أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نايف سلوم - التوتر التاريخي بين النظرية والممارسة السياسية















المزيد.....


التوتر التاريخي بين النظرية والممارسة السياسية


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 7387 - 2022 / 9 / 30 - 06:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


هذا تعقيب على مقالة "حازم صاغية": "الصدام بين السياسة والنظرية"، والتي
كان الاجدى أن يكون عنوانها: تاريخ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية؛ التوتر بين النظرية والممارسة السياسية.
يقول كاتب المقالة: تحاول هذه الاسطر استعراض المحاور والمفاصل الأهم في تاريخ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية كفكرة وشروط اجتماعية تاريخية سياسية.
هذه المسيرة للسياسة الاشتراكية الألمانية أكثر غنى وتعقيداً من أن تختصرها تهم "الخيانة" والردة و "الرشوة" في تلميح لانتقاد لينين لكاوتسكي (الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي) بعد ارتداده عن فكرة الثورة الاجتماعية الاشتراكية، ونكوسه عن مقررات مؤتمر بازل للأممية الاشتراكية الثانية 1912 التي ناهضت الحرب.
حسب المقالة، ينتقد برنشتاين "الانهيار القيامي الوشيك للاقتصاد الرأسمالي تحت وقع تناقضاته الاقتصادية". بالطبع لم يقل أحد من الماركسيين بذلك سوى البيروقراطيين الستالينيين ذوي النزعة الميكانيكية الطبيعية في التاريخ. وبرنشتاين لم يعاصرهم. ولو كان الماركسيون يعتقدون ذلك لما كانت بهم حاجة للأحزاب والنضال السياسي الطبقي.
الامر الثاني مهاجمة برنشتاين للديالكتيك في الماركسية الموروث نقديا عن هيغل. من الطبيعي أن يهاجم مفكر إصلاحي تطور الديالكتيك الهيغلي-الماركسي. لكنه يهاجم أيضاً "بيان الحزب الشيوعي" في إشارة إلى كفاية الحزب الليبرالي من اجل اصلاح الرأسمالية التي لا يراها برنشتاين إلا في مراكزها في بلدان أوربا الغربية.
أما وصمه الماركسية بأنها ذات بعد ديني فهذا لا يُعيبها، فجميع الحركات الاجتماعية الثورية ذات طابع "ديني" (حسب تصنيف الفيلسوف الوجودي الديني كيركيجور) أي هي حركات تسعى لتحويل نمط الحياة الاجتماعية عبر الإيمان بالثورة المقبلة أو اليوم الآخر، ومن دون هذا الاعتقاد "بالمستقبل المقدس" لا تستطيع أي حركة سياسية تاريخية الصمود والنضال. الماركسية كفكرة ثورية للتحويل الاجتماعي التاريخي هي الوريث النقدي للدين، فالعلم الطبيعي الحديث لا يمكنه القيام بهذه المهمة، فهو أدنى من أن يقوم بذلك.
أما مفهوم "الحتمية" بالمعنى الذي يطرحه برنشتاين فهو بعيد كل البعد عن الفكر الماركسي، وهي آفة لاحقة جاءت بها دوغما البيروقراطية السوفياتية (الستالينية) ومنهجها الميكانيكي الطبيعي. وكانت عبارة "الانهيار الحتمي" للرأسمالية تعني لدى المنظّرين الماركسيين، انهيارها الممكن بفعل النضالات الطبقية، وهي سمة لعصر برنشتاين.
بخصوص "قومية" العمال الألمان لعب تأخر ألمانيا التاريخي في التصنيع والوحدة القومية الدور الأكبر.
يورد كاتب المقالة حججاً عن مراجع يعتمدها دون نقدها. فهو لا يهتم للنقابات العمالية الكاثوليكية ودورها الرجعي في انهاء الاحتجاجات العمالية.
مهم في المقالة انتقاد الكاتب لعلمويّة كارل كاوتسكي، وإشادة -هذا الأخير-بالعقلانية الطبيعية الفيزياوية اللادينية، ويظهر هذا الملمح بوضوح في كتابه " الدين والصراع الطبقي" في ابتعاد عن العقل/ الروح الهيغلي وحركته في التاريخ.
إن إصلاحية برنشتاين النقابية قادته إلى فكرة الاشتراكية الامبريالية بين 1902-1914 حيث روج لفكرة سادت أوربا الغربية أواخر القرن التاسع عشر مفادها أن "للتوسع الامبريالي مهمة إيجابية وتمدينية للشعوب المتأخرة" ودافع عن سياسات امبريالية وتوسعية لألمانيا. يقول الكاتب: الواقع في مسائل العلموية والعنصرية والحرب كان برنشتين وآخرون جزء من التاريخ الأوربي".
يتحدث الكاتب بضغينة عن سياسات البلاشفة خالطاً بشكل مقصود بين السياسة القومية للينين في تقرير المصير (مثال استقلال فنلندا) وبين سياسات ستالين اللاحقة المناهضة لتقرير المصير للقوميات غير الروسية.
والكاتب على ما يبدو يلخص كتاب بارينغتون مور ويعتمده في كتابه (Injustice: الطغيان).
ورغم استخفاف الكاتب بالرشوة والفساد والخيانة عند قادة النقابات العمالية ودورها التاريخي الرجعي، فهو يقول: "بدأ قادة الحركة العمالية، بسبب تلك الاتجاهات (الإصلاحية والانتهازية) يكتسبون بعض مزايا جنرالات الجيش، أو رؤساء أية منظمة بيروقراطية كبرى متجنبين خوض معارك لا تكون مضمونة النتائج"
لقد وقعت الماركسية الارثوذكسية الوسطية (كاوتسكي) في وهم (ثورية أكثرية السكان) والاعتماد الدائم على ذلك. بعد عام 1912 راح كاوتسكي يقترب من إصلاحية وتطورية برنشتاين. حيث قال "بالتأكيد ليس المقصود تدمير سلطة الدولة (البورجوازية)"
بيد أنّ كاوتسكي كان صاحب رأي خاصّ به في 1914، حين صوّتت الأكثريّة الساحقة من النوّاب الاشتراكيّين الديمقراطيّين في الرايخستاغ (البرلمان) لصالح تمويل الحرب. فقد حبّذ «بابا الماركسيّة» الامتناع عن التصويت، وإن اعتبر أنّ ألمانيا تخوض حرباً دفاعيّة ضدّ روسيا القيصريّة. وفي 1915، حين تبدّت لكاوتسكي طبيعة الحرب تلك وقسوتها واحتمال ديمومتها، أصدر هو وبرنشتاين وهوغو هاس، السياسيّ والقانونيّ الاشتراكيّ والباسيفيّ، موقفاً ضدّ مؤيّدي الحرب من قادة الحزب الاشتراكيّ" أقول: يطعمك الحج والناس راجعة، لقد تأخر كاوتسكي، وهذه مأساة المترددين المتحيرين، ومعها مأساة الاشتراكية -الديمقراطية الألمانية.
الحرب بنظر كاوتسكي هي نتيجة للسياسات الحربيّة والقوميّة التي باتت تنتهجها الدول الرأسماليّة المتقدّمة، وهذا على الضدّ ممّا رآه المؤيّدون الاشتراكيّون للحرب، لكنّ الإمبرياليّة، في نظره، ليست حاجة اقتصاديّة للرأسماليّة، بل هي (الامبريالية) سياسة (من دون اقتصاد) لا تخدم مصلحتها، وهذا على الضدّ ممّا رآه نقّاد الحرب الراديكاليّون. وهذا الرأي لكاوتسكي حول العسكرة والامبريالية في الرأسمالية الاحتكارية مغرق في الخطأ. وقد قدم بوخارين صياغة حاسمة بهذا الخصوص، حيث يقول: "يتضمن قانون رأس المال المالي (الاحتكاري)، كلاً من الامبريالية والعسكرة، وبهذا المعنى فإن العسكرة لا تقل عن رأس المال المالي في كونها ظاهرة تاريخية نموذجية" (بوخارين: الامبريالية والاقتصاد العالمي)
خاض كاوتسكي أكبر معاركه الفكريّة ضدّ الثورة والنظام البلشفيّين في روسيا. فهو يرى في البلشفيّة منظّمة تآمريّة استولت على السلطة بانقلاب وأطلقت تغييرات ثوريّة لا تملك أي أساس اقتصاديّ يسندها في بلدها، فيما نمتْ، في المقابل، بيروقرطيّة تسيطر على المجتمع وتتحكّم به." إن معاصرينا ليغتبطوا بتوصيف كاوتسكي للبيروقراطية السوفياتية، وهي ظاهرة لاحظها لينين قبيل وفاته مثلما لاحظها كاوتسكي. لكن الخطأ الأكبر والنقص في الديالكتيك عند "الارثوذكسية الماركسية" (كاوتسكي) هو أنه لم يفهم مسألة مستجدة، وباتت بحاجة لصياغة ألا وهي: هل ما تزال البورجوازية، مع دخولها مرحلة الاحتكار والامبريالية والعسكرة، قوة تقدمية تسهل تقدم وتطور القوى المنتجة في المجتمع؟ كاوتسكي كان يراها ما تزال تقدمية ويمكنها في روسيا (الجمعية التأسيسية) في حال لم ينقلب عليها البلاشفة ان تلعب هذا الدور!؟ أما لينين مسلحاً بدراسته الحاسمة حول الامبريالية سنة 1916 فقد رأى العكس تماماً، حيث باتت البورجوازية في المرحلة الامبريالية (كرأسمالية احتكارية) رجعية على طول الخط، في ظل جميع النظم، وأن الحزب البورجوازي في روسيا ذو النسب الاقطاعي هو أعجز ما يكون كي يسمح للقوى المنتجة في روسيا بالتطور على شاكلة بلد أوربي غربي.
كان واضحاً إيمان كاوتسكي بالبرلمان البورجوازي الذي عفا عليه الزمن، وهذا مغزى انتقاده للبلشفية و"دكتاتورية البروليتاريا". في الوقت الذي ترى الماركسية الثورية أن السلطة موجودة في كل مكان ما عدا البرلمان!
يفتري كاوتسكي على ماركس حين يجعله يتبنى فكرته البرلمانية الإصلاحية، خاصة وأن ماركس دعا لدواعي إقامة دكتاتورية البروليتاريا إلى تحطيم آلة الدولة البورجوازية. وليس الاعتماد عليها في إقامة الاشتراكية. يقول الكاتب: وبطريقته رأى في نصوص كارل ماركس مصداقاً لفهمه، حيث أنّ ماركس، وفق تأويل كاوتسكي، لم يقصد بديكتاتوريّة البروليتاريا، سوى حقّ الاقتراع للجميع ووصول البروليتاريا إلى السلطة بوصفها أكثريّة عدديّة، وهو ما لا تتيحه لها إلاّ الديمقراطيّة (الليبرالية)"
يقول الكاتب: كان رد لينين بأن هاجم كاوتسكي في كتاب شهير حمل عنوان الثورة البروليتاريّة والمرتدّ كاوتسكي، دار في معظمه حول الدفاع عن ديكتاتوريّة البروليتاريا التي وحدها تكسر قدرة البورجوازيّة على المقاومة، والدفاع عن ثورة أكتوبر التي يُفترض أنّها تعبّر عن تلك الديكتاتوريّة، فضلاً عن الدفاع عن السوفياتات بوصفها الشكل الروسيّ للديكتاتوريّة المذكورة. وكان قد سبق للينين أن تناول كاوتسكي (نقدياً) في عمليه الشهيرين الدولة والثورة (1917)، والإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة (1916)، قبل أن يكرّس له أواخر 1918، الكتاب الصغير المذكور، متّهماً إيّاه بالليبراليّة وبتحويل ماركس إلى «ليبراليّ عاديّ»، وبتقليد المناشفة الروس، خصوصاً مارتوف، فضلاً عن كونه " ماركسيّاً بالكلام وبورجوازيّاً بالأفعال"
يبدي الكاتب ملاحظات انتقادية على "التزمت اللينيني" في فهمه للدولة، وهي ملاحظات تخفي موقفاً سياسيا ينفر من البلشفية (وهي سمة للإنتلجنتسيا)، خاصة بعد أن تم دمجها بالستالينية لاحقاً، في كلام نقادها. ومع هذا يعقب الكاتب بالقول: لقد عالج كاوتسكي هذا النظام برمّته بوصفه نتاج الكارثة الاجتماعيّة التي أنتجتها الحرب، والتي لم تنج الطبقة العاملة، وعلى شتّى المستويات، من آثارها وآثار دمارها الاقتصاديّ.
ولكي يبرر كاتب المقالة هجومه الواضح على تعاليم لينين والبلشفية عموماً على درب ليبرالية كاوتسكي، يستشهد لهذا السبب بكتاب تروتسكي الذي يرد فيه على تهمة كاوتسكي للبلشفية بالإرهاب. والكتاب بعنوان: الإرهاب والشيوعية، رد على كارل كاوتسكي 1920" ومستخدماً العنوان نفسه "الإرهاب والشيوعية"، كتب تروتسكي ضد كاوتسكي (1920)، مسهباً في عرض سياسات النظام البلشفي، وخططه جاعلاً لغة لينين تبدو، قياساً بلغته، حمائمية وديعة.
في إشارة إلى كتيب ماركس الشهير "نقد برنامج غوتّا" تفسر عنوان مقالته أعلاه يقول الكاتب: لقد سبقت الإشارة إلى بعض العوامل التي وسعت المسافة، بين ألمانيا عموماً، بما فيها طبقتها العاملة، والاطروحات الراديكالية (الثورية). والحال أنه منذ وقت مبكر نسبياً ظهرت علامات التوتر بين ماركسية ماركس والاشتراكيين الألمان." حيث انتقد ماركس فقرة فقرة برنامج الحزب الاشتراكي –الديمقراطي الألماني المنعقد في غوتّا 1875، ومع ان النقد كتب في نفس العام إلا أنه لم ينشر إلا سنة 1891 بعد وفات ماركس. يقول الكاتب: لكن ما أكسب هذا النص، على قصره أهميته البالغة في الأدبيات الماركسية كان تناوله مبادئ صارت مرتكزات أساسية، كدكتاتورية البروليتاريا والانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية وطوري المجتمع الشيوعي الأدنى (لكل حسب مساهمته) والأعلى (من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته). وقد استعاد لينين هذا التصور الثوري سنة 1917 في كتابه "الدولة والثورة" مسمياً الطور الأول "بالاشتراكية"، والثاني ب "الشيوعية"
وكان ماركس قد انتقد لاسال من قبل، وهو المعروف بجمعه بين الاشتراكيّة والقوميّة المتطرّفة والنزعة الإمبراطوريّة، فضلاً عن علاقة ربطته ببسمارك، وعن غرائبيّة شخصيّة وُصف بها. "لقد ردّ ماركس قصور «برنامج غوتّا» وإصلاحيّته وهواه البورجوازيّ إلى تلامذة فرديناند لاسال (الذي تُوفّي في 1864) ممّن نقلوا أفكاره ولغته إلى الحزب الوليد وحشدوها في برنامجه. وكان لاسال، في عرف ماركس، انتهازيّاً، يكبح مطالب العمّال للتقرّب من السلطة، ويشوّه البيان الشيوعيّ" يقول الكاتب: تبقى تلك التجربة إيذاناً مبكراً ببعض العناوين الخلافيّة التي لن تلبث أن تتصدّر تاريخ الاشتراكيّة الألمانيّة. وهو ما تَكرّس مع المؤتمر الحزبيّ الثاني الذي عقده الاشتراكيّون الديمقراطيّون (الألمان) في 1891 في إيرفورت، وعُرف برنامجه ببرنامج إيرفورت. فهذا أيضاً لم يبدّد الخلافات التي عبّر عنها إنجلس، وإن ذهب البرنامج الجديد المنقود بعيداً في يساريّته قياساً بسابقه.
فالبرنامج هذا الذي كتبه كاوتسكي، بمشاركة بِبل وبرنشتاين لم يقل شيئاً عن ديكتاتوريّة البروليتاريا، وإن بات يردّ جذور الحزب "إلى المعلّم الكبير ماركس." وبدوره أكّد لينين لاحقاً أنّ أهميّة هذا البرنامج وأهميّة نقده تنبعان من أنّه أصبح "موديلاً" لكلّ الأمميّة الثانية".
لكنّ مواقف الحزب تلك لم تَحُل دون إعلان رغبته في بلوغ أهدافه عبر العمل السياسيّ الشرعيّ ومؤسّساته (البورجوازية)، حيث يرد إنجلس بالقول: إن الأهداف التي يطرحها الحزب على نفسه لا تحقّقها إلاّ ديكتاتوريّة البروليتاريا"
إن حجة برنشتاين ومع كاوتسكي القائلة: إنّ الديمقراطيّة المباشرة (عبر كومونة أو، لاحقاً، عبر سوفيات) لم تعد ممكنة في ظلّ العصر الصناعيّ وتنامي أعداد السكّان ونموّ دور الدولة وتوسّع البيروقراطيّة والتنظيم المركزيّ، تنقلب ضده وتؤكد على العكس الدور الحيوي لدكتاتورية البروليتاريا (الدولة العمالية) في مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية.
شهدت ألمانيا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر تطوّرين كبيرين: من جهة، توسّع أعداد الطبقة العاملة، ومن جهة أخرى توسّع الصناعة التي بدأت ثورتَها الألمانيّة بين أواسط القرن التاسع عشر وسبعيناته، بحيث لم ينته ذاك القرن إلاّ وقد تحوّلت ألمانيا إلى واحدة من أكبر ثلاثة بلدان صناعيّة في العالم، إلى جانب بريطانيا والولايات المتّحدة" هذا الإنجاز التقدمي والتحديثيّ للبورجوازية الألمانية بالتحالف مع الملاكين اليونكرز يفسر الميل نحو "الاصلاح" لا الثورة لدى الاشتراكية-الديمقراطية الألمانية. لقد أنجزت البورجوازية مهمامها في ألمانيا: الوحدة القومية والتصنيع، أي أنجزت الثورة الديمقراطية البورجوازية، ولم تبق أية روافع ديمقراطية بورجوازية لثورة البروليتاريا، وذلك بعكس المشهد الروسي لاحقاً.
من جهة أخرى، كان التحوّل الانتخابيّ الكبير العائد إلى 1871، متزامناً مع قيام كومونة باريس وهزيمتها وإتمام توحيد ألمانيا"
ما لبثت أن اندفعت، في 1905، وبالتفاعل مع مناخات الثورة الروسيّة عامذاك، تيّارات بات يصعب التوفيق بينها داخل حزب واحد. فقد باشر فريدريش إيبرت، أحد قياديّيه وألمع مُنظّميه (الذي بات لاحقاً، إبّان جمهوريّة فايمار، أوّل رئيس للجمهوريّة)، مأسسة الحزب وتحديثه للمرّة الأولى منذ تأسيسه، عاملاً على تحسين شروطه في العمل البرلمانيّ ورفع نسبة تجانسه مع النقابات ذات التركيب البيروقراطيّ هي الأخرى" وهذه الجمهورية "الاشتراكية" هي التي اسقطها صعود النازية الألمانية سنة 1933، وما تبع ذلك من تصفية لأحزاب الطبقة العاملة وللنقابات وإلحاق الأخيرة بالحزب الاشتراكي –القومي النازي بقيادة هتلر. لقد قرأ السيسيولوجي الشهير ماكس فيبر في صعود إيبر بتعاداً من الحزب عن الثورة والطرق الثوريّة" وتكريساً للبرلمانية الليبرالية. ولم يخف اعجابه به.
واقع الأمر أنّ ما كان يقوّي الاقتصاديّ على السياسيّ، والوطنيّ المعتدل على الأمميّ المتطرّف، داخل الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة، أنّ القوى القوميّة والإمبرياليّة كانت، على العموم، إصلاحيّة فيما خصّ الطبقة العاملة في ألمانيا، بينما كانت معادية للشعوب الأجنبية.
لقد فل ظهور الامبريالية في الرأسمالية في الثلث الخير من القرن التاسع عشر من ثورية العمال الألمان، خاصة بعد انجاز الوحدة القومية والتصنيع المتطور على يد البورجوازية وتحالفاتها مع ملاك الأرض. يقول الكاتب: ومنذ مؤتمر الحزب في كولون عام 1893 ظهر الصوت العمّاليّ المتخوّف من دور التعليم الأكاديميّ ومن تشكيله خطراً على الطابع البروليتاريّ للحركة. فالمتعلّمون والمثقّفون لم يتركوا جبهة «العدوّ» التي جاؤوا منها إلاّ لأنّها لم توفّر لهم العمل والمداخيل، أمّا بقاؤهم «معنا» فمرهون بالأجور التي يتقاضونها من العمّال جرّاء عملهم في مؤسّسات عمّاليّة، إعلاميّة وتثقيفيّة وتحريضيّة، لكنّهم «سوف يخونوننا عند أوّل ساعة خطر». كذلك ظهرت أصوات تشكّك بقدرة المثقّفين على التضامن مع الطبقة العاملة، إذ «المتعلّمون غالباً ما يرون أنفسهم جزءاً من طبقة أخرى" وهذه الفئة من المثقفين (الانتلجنتسيا)هي التي اتخذ لينين تجاهها حذراً منهجياً في وقت لاحق.
تعرف ويكيديا هذه الفئة المثقفة بالقول: The intelligentsia is a status class composed of the university-educated people of a society who engage in the complex mental labours by which they critique, shape, and lead in the politics, policies, and culture of their society as such, the intelligentsia consists of scholars, academics, teachers, journalists, and literary writers.
كانت أول ضربة لخرافة البرلمانية سنة 1907 فحينذاك، وبالاستفادة من أوضاع أوروبيّة ودوليّة رجعية (بعد هزيمة ثورة 1905 في روسيا)، نجح المستشار بيلو في تحويل الانتخابات العامّة إلى استفتاء حول القوميّة وموقع ألمانيا «تحت الشمس» ودورها الإمبرياليّ، وبالتالي عموم السياسة الخارجيّة. هكذا انخفض عدد النوّاب الاشتراكيّين الديمقراطيّين المطعون بوطنيّتهم (كونهم الطرف الوحيد المناهض للحرب يومذاك)، والذين تخلّى عنهم حلفاؤهم «تقدّميّو الطبقة الوسطى»، من 81 نائباً إلى 43" من ثم قاد أوغست بِبل، متحالفاً مع إيبرت، التيّار الوطنيّ الذي أراد أن يمحو عن الحزب «وصمة العداء للوطنيّة» ويُطمئن «النقّاد البورجوازيّين"
وفي العام نفسه، 1907، انعقد، في شتوتغارت، المؤتمر السابع للأمميّة الاشتراكيّة. حيث صُنّف مؤتمر شتوتغارت منعطفاً في تاريخ الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة انتقلت معه إلى ما وصفه نقّادها بالتسامح مع الكولونياليّة والنزعة العسكريّة والحرب"
يقول الكاتب: هكذا لم يعد برنامج إيرفورت، الأشدّ ارتباطاً باسم كاوتسكي، والذي كان لا يزال معتَمَداً حزبيّاً، موضع أيّ إجماع ولو في الحدّ الأدنى. فمن جهة، راح برنشتاين وبِبِل يطالبان بمزيد من التوافق مع النقابات ومع «تقدميّي الطبقة الوسطى»، بينما غدت لوكسمبورغ وكارل ليبنخت أشدّ إصراراً على برنامج للحزب يكون أشدّ ثوريّة وتصلّباً. ومع وفاة بِبِل (المولود في 1840) عام 1913 وانتقال القيادة الحزبيّة إلى إيبرت (المولود في 1871)، طُويت صفحة القادة الذين عاصروا ماركس وإنجلس وعاشوا البدايات والأعمال التأسيسيّة، فمضى القائد الجديد يمتّن السلطة الحزبيّة مستخدماً التعبئة الحربيّة ضد روسيا ذريعةً لتأييد الحرب، حتّى إذا انتهت الأخيرة بعد أربع سنوات، شغلَه توطيد «ديمقراطيّة بورجوازيّة» تمثّلت في جمهوريّة فايمار.
يقول الكاتب مبيناً اعتماده بشكل رئيسي على قراءة مور بالقول: ما لم يُشر إلى العكس، فإنّ الأسطر التالية تستعيد رواية مور (المرجع السابق: الطغيان)، لا سيّما الصفحات 220-353.
ويستعيد بارينغتون مور تلك الحقبة، منبّهاً إلى أسباب بعيدة وقريبة توفّر في مجموعها فهماً أفضل لما شهدته ألمانيا حينذاك. ذلك أنّ قوى المجتمع القديم التي انهزمت وسُحقت في الحرب العالميّة الأولى (اليونكرز والجيش والبيروقراطيّة والبيزنس الكبير) إنّما سلّمت بوصول معتدلي الطبقة العاملة إلى السلطة تجنّباً لولادة خيار راديكاليّ كان قد بدأ يطلّ برأسه. وإذا صحّ أنّ المعتدلين ظلّ في وسعهم السيطرة على تمدّد المتطرّفين وضبطه، فإنّ هذا ألزمهم بدفع كلفة كبرى هي التحالف مع القوى المحافظة، الأمر الذي خلّف شعوراً بالمرارة والإحباط عند كثيرين من العمّال وعند الليبراليّين القلائل.
فبعد هزيمة 1918 والفوضى التي تلت، دفع الشكُّ بالحماسة الجماهيريّة القادةَ الاشتراكيّين «لأن يروا أنّ الأخطار الكبرى آتية من اليسار، ما أعماهم عن رؤية الأخطار الآتية من اليمين والتي أثبتت، قبل أن يطول بها الزمن، أنّها أكثر جدّيّة.
أخيراً يقول الكاتب: وعلى العموم، وفيما اتّجهت الماركسيّة شرقاً، من خلال روسيا وثورتها البلشفيّة، فإنّ عناية الأحزاب الاشتراكيّة غير الشيوعيّة باتت تتركّز على أمرين يجمع بينهما البناء على واقع الدولة – الأمّة لما بعد انهيار الإمبراطوريّات في الحرب العالميّة الأولى، ومن ثمّ تمتين العقد الاجتماعيّ في بلدانها: من جهة، تحسين أوضاع الطبقة العاملة من خلال الديمقراطيّة البورجوازية، حيث تحقّقت إنجازات فعليّة وملموسة، ومن جهة أخرى، مسايرة الوطنيّات القائمة، وبشيء من المبالغة أحياناً، ما أضعف الاستعداد لاستقبال الصعود اليمينيّ والفاشيّ اللاحق. وإذا كان لهذا التطوّر الأخير أن طرح أسئلة جدّيّة على صواب الافتراض التطوّريّ (الاصلاحي)، وكونه هو أيضاً مشروع عقيدة مغلقة ودوغمائيّة، فإنّ صعود الفاشيّة في الثلاثينيات يتعدّى كثيراً «خيانة» الاشتراكيّة الديمقراطيّة مثلما يتعدّى توأمه الذي هو استفزازيّة اليسار الراديكاليّ ودفعه الأمور إلى استقطاب لا يملك المجتمع الألمانيّ يومذاك مقوّماته. فألمانيا وجمهوريّة فايمار كانتا تئنّان تحت وطأة مشكلات ضخمة تتصدّرها معاهدة فرساي المُذلّة والمطالبات بالتعويض عن الحرب العالميّة الأولى، فضلاً عن التضخّم الفلكيّ ثمّ الكساد العالميّ الكبير في أواخر العشرينيات وفي الثلاثينيات. أمّا مدى إسهام العاملَين هذين – «الخيانة» والاستفزاز – في ذاك الصعود الفاشيّ فيبقى موضوعاً آخر".
*حازم صاغية صحفي كاتب وناقد ومعلّق سياسي لبناني وأحد أعلام جريدة الحياة اللندنية،



#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -الأعمال والأيام- في الخلق؛ أعمال المؤلف –المخرج
- في استعمال غرامشي كـ “أدب مضاد-!
- سلافوي جِيجك ومرجعياته الثلاث
- الماركسيّة في عود إلى نقد الدين
- الإغواء الإيرانيّ- سيرة الشيخ الرئيس
- مُعْتمَد أدب -العالم الثالث- المُكرَّس المُضاد
- -تفكيك الاشتراكيّة العربيّة-
- الاقتصاد السياسيّ للتنمية
- الوجه الآخر للمسيح
- «دين إبراهيمي» أم خدعة استعماريّة؟
- ديالكتيك الاجتماعي- التاريخي
- الصورة الملازمة والصورة المفارقة؛ من الحقيقة إلى الحق
- نظام الرأسمالية الاحتكارية ومعضلة العنصرية
- من العثمانية إلى عروبة الاسلام
- دور الفرد في التاريخ
- الحكم بالوكالة ومسألة -الفساد-
- التنين الأكبر: الصين في عقدين
- -فك الارتباط- المعكوس و -نهاية التخلف-
- رسالة في نظرية اللوغوس عند فيلون الإسكندريّ
- المدينة المسحورة


المزيد.....




- -بعهد الأخ محمد بن سلمان المحترم-..مقتدى الصدر يشيد بالانفتا ...
- الكشف عن بعض أسرار ألمع انفجار كوني على الإطلاق
- مصر.. الحكومة تبحث قرارا جديدا بعد وفاة فتاة تدخل السيسي لإن ...
- الأردن يستدعي السفير الإيراني بعد تصريح -الهدف التالي-
- شاهد: إعادة تشغيل مخبز في شمال غزة لأول مرة منذ بداية الحرب ...
- شولتس في الصين لبحث -تحقيق سلام عادل- في أوكرانيا
- الشرق الأوسط وبرميل البارود (1).. القدرات العسكرية لإسرائيل ...
- -امتنعوا عن الرجوع!-.. الطائرات الإسرائيلية تحذر سكان وسط غ ...
- الـFBI يفتح تحقيقا جنائيا في انهيار جسر -فرانسيس سكوت كي- في ...
- هل تؤثر المواجهة الإيرانية الإسرائيلية على الطيران العالمي؟ ...


المزيد.....

- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نايف سلوم - التوتر التاريخي بين النظرية والممارسة السياسية