:
إيفان (بتقزز): إنك لص! محتال! جلاد!
أندريه (وهو يبتسم بذنب): هدئ روعك، لست وحياً شيطانياً، بل ملاك مرسل من الآب في الأعالي. أخبرني لماذا أنت غاضب مني؟
إيفان: ولماذا تبقيني هنا؟
أندريه: لأنك مريض
إيفان: نعم مريض، ولكن عشرات ومئات المجانين ينعمون بالحرية لأن جهلك غير قادر على تمييزهم عن الاصحاء. فلماذا علي أنا وهؤلاء التعساء الأربعة (الرسل الأربعة) أن نبقى هنا عن الجميع ككبش فداء (مخلّصين)؟ أنت والحكيم والمشرف وكل أوغادكم في المستشفى أدنى من أي واحد منا من الناحية الأخلاقية بما لا يقاس، فلماذا نبقى هنا وأنتم لا، أين المنطق؟
أندريه: لا دخل للناحية الأخلاقية والمنطق هنا. كل شيء متوقف على الصدفة. ليس هناك أي أخلاقية أو منطق في كوني دكتوراً وأنت مريض عقلي، بل هي مجرد صدفة فارغة.
إيفان: أنا لا أقبل هذا الهراء (قال إيفان ذلك بصوت مكتوم وجلس على سريره)
أما مويسيكا الذي كان "سبباً سماويا" في هذا اللقاء الشديد، والذي استحى الحارس نيكيتا من تفتيشه في حضرة الدكتور، فقد وضع على سريره كسر الخبز والأوراق والعظام التي جمعها، وقال بالعبرية شيئاً ما بسرعة وبصورة منغمة. (يبدو أنه تخيل أنه قد فتح دكاناً)
إيفان (بصوت متهدج): أطلق صراحي
أندريه: لا أستطيع
إيفان: لماذا إذاً، لماذا؟
أندريه: لأن هذا ليس في سلطتي
إيفان (وهو يمسح جبينه، وكأنه قد غُطّ مرات): نعم صحيح، ولكن ماذا أفعل، ما لعمل؟
(أندريه يفيميتش يُعجب بصوت إيفان دميتريتش وبوجهه الذكي ذي التقلصات، ويشعر برغبة في الترويح عن هذا الشاب وتهدئته فيجلس بجواره على الفراش ويفكر.)
أندريه: إن أفضل شيء في وضعك هو أن تهرب من هنا. لكن ذلك غير مجد للأسف، لأنهم سيمسكون بك. عندما يحمي المجتمع نفسه من المجرمين والمرضى النفسيين، وعموماً من الأشخاص المتعبين، فإنه لا يمكن التغلب عليه، ولا يبقى لك سوى شيء واحد: أن تهدئ نفسك بفكرة أن وجودك هنا ضروري.
إيفان: لا أحد بحاجة إليّ.
أندريه: طالما توجد السجون ودور المجاذيب فلا بد أن يبقى فيها أحد. انتظر إلى أن ينتهي في المستقبل البعيد وجود السجون ودور المجاذيب.
إيفان (وهو يبتسم بسخرية ويزرّ عينيه): أنت تمزح، إن السادة أمثالك وأمثال مساعدك نيكيتا لا يهمهم المستقبل في شيء، أنتم عبدة "الوضع القائم" حتى لو كانت أرجله مكسورة ويزحف على بطنه. ولتكن كلماتي مبتذلة، ولتضحك منها، لكن فجر الحياة الجديدة سيهل، وسينتصر الحق، وسيحل العيد في شارعنا! ربما لن أعيش حتى أشهد ذلك اليوم الآخر. لكن أحفاد أشخاص غيري سيعيشون ويشهدون. (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) [الصف: 6]
[ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين(11) ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص(13)] [متى: 24]
(ينهض إيفان وعيناه تلمعان، وقد مدّ يديه نحو النافذة وهو يقول بصوت منفعل كله حماسة)
إيفان: أيها الاحفاد، إنني أبارككم من وراء هذه القضبان، يحي الحق! إنني أسعد!
(إرشاد مسرحي مهم): الدكتور وقد نظر إلى حركات إيفان على أنها لعبة مسرحية مع أنها أعجبته جداً يحاول الرد متسلحاً "بمنطق طبيعي فيزياوي" مشبع بالغباوة البشرية التي تنظر إلى الجسد على أنه جوهر الانسان، كالاقتصاد السياسي المبتذل الذي يرى في البضاعة مجرد جسد. هذا المنطق "الطبيعي" ذو أفق مسدود يقود صاحبه إلى العدمية والالحاد الفارغ المحبط، وإلى المرض العقلي، خاصة وأنه "عقل طبيعي" بلا اعتبار ولا وجدان ولا غاية ولا غاية الغاية. وهو لا يؤمن بوجود النبي الرسول أو السيد الذي يحكم هذا العقل ويقوده نحو المستقبل التاريخي للبروليتاريا.
أندريه: أنا لا أرى أي مبرر للسعادة. نعم الحق سوف ينتصر، ولن يكون هناك سجون ودور مجاذيب، لكن جوهر الأمور لن يتغير، وستبقى قوانين الطبيعة كما هي. سيظل الناس يمرضون ويهرمون ويموتون كما هو الحال الآن. ومهما كانت روعة الفجر الذي سيضيئ حياتك، فسوف يضعونك في النهاية في تابوت ويلقون بك في الحفرة.
(ارشاد مسرحي إضافي: الدكتور معجب بالعقل البشري، لكنه معجب به كعقل يعقل الطبيعة فحسب؛ "عقل طبيعي"، ورغم أنه يعتقد أن هذا العقل هو مخترع الخلود، إلا أنه لا يؤمن بالخلود، حتى لو كان للعقل. لأن الجسد ينحل في التراب ويفنى، وإذا دخل في دورة الخلود فذلك يكون عبر السماد للأرض المزروعة والتمثل الغذائي.
إيفان: والخلود؟
أندريه: آه، دعك من هذا
إيفان: إنك لا تؤمن ولكني أؤمن. أنا أؤمن إيماناً عميقاً بأنه إذا لم يكن هناك خلود فإن العقل البشري العظيم سوف يخترعه إن عاجلاً أم آجلاً. لقد قال شخص ما عند دوستويفسكي إنّه لو لم يكن هناك إله لاخترعه الناس.
أندريه يفيميتش (يبتسم مستمتعاً): حسن إنك تؤمن. بهذا الايمان يمكن أن تعيش في هناء حتى لو كنت مدفوناً في جدار. هل حصلت على تعليم في مكان ما؟
إيفان: نعم، كنت في الجامعة لكني لم أكمل تعليمي.
أندريه (وهو يحاول أن يحرف فكر إيفان "التاريخي" المحب للحياة نحو ضرب من الفلسفة الكلبية المتشددة في الزهد والتقشف): أنت إنسان مفكر ورزين. وتستطيع في أي وضع أن تجد السكينة في نفسك. إن التفكير الحر العميق الذي يسعى إلى فهم الحياة، والاحتقار التام لأباطيل الدنيا الحمقاء هما النغمتان اللتان لم يعرف الانسان شيئاً أسمى منهما. وبوسعك أن تحوزهما حتى لو كنت تعيش وراء ثلاث طبقات من القضبان. لقد عاش ديوجين في برميل لكنه كان أسعد من جميع قياصرة العالم.
إيفان: (يعترض بشدة على وضعه مع "الفلسفة الكلبية" المفرطة في التقشف؛ وضعه موضع ديوجين فلسفياً): ديوجين هذا كان أحمقا. لماذا تحدثني عن ديوجين وعن فهم الحياة؟
(قال فجأة بغضب وقفز واقفاً): إنني أحب الحياة، أحبها بشوق! وعندي عقدة الاضطهاد، خوف مستمر معذِّب. تمرّ بي لحظات ينتابني ظمأ للحياة، عندها أخشى أن أُجنّ.
(يتمشّى في العنبر بانفعال، قال وقد خفض صوته): عندما أحلم تزورني الاشباح. يأتيني أناس ما، وأسمع أصواتاً وموسيقى، ويخيل إليّ أنني أتريض في غابات أو على شاطئ البحر، ويجتاحني شوق جارف إلى الزحام والمشاغل. لكن قل يا دكتور أندريه: ماذا هناك من جديد، ماذا يحدث في "الخارج"؟
الدكتور أندريه: أتريد أن تعرف أخبار المدينة أم بشكل عام؟
إيفان: حدثني أولاً عن المدينة، ثم بشكل عام
الدكتور أندريه: الحياة في المدينة مملة إلى حد العذاب. لا تجد من تتبادل معه كلمة ولا من تسمعه. ليس هناك أشخاص جدد، لكن جاءنا منذ فترة قريبة الطبيب الشاب خوبوتوف.
إيفان: لقد جاء عندما كنت هناك، أهو وقح؟
الدكتور أندريه: نعم شخص غير مهذب، شيء غريب أتدري .. الدلائل كلها تشير إلى أنه ليس هناك ركود ذهني في عواصمنا، ولكن لسبب ما يرسلون إلينا كل مرة من هناك أناساً تودّ ألا تراهم. يا لها من مدينة تعيسة!
إيفان (وهو يتنهد ويضحك): نعم، مدينة تعيسة! وكيف الحال بشكل عام، عمّ تكتب الصحف والمجلات؟
[ارشاد طارئ: بخصوص كلام الدكتور أندريه، وإصغاء إيفان له): كان الظلام قد خيم على العنبر. ونهض الدكتور وراح يتحدث واقفاً عما يُكتب في الخارج وفي روسيا وعن الاتجاه الفكري الملاحظ الآن. وأصغى إيفان بانتباه ووجه إليه بعض الأسئلة، ولكنه أمسك برأسه فجأة وكأنه تذكر شيئاً فظيعاً، وتمدد في السرير مولياً ظهره للدكتور] [9: 113]
الدكتور أندريه: ماذا بك؟
إيفان (بغِلظة): لن تسمع مني بعد الآن كلمة واحدة، دعني!
الدكتور أندريه: لماذا؟
إيفان: أقول لك دعني، مالك ومالي؟
(يخرج الدكتور أندريه وهو يهز كتفيه ويتنهد، يقول ببرود عاطفي، وهو يجتاز المدخل): لو أمكن تنظيف المكان يا نيكيتا.. الرائحة هنا فظيعة!
نيكيتا: حاضر يا صاحب السعادة.
[(إرشاد لنهاية الفقرة التاسعة IX، عبارة عن مونولوج يقوم به الدكتور أندريه بخصوص لقائه مع إيفان): يا له من شاب لطيف! طوال فترة وجودي هنا يبدو أنه أول إنسان يمكن أن نتحدث معه. إنه يجيد النقاش ويهتم بما ينبغي الاهتمام به". وهو يقرأ وهو يأوي إلى الفراش، ظل يفكر بإيفان. وعندما استيقظ في اليوم التالي تذكّر أنه تعرف بالأمس على شخص ذكي ممتع، فقرر أن يزوره مرة أخرى في أول فرصة ممكنة]
X
(اليوم التالي: إيفان راقداً في نفس الوضع الذي كان عليه بالأمس، وقد طوّق رأسه بذراعيه وثنى ساقيه. وجهه غير ظاهر)
الدكتور أندريه: مرحباً يا صديقي، ألست نائماً؟
إيفان (وهو يغطي وجهه بالوسادة): أولاً أنا لست صديقك. وثانياً عبثاً تتعب نفسك: لن تحصل مني على كلمة واحدة.
الدكتور أندريه (يدمدم بارتباك): غريبة.. بالأمس تحدثنا في سلام، ولكنك غضبت فجأة لسبب ما وقطعت الحديث.. ربما أكون قد أسأت التعبير، أو ربما أكون قد أعربت عن فكرة لا تتفق مع معتقداتك.
إيفان (ينهض ويتطلع إلى الدكتور بسخرية وقلق، وكانت عيناه حمراوين): أتظن أنني أصدقك هكذا ببساطة! بوسعك أن تتجسس وتستطلع في مكان آخر، أما هنا فليس لديك ما تفعله. لقد أدركت بالأمس سبب مجيئك.
الدكتور أندريه (وهو يضحك): يا له من خيال غريب! إذاً فأنت تعتقد أنني جاسوس؟
إيفان: نعم أعتقد.. جاسوس أم دكتور وضعوني عنده للاختبار، الامر سيان
الدكتور أندريه: آه يا لك من.. عفواً.. غريب الاطوار!
(إرشاد بشأن الديكور: يجلس الدكتور على مقعد خشبي بجوار السرير وهو يهز رأسه مؤنباً)
حسناً، لنفرض أنك على حق، وأنني أحاول غدراً ان أوقع بك لتسليمك للشرطة ليأخذوك إلى المحكمة ويضعوك في السجن أو يقومون بنفيك والحكم عليك بالأشغال الشاقة. ولكن هل سيكون ذلك أسوأ من بقائك هنا في هذا الجناح؟ أعتقد أنه ليس أسوأ .. فمم تخاف إذاً؟
(يبدو أن هذه الكلمات أثرت على إيفان، فجلس بهدوء)
(الساعة الخامسة مساء، وهو الوقت الذي يتمشى فيه الدكتور أندري في غرفته وتقدم له الخادمة داريوشكا البيرة. الجو في الخارج هادئ وصحو. الدكتور يتخلى عن عادته اليومية ويخرج للقاء محاوره إيفان)
الدكتور أندريه: خرجت بعد الغداء لأتمشى، وعرجت عليك كما ترى. الربيع قد حل تماماً.
إيفان: في أي شهر نحن الآن؟ مارس؟
الدكتور أندريه: نعم، نهاية مارس
إيفان: الأرض قذرة في الخارج
الدكتور أندريه: كلا، ليس إلى هذا الحد. الحديقة بها دروب الآن.
إيفان (يفرك عينيه كأنه استيقظ للتو): ما أجمل أن تركب الآن عربة وتتجول في المدينة، ثم تعود إلى البيت، إلى غرفة مكتب دافئة ومريحة، وتتعالج لدى طبيب جيد من الصداع. منذ فترة طويلة لم أعش عيشة إنسانية. أما هنا فالحال مقزز، مقزز بصورة لا تحتمل.
(إيفان متعب وخائر القوى بعد ثورة الامس، وغير راغب في الكلام، وأصابعه ترتعش، وبدا على وجهه أنه يعاني من صداع شديد)
الدكتور أندريه: ليس هناك أي فرق بين غرفة المكتب الدافئة المريحة وهذا العنبر. إن سكينة الانسان ورضاه، ليست خارجه، بل في داخله.
إيفان: ماذا تقصد؟
الدكتور أندريه: الانسان العادي ينتظر الأمور الطيبة أو السيئة من الخارج، أي من العربة وغرفة المكتب، أما الانسان المفكِّر فينتظرها من داخل نفسه.
إيفان: اذهب وبشر بهذه الفلسفة (الكلبية) في اليونان، حيث الجو دافئ، أما هنا فهي لا تلائم الجو. مع من تحدثت مع ديوجين؟ أظن معك؟
الدكتور أندريه: نعم، معي بالأمس.
إيفان: لم يكن ديوجين بحاجة إلى غرفة مكتب وبيت دافئ، فالجو هناك (في أيونيا) دافئ. فلتجلس في البرميل، وكل برتقالاً وزيتوناً. أما لو قُدر له أن يعيش في روسيا للجأ إلى الغرفة لا في ديسمبر، بل في مايو. ولتجمدت أطرافه من البرد.
الدكتور أندريه: كلا. البرد، مثله مثل أي ألم، يمكنك ألا تُحسّ به. لقد قال مرقس أوريليوس: "أليس الألم سوى تصور حي عن الألم. فلتبذل مجهوداً إرادياً لكي تغير هذا التصور، ولتطرحه عنك، ولتكف عن الشكوى، وسيختفي الألم “. وهذا حق. فالحكيم أو ببساطة الشخص المفكِّر الحصيف يتميز بأنه يحتقر المعاناة. إنه راض دائماً ولا يدهشه شيء.
إيفان: إذا فأنا أبله لأني أعاني، وغير راض، وتدهشني الخسّة البشرية. لا أؤمن بطيبة الانسان، ولا أؤمن بأن الدواء هو الافراط في الزهد الجسدي والتقشف. إنني أشق "وثيقة" المدرسة الكلبية وفيلسوفها ديوجين الكلبي.
في مكان ما قال ماركس ساخراً من الأيديولوجيين الألمان: "ذات مرة تخيل امرؤ شجاع أن البشر إنما يغرقون لأن فكرة الجاذبية تتملكهم. فإذا هم انتزعوا هذه الفكرة من رؤوسهم، مثلاً بالإعلان أنها خرافة فسوف يصبحون من الان فصاعداً آمنين من خطر الغرق."
الدكتور أندريه: عبثاً تقول ذلك. فلو أنك أمعنت التفكر لأدركت تفاهة كل تلك الأشياء الخارجية التي تقلقنا. ينبغي أن نسعى إلى فهم الحياة، ففي هذا الفهم نعمة حقيقية.
إيفان (بامتعاض): فهم الحياة الخارجي والداخلي. عفواً، أنا لا أفهم هذا! (ينهض وهو ينظر إلى الدكتور بغضب) أنا لا أعرف سوى أن الله خلقني من دم دافئ وأعصاب، نعم! والنسيج العضوي، إذا كان قادراً على الحياة، ينبغي أن يستجيب لكل مؤثر، وأنا أستجيب، أرد على الألم بالصراخ والدموع، وعلى الخسة بالسخط، وعلى الدناءة بالتقزز. وأعتقد أن ذلك هو ما يسمى بالحياة. وكلما كان الجسم أدنى مستوى، قلت حساسيته وضعفت استجابته للمؤثرات، وكلما ارتفع مستواه، ازدادت حساسيته للواقع. كيف لا تعرف هذا؟! دكتور ولا يعرف هذه الأمور البديهية التافهة! لكي تحتقر المعاناة وتكون راضياً على الدوام ولا يدهشك شيء ينبغي أن تتردى إلى هذا المستوى (يشير إيفان إلى الفلاح الذي غطّاه الشحم) أو أن تحصِّن نفسك بالألم إلى درجة أن تفقد كل إحساس به؛ أي بعبارة أخرى، أن تكفّ عن الحياة (يتابع ايفان كلامه بعصبية، مع ملمح تهكّم سقراطي، عبر انكاره معرفة الفلسفة): عفواً أنا لست حكيماً ولا فيلسوفاً، ولا أفقه شيئاً في ذلك، أنا لست قادراً على المناقشة.
الدكتور أندريه: بالعكس، أنت تناقش بشكل رائع.
إيفان: إن الرواقيين الذين تحاكيهم، (والذين كانوا في أصل الزهد المسيحي المبكر) كانوا أناساً ممتازين، ولكن تعاليمهم تحجّرت منذ ألفي سنة، ولم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. ولن تتقدم، لأنها ليست عملية ولا حيوية. ولم تلق رواجاً سوى لدى الأقلية التي تنفق الوقت في حفظ ولوك مختلف التعاليم، أما الأغلبية فلم تفهمها. إن التعاليم التي تدعو إلى تجاهل الثروة وملذات الحياة، واحتقار الآلام والموت ليست مفهومة للأغلبية الساحقة، لأن الغالبية لم تعرف قط لا الثروة ولا ملذات الحياة. أما احتقار الآلام فيعني بالنسبة لها احتقار الحياة، لأن جوهر الانسان كله يقوم على أحاسيس الجوع والبرد والاهانات والخسائر والخوف "اليومي" الهاملتي من الموت (نسبة لهاملت شكسبير، حيث هاملت يخاف من الموت والتضحية بنفسه في شروط تاريخية لا تتطلب التضحية، لأن التضحية تكون هنا مجّانية غير منتجة إلا للوضع القائم). أكرر، إن تعاليم الرواقيين، ومنها ومعها التعاليم المسيحية في التقشف والزهد، لن تخرج روسيا (ولا أي بلد متخلف من تخلفه وبؤسه)، لأن التقدم، هو كما نرى منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم، من نصيب الصراع، ورهافة الإحساس بالألم، والقدرة على الاستجابة للمؤثرات.
(فجأة يفقد إيفان حبل أفكاره ويتوقف، ويفرك جبينه بأسى. ثم ينقلب فكره لمديح الرواقيين والمسيح)
عمّ كنت أتحدث، أه، نعم! إنني أقول إذن، إن واحداً من الرواقيين قد باع نفسه وأصبح عبداً لكي يحرر أحد الاقربين. أرأيت، ها هو ذا رواقي قد استجاب للمؤثر، لأن مثل هذا العمل الشهم، يتطلب روحاً مغضبة عطوفاً. خذ عندك المسيح. لقد كان يستجيب للواقع بأن يبكي ويبتسم ويحزن ويغضب، بل كان يستوحش. ولم يمض للقاء الآلام ولم يحتقر الموت، بل صلى في بستان "جتسيماني" لكي يصرف عنه هذه الكاس. (يلاحظ التجاذب في أفكار متناقضة لدى إيفان، حول الرواقية والمسيحية، كما هي مفارقة الأناجيل المكرسة (متى، ومرقس) التي تلمِّح إلى مغاضبة يسوع على إتمام الأمر الإلهي والسير بالدعوة إلى النهاية: " يُنْهِي يَسُوعُ صَلَاتَهُ مَعَ رُسُلِهِ ٱلْأُمَنَاءِ.‏ بَعْدَ ذٰلِكَ،‏ "يُرَنِّمُونَ تَسَابِيحَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ إِلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ".‏ (‏مرقس ١٤:‏٢٦‏)‏ فَيَتَوَجَّهُونَ شَرْقًا إِلَى بُسْتَانٍ يُدْعَى جَتْسِيمَانِيَ حَيْثُ ٱعْتَادَ يَسُوعُ ٱلذَّهَابَ.‏
حَالَمَا يَصِلُونَ إِلَى هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ ٱلْجَمِيلِ بَيْنَ شَجَرِ ٱلزَّيْتُونِ،‏ يَتْرُكُ يَسُوعُ ثَمَانِيَةً مِنْ رُسُلِهِ وَيَمْضِي.‏ وَلَرُبَّمَا يَظَلُّونَ قُرْبَ مَدْخَلِ ٱلْبُسْتَانِ،‏ إِذْ يَطْلُبُ مِنْهُمْ:‏ "اِجْلِسُوا هُنَا رَيْثَمَا أَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَأُصَلِّي".‏ ثُمَّ يَأْخُذُ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا وَيَتَقَدَّمُ قَلِيلًا.‏ وَفِي تِلْكَ ٱلْأَثْنَاءِ يَشْعُرُ بانزعاج شَدِيدٍ وَيَقُولُ لِرُسُلِهِ ٱلثَّلَاثَةِ:‏ "نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى ٱلْمَوْتِ.‏ اُمْكُثُوا هُنَا وَٱبْقَوْا سَاهِرِينَ مَعِي".‏ (‏ متى ٢٦:‏٣٦‏٣٨‏.‏)
ثُمَّ يَبْتَعِدُ عَنْهُمْ قَلِيلًا،‏ ‹وَيَسْقُطُ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَيَأْخُذُ يُصَلِّي›.‏ مَاذَا يَقُولُ لِلّٰهِ فِي هٰذِهِ ٱللَّحَظَاتِ ٱلْعَصِيبَةِ؟‏ يُعَبِّرُ:‏ «أَيُّهَا ٱلْآبُ،‏ كُلُّ شَيْءٍ مُمْكِنٌ عِنْدَكَ،‏ فَٱصْرِفْ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ.‏ وَلٰكِنْ لَيْسَ مَا أُرِيدُ أَنَا،‏ بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ».‏ (‏مرقس ١٤:‏٣٥،‏ ٣٦‏)‏ فَمَاذَا يَقْصِدُ؟‏ هَلْ يَتَمَلَّصُ مِنْ إِتْمَامِ دَوْرِهِ كَفَادٍ؟‏ وهل يغضب في إتمام الدعوة استجابة للأمر الإلهي والتكليف العظيم، كما غاضب ذو النون يونس، حين رفض الذهاب إلى أهل نينوى ودعوتهم للحق. ‏
(يضحك إيفان من المفارقة التي تضربه، ثم يجلس ويتابع دفاعه للحفاظ على تماسك عقله)
إيفان: (موجهاً كلامه للدكتور) لنفرض أن سكينة الانسان ورضاه ليسا خارجه بل في داخله، ولنفرض أنه ينبغي احتقار الالام وعدم الاندهاش لشيء. ولكن، على أي أساس تدعو أنت لذلك؟ هل أنت حكيم؟ فيلسوف؟
الدكتور أندريه: كلا، لست فيلسوفاً، ولكن كل إنسان ينبغي أن يدعو لذلك لأنه الصواب.
إيفان: لا بل أخبرني لماذا تعتبر نفسك خبيراً في مسألة فهم الحياة واحتقار الآلام وما إلى ذلك؟ هل تألمت في حياتك؟ هل تفهم ما هي الآلام؟ اسمح لي: هل ضُربت في طفولتك؟
الدكتور أندريه: كلا، كان والداي ينفران من العقاب الجسدي.
إيفان: (كأنه يقرأ في كفّ الدكتور) أما أنا فكان أبي يضربني بقسوة، كان أبي موظفاً حاد الطبع، مصاباً بالبواسير، ذا أنف كبير ورقبة صفراء. ولكن دعنا نتحدث عنك. طوال حياتك لم يمسك أحد بإصبعه، ولم يرهبك أحد أو يقهرك. وأنت صحيح كالثور. وقد تربيت في كنف ابيك وتعلمت على حسابه، وبعد ذلك حصلت فوراً على وظيفة مريحة وعشت أكثر من عشرين سنة بالمجان في شقة بالتدفئة والنور والخدم وتملك الحق في أن تعمل ما تريد وكيفما تريد، حتى لو لم تعمل شيئاً. وأنت بطبيعتك شخص كسول، رخو، لذلك سعيت لتدبير حياتك بحيث لا يزعجك شيء ولا يحركك من مكانك. وقد سلمت الأمور للحكيم وبقية الاوغاد. بينما جلست في الدفء والسكون، تدخل النقود وتطالع الكتب وتمتع نفسك في التفكير في مختلف ألوان الهراء السامي (ينظر إيفان إلى أنف الدكتور الاحمر) وبالشراب. باختصار، أنت لم تر الحياة ولا تعرفها على الاطلاق، ولست مطلعاً على الواقع إلا من الجانب النظري. يحتفظون بنا هنا وراء القضبان لنتعفن ويعذبوننا، ولكن ذلك رائع ومعقول (حسب فلسفتك) لأنه ليس هناك أي فرق بين هذا العنبر وغرفة المكتب الرائعة المريحة. هذه فلسفة مريحة تبرر كل شيء مهما يكن مفارقاً! وتقول: لا تفعل شيئاً بينما ضميرك مستريح وتحس بنفسك حكيماً. كلا يا سيدي، هذه ليست فلسفة، وليست تفكيراً ولا سعة أفق، بل كسل وتنبلة، وزهد بالآخرين، وأضغاث أحلام.. نعم!
(يعاود إيفان الغضب من جديد)
إيفان: طبعاً، إنك تحتقر الآلام، ولكن لو أن اصبعك انحشرت في الباب فلربما صرخت بأعلى صوتك.
الدكتور أندريه (وهو يبتسم بوداعة): وربما لا أصرخ.
إيفان: كيف لا، أما لو أصابك الشلل، أو لنفرض أن احد الحمقى الوقحين أهانك علناً، مستغلاً مركزه ورتبته وأنت تعرف أنه لن يعاقب على ذلك، لأدركت عندئذٍ ما معنى أن تدعو الآخرين إلى فهم الحياة وإلى "النعمة الحقيقية".
الدكتور أندريه (وهو يضحك من المتعة ويفرك يديه؛ متعة أن آخر ذكي يؤنبه): هذا طريف. إن ما يذهلني فيك هو قدرتك على التعميم، أما الصورة التي تفضلت من توك برسمها لشخصي فهي، ببساطة باهرة، أصارحك بان الحديث معك يحمل لي متعة فائقة. حسناً، لقد استمعت إليك فلتتكرم الآن بالاستماع إلي.
قال الراوي يا سادة يا كرام:
استمر هذا الحديث حوالي ساعة أخرى، وترك في نفس أندريه يفيميتش، على ما يبدو أثراً عميقاً. وأصبح يتردد على العنبر كل يوم. كان يأتي في الصباح وبعد الغداء، وكثيراً ما كانت ظلمة المساء تحل وهو يتحدث مع إيفان دِميتريتش، يتلقى منه "الوحي المقلوب"!
في البداية كان إيفان ينفر منه ويرتاب في سوء قصده، ويعرب بصورة سافرة عن نفوره، ولكنه تعود عليه فيما بعد، وبدّل معاملته الحادة له إلى نبرة متعالية ساخرة.
وسرعان ما سرت في المستشفى شائعة تقول بان الدكتور أندريه يفيميتش أصبح يتردد على عنبر رقم 6. ولم يستطع أحد، لا الحكيم ولا نيكيتا الحارس، ولا المربيات أن يفهم السر وراء ذهابه إلى هناك، ولماذا يجلس الساعات الطوال يتحدث في أشياء ما، ولماذا لا يكتب روشتات. وبدت تصرفاته غريبة. وكثيراً ما كان ميخائيل أفيريانيتش لا يجده في البيت، الأمر الذي لم يحدث من قبل أبداً، وكانت داريوشكا في غاية الارتباك لأن الدكتور لم يعد يشرب البيرة في مواعيده المحددة، بل كان أحياناً يتأخر عن الغداء.
وعندما فتح الطبيب الشاب خوبوتوف الباب قليلاً وأطل برأسه في العنبر. كان إيفان دميتريتش بطرطوره والدكتور أندريه يفيميتش جالسين على السرير متجاورين. وكان المجنون يقلّص وجهه وينتفض ويلف نفسه في الروب بعصبية، بينما جلس الدكتور بلا حراك وقد نكّس رأسه، ووجهه محتقن عاجز حزين. وهزّ خوبوتوف كتفيه وضحك بسخرية، وتبادل النظرات مع نيكيتا ، فهز هذا أيضاً كتفيه.
حتى الآن كان أندريه يفيميتش مقتنعاً بأنه ليس هناك أي فرق بين بيت المواطنة بيلوفا وعنبر رقم 6، وأن كل شيء في هذا العالم هراء وباطل الاباطيل، ومع ذلك ارتعشت يداه، وبردت قدماه، واستولى عليه الرعب من فكرة أن إيفان دميتريتش سوف يستيقظ ويراه مرتدياً الروب، فنهض، وتمشى قليلاً، ثم جلس.
وحين استيقظ إيفان دميتريتش من نومه وسُئِل عن هذه الأحوال للدكتور يفيميتش قال (بتعال ساخر): "أندريه منا أهل عنبر رقم 6، لقد اندسَّ فينا نحن الخمسة المجانين كما اندس جبريل في الخمسة الإلهيين"! ولكن، لا بأس.. في العالم الآخر سنُحيي عيدنا .. سوف آتي من العالم الآخر طيفاً؛ شبحاً وظلاً لأخيف، لأوقع الرعب في قلوب هؤلاء الأوغاد، واجعل رؤوسهم تشتعل شيباً! وأقول: إذا لم يكن هناك "يوم آخر"، فهذه هدية الظالم.
(إرشاد أخير من أجل السينوغرافيا: يذهب الدكتور أندريه إلى النافذة وينظر إلى الحقل: كان الظلام قد هبط، وفي الجانب الأيمن من الأفق صعد قمر بارد أحمر. وعلى مقربة من سور المستشفى على بعد مائة ذراع لا أكثر، انتصب منزل ابيض عال، محاط بجدار حجري، كان ذلك مبنى السجن).



#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسرحية -الجحيم- -تعليقات وحواشي
- التوتر التاريخي بين النظرية والممارسة السياسية
- -الأعمال والأيام- في الخلق؛ أعمال المؤلف –المخرج
- في استعمال غرامشي كـ “أدب مضاد-!
- سلافوي جِيجك ومرجعياته الثلاث
- الماركسيّة في عود إلى نقد الدين
- الإغواء الإيرانيّ- سيرة الشيخ الرئيس
- مُعْتمَد أدب -العالم الثالث- المُكرَّس المُضاد
- -تفكيك الاشتراكيّة العربيّة-
- الاقتصاد السياسيّ للتنمية
- الوجه الآخر للمسيح
- «دين إبراهيمي» أم خدعة استعماريّة؟
- ديالكتيك الاجتماعي- التاريخي
- الصورة الملازمة والصورة المفارقة؛ من الحقيقة إلى الحق
- نظام الرأسمالية الاحتكارية ومعضلة العنصرية
- من العثمانية إلى عروبة الاسلام
- دور الفرد في التاريخ
- الحكم بالوكالة ومسألة -الفساد-
- التنين الأكبر: الصين في عقدين
- -فك الارتباط- المعكوس و -نهاية التخلف-


المزيد.....




- أوركسترا قطر الفلهارمونية تحتفي بالذكرى الـ15 عاما على انطلا ...
- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نايف سلوم - -عنبر رقم 6-: فيما يشبه الاعداد المسرحيّ