أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - بصدد مسألة صعود المفهوم العلمي حول تاريخ الفلسفة















المزيد.....



بصدد مسألة صعود المفهوم العلمي حول تاريخ الفلسفة


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 7401 - 2022 / 10 / 14 - 14:03
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


مؤلف المقالة: الماركسي السوفييتي تيودور أرزاكينين*

ترجمة مالك أبوعليا

دائماً ما تكون مسائل تاريخ الفلسفة، بغض النظر عن جوانب ذلك العلم التي يُعالجونها، مُهمةً جداً. اليوم، عندما تسعى الفلسفة المثالية الى طرح صورة مُبالغ فيها حول أهمية القِيَم الروحية الرئيسية التي أنشأتها شعوب الغرب، فإن مُعالجة هذه المسألة تكتسب أهميةً خاصة. في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، زاد عدد المؤلفات حول تاريخ الفلسفة المنشورة في الخارج بشكلٍ حاد. يتم تنقيح واعادة نشر أشهر الأعمال القديمة. ظَهَرَ عدد كبير من الكتابات حول المنهجية. ينتشر تأثير الفلسفة في مجالات المعرفة الأُخرى وتاريخها. يسعى مؤرخة الثقافة والعلوم والتكنيك، على وجه التحديد، متأثرين بالمفهوم المادي للتاريخ، الى تسليط ضوء الفلسفة على المسائل التي تظهر حتماً في هذه المجالات عند دراسة تاريخها، والتي لا يُمكن حلها عن طريق حقول العلوم الخاصة نفسها. هذا الظرف يؤدي الى أن تصير مسائل منهجية تاريخ الفلسفة ذات أهمية خاصة ويضع مسؤولية أكبر على عاتق الباحثين في هذا المجال.
تاركين المسائل الأُخرى ذات الأهمية جانباً، نود هنا أن نتطرق الى تأريخ تاريخ الفلسفة، وإعادة بحث بعض التقاليد التي تم تثبيتها في هذا المجال منذ زمن هيغل على وجه التحديد. تُعالج الكتابات حول تاريخ الفلسفة بشكلٍ طبيعي مسألة متى نشأ هذا العلم. على الرغم من أن هذا السؤال قد يبدو هيناً، الا أن ايجاد إجابة عليه يجعل من المُمكن تتبع المُحتوى الحقيقي لمناهج وتقاليد تاريخ-فلسفية مُعينة راسخة.
يعتقد مُعظم الفلاسفة أن تاريخ الفلسفة لم يكن موجوداً أبداً كفرع فلسفي مُستقل في العصور القديمة أو العصور الوسطى أو في القسم الأول من العصر الحديث. يُزعَم أن هذا الفرع قد ظَهَرَ في القرن الثامن عشر، وصار علماً فقط مع ظهور كتاب هيغل (تاريخ الفلسفة)(1).
ان الرأي القائل بعدم وجود تاريخ الفلسفة كفرع في العصور القديمة راسخ ويتحدث حول أن الفصول التسعة الأولى من كتاب (الميتافيزيق) لأرسطو، وأعمال ديوجين اللايرتي Diogenes Laertius وبلوتارك وستوبايوس Stobaeus ويوسيبيوس القيصري Eusebius of Caesarea وسيكستوس امبيريكوس Sextus Empiricus وغيرهم اكتسبت "مجد" كونها كانت مصادرموثوقة بالكامل حول فلسفة اليونان القديمة. هذا المفهوم انتقل الى مؤرخي الفلسفة الحديثين، وببساطة لم ينظر أحد الى العمل التأليفي المُتميز الذي قام به الفيلسوف العربي في القرن الثاني عشر أبو الفتح تاج الدين عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني Mohammed al Shakhristani، حول تاريخ الفلسفة وعنوانه (المِلَل والنِحَل).
في طرحه المُفصّل لمفهومه حول جوهر تاريخ الفلسفة وموضوعها في (مُحاضرات في تاريخ الفلسفة، ترجمة الدكتور خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر 1986)، لم يُولِ هيغل أي اهتمام تقريباً لمسألة أهمية الأعمال المُتعلقة بتاريخ الفلسفة قبل مُحاضراته وأعماله الخاصة، واكتفى بمُجرّد سرد غير منهجي لبعضٍ منها. لا يُمكن لطريقة العرض، ومُحتوى الصفحات القليلة، وطبيعة مُلاحظة هيغل لمؤرخي الفلسفة السابقين له، والاختيار العشوائي للأسماء، الا أن يُثير الارتباك. السبب بالطبع، ليس فقط إهمال هيغل أو غطرسته، ولكن أيضاً الطابع التأملي لتفسيره للمنهج التاريخي. نؤكّد هذا لأنه بعد دخول هيغل مجال تاريخ الفلسفة، الأعمال التي كان من المُمكن فيها العثور على "منهجية تاريخية" تتوافق مع معيار هيغل هي التي تُعتَبَر تاريخاً فلسفياً. ومع ذلك، كانت الخصائص التي تُميّز تاريخ الفلسفة كعلم، موجودةً في العصور القديمة، وكذلك في العصور الوسطى، وفي العصور الحديثة المُبكرة أيضاً.
كُل عصرفي تاريخ المُجتمع يخلق ثقافته المادية والروحية. هذه الأخيرة توجد في مُستوىً مُعيّن من التطور وهو أمر تُشاركه جميع عناصرها في فترة مُعينة. تتمتع الثقافة غير المادية ومجالات المعرفة التي تتكون منها أيضاً بسمات مُحددة يطبع كُل عصرٍ طابعه عليها، وواجب الباحث العلمي هو دراسة وتقييم فرع مُعيّن من المعرفة مع الاهتمام الدقيق بتلك السمات. لا يُمكن تقييمها بشكلٍ صحيح إن قام المؤرخ بمُعالجة هذه القِيَم من مواقع معايير الأزمنة المُعاصرة، مثل زمان المؤرّخ نفسه. ان تم استخدام مثل هذه المعايير ، فسيكون للعلم صفة الابتذال، حتى لو كان الباحث يستخدم أُسلوباً وصفياً بدائياً أو اسلوباً تأملياً "مُحسناً".
نشأ التفكير في تاريخ الفلسفة في العصور القديمة، في ظل ظروف تطور العلم القديم، وكان من الطبيعي أن يتسم بخصائص مُشتركة مع هذا الأخير. بغض النظر عن مدى أولية هذه المُقدمة، الا أنها ذات أهمية قُصوى وتجب الاشارة اليها عندما يُعالج المرء "تاريخانية" هيغل. هيغل، الذي اعتبر التاريخ الكُلّي للفكر، وتاريخ الفلسفة قبل كل شيء، كتاريخ لنشوء منظومة وجهات نظره، شوّهَ صورة التطور التاريخي بعُمق بحيث أنه من الضروري إتخاذ موقف نقدي للغاية تجاه تاريخانيته وتذكُّر الحقائق الأولية التي تجاهلها هيغل بوعي، والحقائق التي غالباً ما شوهها عمداً.
تميّزَ العلم القديم بعدم التمايز الكافي بين مُختَلَف فروعه، وأُسلوبه السردي، والعَرض الصُوَري imagery in presentation، والنزعة الأخلاقانية، والعلاقة الشديدة بالأساطير، ونتيجةً لما سبق، تشرذم مُقترن بوعي بوحدة الأفكار، وملموسية أنشطة العالِم أو الفيلسوف "الرجل الحكيم" وسلوكه اليومي بطريقة تُشبه الى حدٍ كبير خطاب المُحادثة (ولغة الحوار)، وما الى ذلك. كل هذه الخصائص المُميزة للكتابات التاريخية والفلسفية القديمة هي أيضاً سمات للأعمال التي نعتبر أنها تدخل في عالم تاريخ الفلسفة.
ومع ذلك، يجب أن يظل في بالنا ظرف آخر أيضاً. واجهَت أعمال مُفكري العصور القديمة مصيراً مأساوياً. لقد ضاع مُعظمها في الحروب التي لا تنتهي في زمن تفكك العالم القديم ومُجتمع العبودية. بلَغَ هذا ذروته في حرق مكتبة الاسكندرية. ومع ذلك، حُفِظَت العديد من المُقتطفات والمقاطع من كتابات الفلاسفة القُدامى في أعمال مؤرخي تلك الفترة. وكانت النتيجة، أن عُلماء عصرنا، الذين ركزوا اهتمامهم على هذه المُقتطفات والمقاطع، لم يعتبروا الأعمال القديمة التي ظهرت تلك المُقتطفات فيها على أنها تاريخ للفلسفة، ولم يُثَر أي سؤال عن القيمة المُستقلة لهذه الأعمال. علاوةً على ذلك، لم يهتم هيغل ولا مؤرخي الفلسفة اللاحقين بظاهرة ملحوظة في الفلسفة القديمة، وهي ظهور أعمال مجموعة خاصة حدد مؤلفوها لأنفسهم هدف إعادة تشكيل وكتابة الأفكار الفلسفية السابقة لهم. كَتَبَ البعض منهم-أرسطو على سبيل المثال-هذه الأعمال بغرض التحقق من صحة أفكار الماضي الفلسفية. وَضَعَ آخرون، مثل ديوجين اللايرتي
Diogenes Laertius فقط تاريخاً من "الآراء" بترتيب زمني تقريبي. ولكن، قام آخرين، مثل سيكستوس امبرييكوس Sextus Empiricus ويوسيبيوس القيصري وبلوتارك القديس اوغسطس بالمبُبالغة بفلسفات الماضي وإعادة تفسيرها لصالح تعاليم أُخرى. كان يجب تفسير ظهور كتابات من هذا النوع، ولكن ليس المرور عنها بصمت. سيكون من الغريب الاعتقاد بأن أرسطو وشيشرون Cicero وديوجين اللايرتي وجوانيس ستوبايوس Joannes Stobaeus وسكستوس ويوسيبيوس وبلوتارك واوغسطين قد شغلوا أنفسهم ببساطة في جمع "شذرات" الأعمال الماضية دون أي هدف أو لمُجرّد نقل هذه المقاطع المُعيّنة الى أجيال المُستقبل.
يخضع ظهور تاريخ أي علم لقوانين مُحددة. بعد وجوده لفترة مُعينة، يجمع كل علم قدَراً مُعيناً من المعرفة، والذي لن يتمكن من التقدم أو يتطور أكثر من هذا دون أن يتملكه. في اليونان القديمة، حيث أحرزت الفلسفة تقدماً كبيراً، كان الفلاسفة في وقتٍ مُبكرٍ من القرن الخامس للميلاد يعتمدون الى حدٍ كبير على مُنجزات الأجيال السابقة في هذا المجال. الى جانب التطور اللاحق للفكر الفلسفي، كان هذا الظرف هو الذي أدى الى الحاجة الى دراسة منهجية للتعاليم الفلسفية التي ظهرت في وقتٍ سابقٍ في التاريخ. تبلورَ هذا الفرع الجديد للفلسفة الذي ظَهَرَ بهذه الطريقة، تدريجياً، ليصير تاريخ للفلسفة. سيكون من غير المُجدي البحث عن أعمال في تاريخ الفلسفة خلال القرنين السادس والسابع قبل الميلاد، حيث عاش "الفلاسفة الأوائل"، لكن ظهور مثل هذه الكتابات أيام أرسطو كان مُتوقعاً تماماً، بقدر ما تقدمت الفلسفة في ذلك الوقت بشكلٍ ملموس على طول المسار التاريخي وأحرزت تراكماً معرفياً مُعتبراً لم يكن من دون تملّكه أي امكانية لتقدمها اللاحق. يبدو أن أرسطو كان أول من أدرَكَ هذه الحاجة، وهو أول مؤرّخ للفلسفة نملك معلوماتٍ عنه. لقد وضع تاريخ الفلسفة في الفصول من 1-9 من كتابه (الميتافيزيق). إن أعمال أرسطو هي الأكثر إحكاماً واتساقاً من بين جميع أعمال العصور القديمة حول تاريخ الفلسفة. لم يُنصّب لنفسه مهمة اختزال وجهات النظر حول الفلسفة التي كان يألفها الى أشكال منظومية. لقد نَصَب لنفسه مُهمةً أكثر محدوديةً، وهي إظهار ماهية موضوع الفلسفة وكيف تمت، من قِبَل أسلافه، مُعالجة المسائل الفلسفية التي اعتبرها الأكثر أهميةً. من محدودية المهمة التي يضعها لنفسه، كان أرسطو قادراً على إعادة انتاج جوهر الفلسفة السابقة بإيجاز ودقة. يُعد هذا العمل أحد أكثر الأمثلة المُميزة للثقافة غير المادية في العصور القديمة. يحتوي هذا العمل على أهم العناصر التي تجعله ينتمي الى تاريخ الفلسفة: التحليل وجهود تركيب أهداف الفلسفة على أساس وجهة نظر مُعينة.
لم تُحفَظ أي كتابات عن تاريخ الفلسفة خلال القرون الخمسة التالية. من المُحتَمل أن يكون هذا الموضوع قد كُتِبَ حوله، لكن حتى لو كان كذلك، فقد تشاركت نفس المصير المُحزن الذي آلت اليه مكتبة الاسكندرية. خلال تلك الفترة، فقط شيشرون في كتابه (النزاعات التوسكانية) Tusculanae Disputationes يُعالج مسألة جوهر الفلسفة ويقوم برحلة في تاريخها. ومع ذلك، اقتصر شيشرون على حل مسألة الفضيلة والوصول الى حياة سعيدة، وكانت اشاراته الى سُقراط والرواقيين وغيرهم محصورةً في إطار هذا الهدف.
شَهِدَ العصر الهيلينستي تشكّل تاريخ الفلسفة الذي يُميّز كثيراً العالم القديم: مزيج من البيوغرافيا والدوكسوغرافيا (الأعمال المخصصة لجمع آراء الفلاسفة والعلماء) ووصف حياة الفلاسفة وعرض "آراءهم". في حين ظل المُحتوى الفلسفي قائماً بشكلٍ أساسي، الا أنه تم نسج مجموعة من المواد الى جانب الفلسفة في عرض واحد: فلسفة وعلم أخلاق وسياسة وغيرها في شكل خُطَب ومُحادثات وحورارت وأقوال مأثورة وأوصاف للسلوك وتعاليم ومبادئ أخلاقية. في كل هذا تتجلى السمات المُحددة التي قُلنا أنها بالفعل خاصية لعلم العصور القديمة. في الفترة الأخيرة من العصر الهيلينستي، كان المُمثل الأكثر نموذجيةً لحقل تاريخ الفلسفة القديم هو ديوجين اللايرتي. ان عمله في الواقع هو تاريخ للفلسفة، وهذا واضح من بُنيته. لا يبدأ ديوجين بمُجرّد عرض سِيَر الفلاسفة القُدامى وتعاليمهم الفلسفية، ولكنه يطرح مُقدّمة يتسائل فيها عن أصل الفلسفة وموضوعها. في رأيه، لم تكن أصول الفلسفة هيلينستية، ولكن في الشرق في وقتٍ أسبق: "الفُرس لديهم الماجوس Magus، والبابليون والآشوريون لديهم كهنتهم، والهنود في الفترة الأخيرة من الهيلينستية لديهم ترانيمهم)(2). صحيح أن ديوجين يسعى لاحقاً الى اثبات أن الفلسفة الهيلينية كانت شيئاً مُختلفاً بشكلٍ جوهري، وينخرط في جدال مع مؤيدي مفهوم الأصل الشرقي للفلسفة(3)، لكن هذا لا يُهمنا هُنا، المُهم هو أن طرح السؤال بحد ذاته هو سمة من سمات تاريخ الفلسفة.
ينطبق هذا أيضاً على مسألة موضوع الفلسفة واتجاهاتها الرئيسية ومدارسها(4). مُميزاً بين اتجاهين: العقائدي والشكّي، يُقسّم الفلسفة الى ثلاث أجزاء: الفيزياء والأخلاق والدياليكتيك أو المنطق(5). على الرغم من إيجاز هذه المُقدمة، والتي تندرج حقاً في تاريخ الفلسفة، الا أن أهميتها كبيرة. يقترب ديوجين من حل المُشكلة التي يطرحها كمؤرّخى للفلسفة، فيما يتعلق بالفلسفة كعلم واحد لجميع الشعوب، وهو مجال نشأ تاريخياً وكان له موضوع واحد ومن ثم انقسم داخلياً من خلال تعدد المدارس. في بداية عرض تعاليم الفلاسفة، قدّمَ ديوجين تلك البيانات المُتعلقة بهم والتي كان يعتقد على ما يبدو أنها الأكثر أهميةً. يبدأ الاستعراض بطاليس الملطي Thales of Miletus، لكنه لاحقاً لم يلتزم بالترتيب الزمني، ربما بسبب إعادة ترتيب الناسخين اللاحقة له. علاوةً على ذلك، المعلومات نفسها عن حياة وأعمال الفلاسفة مُشوهة.
لا يوجد سبب لاعتبار عمل ديوجين "جمع عشوائي لمعلومات بطريقة غير نقدية". على العكس من ذلك، فهو عمل مُحكم عن تاريخ الفلسفة ينقل لنا، في نفس الوقت، المعلومات الأكثر قيمةً عن الفلسفة القديمة والفكر العلمي. ألبَسَ ديوجين أفكاره، لدن كتابته عن تاريخ الفلسفة بطريقة تُميّز عصره تماماً، شكلاً، تم استخدامه بشكلٍ مُتكررٍ في فتراتٍ لاحقة، حتى في أيامنا هذه(6).
يختلف عمل سيكستوس امبيريكوس نوعاً ما من حيث طبيعته. كان سيكستوس، كونه طبيباً في مدرسة التجريبية (ومن هنا نبعَ اسمه) نصيراً قوياً للشكية. في عمله (استعراض لتعاليم بيرو Pyrrho) دافعَ عن الشكية في جداله ضد الفلاسفة الآخرين. حاولَ في كتابه (ضد الرياضيين والفلاسفة) تحليل أهم تعاليم الماضي الفلسفية والكشف عن تناقضاتها من أجل إثبات حتمية قبول صحة فلسفة الشكية. وقام، لدن ذلك، بشرح أعمال فلاسفة العصور القديمة بتفصيلٍ كبيرٍ الى حدٍ ما. ومع ذلك، على عكس ديوجين، لم يستعرضها بالكامل.
تنهض مُقاربة جديدة لتاريخ الفلسفة مع سيكستوس، أي القُدرة الجيدة على استعراض الفلسفات من وجهة نظر مُعينة، الشكية في حالتنا، والتي كانت ايديولوجيا قوى اجتماعية مُعينة في المُجتمع القديم. يقوم سكستوس، في استعراضه لتاريخ الفلسفة، بتنفيذ مهمة فلسفية وايديولوجية نصبها لنفسها بوعي.
وجَدَ مبدأ الحزبية والهدف الواعي في عرض تاريخ الفلسفة تعبيره الأكثر وضوحاً في عمل يوسابيوس القيصري 264-349، الذي كتب "إعداد الإنجيل". كلّفَ يوسابيوس، كأسقف وأحد مُنظري اللاهوت المسيحي العقائدي اللذين كانا يتجذران في ذلك الزمن، نقول، كلّف نفسه بمهمة اعادة دراسة تعاليم الماضي الفلسفية بهدف إظهار حقيقة الأسس الفلسفية-الأخلاقية والكونية للدين المسيحي. سعى بهذا الصدد، الى تفسير كل فلسفة ما قبل المسيحية والفلسفة العبرية على أنهما نوع من "الإعداد" للمسيحية (كما عبّر عنوان عمله عن ذلك). راجَعَ يوسابيوس، في 15 كتاباً، جميع الفلسفات القديمة والعبرية، مُنتقياً من بين جوانب عديدة، تلك الجوانب التي يُمكن اعتبارها إعداداً معرفياً وايديولوجياً للعقيدة المسيحية أو تلك التي يتوجب دحضها باعتبارها تتعارض معها. بالاضافة الى مسائل الايمان الديني، يبحث يوسابيوس بالتفصل المسائل الأخلاقية والفلسفية واللاهوتية والكونية والاجتماعية. في مجال المسائل الاجتماعية على وجه التحديد، يتخذ يوسابيوس لنفسه جمهورية أفلاطون وقوانينه كمرجعٍ له(7)، ويوافق على مسألة الاستمرارية ليس من حيث العلاقة بين المسيحية والفلسفة القديمة وحسب، بل أيضاً، ضمن الفلسفة القديمة من حيث فلسفة ولاهوت أراضي مناطق ثقافية مُعينة مثل الشرق الأدنى وبابل وآشور ويهوذا وفينيقيا، وجُزئياً بلاد فارس ومصر(8).
هذا العمل الذي قام به يوسابيوس هو مؤشّر على تحرّك الرجعية المسيحية في الفكر التاريخي الفلسفي القديم. تضع المسيحية، مُمثلةً في شخوص يوسابيوس، وبعد ذلك في شخص القديس اوغسطين الى حدٍ ما، يد الموت على الفكر الفلسفي الحي والحر مُقيّدةً إياه لقرونٍ طويلة في أقبية اللاهوت. نفّذَ يوسابيوس، بوصفه مؤرخاً للفلسفة، المُهمة التي فرضها عليه الدين المسيحي والقوى الاجتماعية-السياسية لمُجتمع مُلّاك العبيد المُنحل، مُستخدماً الدين كقناع. كان المصير الذي أعدته المسيحية للفكر الفلسفي واضحاً في عمله.
يُشبه عمل يوسابيوس أحد فصول كتاب اوغسطينوس (مدينة الله)(9). يتحدث القديس اوغسطين في المُجلّد الثامن عن مصادر الفلسفة القديمة، مقسّماً اياها الى (رافدين): الايطالية (ايطاليا الجنوبية) Magna Graecia حيث أسس فيثاغورس مدرسته الشهيرة، والأيونية التي كان مؤسسها طاليس. هناك فصل موجز بعنوان (في الأصول المُزدوجة للفلسفة-الايطالية والأيونية-وحول مؤسسيهما). يبدأ تاريخ الفلسفة برأيه، بسُقراط، لأن السابقين عليه كرسّوا دراساتهم للأشياء المادية أو الطبيعية(10). وفقاً لذلك، يجب تصنيف الفلاسفة الى سُقراطيين وما قبل سُقراطيين-وهو مبدأ لا يزال موجوداً في العديد من الكُتيبات حول تاريخ الفلسفة حتى يومنا هذا. بعد ذلك، ركّزَ اهتمامه على أفلاطون والمدرسة الأفلاطونية، وأهمهم، بالنسبة له، هو لوشيوس أبوليوس Lucius Apuleius(11).
كانت كتابات يوسيبيوس القيصري والقديس اوغسطينوس مُحاولات منهجية لتوظيف تحليل تاريخ الفلسفة لتأسيس استمرارية بين المسيحية وتراث العالم القديم. أدت هذه المُحاولات في النهاية، الى حفظ التصوف المثالي لأفلاطون والأفلاطونيين الجُدد والرواقيين اللاحقين من بين كل الثروة الهائلة للثراث الفلسفي للعصور القديمة. لقد حُكِمَ على ثروة الفكر الفلسفي المادي بالضياع. في وقتٍ لاحق، عندما ترسخت المسيحية والكنيسة في أوروبا، ولأسباب عملية، لم يتم دراسة الفلسفة العلمانية "الوثنية" القديمة. ومع ذلك، لا يُمكن اعتبار العصور الوسطى مُجرّد فترة ظلامية وانحلال علمي وثقافي. لم ينل الفكر العلمي في العصور الوسطى سوى نصيب ضئيل من الدراسة. ولكن يُمكن القول بالتأكيد أن القيم الفكرية المادية نشأت خلال تلك الفترة على الرغم من هيمنة سُلطة اللاهوت والعقيدة المسيحية المُستمرة، والتي لم تستطع السيطرة بالكامل على عقول وأفكار شعوب تلك الحقبة.
أدى نشوء الدول العربية في آسيا وافريقيا وأوروبا، الى حدٍ ما، الى التكامل والتقارب الفكري بين القارتين، حيث تعود هذه الروابط الفكرية أصلاً الى العصور القديمة البعيدة. أظهَرَ علماء العديد من الدول التي جمعتهم اللغة العربية، اهتماماً كبيراً بالفلاسفة القُدامى. أصبحت كتابات أفلاطون وأرسطو معروفةً للعالم مرةً أُخرى. نشأت الشروط التي أصبحَ بموجبها الاستعراض المنهجي والالمام بفلسفات الشعوب المُختلفة ودراستها وتحليلها وتقييمها أمراً ضرورياً. تم التعبير عن هذا في عمل التاريخ الفلسفي المُتميز الذي قام به المفكر العربي العظيم في القرن الثاني عشر الميلادي محمد الشهرستاني. تختلف منهجية الشهرستاني في كتابة تاريخ الفلسفة (عاش من 1086-1153)، اختلافاً كبيراً عن منهجية مؤرخي الفلسفة الأوائل. طَرَحَ الشهرستاني لنفسه بوعي هدف كتابة تاريخ عالمي للفلسفة في كتابه (المِلَل والنِحَل). كان لديه معرفة قوية بالمصادر، وهكذا، استعرض بالتفصيل والتمييز المُناسب فلسفة العرب والاغريق والفُرس واليهود والهنود. يعرض القسم الأول من عمله تاريخ الأديان والهرطقات المُختلفة، بينما يعرض القسم الثاني تاريخ الفلسفة.
يرسم الشهرستاني، في القسم الثاني، خطاً فاصلاً بين الدين والفلسفة. برأيه، يقف أنصار الأنظمة الفلسفية "بشكلٍ مُعارضٍ تماماً لأولئك الذين يُناصرون الدين، انهم يستندون على العقل والحُكم السليم. يكتب في مُتابعته لهذه الفكرة: "نعتزم كتابة تاريخ أولئك الذين لا يعترفون بالشرائع والأديان السماوية، والذين يتّبعون عقلولهم الخاصة". قام بتطوير مبدأ تصنيف الفلاسفة الى تياراتٍ مُختلفة، وهذا أحد أبرز مبادئه. أنه يؤكد بوضوح أنه يُمكن تصنيف الفلاسفة الى ماديين أو طبيعيين يعترفون بالحسي ورفض امكانية وجود عالم روحي آخر، ومن ناحية أُخرى الفلاسفة المؤمنون الذين يعترفون بالمبدأ الروحي كمبدأ لكُل معرفة وتحصيل للسعادة. بعد ذلك، يُظهر الفلسفة بأنها ساحة للصراع بين الاتجاهين. انه يُلاحظ الخلافات بين الآراء والتعاليم المُتنوعة ولا سيما بين فلاسفة العصور القديمة، ومن بين هؤلاء الأخيرين يخص أفلاطون وأرسطو مُحللاً بالتفصيل نقاط الخلاف بينهما. على عكس مؤرخي الفلسفة القُدماء، يسعى الشهرستاني الى الالتزام بالتسلسل التاريخي.
كان عمل الشهرستاني هو المُحاولة الأولى، بعد انقطاع طويل، لاستعراض تاريخ عالمي للفلسفة. ان تصنيف الفلاسفة الى ماديين ومؤمنين (أساساً المثاليين) والمُقابلة الواعية بين الطرفين، بالاضافة الى فهمه لتاريخ الفلسفة كميدان للصراع بين مُختلف "المِلل والنِحَل"، كل ذلك يشهد على ظهور خصائص ومبادئ جديدة في منهجية تاريخ الفلسفة.
أثبتت المبادئ التي استند اليها عمل الشهرستاني أنها مُثمرة للغاية ومكّنته من بناء استعراض مُنظم لتاريخ الفلسفة العالمي ولعصور الشرق القديم والثقافة الكلاسيكية، يعود للقرن الثاني عشر ويُميزه.
أدّت ولادة الرأسمالية الى نهضة أوروبا. كما ظهَرَ "النهوض" في الفلسفة أيضاً. في الواقع، لم يكن ما يحدث، مُجرّد "ولادة جديدة" لتراث العصور القديمة الثقافي، ولكن خلق أفكار جديدة وقِيَم فكرية جديدة. طَرَحَت الحياة مجموعة جديدة من المشاكل أمام الفلسفة، وكان على فلسفة تلك الفترة أن تُعالجها. ومع ذلك، كان على الفكر الجديد، في بحثه عن اجابات للمسائل التي تطرحها الحياة، أن تنظر أيضاً الى الماضي. جذبت الفلسفة الكلاسيكية، العلمانية بطبيعتها والمُتحررة من دوغما الدين واللاهوت، نقول، جذبت عقول شخوص عصر النهضة البارزين. جَرَت مُحاولات في البداية لإلقاء الضوء على آراء هذا المُفكر الكلاسيكي أو ذاك، بينما تمّت كتابة أعمال خاصة عن تاريخ الفلسفة في وقتٍ لاحق.
كان الايطالي فلورنتين مارسيليو فيسينو Florentine Marsilio Ficino (1433-1499) مُمثلاً للمُحاولات الأولى، وكان مُهتماً بفلسفة العصور الكلاسيكية. دَرَسَ بشكلٍ رئيسي فلسفات أفلاطون وأفلوطين. يُعتَبَر تعليقه حول عمل (المُحاورات) لأفلاطون بعنوان (حول مسألة الحُب)(12) الأكثر تميزاً. كان فيسينو قد تَرجَمَ ونَشَرَ جميع أعمال أفلاطون تقريباً باللغة اللاتينية بحلول عام 1494. كَتَبَ (ثيولوجيا أفلاطون حول الروح الخالدة) و(حول الدين المسيحي) والتي حاول فيها إثبات الصلة المُباشرة والقرابة الابستمولوجية بين فلسفة أفلاطون والمسيحية. طَرَحَت كتابات فيسينو مسألة الحاجة الى دراسة فلسفة فترة ما قبل المسيحية.
كانت المُحاولة الأولى لكتابة تاريخ الفلسفة في أوروبا المسيحية هي كتاب الانجليزي والتر بيرلي WBurleigh (1275-1357) (حياة وممات الفلاسفة والشُعراء القُدماء). ان استعراض بيرلي غير منهجي الى حدٍ ما، وبداية عمله فقط، حيث يسرد أعمال الحُكماء السبعة، تذكر الأعمال السابقة. يتم استعراض الفلاسفة والقادة السياسيين والشعراء والفنانين والمؤرخين والعُلماء معاً دون أي مُحاولة للالتزام بأي تسلسل زمني أو تسلسل آخر. ومع ذلك، فإن هذا الجُهد الأول لإعادة إحياء ثقافة العصور القديمة الفكرية (احتلت الفلسفة مكان الصدارة في هذا العمل) هو جهد لافت للنظر ويُشير الى ظهور اهتمام مُتزايد بتاريخ المعرفة والفلسفة على وجه الخصوص. يعرض بيرلي لقُرائه، في شكلٍ بسيطٍ وجذاب، آراء المُفكرين الكلاسيكيين، ولا يُخضع استعراضه لأفكار المسيحية. ان طبيعة عمل بيرلي العلمانية تجعله ذو قيمة هائلة. على الرغم من أن عمله في الشكل أقرب الى تقليد ديوجين وبلوتارك، الا أنه يُكيّف مُحتوى كتابه مع مُتطلبات وأذواق عصره، لا سيما في اختيار المواد والمواضيع.
تطلّبَ تطور العلم والفلسفة خلال القرن السابع عشر كتابة أعمال جديدة في تاريخ الفلسفة. إن الإلمام الواسع بالتراث الفكري للعصور القديمة وتشكّل التقاليد الثقافية والفلسفية الأوروبية المُميزة، لا سيما خلال القرن السابع عشر، قد خَلَقَ الأساس الذي صار من المُمكن للأعمال التي تُلخَص الخبرة السابقة أن تُنجَز، استناداً عليه. لذلك أصبَحَ هذا القرن أيضاً قرن طفرة في تاريخ الفلسفة.
كان أول عمل في تاريخ الفلسفة في القرن السابع عشر هو كتاب الهولندي جيرهارد يوهان فوس Gerhard Johann Voss (1577-1649) (عن الفلسفة والمذاهب الفلسفية). يطرَح فوس في مُجلّده الأول وجهة نظره حول فروع الفلسفة. ضمّنَ فوس في الفلسفة، كونه تحت تأثير المفهوم السكولاستي للفلسفة، جميع العلوم المعروفة آنذاك: الفيزياء التأملية والعملية، والكيمياء والطب والفن واللاهوت والفن العسكري والسياسة والنقد، الخ. الفلسفة بمعناها الشائع موجودة في المُجلّد الثاني. يبدأ استعراضها بالاشارة الى الأصول المُزدوجة للفلسفة بين البرابرة والاغريق، والتي يعتبر أن الأولى أقدم. يتم اختصار الاستعراض التقديمي للغاية. تظهر الأهداف "التعليمية" للمؤلّف بشكلٍ لا لُبسَ فيه. يُحاول فوس استعراض أهم المعلومات من تاريخ الفلسفة القديمة بشكلٍ سهل. من الجدير بالذكر أنه أولى مُعالجة تاريخ الفلسفة المادية نفس الاهتمام الذي أولاه للفلسفات الأُخرى.
في مُعالجته لتاريخ الفلسفة، يصل فوس الى حل مُختلف عن حل بيرلي وفيسينو لمشاكل مُعينة. في حين استعرض فيسينو فلسفة أفلاطون فقط، وأعاد بيرلي انتاج تعاليم العصور القديمة الفلسفية مع مزدها بعناصر الثقافة الأُخرى، طَرَحَ فوس استعراضاً منهجياً لتاريخ الفلسفة، مُعتبراً إياه نتيجةً للنشاط الفكري لجميع الشعوب. يُميّز فوس بشكلٍ صحيح الفترة الأُسطورة في الفلسفة اليونانية الكلاسيكية عن الفترة غير الأُسطورية، ولا يُجادل، كما يفعل العديد من مؤرخي الفلسفة المُعاصرين-ذوي توجه المركزية الأوروبية-بأنه يجب البحث عن الانطلاقة "الحقيقية" للفلسفة في اليونان القديمة. كل هذه العوامل كانت ذات أهمية في ترسيخ المبدأ التاريخي ولعبت دوراً مُهماً في منهجية تاريخ الفلسفة.
سُرعان ما تأكذت أهمية فوس من خلال ظهور عملين آخرين: أعمال توماس ستانلي Thomas Stanley في انجلترا وجورج هورن Georg Horn في ألمانيا. كان ستانلي خبيراً بارزاً في الثقافة الكلاسيكية ولا سيما الفن والأدب، وعالم لغويات ومُترجم من الدرجة الأولى. تولّى كتابة تاريخ الفلسفة بناءً على طلب وإصرار من صديقه. كان هدفه هو تعريف المُجتمع في عصره بمخزون الفكر الفلسفي اليوناني القديم. لقد أقام كتابه (تاريخ الفلسفة) 1655(12)،على مبدأ جُغرافي (باستثناء القسم الأول حول الحُكماء السبعة). استعرض أولاً فلسفة المدرسة الأيونية، ثم فلسفة مُفكري اليونان القارية، ثم فلسفة ايطاليا الجنوبية. استعرض الفلاسفة واحداً تلو الآخر، مع اتباع مُخطط مُتطابق كل مرة: حياته، فلسفته، تلامذته، موته وأعماله.
إن قارَبَ المرء عمل ستانلي بنفس المقياس الذي استخدمه هيغل والعديد من أتباعه في يومنا هذا، فقد يُتّهَم ستانلي بـ"الموقف غير النقدي" من المصادر والأفكار التي يستعرضها، والافتقار الى "الدراسة المُتأنية" للفلسفات، وعدم وجود النهج التاريخي، أي كُل ما يُنسب الى هيغل عادةً. ومع ذلك، فإن إدانة مؤرخي الفلسفة في القرن السابع عشر على مثل هذه الأُسس، ليس مُبرراً مثلما بالضبط إدانة علماء الفيزياء والرياضيات في نفس القرن على حقيقة أنهم لم يُطوروا النظرية النسبية، على سبيل المثال. يعرف مؤرّخ العلوم جيداً، بالطبع، أنه بدون الميكانيكيا والفيزياء، وبدون تطور الرياضيات خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، لن تكون هناك نظرية النسبية أو العلم الحديث بمُجمله. أقام مؤرخو الفلسفة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لَبِنةً لَبِنة، الصرح الذي وضع له هيغل أحد أحجار الأساس، على الرغم من حقيقة أنه كان يعتقد أنه أقام ذلك الصرح بمُفرده. الحقيقة هي أن ستانلي ألغى أساطير الكتاب المُقدّس ولم يُدرجها في تطور الفلسفة. كما أنه ألغى "فلسفة" آدم ونوح وبطاركة الكتاب المُقدس. كان استعراض الفلسفة خاليةً من قيود الدين واللاهوت مُهماً في القرن السابع عشر بقدر ما كان مُهماً انشاء المفهوم التاريخي في القرن التاسع عشر. على عكس رأي هيغل، فإن عمل ستانلي ليس مُجرّد تجربة (لأنه بمعنى ما، أي عمل هو "تجربة")، في نفس الوقت، فإن عمل ستانلي، على عكس رأي هيغل مرة أُخرى، ليس نموذجياً لعصره.
تم تقديم فكرة أفضل لمنهجية تاريخ الفلسفة في منتصف القرن السابع من خلال عمل الفيلسوف الألماني جورج هورن (تاريخ الفلسفة في سبعة كُتب). يستعرض هورن بشكلٍ موجز الأعمال في تاريخ الفلسفة المكتوبة قبله، ويُقدّم وصفاً "لهذا العصر" الفلسفي، أي فلسفة القرن السابع عشر، مثل فلسفات كامبانيلا Campanella وغاسيندي Gassendi وديكارت وهوبز التي أنشأت مبادئ جديدة وأحيت مبادئ القُدماء والتي دفنها النسيان. وهكذا، خلافاً لإدعاء هيغل، يضع هورن أُسساً لكتابة تاريخ الفلسفة الذي سيشمل كُلاً من فلسفة القُدماء وفلسفة الفترات المسيحية والعصر الحديث.
يُحاول هورن الجمع بين تاريخ الفكر العلمي وتاريخ الفلسفة. في مُحاولته كتابة تاريخ عالمي للفلسفة، يبدأ استعراضه بالخلق، ثم يصل الى القرن السابع عشر، وبذلك كان أول من أدخل هذه الفترة في تاريخ الفلسفة. تم تصوير تاريخ الفلسفة كعملية عالمية. يعتبر أهم خط تطور في تاريخ الفلسفة العالمي هو الخط الذي أدت فيه التعاليم الفلسفية الى نشوء العقيدة واللاهوت المسيحيين. يعتبر الدين المسيحي ذروة تطور كل الفلسفة والفكر الانساني. وفي الوقت نفسه، يتم طرح عنصر علماني ويأخذ الاستعراض طابعاً منهجياً. هنا يُمكننا أن نصادف لأول مرة دراسةً لفلسفة عصر السكولائية المسيحية والفلسفة الحديثة.
أصبحت مبادئ تاريخ الفلسفة التي وضعها هورن نموذجاً احتذى به الكثيرون للمائة عام القادمة. هذه المبادئ كانت بشكلٍ أساسي سمة للعمل الضخم الشهير الذي قام به جاكوب بروكر Jacob Brucker بعنوان (تاريخ نقدي للفلسفة من الخلق حتى عصرنا) 1742-1744. يتكون عمل بروكر من ستة مُجلدات هائلة ويبلغ اجمالي عدد صفحاتها حوالي 10 آلاف صفحة. يتمتع عمله، الذي أثار لاحقاً الكثير من الادانة والسخرية، لا سيما من قِبَل هيغل، بعددٍ من الأفضليات التي لا جدال فيها بالمُقارنة مع الأعمال السابقة له. ان تنظيم عمله أكثر دقة، ويحتوي على مُقدمة تاريخية واسعة تطرح نقداً لجميع الكتابات في تاريخ الفلسفة، ويُقدّم وصفاً "شاملاً" لموضوع الفلسفة. التزم بروكر بالخط الزمني واستعرض تاريخ الفلسفة في "خط تصاعدي". يعرض كتابه بالترتيب الفلسفة العبرية كما وردت في الكتاب المُقدّس، والفلسفة اليونانية الكلاسيكية، وفلسفة العصر الهيلينستي، وفترة تشكّل المسيحية، والمدرسة السكولائية المُبكرة والمُتأخرة، وفلسفة النهضة، والفلسفة الحديثة. في الوقت نفسه، كانت منهجية بروكر مثالاً كلاسيكياً لأوجه القصور الرئيسية في تأريخ الفلسفة كما كانت موجودةً في القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. كان هناك مُقاربة مثالية لحل مهامها الرئيسية، وهي مُقاربة تم التعبير عنها في الميل الى إخضاع كل شيء الى أسس الدين والعقيدة المسيحية، وكانت عناصر المُقاربة التاريخية مُهمَلة، وكان هناك ميل لإعادة انتاج المصادر دون تحليل نقدي. كل هذه النواقص في هذا العمل، بالاضافة الى أعمال أُخرى في تاريخ الفلسفة لتلك الفترة، هي في الأساس، سمة مُميزة لها، وبالتالي من غير الضروري التعرض لها(13).
لعب الماديون في القرن السابع عشر، الذين كان لتعاليمهم تأثير حاسم على منهجية تاريخ الفلسفة في فتراتٍ لاحقة، دوراً مُهماً في وضع أساس علمي لتاريخ الفلسفة. ان التأكيد على النظرة المادية للعالم والنجاحات في النضال ضد المثالية والعقيدة الدينية، غيرت علاقة القُوى في الصراع بين المادية والمثالية. بدأ مؤرخو الفلسفة في إيلاء مزيدٍ من الاهتمام لتعاليم الماضي المادية والتي كان يتم تجاهلها أو تشويهها في السابق الى حدٍ كبير. كان ديكارت وبيكون وسبينوزا وغيرهم من الماديين الذين شككوا في جميع المبادئ الفلسفية الأساسية والعلم السكولائي السائد في ذلك الزمن، كانوا أمثلة على تقييم جديد وإعادة تقييم للماضي. خدمت أبحاثهم العديدة في تاريخ الفلسفة وشروحهم وتعليقاتهم ونقدهم لأفلاطون وأرسطو ودفاعهم عن تعاليم ابيقور وديموقريطوس، كنماذج لمُقاربات جديدة لدراسة تراث الماضي الفلسفي. الأعمال النموذجية في هذا الصدد هي (الأورغانون الجديد) و(حكمة القُدامى) De sapientia veterum لفرانسيس بيكون. أرست كتابات ماديي القرن السابع عشر الأُسس لظهور موقف نقدي تجاه المصادر بالاضافة الى موقف نقدي تجاه تعاليم الماضي الفلسفية. عمل سبينوزا في هذا الصدد بعنوان (مبادئ الفلسفة الديكارتية) ذو أهمية خاصة وهو عمل رائع يُجسّد تحليل فلسفي من وجهة نظر تاريخ الفلسفة والتحقق من صحة أهم مبادئ فلسفة ديكارت (أُنظر بشكلٍ خاص مُقدمة سبينوزا). يُعتَبَر كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) Tractatus Theologico- Politicus ذو قيمة كبيرة، وهو نموذج للتحليل النقدي التاريخي. شجّعَ تحليل سبينوزا النقدي للكتاب المُقدّس على تدمير الاطار اللاهوتي للعلم، وتحطيم الفلسفة المثالية والمثالية في تاريخ الفلسفة قبل كل شيء. ان صحة عقائد الكنيسة ولاهوتها وادعائاتهما المُطلقة قد وُضِعَت كلها موضع الشك وتم تحطيمها. هذا كان أساساً لتحرير تاريخ الفلسفة من القيود الدينية. وضعت الفلسفة المادية أيضاً الأُسس الأولى لظهور المُقاربة التاريخية والمنهجية النقدية في العلم الحديث، بما في ذلك تاريخ الفلسفة. قام الماديين الفرنسيين والكسندر نيكولايفيتش راديشيف Alexander Nikolayevich Radishchev بالاضافة الى جيوفاني باتيستا فيكو Giovanni Battista Vico ويوهان غوتفريد هيردر Johann Gottfried Herder، بتطوير هذه التقاليد ونشرها في القرن الثامن عشر. لقد طرحوا مسألة التطور التاريخي للثقافة الانسانية، وحاولوا في كتاباتهم تكوين صورة عامة عن ذلك التطور. كان لمثل هذا التقدم في فلسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر تأثير عميق على تاريخ الفلسفة.
بدأت تهب رياح جديدة في أدب تاريخ الفلسفة في منتصف القرن الثامن عشر. صار كُل من موضوع ومهام الفلسفة والتقدم التاريخي للفكر الفلسفي يُفهمان بشكلٍ أفضل. بدأ دور المُقاربة التاريخية في البحث الفلسفي يتبلور بطريقة جديدة: لقد ظهرت الآن كمسألة مُرتبطة بالعلاقة بين الفلسفة وحياة المُجتمع المادية.
يُفرّق مؤرخ الفلسفة الفرنسي فرانسوا ديلاد Francois Deslandes في كتابه من ثلاثة مُجلدات (تاريخ نقدي للفلسفة) 1742، بين أهداف الفلسفة في العصور القديمة وأهدافها اليوم، يكتب: "كانت الفلسفة لدى القدماء تتضمن الثيولوجيا والدين وبداية تاريخهم وجزءاً من قوانينهم وأخلاقهم، أما في عصرنا، فهي مُتعلقة بالعلوم الدقيقة والطبيعية". يدرس ديلاد، وفقاً لذلك، تاريخ المعرفة في العصور القديمة وفي الأزمنة الحديثة كتاريخ للوعي الانساني، وهو يتجلّى بأكبر نُضج، في الفلسفة. يقول ديلاد أن العلماء المُعاصرين أكثر قُدرة على التغلغل في دراسة الظواهر الطبيعية، وقادرون على التفلسف بشكلٍ أفضل، ولكن من الضروري أيضاً دراسة فلسفة الماضي، لأن أسلافنا استطاعوا الكشف عن العديد من الألغاز وحلّوا عدداً من أسرار الطبيعة. يُتابع: "على عكس العُلماء الذين درسوا وحللوا الفروع الفردية في العصر الحديث وفي القِدَم والذين بحثوا في مصادرها ومناهجها بشكلٍ فردي، فإن مُهمة مؤرخ الفلسفة هي كشف أصول الفكر البشري ومصادره الأولى، ودراسة تنوع مظاهره التي لا حصر لها، الى جانب البحث في العلاقات القائمة بينها. من الضروري دراسة كيف تُولد الأفكار الواحدة تلو الأُخرى، وأحياناً الواحدة من الأُخرى، وهذا يعني أنه من الضروري اللجوء الى آراء الفلاسفة القُدماء واثبات أنه لم يكن باستطاعتهم قول شيء مُختلف عما قالوه أصلاً". يُلاحظ ديلاد، من بين أُمورٍ أُخرى، أنه من الضروري أن يكون المرء "فيلسوفاً الى حدٍ ما" لكي يستطيع أن يكتب تاريخ الفلسفة،، أي أنه ليس على المرء أن يُجمّع استعراضات عن ذلك العلم، بل أن يُنشئَ مفهوماً عنه تبعاً لنظام مُحدد.
يُحاول ديلاد أن يُقارِبَ كل ما يكتب عنه، نقدياً. ان مسألة أصل الفلسفة هي نموذجية في هذا الصدد. طَرَحَ في مُجلّده الأول الافتراض القائل بأن الفلسفة نشأت في وقتٍ واحدٍ بين جميع الشعوب، وأن الفلاسفة الأوائل لم يكونوا نُساكاً، بل أشخاصاً مفيدون للمُجتمع. يتعهد ديلاد بدحض أسطورة تفرّد اليونانيين باعتبارهم المؤسسين المُفترضين للفلسفة والعلوم. أوضَحَ ديلاد، من خلال تحليل البيانات والمصادر التاريخية، أن الاغريق القُدامى الذين تحدثوا بمثل هذه الغطرسة عن "البرابرة"، كانوا قد استعاروا العديد من القِيَم الروحية التي أوجدتها شعوب الشرق القديم، لكنهم بدافع الغرور لم يعترفوا بذلك أبداً. هذه المسألة ذات أهمية كبيرة للبحث، ليس فقط في ذلك الوقت، بل في عصرنا الحالي أيضاً، لأن جذور نظرية المركزية الأوروبية، الرجعية، تنتشرعلى نطاقٍ واسع في تاريخ الثقافة والفلسفة الأوروربية، وخاصةً تاريخ فلسفة هذه الأخيرة. يعود الفضل الى ديلاد في زمنه، في أنه طَرَحَ هذه المسألة وحلها بشكلٍ صحيح.
يُحاول ديلاد ربط تطور الفكر الفلسفي بالأحداث التاريخية وحياة المُجتمع الحقيقية. وهكذا، على سبيل المثال، يعتبر أن الخدمة الرئيسية التي قام بها اليونانيون القُدماء هي أنهم ألقوا نظرة جريئة على الطبيعة، وبالتالي من المهم بالنسبة الى ديلاد، دراسة وتقليد سلوكهم في هذا الصدد. ان لدى ديلاد مفهومٌ عن تطور Evolution الفلسفة مُميزٌ له، (على الرغم من أن تطور Evolution الفلسفة هو مظهر أكثر مما هو واقع)، ازدهار وانحلال المدارس الفلسفية مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، وكذلك الفلسفة القديمة ككل. كما أنه يُحاول أن يُفسّر ازدهار الفلسفة في أثينا عازياً ذلك للتنظيم الحكومي لدولة المدينة هذه. يكتب في الصفحة الأولى في بداية عرضه للفلسفة القديمة، ان اليونانيين في أزمنة بعيدة جداً كانوا أيضاً في حالةٍ من البربرية الجاهلة، ولم يكن لديهم قواعد أخلاقية ولا قوانين لأسبابٍ عملية، وأن ما نشأ أولاً هو الشعر، في حين أن الحقيقة Truth بدأت تظهر بشكلٍ تدريجي من حالةٍ كانت فيها مُغطاة أصلاً بالضباب.
يُمكننا أن نستنتج هنا أن تاريخ الفلسفة يطرح مواقع جديدة في النظرية والمنهجية. أهمها عناصر المُقاربات النقدية والتاريخية. يُصاحب هذه العملية تحرير تدريجي لعلم تاريخ الفلسفة من وصاية الدين والعقيدة المسيحية، ويُصاحب ذلك أيضاً تحطيم أُسس الدوغمائية والمثالية التي كانت تتمتع حتى ذلك الحين بسُلطة غير مشكوك بها في هذا المجال. تتجلى الميول نحو المُقاربة التاريخية ليس فقط في الأقسام التمهيدية ولكن في الاستعراض أيضاً، في تحليل المواد، في دراسة المسائل المُتعلقة بعالمية ومحلية واستمرارية وتعاقب الفلسفة، وفي مُحاولات ربطها بالحياة الاجتماعية-الاقتصادية للمُجتمع، وفي التقييم النقدي للمصادر، وفي تطوير البُنية العلمية لمؤلفات تاريخ الفلسفة. ساعدَت هذه المُقاربة الأكثر واقعيةً في تنظيم التسلسل الزمني، مما كان له أهمية هائلة في التأريخ. تم أيضاً طرح فكرة وجود علاقة ما بين الفلسفة والتاريخ، وبينها وبين البُنية العامة للمُجتمع. ومع ذلك، تظهر كل هذه الجوانب كعناصر فردية عقلانية ليس بينها سوى ارتباطات مُتبادلة قليلة. ولكن يُمكن اعتبار ان مسألة تلك الارتباطات قد طُرِحَت، بمُجرّد طرح كل تلك العناصر مُفرَدة على هذا النحو.
خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تم الاستمرار بهذا التقليد بشكلٍ أكبر وتم الوصول الى نتائج مُهمة. يتضح هذا بالفعل من خلال كتاب يوهان اوغست ايبيرهارد Johann August Eberhard المًعنوَن (التاريخ العام للفلسفة). برأيه "يجب أن يحتوي التاريخ العام للفلسفة على استعراض للتغيرات في هذا المجال. وبالتالي فهو يختص بتاريخ اكتساب الانسان لمعرفة الخصائص العامة للأشياء بطريقة علمية وعقلانية"(14). يُنظَر الى تاريخ الفلسفة هُنا على أنه تاريخ للمعرفة، وان لم يكن ذلك تاريخاً صريحاً تماماً. لكن هذا خُطوة كبيرة الى الأمام بالمُقارنة مع الفترة السابقة. ومع ذلك، فإن الأهم من ذلك، هو ظهور عناصر التطور في هذا العمل، بالدرجة التي يميل ايبيرهارد بها الى اعتبار أن تاريخ الفلسفة كتاريخ للتغيرات في هذا المجال. إن فكرة التطور، في تاريخ الفلسفة، وليس التطور "بشكلٍ عام"، ولكن التطور وفقاً لقوانين مُحددة، هو أمر يُدركه ايبيرهارد تماماً. برأيه، يجب أن يكون تاريخ الفلسفة براغماتياً (هذا يعني، في فهمه، أنه يجب أن يقترب من الواقع بأكبرِ قَدرٍ مُمكن). "أنا أفهم تاريخ الفلسفة، من خلال استعراض براغماتي لها، أنه يجب جعل تطورها التدريجي من حالتها البدائية الجنينية، مفهوماً قدر الإمكان. هذا يعني أنه يجب أن نتتبع مسار تطور العقل البشري، بدءاً من المرحلة الحسية في الفلسفة المُعبّر عنها في الميثولوجيا نزولاً الى النظريات الفلسفية المُعمقة والمُتشعبة". يتحدث ايبيرهارد عن الحاجة الى إقامة صلة بين المفاهيم الفلسفية المُختلفة وتسلسل زمني يُعتَبَر ضرورياً، برأيه، لفهم مراحل تطور التفكير.
نرى هُنا أفكاراً جديدة في منهجية تاريخ الفلسفة. من ناحية، تتشكل فكرة التطور الطبيعي، ومن ناحية أُخرى تظهر فكرة تأملية حول تأثير الأفكار وانتقالها. دَعَمَ هذا الاتجاه وطوره مؤرخي الفلسفة الآخرين. تتخلل فكرة التطور، بـ"طريقة" ألمانية بالتحديد، كتاب (تاريخ الفلسفة) ليوهان غوتليب بولا Johann Gottlieb Buhle. يربط بولا فهم منهجية تاريخ الفلسفة بموضوع الفلسفة. "الفلسفة هي علم طبيعة الروح الانسانية وعلاقاتها الأولية مع المواضيع التي تقع خارجها". من ناحية أُخرى، فإن تاريخ الفلسفة هو استعراض عملي لأهم المُحاولات التي قام بها مُفكرون بارزون في العصور القديمة والحديثة لجلب هذا العلم الى الوجود. يُتابع بولا: "إن الغرض من تاريخ الفلسفة هو إقامة النِتاجات التي حققها العقل الفلسفي بشكلٍ عام بطريقة تاريخية، وتوصيف المُشكلات التي تطرحها الفلسفة من أجل تلبية احتياجاتها النظرية والعملية، واستعراض الأساليب التي انتقتها لحلها، وبالتالي إظهار الطُرُق التي أصبحت الفلسفة من خلالها على ما هي عليه اليوم". طوَرَ بولا فكرته، مُسترشداً بهذا الطرح، في الاتجاه الذي تبعه فيه هيغل لاحقاً في تأسيس مفهومه عن تاريخ الفلسفة. يكتب بولا: "إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الروح البشرية وأحكامها فيما يتعلق بمعرفة نفسها". يجب أن نؤكد أن ظهور هذا المفهوم عن تاريخ الفلسفة كونها تاريخاً لفهم العقل لنفسه، هي الفكرة التي طورها هيغل لاحقاً.
طوّرَ فيلهلم غوتليب تينيمان Wilhelm Gottlieb Tennemann أفكاراً مُشابهة لتلك التي ذكرناها أعلاه في كتابه (تاريخ الفلسفة) 1798. انه ينتقد طرح ايبيرهارد بأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ التغيرات في الفلسفة ويؤسس نقده على حقيقة أنه إن قَبِلَ المرء هذا الفهم لتاريخ هذا العلم، فإنه يعترف بذلك بأن الفلسفة وُجِدَت منذ البداية، والا لن يكون هناك شيء ليتغير. ومع ذلك، يقول ايبيرهارد "ان تاريخ الفلسفة هو استعراض لمُحاولات العقل تحقيق المبادئ الأساسية للطبيعة والحرية وجعلها واقعاً. ظهرت مُحاولات التفلسف في وقتٍ أبكر من أي فلسفة". طوّرَ تينيمان مفهوم التطور الذاتي في المذهب القائل بأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ نشوء الفلسفة كعلم. حاولَ هيغل، في وقتٍ لاحق، مُستعيراً طرح تينيمان هذا، إثبات أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ صعود فلسفته بالذات. المهم هنا بالنسبة لنا، بالطبع، هو، أنه تم قبول وتطوير فكرة التطور التاريخي، وأنها أثبتت أنها مُثمرة ومصدراً لتأسيس المُقاربة التاريخية لتاريخ الفلسفة(15).
يسمح لنا ما تقدّم، أن نستنتج أن تاريخ الفلسفة نشأ كفرع معرفي في العصور القديمة، عندما ظهرت الحاجة الى التعرف المنهجي على المعرفة الفلسفية للماضي كتراث ثقافي وكأساس نظري لتشكّل وجهات نظر جديدة. تتوافق السمات المُحددة للمعرفة في تاريخ الفلسفة في العصور القديمة وفي العصور الأُخرى مع حالة الفكر العلمي لكُل حقبة تاريخية مُعينة. إن السمات المُميزة للأشكال التي حدث فيها استعراض لتاريخ الفلسفة لا تُقدّم لنا أي سبب للتشكيك في وجود هذا العلم. يتقدم علم تاريخ تطور الفلسفة على طول نفس الخط السريع لتطور الفلسفة بشكلٍ عام. لقد تطورت في السابق بشكلٍ تدريجي المبادئ التي استخدمها هيغل وطبقها في تأسيس آرائه بشكلٍ عام، ومفهومه عن التاريخ والفلسفة بشكلٍ خاص. يجب بشكلٍ قاطع رفض الآراء الخاطئة التي يتبناها هو وأتباعه العديدين والقائلة بأن مجال تاريخ الفلسفة لم يكن موجوداً في الفترة ما "قبل الهيغيلية" كونها تفتقر الى أساس تاريخي ونظري واقعي. هذا المفهوم هو نِتاج للأفكار المنهجية المُسبقة التي استخدمها هيغل ومُقلدوه وأتباعه المُخلصون، وعززه التكرار غير النقدي لمزاعم هيغل غير المُبررة بأنه مؤسس تاريخ الفلسفة كعلم.

* تيودور أرزاكينين 1927- 1991، فيلسوف ماركسي سوفييتي مُتخصص بتاريخ الفلسفة. دَرَسَ أرزاكينين في معهد تاريخ الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية عام 1947، وانتسب الى الحزب الشيوعي عام 1950. دافع عن أطروحة الدكتوراة في جامعة موسكو عام 1955 بعنوان(حول بعض المسائل المنهجية في تاريخ الفلسفة(. كان دكتوراً للعلوم الفلسفية في قسم تاريخ الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية 1960-1984، ونائب رئيس قسم الفلسفة في نفس المعهد 1984-1986.
نشر عدداً من المقالات العلمية، منها:
(الصراع الفلسفي حول تاريخ الفلسفة) 1963، (بعض المفاهيم البرجوازية حول تاريخ الفلسفة) 1975، (مقولة الحتمية عبر تاريخ الفلسفة) 1984.

1- See, for example, Emile Brehier, Histoire de la philosophie, Vol. I, L’antiquit6 et le Moyen Age, Paris, 1926 (1955), pp. 12-13 K. VorlHnder, Geschichte der Philosophie, Berlin, 1932, pp. 3-4 Otto Siebert, Ein kurzer Abriss der Geschichte der Philosophie, Langensalza, 1907, pp. 1-2. Bertrand Russell, for example, treats Diogenes Laertius as ‘a collector of scandalous tales about Epicurus,” etc., but not as a historian of philosophy. See Russell, A History of Western Philosophy ...., New York, 1945, p, 240 concerning Plutarch, pp. 100-105 Albert Rivaud, Histoire de la philosophie, Vol. I, Des origines i la scholastique, Paris, 1948, pp. 4 - 7 7 J. Hirschberger, Geschichte der Philosophie, I, Altertum und Mittelalter, Freiburg, 1954, p. 9 Guido de Ruggiero, Storia della filosofia, P. prima, La filosofia Greca, Bari, 1921 (1932, 1955), pp. 10 ff. F. Thilly, - A History of Philosophy, 3rd ed., New York, 1955 (1914), p. 123 Ueberweg-Przchter, Grundriss der Geschichte der Philosophie, Vol. I, Berlin, 1926, cf. “Ubersicht der Quellen H. Meyer, Abendl5ndische Weltanschauung, Vol. 1, 2nd Ed., Baden-Baden, Wiirzburg, 1953, p. 15
2- The Lives and Opinions of the Famous Philosophers, in Ten Books, I, 1
3- Ibid, 1, 5-11
4- Ibid, 1, 16
5- Ibid, 1, 18
6- يكفي الاستشهاد بعمل من ستة مُجلّدات في تاريخ الفلسفة نُشِرَ في الولايات المُتحدة. في هذا الاستعراض، تتبع معلومات موجزة عن الفيلسوف عرض لتعاليمه في شكل مُقتطفات مُختارة خصيصاً لهذا الغرض، وهي مقاطع صغيرة من كتاباته التي يعتقد مُحررو هذه المُجلدات أنها الأكثر أهميةً.
The Great Ages of Western Philosophy, 6 vols., Boston, 1956 see also Ueberweg- PrHchter. op. cit., Vols. 1-5, Berlin. 1926-28
7- Eusebius, XI, 50 XIII, 21 XIV, 13
8- see particularly op. cit., X
9- see Augustinus Aurelius, De Civitate Dei, Vol. I, Lib. VIII Lipsiae, MCMVIII, pp. 320-368
10- ibid., VIII, chap. III, 10-14
11- VIII, chap. IV-VIII
12- لسوء الحظ، لم نستطع أن نعثر على نُسخة أصلية باللغة الانجليزية من عمل ستانلي في مكتبات الاتحاد السوفييتي. كان لدينا ترجمة لأوليريوس Olearius باللاتينية عام 1711 وهي النسخة الوحيدة، موجودة في مكتبة جامعة موسكو:
Thomas Stanley, Historia philosophiae, vitas, opiniones, resque gestas et dicta philosophorum sectae, cuiusuis complecta, Lipsiae, apud Thomasius Fritsch, MDCCXI, 1222 p
13- See, for example, Emile Purchot, Institutiones philosophicae ad faciliore veterum ac recentiorum philosophorum, Patavii, 1751, I-IfI A. Frankenberg, Via veterum saDientum. das ist: Wege der alten and others. See F. Ast, 6) Weisen, gezeiget in zweien unterschiedlichen Buch- -lein, Amsterdam, 1675 Chr. A. Heumann, -Acta Philosophorum, das ist Grundl. Nachrichten aus der Historia Philosophica nebst beigefigten Urteilen von denen dahin gehBrigen alten und neuen Bdchern 18 Stkke , Halle, 1723 Fr. Buddeus, -
14- Eberhard, J .A., Allgemeine Geschichte der Philosophie zum Gebrauch akademischer Vorlesungen, Halle, 1788, p. 1
تم تطوير هذه الأفكار من قِبَل بعض مُعاصري هيغل الأكبر سناً. أُنظر:
See F. Ast, Grundriss der Geschichte d. Philosophie, 1825, pp. 1-3, 11-17 Th. A. Rixner, Handbuch d. Geschichte d. Philosophie, Salzburg, Vols. 1, 3, 17, 18 D. Tiedemann, Geist der speculativen Philoso- -phie, in 6 vols., 1791, Vol. 1, pp. XIV-XV.

ترجمة لمقالة:
T. G. Arzakanin (1962) On the Problem of the Rise of a Scientific Conception of the History of Philosophy, Soviet Studies in Philosophy, 1:3, 56-66



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بدائل الوضعية (1)
- الجوانب الاقطاعية في الدولة البيزنطية
- الماركسية اللينينية والثورة الكوبيرنيكية في الفلسفة
- تلخيص كتاب (كاليبان والساحرة: النساء والجسد والتراكم البدائي ...
- الانسان واغترابه
- الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد 2
- الحقيقة التاريخية: بُنيتها وشكلها ومضمونها
- انجلز والداروينية
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد 1
- قوانين الوضعيات التاريخية
- الحقيقة والقيمة
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- نهضت من الأنقاض: التاريخ الاقتصادي للاشتراكية في جمهورية ألم ...
- مساهمة في منهجية دراسة الثقافة ونقد مفاهيمها المثالية
- الماركسية ومسألة القيمة: مُقاربة نظرية
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة
- مُلاحظات حول معنى التاريخ
- الفلسفة الماركسية ومسألة القيمة


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - بصدد مسألة صعود المفهوم العلمي حول تاريخ الفلسفة