أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - الحقيقة التاريخية: بُنيتها وشكلها ومضمونها















المزيد.....



الحقيقة التاريخية: بُنيتها وشكلها ومضمونها


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 7304 - 2022 / 7 / 9 - 17:49
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الكاتب: ميخائيل أبراموفيتش بارغ*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

من الواضح أنه لا يوجد مُتطلبات يُكررها تخصص السوسيولوجيا النظرية بإصرار عندما تكون الوظائف المعرفية قيد النقاش أكثر من تلك المُتطلبات التي تخص عيانية الحقائق التي يدرسها ذلك التخصص(1). هذا المُتَطلَب بحد ذاته مُهم جداً لأنه في الواقع، خاص بالمعرفة التاريخية(2). يطرح السؤال التالي نفسه: ماذا يعني هذا التعريف في لغة ابستمولوجيا ومنطق التخصص؟ ما هي المعرفة التي نقول عنها "عيانية"؟ هل المُصطلحات "العيانية" و"الحقائقية" Factograhy فيما يتعلق بالمعرفة التاريخية؟ أخيراً، ما هو مُستوى الحقائق التاريخية الذي يجب دراسته وبأي طريقة يجب إعادة تركيبه في البحث التاريخي حتى تتوافق النتائج مع ذلك المَطلَب، أي حتى يتم تمثيل الموضوع بكل عيانيته؟ كل هذه الأسئلة تتحد ضمن حدود المنهج التطبيقي للعلم التاريخي المعروف بإسم "الحقيقة التاريخية" Historical fact.
كما قد يبدو الأمر وكأنه مُفارقة، فإن مفهوم االمبحث التاريخي القديم هذا، وهو مفهوم بدا مؤخراً وكأنه بسيط و"بديهي جداً"، صار موضوعاً لجدال حيوي يدور بين فلاسفة ومؤرخي بلادنا وبلاد أُخرى(3). ومع ذلك، يجب أن نُعالج بإيجاز تاريخ المسألة قبل أن ننتقل الى جوهر المُناقشات.

***

إن تتبَّع المرء تطور معنى مقولة "الحقيقة التاريخية" في كتابات علماء المنهج البرجوازيين خلال القرن الماضي، فسيتعيّن عليه أن يستنتج أن الثورة التي حدثت في هذا المجال قابلة للمقارنة بالضبط لما حَدَثَ لمقولة "المادة" في العلوم الطبيعية في مطلع القرن العشرين، مع مُراعاة ما يقتضيه اختلاف المقولة فقط. في الواقع، في وقتٍ مُبكرٍ من ستينيات الى ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان علم التاريخ ذو التوجه الوضعي يتخذ، فيما يتعلق بمصادر المعرفة التاريخية، نفس الموقف الطبيعاني العفوي الذي اتخذه العلم الطبيعي فيما يتعلق بمسائل مصادر المعرفة في العلوم الطبيعية(4). تم تصوير هذه المسألة (مصادر العلوم التاريخية) على أنها ابتدائية تماماً وواضحة بشكلٍ كافٍ ولا يوجد فيها أي مجال للشك. في ذلك الوقت، انطلقت المُقاربة التاريخية البرجوازية ضمنياً من القناعة بأن موضوع البحث التاريخي (ما يُسمّى بعالم الحقائق التاريخية) هو الواقع الموضوعي، أي ما كان موجوداً بشكلٍ مُستقل عن الفرد المُدرِك، أي "الواقع التاريخي"، الذي كان موجوداً بهذه الطريقة أو تلك، وحُوفِظَ عليه ومن ثم وصل الى عصرنا. تم تسجيله و"وضعه" في المصادر الأولية بطريقة مُباشرة في الغالب. بكلمةٍ أُخرى، المصادر الأولية هي مخزن الحقائق التاريخية المتنوعة والتي لا حصر لها "المُعدّة" لاستخدام المؤرّخ(5). وهكذا، إن تمسّكَ المرء بمجموعة معينة من القواعد والاجراءات الشكلية بدرجة كبيرة والتي تُسمّى بمجموعها نقد المصدر الداخلي والخارجي، فإنه يُمكن لـ"الحقائق" التاريخية" بحد ذاتها أن تؤمّن للمؤرّخ فُرصةً لإعادة تركيب "واقع" العصور التاريخية الماضية(6). بعبارةٍ أُخرى، تحتوي المصادر التاريخية على كل ما يحتاجه المؤرخ لحل المهام المعرفية التي يواجهها، وكل ما عليه فعله هو أن يستثني نفسه الى أقصى درجة من مفهومه التاريخي.
يُمكن أن نستخلص النتائج الابستمولوجية التالية من هذا الموقف الموضوعاتي والطبيعاني العفوي من التأريخ الوضعي الذي كان سائداً في ستينيات الى ثمانينيات القرن التاسع عشر:
1- ان الحقيقة التاريخية Fact، بمعنى، أي حَدَث موثّق (مشهود) بطريقةٍ ما (والتي تعود له كل تمظهرات التاريخ في التحليل النهائي) هو المصدر الوحيد والموضوعي للمعرفة التاريخية. انها لَبِنَة أولية (لا يُمكن أن نُحللها الى عناصر أصغر) مُتميزة عن الحقائق الأُخرى (مُنفصلة عنها بوضوح في الزمان والمكان)، وغير قابلة للتغير في المُحتوى (وُضِعَت مرةً واحدةً والى الأبد). ان المهمة الأكثر أهميةً للمؤرخ هي اثبات صحة الحقيقة.
2- تحتوي الآثار التاريخية على عددٍ ثابتٍ من الحقائق التاريخية. أن المعلومات في المصادر الأولية التي تصمد للتحقق هي شذرات من الواقع التاريخي نفسه وجاهزة لتضمينها في العمل التاريخي. الحقائق التاريخية، هي "لَبِنات" الحقيقة الموضوعية التي صنعها التاريخ نفسه والتي تُبنى منها الحقيقة Truth التاريخية في المبحث التاريخي. وكلما زاد عدد هذه "اللبِنات" التي يجمعها المؤرّخ في عمله، زاد اكتمال الحقيقة Truth، أي تزيد القيمة العلمية لعمله. ان التهديد الوحيد للحقيقة Truth لا يأتي من الحقائق Facts بل من المؤرّخ الذي قد يشوه صحة الحقائق. ومن هنا جاء مُتطلّب "إقصاء شخصية الباحث عن البحث" الى أقصى درجة مُمكنة، أي عدم إدراج قناعاته وأوهامه وعواطفه وخياله وشغفه في نسيج البحث. إن المؤرّخ الجيّد هو من يترك القارئ "وحده مع الحقائق Facts". خلاصة القول، يجب على الحقائق أن تُعبّر عن نفسها لوحدها(7). علم التاريخ هو علم الحقائق. وبما أن الحقيقة Fact (بما هي تختلف عن النظرية) لا تتطلب شيئاً، فإن علم التاريخ لا "يُخمّن" أي شيء، ولا "يفترض" أي شيء" ولا "يُعمم"(8).
كانت هذه الاستنتاجات النهائية المُستمَدّة من التفسير الحسّي البدائي لمسألة الحقيقة Fact، وبالتالي لمسألة المعرفة التاريخية باعتبارها معرفة حسية مُباشرة(9)، إستُمِدّت إمكانية تحديد الطبيعة المنطقية والابستمولوجية للمعرفة التاريخية والطبيعية العلمية. إن الحقيقة Fact في العلوم التاريخية وفي العلوم الطبيعية من نفس النوع تماماً. انهما موضوعيتان وموثوقتان بنفس القَدَر، وهما، في كلتا الحالتين تُمثلان "الحقيقة Truth العلمية غير القابلة للتجزئة"(10).
ومع ذلك، فإن سوسيولوجيا القرن التاسع عشر الوضعية، التي استبدلت الوظائف المعرفية للتاريخ بتلك الوظائف المعرفية للسوسيولوجيا لأسباب عملية، لم تحسب الحقائق Facts على هذا النحو. أُعطِيَت الحقيقة التاريخية في أبنيتها التأملية دور توضيحي خالص (بدلاً من وظيفتها البنائية في البحث التاريخي). من ناحيةٍ أُخرى، قام التأريخ الوضعي، الذي ينظر بسذاجة الى "عالم التاريخ" كعالم يُمكن ادراكه حصرياً من خلال منظور المصادر، بمُطابقة إجراء البحث التاريخي مع اجراء التجارب في العلوم الطبيعية، وبنى تعميماته على هذا الأساس، على نفس مثال التعميمات (القوانين) في العلوم الطبيعية(11).
على الرغم من كل الأخطاء الابستمولوجية الواضحة، فقد أدى التأريخ الوضعي واجبه تجاه الموضوعانية في المسألة المعنية. لم يتم خلط الحقائق Facts التي تشتغل عليها الدراسات التاريخية مع "خبرة" الباحث المُدرِك فحسب، بل ووُضِعَت مُقابلها كذلك. علاوةً على ذلك، تمت موضعتها Objectivized الى درجة بحيث يتم مُطابقتها، من حيث الجوهر، بالواقع الذي تعكسه. بعبارةٍ أُخرى، لم يُميّز التأريخ الوضعي بين الحقيقة Fact التي تخص تخصص التاريخ والحقيقة Fact في الواقع التاريخي الفعلي. عندما كان المؤرّخ الوضعي يستخلص هذه الأخيرة من المصدر الأولي، فإنه ينقلها "مُباشرةً وبدون أي توسّط" الى بناءه بدون أي تغيير في مكانها في سلسلة التاريخ ودون المساس بدورها وأهميتها فيها (في السلسلة). ومهما كانت درجة صحة فعل ذلك، فإن سذاجة آراء الوضعية "القديمة" الطبيعانية فيما يتعلّق بطبيعة الحقيقة Fact التاريخية قد غذّت القناعة المقبولة على نطاقٍ واسع بأنه يُمكن للمبحث التاريخي، نظراً لطبيعة المعرفة التي يُقدمها، أن يُعيد إنشاء صورة موضوعية لتاريخ البشرية(12).
ومع ذلك، ظَهَرَ في الثُلُث الأخير من القرن التاسع عشر تيار مُعارض تماماً رفعَ صوته ضد هذه المُمارسة في منهج علم التاريخ البرجوازي(أ). كان فيلهلم ديلتاي الذي كان تأثيره هائلاً في القرن العشرين هو الذي قام بذلك(13).
إتّخَذَت فكرة الحقيقة Fact التاريخية، في منظومة آرائه، تفسيراً مثالياً ذاتياً. تختلف الحقائق التي يعمل عليها المبحث التاريخي إختلافاً حاداً عن حقائق العلوم الطبيعية: إن هذه الأخيرة هي نِتاج إعادة انشاء مُباشر للواقع الخارجي عن طريق أعضاء حواسنا، في حين أن الأولى لا تُنشئ الواقع الموضوعي بل تُنشئ "الشهادة التاريخية" historical witnessing(ب) من بين تلك التي يُطلق عليها "التصريحات على شكل محاضر" statements in the form of minutes التي يُدليها شهود العيان على الأحداث الغارقين في مجموعة من المعلومات التي تمتاز بشدّة التوسّط. ولكن في حين أن غالبية الحقائق التاريخية ليست نتاج المعرفة الحسّية المُباشرة بل مُجرّد "بُرهان" على التقاليد، فإن دور المؤرّخ في اعادة انتاج هذه الحقائق يختلف اختلافاً كبيراً عن دور عالِم الطبيعة. النقطة المُهمة هي أن التقليد التاريخي لا يُمكن اعادة انتاجه (على عكس "التصريحات في شكل محاضِر" عن طريق شهود عَيَان) من قِبَل المؤرّخ مُباشرةً وبدون توسّط (حتى لو كان ذلك فقط بسبب تحوّل الاهتمام التاريخي الى مستوىً آخر). إنه يتطلّب موقف المُبادَرَة من جانب المؤرّخ، أي اتخاذ موقف "النقد" و"اطلاق الأحكام" و"الاختيار". بمعنىً آخر تقييم المواد المتوفرة. لكن كل عمليات التقييم، بدورها، تتطلب معايير مُحددة (يجب بالضرورة أن تكون من خارج المادة التي يتم تقييمها)، وبالتالي قد يجد المؤرّخ معايير في مجال المعرفة (فلسفية مُجرّدة، دينية، أخلاقية، الخ) بخِلاف المصادر. وهكذا، فإن الدرجة التي تكون فيها الحقائق التاريخية صحيحة تُثبِت أنها تعتمد على درجة صحة معايير تقييم المؤرّخ لمادته(14). نتيجةً لذلك، دَفَعَ كتاب (نقد العقل التاريخي) لديلتاي الى المُقدّمة مسألة (الخبرة الداخلية) Erlibins، وحدس المؤرّخ باعتباره مُقدّمة حاسمة لتوضيح طبيعة الحقيقة Fact التاريخية الابستمولوجية والمنطقية. تم وضع الحقيقة التاريخية بشكلٍ حاد في مُقابل الحقيقة في العلوم الطبيعية كأنها مواجهة بين حقيقة خاصة بالوعي وحقيقة ملموسة ذات طابع حسّي، كحقيقة "الخبرة الداخلية" مُقابل حقيقة يُمكن تفسيرها سببياً، كحقيقة مُخمّنة حدسياً مُقابل حقيقة مُدرَكَة عقلانياً(15).
ليس من الصعب أن نرى الى أي درجة تم إفقار عالم الحقائق التاريخية وتسويته في الفرد المُدرِك من خلال تفسير ديلتاي مُقارنةً بالتفسير الوضعي لذلك العالم. ومع ذلك، لم يكن هُناك ما يُثير الدهشة في هذا: إن تحويل هذا العالم الى مخلوقٍ لـ"العقل" (وتبعاً لذلك تحويله من كونه تاريخاً الى "علم العقل") نتيجةً مُباشرةً لاستبعاد كامل ثراء تمظهرات نشاط الفرد العملي والمادي والاجتماعي من البحث التاريخي، وإحلال الدافع السيكولوجي اللاعقلاني للباحث محل علاقة السبب-النتيجة التاريخية الموضوعية(16).
في حين أنه من المُبرر أن نرى في "منهجية العلوم الاجتماعية" التي وضعها ديلتاي أنها رد فعل على "طبيعانية" الوضعية الساذجة في مجال المعرفة التاريخية، الا أنه يجب أن نُدرِك بأن هذا رد فعل من جانب المثالية الذاتية واللاعقلانية. ونتيجةً لذلك، يُسلب من الحقيقة التاريخية عدد من أهم سماتها: الواقع الموضوعي، أي سمتها الجوهرية، وانفصالها عن الفرد المُدرِك، واستقلال محتواها عن "تقييم" الباحث، وتُحرَم من أصالتها وقابلية التحقق منها، وتكراريتها وما الى ذلك(17).
وهكذا، كان عالَم التاريخ، من ناحية، محدوداً ومقصوراً على حقائق عالم العقل، ومن ناحيةٍ أُخرى، تم تفسير معرفة التاريخ من وجهة نظر المثالية الذاتية واللاعقلانية. تم اختزال المعرفة التاريخية الى حدس وعاطفة وانطباعات الفرد المُدرِك.
في الوقت نفسه، يُمكن للمرء أن يجد، في نقده للتفسير العقلاني الوضعي لمقولة "الحقيقة التاريخية" التي طوّرها ديلتاي، طرحاً لمسألة ما هو خاص بالمعرفة التاريخية. لن يعود من المُمكن، من هذه النقطة فصاعداً، الاتفاق مع المفهوم الطبيعاني للحقيقة التاريخية التي تُميّز أنصار الامبريقية الحسية. كانت المسألة الرئيسية للمنهجية الوضعية هي كيفية الانتقال من الحقائق االى التعميمات، أي صياغة القوانين التاريخية العامة (فيما يتعلق بالحقائق نفسها، حيث كان "الحصول عليها" أمرٌ مفروغٌ منه بطريقةٍ ما)، ثم تغيّرت مسألتهم الرئيسية الى كيف يتم انشاء الحقائق التاريخية نفسها، والى أي درجة يُمكننا معرفة الماضي التاريخي، وما هي بُنية المعرفة التاريخية(18).
أكمل فيندلباند وريكرت حفر هوة لا يُمكن عبورها بين العلوم الطبيعية و"علوم العقل"(19). وبدلاً من القناعة التي كانت تقول بأن الحقيقة Fact التاريخية هي "الواقع التاريخي نفسه"، انبثقت الشكوك وسُرعان ما تم انكار امكانية معرفة الواقع التاريخي. أنكَرَ الكانطيين الجُدد، أنصار مدرستي ماربورغ وفريبورغ، مُنطلقين من ثُنائية الواقع الامبريقي ومجال "القِيَم" (الضرورة الأخلاقية)، أن للحقائق التاريخية مُحتوىً مُستقلاً عن الباحث وأي صحة موضوعية(20). برأيهم، لا يُمكن معرفة جوهر الحقيقة Fact التاريخية. وهي تفتقر الى المعنى نظراً لأنها غير مُتاحة للمُراقب الا على مستوى الظاهرة. نتيجةً لذلك، فإن أيٍ منها تحوز على أهمية "الحقائق الثقافية" بالنسبة لنا يُمكنها أن تكون حقيقةً Fact تاريخية، ويتحقق هذا فقط من خلال تصنيف هذه الظواهر على أنها "قِيَم"(21). على الرغم من أن ريكرت عزا أهميةً مُطلقةً الى "القِيَم" وبالتالي أكد وجودها الموضوعي فوق التاريخ، الا أن "تصنيف" القِيَم ذاته اتضح أنه ذاتي تماماً. وفي التحليل الأخير، يكون المؤرّخ بذلك، حامل القِيَم، هو الذي يصنع الواقع التاريخي(22). وهكذا، فإن الكانطية الجديدة، والتي تؤذِن بدخول التاريخانية البرجوازية الى فترة أزمتها، قد أثبتت أنها المُعبّر الأوحد عن تلك التاريخانية بالمعنى الحرفي للمُصطلح. لقد صاغت الكانطية الجديدة، على الرغم من كل مُقدماتها الذاتية اللاعقلانية والمثالية، عدداً من الأسئلة المُهمة في منطق البحث التاريخي، من بينها مسألة ما هو خاص بالحقيقة Fact التاريخية. لم تعد أيٌ من "المدارس" (التاريخانية غير الماركسية) التي جاءت لتحل محل الكانطية الجديدة قادرةً على أن تخرج من إسار الاستنتاجات الكانطبة الجديدة كما أظهرت التجربة اللحقة للقرن العشرين. وهكذا، على سبيل المثال، كَتَبَ المؤرّخ الانجليزي حول الموضوع المعني، ادوارد هاليت كار Edward Hallett Carr الذي كان بعيداً عن منهجية ريكارت: "لا يتم عزل الحقائق التاريخية الرئيسية على أساس أي خصائص مُعينة مُتأصلة في تلك الحقائق، ولكن على أساس قرارات المؤرّخ المُسبقة"، وهو بذلك قد كرر الدوغما الكانطية الجديدة(23).
من الواضح أن إنكار المُحتوى الموضوعي للحقيقة التاريخية يُقوّض أُسس الادراك العلمي للتاريخ. كنتيجة لتحويل مركز ثِقَل مسألة الحقيقة التاريخية من عالم الواقع الموضوعي الى عالم الوعي والذي يصنع النهائي (أي عالم الحقائق التاريخية) من فوضى اللانهائي، أصبَحَ مفهوم "الحقيقة في التاريخ" يتطابق مع "الحقيقة الثقافية"، أي حقيقة من وجهة نظر تاريخية مُعينة، منظور، حقيقة معزولة وفقاً لنظام "المعاني" و"القيم" و"الثقافة" وما شابه، ومقبولاً في عملية البحث. نتيجةً لذلك، ثبُتَ أن الفكر التاريخي البرجوازي خلال القرن العشرين مُشبَع بالنسبوية المُتطرفة. لأنه ان إفتَقَرَت الحقيقة التاريخية الى العديد من السمات التي نسبها اليها التأريخ الوضعي في القرن التاسع عشر، أي تلك السمات التي تجعلها تتطابق تماماً مع الحقيقة في الطبيعة (عدم القابلية للتجزؤ، المحدودية، وما الى ذلك)، واجهت غالبية الحقائق التاريخية الباحث ليس في "مُباشرتها الحسية" بل في شكل تقليد تاريخي طويل، وأخيراً، ان كشفت أهمية وبُنية هذه الحقائق إعتمادية صارمة على "أفكار القيمة" وعلى "إسقاط المؤرّخ" وعلى "منظور" تاريخي مُعطى، سيُعلَن حينها أن الحقيقة التاريخية كواقع تاريخي موضوعي هي "ميتافيزيقيا" و"واقعية جديدة"، الخ. ولكن هكذا، في رأي النسبويين، لا يعود من المُمكن اعتبار المعرفة التاريخية انعكاساً للواقع وكمعرفة تتأسس على شيء موضوعي موجود قبل الفرد المُدرِك وبالاستقلال عنه. لا يُمكنها الزعم بأهمية شاملة وأن تحوز على حصةٍ ما في الحقيقة Truth الموضوعية.
من الواضح أنه لم يكن الانتقال من مثل هذه الشكية الى منصة الانكار التام أن التاريخ هو علم، عصياً بالمرة. وقد تم اتخاذ هذه الخطوة. في عام 1926 قرأ السوسيولوجي والمنهجي الأمريكي كارل بيكر Carl Becker ورقته (ما هي الحقائق التاريخية؟) التي طَرَحَ فيها الباحث مفهومه الحاضري(24) حول الحقيقة التاريخية. إن المؤرّخ يدرس واقعاً لم يعد موجوداً. هذا الواقع، على عكس الظواهر الطبيعية، لم يوجد سوى مرةً واحدة ولا يُمكن تكراره. لا يُمكن اعادة انتاجه في "تجربة"، لأن صُنّاع وحَمَلة ذلك الواقع لم يعودوا موجودين. ولهذا يسأل بيكر: ما الذي يدرسه المؤرّخ إذاً؟ انه يدرس "آثار" Traces ما كان ("حقائقاً")، وهي، تفتقر، بحد ذاتها، لأي ومعنىً وأهمية. إن المؤرّخ هو ما يمنحها (أي يمنح الحقائق) كلا الأمرين. وبالتالي الاستنتاج: الحقيقة Fact التاريخية ليست أكثر من مُجرّد وهم. ليس لها علاقة بالتاريخ، لإنها تشهد لصالح الحاضر وليس الماضي، أي لصالح زمن المؤرّخ. إنها ما يوجد اليوم وليس ما كان موجوداً في الماضي، على الإطلاق. بإختصار، فإن اللوحة الكاملة لما يُسمى "الحقائق التاريخية" ليست سوى من صُنع المؤرّخ. لا يوجد تاريخ خارج رؤية المؤرّخ(25).
لم يكن بيكر وحده من اتخذ هذا المسار. صارت النسبوية المُتطرفة في تفسير مقولة "الحقيقة التاريخية" هي الشيء الدارج. كان المؤرّخ الفرنسي البارز لوسيان فيبر Lucien Febvre أيضاً من أنصار هذا المسار: "سينهار هذا البناء الكامل (إعادة انشاء التاريخي للحقيقة) بمجرد أن يلمسه المرء(26). رأى عالم المنهج الألماني كارل هوسي Karl Heussi الحقائق التاريخية على أنها مُجرّد "وجهة نظر" المؤرّخ(27). كل عصر جديد سيرى في الحقيقة Fact نفسها شيء مُختلف تماماً، ولن يكون لأيٍ من هذه النظرات أحقية في أن تكون صحيحةً أكثر من الأُخرى. لا يُمكن للمرء أن يُطالب بأكثر من حُكم على الحقائق التاريخية بأن تكون غير مُتناقضة داخلياً. ان كل النظرات (فيما يتعلق بالمحتوى) للحقيقة على مر العصور يُمكن وضعها على قدم المُساواة. بعد بضع سنوات من هوسي، خلُصَ الفيلسوف الألماني تيودور ليت Theodor Litt من مُلاحظاته على سلسلة الأحكام التأريخية على مجموعة من الحقائق المُتطابقة، حتى خلال عمر جيلٍ واحد: "ليست الحقائق، بل التحيّز، هو ما يُرشد المؤرّخ"(28). بعبارةٍ أُخرى، عندما يتعلق الأمر باستنتاجين مُحتملين: إما أنه لا يوجد موضوع في المبحث التاريخي (أو حتى الماضي ليس هو موضوع البحث التاريخي بل الحاضر، أي الفرد الذي يدرسه)، أو أن المنظور التاريخي له أهميةً أكثر في المعرفة التاريخية-في تحرّك المعرفة من مستوىً لآخر- أكثر من أهميته للعلوم الطبيعية، نقول عندما يتعلق الأمر بهذين الاستنتاجين، يختار العلم التاريخي البرجوازي الاستنتاج الأول. من الواضح أن الحاضرية كانت الوتر الأخير الذي عزفت عليه المنهجية الريكارتية في التاريخ. ظهرت مشكلة الحقيقة Truth في التاريخ من هذا المنظور على أنه لا علاقة لها اطلاقاً بالموضوع الذي تتم دراسته (والذي هو غير قابل للمعرفة من حيث المبدأ) ولكنها تتعلق حصرياً بما يسعى الحاضر أن يجده في الماضي من خلال الباحث. وهكذا، في المفهوم الحاضري للمعرفة التاريخية تحل "خبرة الباحث" محل الحقيقة Truth التاريخية تماماً. ان المشكلة الحقيقية التي يجب أن ندرسها ليست الماضي بل "نظرة الماضي". خَلُصَ بينيدتو كروتشه Benedetto Croce الى أن كل التاريخ الأصيل دائماً ذاتي، انه دائماً "التاريخ المُعاصر" فقط. وحسب رأيه فإن هناك ما يُبرر استخدام التاريخ للحُكُم على عصر المؤرّخ بدلاً من "عصر التاريخ"(29). وكخُلاصة: التاريخ هو ما يصنعه المؤرّخ. ما هو نهائي: بدلاً من منطق العملية الموضوعية، يأتي منطق الرواية التاريخية، وبدلاً من مُحتوى العملية التاريخية، يأتي محتوى أسئلتنا حول الماضي، وبدلاً من حقائق التاريخ يأتي الشبح التاريخي الذي يُسمّى تاريخاً والذي ينزلق بعيداً عنا والقادر فقط على أن يظهر كشيء ما يختلف بالنسبة لهذا المؤرّخ أو ذاك(30). التاريخ كموضوع يُدرَس هو ما يصنعه المؤرّخ. يزعُم الفيلسوف الفرنسي المُعاصر ريمون آرون بأنه "لا يوجد واقع تاريخي وُجِدَ قبل المبحث التاريخي والذي على هذا الأخير أن يُعيد بناءه"(31). أما زميله هنري مارو Henri-Irénée Marrou فيُشاركه الرأي نفسه: "التاريخ هو نتاج الجهد الابداعي للمؤرّخ، أي نتاج جهد الفرد الساعي الى المعرفة"(32). ان النسبوية بالطبع ليست سوى واحدة من التيارات في فلسفة التاريخ الغربية المُعاصرة. ومع ذلك، فإن تأثيرها على الفكر التاريخي غير الماركسي أوسع بكثير من دائرة أنصارها المُباشرين. ولذا يُمكننا تلخيص المفاهيم الذاتية الحالية حول الحقيقة التاريخية على النحو التالي.
1- العلم التاريخي ليس تراكمياً، أي لا يُضيف "معرفة الى المعرفة" لأنه يفتقر الى موضوع بحث حقيقي (الماضي مخفي عنا ولا يُمكن للمعرفة الوصول اليه). ان موضوع التاريخ هو شيء يصنعه الباحث. ما يُسمى الحقيقة التاريخية هو من صنع الباحث وهي تتغير بمجرّد أن يُغيّر الباحث "نظرته التاريخية". لهذا السبب لا معنى للحديث حول تطور مبحث التاريخ، حيث أن أي "رؤية" جديدة يُمكنها أن تُلقي بالرؤية القديمة الى القمامة. المعرفة التاريخية المُختبرة مراراً وتكراراً هي استبدال مُستمر لنظرة بأُخرى، كُلٌ منها نسبي ويقف على نفس المستوى وسيتم حتماً استبداله بواحدٍ جديد(33). هذا هو السبب في أن التاريخ يُمحى الى الأبد ويُكتَب تاريخ جديد بدلاً عنه.
2- إن أهم حقائق الماضي-حقائق العقل- لا يُمكن أن تكون قابلة للمعرفة. على سبيل المثال، لا يُمكننا أن نعرف أبداً ما هي الأفكار التي كانت تُخالج يوليوس قيصر عندما قرر أن يعبر نهر الروبيكون. كل ما هو مُتاح للمؤرّخ هو مجرّد الحدث الخارجي، أي الفعل الميكانيكي وحسب.
ولهذا فإن نظرية الانعكاس لا تنطبق على العلوم الانسانية. بالنسبة الى المؤرّخ، يبقى اما اكتشاف معنى الحقيقة Fact من خلال "الاحساس" بها، أي باللجوء الى "تجربته الخاصة" أو عن طريق "انشاءها" من خلال تلك التجربة، في التحليل النهائي. سيكون "اعادة انتاج الماضي"، في كلتا الحالتين مُجرّد نوع من "التأويل"، أي ملئ التاريخ بمعنىً يتعلق بالماضي وليس بالحاضر. وبما أن الأمر كذلك في هذه الحالة، فإن كالوتE. Callot يَخلُص الى أنه ان كان تأسيس "جهاز الحقائق" يعتمد كُلياً على "منظومة القِيَم" الذي يأخذ به المؤرّخ، سيفشل المرء في فهم كيف يُمكن لمبحث التاريخ أن يُدرِكَ الواقع. سيكون من المنطقي من جميع النواحي أن يحصر هذا المبحث نفسه بوعي في إطار النسبوية، مُستبعداً الانطولوجيا الميتافيزيقية(34).

***

ليس من الصعب أن نرى أن مسألة طبيعة الحقيقة التاريخية تتعلق بالمسألة الأساسية للفلسفة، أي علاقة الفكر بالوجود بطريقة مُحوّلة. وأن اجابة الفكر البرجوازي الاريخي اليوم عن هذه المسألة من وجهات نظر المثالية الذاتية واللاأدرية والنسبوية يؤكّد بوضوح أكثر من أي شيءٍ آخر كيف كان لينين على حق، عندما كتب، في خِضَم جداله ضد أنصار هذه الآراء في بداية القرن: "لأن من يضع النسبية Relativism في أساس نظرية المعرفة يحكم حتماً على نفسه إما بالريبية المُطلقة، واللاعرفانية والسفسطائية، واما بالذاتية(35). وهذا ليس لأن النسبوية هي النتيجة التي مفادها أن معرفتنا نسبية، بل لإنها إنكار لأي حقيقةٍ Truth موضوعيةٍ كانت، أي وجودها المُستقل عن الانسان والانسانية تقترب منه معرفتنا النسبية(36).
في الوقت نفسه، كشفت مُناقشة مسألة الطبيعة الابستمولوجية والمنطقية للحقيقة التاريخية عن صعوبات موضوعية ترتبط بحلها. إحدى هذه الصعوبات هي الطبيعة غير المُتمايزة للمُصطلحات، والتي تؤدي باستمرار الى استبدال الأفكار. تُستَخدَم مقولة "الحقيقة التاريخية" للإشارة الى حدثٍ في التاريخ (أي الى "حقيقة" واقع موضوعي)، ومعلومة في مصدرٍ ما (أي "الحقيقة" مُنعكسة بهذه الطريقة أو تلك)، وأخيراً رسالة (دليل) صمدت أمام الاختبار وبذلك أصبحت حقيقة في المبحث التاريخي. هذا هو الى حدٍ كبير أصل كل "الخلافات" بين المؤرخين الماركسيين حول المسألة التي تُهمنا هنا (ليس هناك أدنى شك في أن أنصار التعريفات المُختلفة يتبنون مواقف مادية متسقة). وهكذا، عندما نقرأ التعريف التالي: "الحقيقة التاريخية، كحدث من الماضي يتأسس على أساس المصادر، هي وحدة دياليكتيكية بين الذاتي والموضوعي، موجودة في الواقع التاريخي نفسه وفي المعرفة التي تعكسها"(37) فإن الوضوح الكامل ناقص هنا فيما يخص "الحقيقة" لأنه يتم هنا الخلط بين الجوانب الدلالية الثلاث للمفهوم. بادئ ذي بدئ، ان كان المرء يتحدث عن "الحقائق" كواقع تاريخي موضوعي موجود مُسبقاً ومُستقل عن الفرد العارف (المؤرّخ)، فإن السؤال يطرح نفسه: هل كل "حقائق" ذلك الواقع تُشكّل وحدةً لـ"الذاتي والموضوعي"؟ كيف يُمكننا، على سبيل المثال، أن نتعامل مع تلك العلاقات التي تنشأ مُستقلةً عن ارادة الانسان ووعيه، كنتيجة لنشاطٍ يهدف الى الحفاظ على وجوده، "حقائق" في مجال العلاقات الاجتماعية المادية(38)، ما الذي يجدر علينا فعله حيال الحقائق في مجال تاريخ الطبيعة، والتي كان لها عواقب اجتماعية هائلة ("المجاعة العُظمى" 1315-1317، وطاعون القرن الرابع عشر، وما الى ذلك)؟ بالاضافة الى ذلك، فإن القول الذي يُشير الى "المصادر" في تعريف الحقيقة التاريخية تدل على أنه يتم نقل المشكلة برمتها الى مستوىً مُختلف. في الواقع، ليس الحقيقة، بل انها تلك "الحقيقة" المُنعكسة في مصدر، هي التي تطرح نفسها على أنها حقيقة تاريخية موضوعية. لكننا في هذه الحالة، نتعامل مع جانب مُختلف تماماً من المشكلة، حيث أنه من المعروف جيداً أن الواقع التاريخي ينعكس في المصدر بطريقة غير مُباشرة في أغلب الأحيان، وأحياناً بطريقة مُشوهة وانتقائية ومُجزئة. بإختصار، نحن هنا لا نُجابه الواقع نفسه، بل انعكاساً مُلائماً بهذا القَدَر أو ذاك. أخيراً، هُناك، في تحليل تعريف الحقيقة التاريخية أعلاه، يوجد أيضاً، المعنى الثالث لمفهوم "الحقيقة التاريخية"، أي مُعالجة "حقائق المبحث التاريخي". ينبثق هذا عن الجُملة التالية في التعريف: " الحقيقة التاريخية، كحدث من الماضي يتأسس على أساس المصادر..." من الذي أسسها؟ المؤرخ بالطبع! لكن نحن في هذه الحالة لا نُناقش الاعتراف بحقيقة ما، بقدر ما نُناقش مُحتواها ومُعالجتها وتفسيرها وادراجها في منظومة الروابط التي تحوز (الحقيقة) على أهميتها، من خلالها (الروابط). من الواضح انه ليس من الدقيق تعريف هذا التنوع في "الحقائق" بشكلٍ مُستقل عن وحدة الموضوعي والذاتي.
وبالتالي فإن عدم كفاية التمييز بين المفاهيم هو العقبة الرئيسية في طريق المُناقشة المُثمرة للمسائل المعنية. ميّزَ لينين بشكلٍ منهجي بين حقائق الواقع الموضوعي، والتي هي المادة الخام للعلوم الاجتماعية، وحقائق تلك العلوم التي هي نتيجة لإدراكها(39). يُظهِرُ هذا التمييز الأساسي غموضاً بالطبع عند مُحاولة طرح تعريف واحد ليس فقط لما يعكس وما ينعكس، بل أيضاً عند طرح تعريف لجوهر عملية الانعكاس ذاتها.
تشهد الأمثلة المذكورة أعلاه مرةً أُخرى على راهنية المشكلة التي نطرحها. من الواضح أنه قبل الشروع في دراسة جوهر المسألة، من الضروري أن نتفق على ما يلي. من الآن فصاعداً سنُطلق على "الحقيقة في التاريخ" fact of history "الحقيقة التاريخية" historical fact. سنسُمّي الحقيقة المُحددة في مصدر أولّي "معلومة المصدر" source information، بينما ستكون "معلومة المصدر" التي تم التحقق منها علمياً وتم تفسيرها من قِبَل المؤرّخ وبالتالي صارت حقيقةً في العلم "حقيقة تاريخية علمية" scientific fact of history.
وبالتالي، فإن الاعتراف بحقيقة تاريخية كواقع موضوعي لا يعتمد على وعي وجودها الانطولوجي وعلى وعي وجودها كشيء مُشتق منه (مشتق من الواقع)، من قِبَل أي فرد، نقول، الاعتراف بذلك، ليس سوى حل مادي للمسألة الأساسية للفلسفة في علم التاريخ. تكمن الخاصية التي تُحدد ماهية الحقيقة التاريخية-وهي "شذرة" من " الواقع التاريخي- في اكتماليتها ولااستنفاديتها وعدم امكانية تغييرها. وتكمن الخاصية الأساسية التي تُحدد الحقيقة التاريخية العلمية في عدم اكتماليتها وتغيّر محتواها، وقدرتها على استيعاب تطور لانهائي بقدر ما يتطور المبحث التاريخي نفسه(40).
تُعبّر فكرة "الحقيقة التاريخية"، للوهلة الأولى، عن التفرّد والتميّز الصارمين (في المكان والزمان والمُحتوى). وهي تُمثّل، في العملية التاريخية الحقيقية، عامل استمرارية، عُقدة في شبكة روابط مُعقدّة.
والحقائق التاريخية، على مستوى الظواهر المُكوَّنة من الأحداث، هي علامات على نمط نظام واحد في تيار التاريخ. وعلى مستوى "الجوهر" من الواضح أن الأهمية الموضوعية وتعقّد وكم مثل هذه الأحداث متنوعة تماماً مثلما هي لامحدودية حياة المُجتمع. من هنا يأتي الاستنتاج الحتمي بأنه سيكون من الخطأ اعتبار الحقائق التاريخية هي تلك فقط الأحداث المُهمة (في رأي المُعاصرين أو المؤرخين اللاحقين)، لأن السؤال سيطرح نفسه مرةً أُخرى هُنا: بأي معنى هي "هامة" تاريخياً واجتماعياً وثقافياً؟ إن أفكار نابليون واهتماماته، واهتمامات نجار ما مجهول في فوبورغ في باريس، و"أفعال" نابليون وحياة نفس النجار اليومية هي أحداث متساوية الأهمية في سياقات مقاطع عرضية(جـ) مُعيّنة عبر التاريخ. بالاضافة الى ذلك، بالنسبة للتاريخ الاجتماعي، تُعتَبَر حياة النجار اليومية أهم من تلك التي تتعلق بنابليون. لو كان الفضول المعرفي الانساني قد احتفظ لنا بمعلومات مُفصّلة حول الحياة اليومية لنجارٍ باريسي واحد على الأقل مُعاصر لنابليون بدلاً من تخليد بانِ الامبراطورية، لحَصَلَ المبحث التاريخي على مكاسب أكثر.
وبالتالي، جميع الأحداث المُهمة اجتماعياً، والتنوع الكامل لظواهر حياة المُجتمع، ولانهائية عالم المُجتمع، التي يُشار اليها بأنها واقعٌ تاريخي، بغض النظر عن أي مقايس لأهمية ومعايير الأحداث والظاهرات المعنية، سواءاً استحوذت على خيال مُعاصريها أو مرت دون أن يُلاحظها أحد، تُمثّل حقائق تاريخية. يجب التأكيد مرةً أُخرى على أن لااستنفادية التاريخ تكمن بذاته (بذات التاريخ) ولا يتم استدخالها فيه بأي حالٍ من الأحوال من قِبَل الفرد الذي يُدركه. وبطبيعة الحال، المنظور التاريخي والتجربة التاريخية (مسار التاريخ) يوسّعان أيضاً وجهة نظرة المرء للتاريخ بأثرٍ رجعي ويسمحان للأجيال المُتعاقبة من المؤرخين باكتشاف جوانب وصلات وانتظامات جديدة لم تُلاحَظ سابقاً. من الواضح أن معنى مثل هذا الاغتناء للرؤية التاريخية لا يتعتم أو (حتى يتشوه) الا إن تم تفسيره من خلال مفاهيم "إسقاط الحاضر على الماضي"(د).
ان تنوّع العوالم التي تُشكّل حياة المُجتمع تُملي الحاجة الى تصنيف الحقائق التاريخية بشكلٍ مُناسب. وهكذا يجب التمييز بين الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها. يُعتَبَر سعر القمح في مدينة أميان amiens الفرنسية 8 تشرين الأول من إحدى الأعوام معلومةً لا تقل أهميةً عن أحداث التمرد في شوارع باريس في احدى السنوات في التاريخ الاجتماعي او حلول سلالة حاكمة محل سُلالة أُخرى في التاريخ السياسي. هناك حاجة، ضمن مجال الحقائق التاريخية المُتعلقة بكلٍ من مجالات المُجتمع هذه، لمزيدٍ من التقسيمات الفرعية (على سبيل المثال، يُمكن تفسيم حقائق التاريخ الاقتصادي الى: أ- حقائق التاريخ الزراعي، ب- حقائق التاريخ الصناعي، جـ- حقائق في تاريخ النقل والتجارة والتمويل، د- حقائق ديموغرافية، وما الى ذلك).
كما لاحظنا مُسبقاً، تكمن احدى افتراضات منهجية التاريخ الكانطية الجديدة في الاعتراف بـ"تفرّد" الحقائق التاريخية (الأحداث، الظواهر، الخ). تم تحقيق ذلك، في المقام الأول، عن طريق وضع حدود لمجال رؤية المؤرّخ ضمن عالم حياة المُجتمع غير المادية، وفي المقام الثاني من خلال التجاهل الواعي لمجال الحياة المادية، وخاصةً وقبل كل شيء، علاقات الانتاج الاجتماعية التي تجعل من المُمكن اكتشاف التكرار في تاريخ مُختلف الشعوب(41). تم الكشف عن أن تركيز الانتباه على الحقائق في فئة الأحداث وتجاهل "ارتباطها النشوئي" بالبُنى الاجتماعية (فصل الأحداث التاريخية عن الروابط الاجتماعية التي أدت اليها، تماماً كما هو فصل "انجازات" الشخصيات التاريخية عن دوافع أنشطتهم الاجتماعية(42)، نقول تم الكشف عن ذلك كأمثلة على المُقاربة المُعادية للتاريخ بشكلٍ صارخ. علّقَ ماركس نفسه على أنه وراء ما يُسمى بـ"دراسة التاريخ من وجهة نظر الشخصيات"، غالباً ما يتم اخفاء الرغبة في "التغاضي" عن الاختلافات التي تتجسد فيها العلاقات الاجتماعية على وجه التحديد. المُجتمع ليس مجموع أفراده، ولكنه يُعبّر عن مجموع الروابط والعلاقات التي يرتبط بها الأفراد ببعضهم البعض. ان أكّدَ المرء أنه لا يوجد عبيد ومواطنين، بل أُناس، في نظر المُجتمع، فمن الواضح أن وجودهم بهذه الصفة هو شيء خارج المُجتمع. أن تكون عبداً وأن تكون مواطناً هي التحديدات الاجتماعية للعلاقة بين الشخص أ والشخص ب. الشخص أ كشخص هو ليس عبداً. انه عبد في المُجتمع ومن خلاله(43). بعبارةٍ أُخرى، تقوم الكانطية الجديدة عبر اضفاءها صفة الاطلاق على ما يُميز "موضوع التاريخ"، بالخلط عن وعي بين الحقيقة Fact ككيان تجريبي وتأملي، والحقيقة كرابط تاريخي وعملية وضرورة حيث يتم اضعاف جوهر تلك الخصيصة، ويكون هذا الجوهر هو السمة المُحددة للعلاقات الاجتماعية في تشكيل موضوع للتاريخ الاجتماعي. من وجهة نظر المادية الدياليكتيكية، فإن "تفرّدية" حقيقة تاريخية على مستوى المُلاحظة التجريبية لا يُمثل عقبة أمام تحديد العام وما هو محكوم بالقانون، أكثر مما يُمثله "تفرّد" الأشياء والظواهر والأحداث في الطبيعة. ان البحث عن خصوصية "شيء ما في التاريخ" من وجهة النظر هذه لا يوضح المسألة بل يشوشها. ومع ذلك، لا يُمكن أن يكون هناك شك في أنه من الضروري، على مستوى المُلاحظة المُباشرة، التمييز بين الحقائق الفريدة (اختراع الطباعة، مقتل ملك انجلترا هنري الرابع) والحقائق الاحصائية (حركة الأسعار، السكان، الحركات الاضرابية، الخ).
أخيراً، واعتماداً على الفترة الزمنية التي يمتد خلالها الحدث، يُميّز المرء الأحداث اللحظية (الوقائع) والأحداث المتكررة دورياً (الأحداث الدورية)، والأحداث ذات الفترات تطول أو تقصُر بمرور الزمن (العمليات، الظواهر). ان اختلاف طبيعة الأحداث من منظور مدتها الزمنية هو بالضبط ما يقودنا الى مسألة البُنية الداخلية للحقيقة التاريخية. دعونا، من أجل توضيح ذلك، نُقارن بين ثلاثة أحداث مأخوذة من الصراع الطبقي: فعل احتجاجي فردي، انتفاضة شعبية، ثورة اجتماعية.
من الواضح أن أول هذه الأفعال، والتي هي نتيجة لفعلٍ فردي، يُمكن وصفها بشكلٍ مُبرر بأنها "بسيطة"، على عكس الأفعال الأُخرى التي تنتُجُ عن عملٍ جماعي "معُقّد" بالمُقارنة مع الأولى. (على الرغم من وجود اختلاف كبير في درجة تعقيد كُلٍ منها). ومع ذلك، عندما يُقارن المرء هذه الأمثلة بعنايةٍ أكبر، يتضح أن مفهوم "التعقيد" ذاته يتطلب مزيداً من التحليل. في المقام الأول، من الواضح أنه لا توجد أحداث بسيطة في التاريخ. لكن تتحدد درجة تعقيدها من خلال عدد الروابط بين العوامل التي تُساعد في تشكٌّل الحَدث. بالاضافة الى ذلك، يُمكن أن يكون الحدث أكثر أو أقل تعقيداً اعتماداً على: 1- مدى انتشاره في الزمان والمكان، ب- عدد الروابط التي تُشكّل الحدث، أي عدد العوامل "المُتفاعلة" و"المُتقاطعة" فيه: العمليات ومجالات الحياة الاجتماعية التي تُحدد تلك الأفعال التي نشأت في ظلها.
وبالتالي، فإن الواقع التاريخي نفسه يُسبَك في حقائق، أي عُقَد ذات درجات متفاوتة التعقيد والمُدّة والمكانة ضمن عُمق شريحة ما هو اجتماعي المتبلورة فيها (في الحقائق). على الرغم من غموض جميع الحدود في "تطوّر الأشياء"، فإن الحقائق والأحداث ذات التكوين المُعقّد تمتلك حدوداً مُعينة تماماً في الزمان والمكان وهي ليست أقل تموضعاً في تاريخ المُجتمع. على أي حال، حتى الحقائق المُعقدة للغاية، على مُستوى الأحداث، مثل الحروب والثورات مُحددة بهذا القدر أو ذاك بإطارٍ من المكان والزمان(44). ومع ذلك، فإن تحليل بُنية الحقيقة التاريخية لا يُمكن أن يتوقف هُنا.
من المعروف أن العملية التاريخية مُزدوجة، طالما أنها تحدث في مجالين، ورُغم ارتباطهما ببعضهما بطريقةٍ مُعينة، الا أنهما لا يتطابقان على الاطلاق. أحدهما هو مجال التطور الموضوعي، والذي يُطلَق عليه "الواقع الموضوعي"، والآخر هو مجال عالم الوعي الذي يعكسه، والذي يطرح نفسه بصفته وعياً اجتماعياً، وهو، بالضرورة، ذاتي بهذا القدر أو ذاك. يؤدّي التمعّن في ازدزاجية العملية التاريخية هذه الى التمييز من جهة بين الحقائق الموضوعية التي تُجسّد حركة المُجتمع كعملية تاريخية طبيعية خاضعة للقوانين، والتي ليست فقط مُستقلة عن ارادة البشر ووعيهم، بل هي التي تُحدد ارادتهم ووعيهم ومقاصدههم، ومن جِهةٍ أُخرى (حقائق الوعي" (الايديولوجية، النفسية الاجتماعية، الخ). يُشدد لينين أن نقطة الانطلاق "لا يُمكن أن تكون الفكرة، بل الظاهرة الخارجية الموضوعية فقط. فعلى (النقد)-التشديد من مؤلّف المقالة- أن ينحصر اذاً في مُقارنة واقع، في مُجابهته، لا مع الفكرة، بل مع واقعٍ آخر"(45). يترتب على ذلك أن النقد المادي يعترف بالظواهر الموضوعية (الأحداث من فئة التاريخ الطبيعي) التي تحدث "بالاستقلال عن وعي وارادة الناس"-وهذا سبب وضع الحقيقة Fact مقابل الفكرة-، على أنها هي فقط الحقائق. يُمكن تحليل التاريخ بشكلٍ موضوعي فقط من خلال الاعتماد على "حقائق" من هذا النوع(46).
ما زلنا حتى هذه اللحظة نبحث مشكلة تصنيف الحقائق التاريخية من ناحية بُنيتها: المجال الذي نشأت فيه. ولكن لا يُمكن أن يكون هناك شك أن الحَدَث بما هو حقيقة، ينشأ كنِتاج كُلي لعدد لامُتناهٍ من القوى التي تتقاطع بنٍسَب مُختلفة: من ناحية عناصر الضرورة التاريخية الطبيعية، ومن ناحيةٍ أُخرى عناصر الاختيار الواعي للأهداف والقرارت. يُؤكّد انجلز في رسالة منه الى بلوخ في 21-22 أيلول عام 1890 يقول: "وهكذا، فإن ثمة عدداً لا يُحصى من القوى المُتقاطعة... تؤدي الى حصيلة واحدة-الحدث التاريخي الذي يُمكن أن يُنظَر اليه، بدوره، على اعتباره نِتاج قوة تعمل من حيث هي كُل واحد..."(47). بما أن النُقطة هنا هي التاريخ المدني على هذا النحو، فمن الواضح أن لُبّ عالم موضوعه يتكون بدقة من مثل هذه العُقَد من الحقائق ونقاط تقاطع القوى المُتنوعة العاملة داخل أُطُر الحتمية المادية النهائية وعلى أساسها.
يترتب على ما سَبَق أن تصنيف الحقائق التاريخية من حيث المكان الذي تنتمي اليه "نشوئياً" (الحقائق في تاريخ القوى المُنتجة، حقائق التاريخ الاقتصادي، حقائق التاريخ السياسي، وما الى ذلك) لا يعني أن إمكانياتها المعرفية محدودة في تلك الأماكن. في الواقع، تُلقي نفس الحقائق التاريخية ضوءاً على جوانب مُختلفة من حياة المُجتمع في الماضي. المُهمة ببساطة هو تعلّم القدرة على قراءة معانيها "المُشفّرة". وهكذا، على سبيل المثال، ان بُنية الشركات التجارية القروسطية ليست مُجرّد حقيقة في تاريخ التجارة، بل هي حقيقة تمنح الباحثين قدراً كبيراً من المعلومات حول تاريخ التمويل وتاريخ الأُسرة والحياة الأُسَرية في العصور الوسطى، وما الى ذلك. ان تاريخ الديون هو دليل مهم على المشاكل الأخلاقية، وما الى ذلك. وان تاريخ الاجراءات الجنائية ليست حقائقاً في تاريخ القانون وحسب، بل، ولكن أيضاً حقائق في تاريخ النفسية الاجتماعية التاريخية والأخلاق أيضاً، وما الى ذلك.
طالما أن الأحداث اليومية العادية مُتعددة الأوجه بالمعنى المعرفي، فمن السهل حينها أن نتصور كيف أن يُمكن لأحداث من مثل التحركات والثورات الجماهيرية،، من وجهة النظر هذه، أن تُقدّم للمؤرّخ احتياط معلومات غنية ومتنوعة جداً.
تنعكس في التصريح القائل بأن الحقائق التاريخية ذات نطاقات مُختلفة (درجة التعقيد) وفي حقيقة أن الحقائق المُختلفة تحتوي على معلومات ذات معانٍ مُتنوعة (فيما يتعلق بالمُجتمع ككل)، تنعكس إحدى سمات المفاهيم المُعاصرة الجديرة بالمُلاحظة حول الحقيقة التاريخية بالمقارنة مع ما تفهمه الوضعية القديمة بالحقيقة التاريخية، هذه الوضعية القديمة التي تجاهلت تماماً مُشكلة بُنية الحقيقة التاريخية وعرّفت الحقيقة بأنها تلك التي تتطابق تماماً مع الحقيقة في الطبيعة. لكن لا يجب على المرء أن يعزو هذه السمة المُميزة لطبيعة الحقيقة التاريخية الى الفرد المُدرٍك و"برنامجه" و"رؤيته"، الخ. إن لدى افتراضات وتصورات البحث سُلطة على الأحكام فقط، فيما يتعلق بالحقيقة. قد تكون هذه الافتراضات والتصورات أوسع أو أضيق، لكنها لا تمتلك أي سُلطة على المُحتوى الموضوعي لحقائق التاريخ على هذا النحو. قد تؤدّي الافتراضات العلمية حقاً الى تعميق فهم الحقائق القديمة والمعروفة منذ زمنٍ طويل أو اكتشاف حقائق تاريخية جديدة لم يتم اكتشافها حتى الآن. يُمكن للافتراضات ذات الطابع الذاتي أن تؤدي الى إفقار الحقائق وتشويهها أو حتى "إسكاتها" ان أثبتت أنها غير مُلائمة لمثل هذه الافتراضات.
وهكذا لا تعتمد ظاهرة تنوّع نطاق وتعقيد بُنية الحقائق التاريخية، على نظرة المؤرخ. من السمات المُهمة للحقائق التاريخية أنها تطرح نفسها للباحث في شكلين: 1- في شكل ظاهرة، أي تَمَظهُر للجوهر، 2- في شكل تشبيهي Semblance، ظاهري، وهمي (هذا على سبيل المثال، هو الشكل الحسي للعلاقات الاجتماعية في ظل الرأسمالية، تماماً هو الشكل الشخصي لهذه العلاقات في ظل الاقطاع، الخ). وبالتالي، تُمثّل حقائق الظاهر، أو عالم "الواقع المُحوّر" حاجزاً يجب على الباحث تجاوزه في كل مرة للوصول الى جوهر الأشياء المخفية وراءها. بالإضافة الى ذلك، يظهر الشكل الثاني (الظاهر، الوهمي) بدوره في شكلين: 1- الموضوعي، أي عندما تنقلب العلاقات من الداخل الى الخارج خلال مسار العملية ذاته، وتتخذ "شكلاً خيالياً"، و2- الذاتي، عندما يُنظَر الى العلاقات الاجتماعية والظواهر والأحداث على أنها "مقلوبةً رأساً على عقب".
تكمن الصعوبة الرئيسية في فهم "الأشكال المُحوّلة" في الطابع الموضوعي للعديد منها. وهكذا على سبيل المثال، فإن فهم جوهر صنمية السلعة لا يُلغي بحد ذاته هذه الصنمية كحقيقة اقتصادية موضوعية. بعبارة أُخرى، تتبدى العلاقات الاجتماعية بين البشر، في هذه الحالة، بالضبط كما هي عليه(48). شدد لينين على الطابع الموضوعي للشكل التشبيهي (الظاهري) Semblance في دفاتره الفلسفية: "ألا يُقصَد أن الظاهري هو أيضاً موضوعي، لأن فيه أحد وجوه الموضوعي؟ ليس فقط الجوهر، بل أيضاً الظاهر، هو موضوعي. اختلاف الذاتي والموضوعي موجود، ولكن له أيضاً حدوده"(49).
في هذا "الواقع الثاني" الغامض، الأرض هي التي "تجلب" الريع، ورأس المال هو الذي "يجلب" الربح، وما الى ذلك. ان الشكل الاجتماعي لعمله يقف مُعارضاً لفاعل العمل كخاصية لنِتاجه. وان"مأسسة" الظاهر وجعلها غامضة تشهد على وجودها الموضوعي. ان المُقارنة بين الصنمية السلعية والدينية مُفيدة: يقبل الانسان الصور الخيالية "ككائنات واقعية" ويمنحها خصائص الحياة. ومع ذلك، ما أكبر الاختلاف النشوئي بينهما. كَشَفَ ماركس في المُجلّد الثالث من رأس المال عن جوهر حقائق "الواقع الثاني" هذا باستخدام مثال الصيغة الثُلاثية (الثالوث) (الأرض وايجارها، رأس المال والفائدة، العمل والأجور). في هذا الثالوث يتم تقديم المصادر الخيالية للثروة بطريقة تحجب تماماً المصدر الحقيقي والوحيد لتلك الثروة، أي أن هذه الصيغة المعروضة تُساعد على التخلص من أي شيء يُشير الى أن شكل فائض القيمة هو الشكل الصافي للاستغلال بصفته نموذجي لنمط الانتاج الرأسمالي، "ولو عاينّا هذا الثالوث الاقتصادي عن كثب لوجدنا التالي:... إن المصادر المزعومة للثروة السنوية المُتاحة، تنتمي الى ميادي مُتباينة كُلياً، لا تتسم بأدنى تماثل، فالعلاقات القائمة بينها تُشبه العلاقة بين رسوم كاتب العدل والشمندر والموسيقى"(50). ان رأس المال ليس شيئاً، بل هو علاقة انتاج اجتماعية لنظام اجتماعي تاريخي مُحدد، تتمثل في شيء مُعيّن، وتُسبغ على هذا الشيء طابعاً اجتماعياً خاصاُ، وهو شكل اجتماعي مُعيّن، شكل صوفي تماماً من النظرة الأولى، لواحد من عوامل عملية الانتاج الاجتماعية المُتكونة تاريخياً. يتم وضع الأرض، هذه الطبيعة اللاعضوية كما هي عليه، كُتلة فظة مُتنافرة، بكامل حالها البدائي، الى جاب رأس المال. أخيراً، العنصر الثالث في الثالوث هو شبح، العمل يفتقر الى أي صفة اجتماعية مُحددة، وهو مأخوذاً لذاته، لا وجود له اطلاقاً، ويبرز في هذا الثالوث في وجوده الطبيعي المحض مُستقلاً عن المُجتمع، مُنفصلاً عن سائر المُجتمعات.
لكن الحقيقة هي أن علاقات الانتاج الرأسمالية تظهر للوهلة الأولى في هذا الشكل "الطبيعي" والسخيف. يرى أصحاب الانتاج أنفسهم والعالقون في العلاقة الرأسمالية الأمر بهذا الشكل المُشوّه. يظهر لهم رأس المال والأرض والعمل كمصادر أساسية للثروة، والتي يستمدون الأرباح منها كل عام(51).
ولكن، كما يؤكّد ماركس، فإن الأمر لا يتعلق فقط بكيفية ظهور الأمر للعقل اليومي، ولكن يتعلق فيما يُميّز نمط الانتاج الرأسمالي الذي يؤدّي الى "قلب الواقع رأساً على عقب" والتشويش على الموضوعي.
يقول ماركس: "لقد سَبَقَ لنا لدى النظر في أبسط مقولات نمط الانتاج الرأسمالي، بل حتى مقولات الانتاج السِلَعي، والسلعة والنقد، أن أشرنا الى الطابع الصوفي الغامض الذي يُحوّل العلاقات الاجتماعية، التي تقوم العناصر المادية بمثابة حامل لها في الانتاج، الى خصائص لهذه الأشياء نفسها (السلعة)، ويُحوّل علاقة الانتاج نفسها الى شيء (نقد)، وهو ما يتجلّى بشكلٍ ساطع"(52).
ومع ذلك، فإن "العالم المسحور والمُشوّه"، عالم جعل جوهر العلاقات الاجتماعية غامضاً، لا يُميّز نمط الانتاج الرأسمالي وحده.اليست علاقات الانتاج الاقطاعية، النظام الاقطاعي ككل "يُقلَب رأساً على عقب" في أعيَن مُعاصريه (ولاحقاً المؤرخين)؟ الا تُخفى وتُشوّه من قبل الأشكال القانونية الى درجة أنها تصير تبدو في عيون أصحاب الانتاج أنفسهم ومعاصري تلك العلاقات على أنها ليست نمطاً من الانتاج الاجتماعي بل "نمط اداري"، وليس مجموعة مُحددة من علاقات المُلكية، بل مجموعة من العلاقات الشخصية، أي تظهر بالشكل القانوني الذي يُخفي فيه الجوهر؟ ألا تظهر المُلكية الاقطاعية في هذا "الشكل المُحرّف" على أنها "منحة"، وتشارك الريع الاقطاعي على أنها "مُكافأة"، والعضوية في الطبقة المُهيمنة على أنها وضعية قائمة منذ الولادة، الخ الخ؟ وأخيراً، ألم يتم إظهار "العلاقات الشخصية" بطريقة مُجرّدة من المُحتوى الاقتصادي، أي بطريقة عامة مُجرّدة جداً (الكل تابع في هذا المُجتمع: الفلاحين، اللوردات والكهنة، وما الى ذلك)، بحيث أنه لا يُمكن العثور على الحدود بين الطبقات الا بصعوبة كبيرة، أم أنه من المُستحيل القيام بذلك؟ بإختصار، يتم هنا، اتخاذ "مظهر" الظاهرة على أنها "حقيقة" وليس جوهرها.
للأسف، فإن هذه الفئة من "الحقائق" التي تشوه واقع المُجتمع الطبقي(53)، تُفلتُ تماماً من مجال نظر المرء عندما يُحلل مسألة "الحقيقة التاريخية". وبالتالي، بدلاً من تصنيف الحقائق حسب محتواها "من حيث العُمق"، من الظاهر الى الجوهر، ومما هو مُشوّه (مُحوّل) الى ما هو صحيح، نقول، بدلاً من ذلك، يتم تحويلها الى رموز للواقع على نفس المُستوى وثُنائية البُعد.
وهكذا، "الحقيقة التاريخية" هي "عُقدة"، "شذرة"، "وصلة" للواقع الموضوعي (أي التاريخ الحاصل) المُستقل في وجوده وأهميته عن الفرد الذي يُدركه، ونُقطة الانطلاق هي واقع النظرية الاجتماعية العلمية. شدد ماركس وانجلز على أن الفهم المادي للتاريخ قد كَشَفَ عن أساسه الحقيقي(54). وأكّدَ لينين بلا كلل على الأساس التاريخي الموضوعي للمعرفة الاجتماعية. كَتَب: الماركسية لا تقوم على أي شيء الا حقائق... التاريخ والواقع(55). في سياقٍ آخر، يؤكّد لينين على الحاجة الى الانطلاق من الحقائق الدقيقة التي لا جدال فيها(56). هذا هو أساس مُطالبات لينين بإجراء دراسة منهجية وعميقة لحقائق الواقع، حيث أن الحقائق المُثبتة علمياً والمُثبّتة بدقّة هي التي يُمكن أن تكون بمثابة مُقدمة سياسة ونظرية علميتان.

***

تقبل نظرية الماركسية دون قيدٍ أو شرط أولوية الواقع، أي الحقائق التاريخية، في سياق دياليكتيك عملية اكتساب المعرفة التاريخية. ومع ذلك، فإن الحقائق التاريخية ليست "مُدرَجَة" في العلم أو منقولةُ منه ميكانيكياً. باستثناء البيانات الشكلية (التواريخ، الأدلة "المُسجّلة في شكل مَحاضِر")، يجب انتقاء الحقائق التاريخية والتحقق منها والكشف عن معناها لكي تكون "حقائق علمية". لكننا، نواجه، لدن قيامنا بذلك، الجانب الذاتي من الحقائق التي ندرسها، أي نواجه مهمة تحديد ما يُميّز التحصيل العلمي للمعرفة التاريخية. ان "حقيقة" المبحث التاريخي، مُشتقة، وهي انعكاس بهذا القدر أو ذاك من الصحة في ادراك الحقيقة التاريخية، "شَّذَرَة" من الواقع الموضوعي للماضي. وبهذا المُعنى يُمكننا أن نقول أن الحقيقة العلمية للتاريخ تتطابق مع الحقيقة العلمية في تاريخ الطبيعة. ولكن في حين أن الحقيقة التاريخية كواقع موضوعي لا تتميز من حيث المبدأ بأي شكلٍ من الأشكال عن مصدر المعرفة العلمية الطبيعية، فإن هذا لا يعني أن عملية المعرفة التاريخية مُطابقة تماماً لعملية المعرفة في العلوم الطبيعية. لنبدأ بحقيقة أن النُقطة هنا أن الحدث التاريخي في مُجتمعات الماضي لا يُمكن مُلاحظته ولا يُمكن اعادة إحداثُهُ. (نحن نجد حقاً، في عددٍ من مجالات العلوم الطبيعية-الجيولوجيا، علم الكون، علم أحافير الكوكب البدائي، وضعاً مُشابهاً، ولكن مع اختلاف أن العواقب المُباشرة لـ"الأحداث" هنا يُمكن التوقف عندها عن طريق المُلاحظة المُباشرة. لا يوجد شيء من هذا القبيل في تاريخ المُجتمع). وهكذا، يقف المصدر التاريخي بين المؤرّخ والحقيقة التاريخية، والذي (أي المصدر) "يُسجّل" بشكلٍ أو بآخر حدثاً وَقَع. على سبيل المثال، يقف بين الظاهرة والباحث، في عددٍ مُختلف من مجالات العلوم الطبيعية الحديثة، أداة لا يُمكن بدونها مُلاحظة الظاهرة المعنية. لكن هذا مُجرّد تشبيه خارجي. الأداة تُسجّل أو تُبّت أو تكشف الظاهرة الطبيعية. علاوةً على ذلك، يتم صنع الأداة وفقاً لبرنامج البحث، وتعتمد قُدرتها على عكس الظاهر ة على العالِم (نُشير هنا الى مستوى تقنية البحث). أما المصادر التاريخية، فـ"يجمعها" مُعاصرو الأحداث وفقاً لـ"برنامجهم الخاص". أضف الى ذلك، أنه كثيراً ما يضع اولئك "الجامعون" لأنفسهم بوعي مهمة تضليل الأجيال القادمة. بصرف النظر عن كل شيء، في المصادر التاريخية، يتم تسجيل "الحقائق" ذات المستويات المتنوعة بنِسَب غير مُتكافئة وبـ"مقاييس" غير معقولة بحيث تشوه الواقع الموضوعي وتُشَرذِمُه.
تتمثل احدى المشكلات الرئيسية فيما يتعلق ببحث المصدر، في تحديد ما يُخبرنا به المصدر المُعطى، والى أي درجة وبأي شكل توجد الحقيقة الأصيلة في "المعلومة"، وما الذي تم تحريفه في "الحقيقة" وبأي طريقة، وكيف تم تسجيلها (نظام الرموز) وما الزمان والمكان الذين سُجلت فيهما، ومن هم الذين سجلوا المعلومة(57). بإختصار المُشكلة تتعلق بـ أ- "ما سَبَقَ أن قِيل" وما الذي كان مغزاه، وب- المُحتوى والمعنى. هنا يكمن الاختلاف الجوهري بين توسطات الواقع من قِبَل المصدر التاريخي من جهة، وتوسّط الواقع من قِبَل الأداة من جِهةٍ أُخرى. وهكذا لا يتعامل مبحث التاريخ مع "التنوّع الكامل" للواقع قيد الدراسة. بالاضافة الى ذلك، بما أن المؤرّخ يواجه واقعاً مُنعكساً مُتوَسّطاً بدرجاتٍ متفاوتة، فإن الرأي السائد بأن "الواقع نفسه" مُمثّل و"يتحدث" في المصادر، هو تبسيط لكامل قضية "الحقيقة" في المبحث التاريخي. نحن نعلم أن على المؤرّخ أن يستخدم عدداً كبيراً من الكواشف لتنقية انعكاس الواقع من كل الطبقات التي تُشوش عليه، ويجب أن يقوم بعددٍ كبيرٍ من الاجراءات من أجل استعادة الروابط المحذوفة الى حدٍ ما. ان الطبيعة المُشرذمة للمصادر التاريخية، والنقل التوسّطي للعديد من جوانب الماضي، كذلك الطريقة التي يتم بها تسجيلها في المصدر، كل هذا يُضفي أهميةً خاصةً على التجريد العلمي في عملية اثبات الحقائق العلمية للتاريخ(58). التفكير الاستقرائي الصرف غير مُثمر في البحث التاريخي بالضبط مثلما الأمر في التجريد الصرف(59). ان دور النظرية السوسيولوجية في عملية تحديد الحقائق العلمية للتاريخ هائل. انها المُحدد النهائي في عملية تفسير الأساس الوثائقي للبناء التاريخي. ولكن، هناك منطقة بين النظرية العامة والحقيقة التجريبية يتم فيها "ترجمة" مُحتوى الأخيرة من لُغة المُفرَد الى لغة الخاص-وهي ذلك الشكل الأعلى من التعميم في الدراسات التاريخية.
تدريجياً، يخضع المفهوم الذي يتعلق-(أو يتعارض مع)- بشهادة المصدر، بظهوره في البدء كافتراض حول مشكلة ما، لتأكيد وتعديل مظهره، ويخضع لعمية تحويله الى أساس البناء التاريخي. هذا الأساس، هو الذي يُحدد، في التحليل النهائي، مكان الحقائق الفردية الموثّقة في منظومة "البراهين". وبالتالي، لا يُمكن اعتبار الأدلة المُستمدة من المصدر والمُعاد كتابتها في البحث التاريخي كحقيقة علمية للتاريخ بل كحقيقة موضوعة في سياق مُناسب. بعبارةٍ أُخرى، فإن الحقيقة العلمية للتاريخ هي حقيقة في سياق المَفهمة، أي حقيقة أضاءت عليها النظرية التاريخية من الداخل. بهذا المعنى أيضاً، تكون الحقيقة العلمية للتاريخ من نفس مُستوى النظام الابستمولوجي والمنطقي للحقيقة في العلوم الطبيعية.
نحن نعلم أنه كان يُنظَر الى الاختلاف بين هاتين الفئتين من الحقائق، منذ زمنٍ ليس ببعيد، على أنه يكمن أساساً فيما يلي:
1- الحقائق التاريخية لا يُمكن مُلاحظتها، في حين أنه يُمكن مُلاحظة الحقائق الفيزيائية.
2- الحقائق التاريخية لا يُمكن إعادة خلها أو انتاجها بالتجربة وبالتالي لا يُمكن التحقق منها، في حين أن دراسات الحقائق في العلوم الطبيعية قادرة على التحقق التجريبي.
3- الحقائق التاريخية مُجزأة وانتقائية بشكلٍ مُفرط (خاصةً في فترات التاريخ البعيد) وبالتالي هي غير كافية لأن تكشف عن القوانين، أما في العلوم الطبيعية فعدد الحقائق غير محدود تقريباً، ومن ثم، لا توجد عقبات أمام اكتشاف العلاقات المُستقرة.
4- الحقائق التاريخية مشحونة بـ"أحكام القيمة"، ويعتمد ظهور هذه الأخيرة في الحقائق التاريخية، في التحليل النهائي، على نظام الحساب والمُخططات المفاهيمية الخ، التي يستخدمها "مُبتكروها". الحقائق في العلوم الطبيعية خالية من مثل هذه الأعباء ولا تعتمد على العناصر الذاتي وأشكال الوعي.
يُمكن وضع المزيد من النقاط في قائمة هذه التعارضات، ولكن حتى هذه فقط، كافية لتحليل جوهرها وأُسسها. هذه المُعارضات بين الحقائق العلمية التاريخية والعلمية الطبيعية، تعكس بلا شك، السمات التي تُميز كل شِقٍ من طرفي المُعارضة، لكن يتم تضخيم السمات هنا (سواءاً من حيث الوضع الحالي لهذه المسألة في العلوم الطبيعية نفسها أم من حيث وضع العلوم الاجتماعية العلمية).
دعونا أولاً نتحدث حول مسألة عدم امكانية مُلاحظة الحقائق التاريخية وإمكانية مُلاحظة الحقائق الفيزيائية. نحن نعلم، بادئ ذي بدئ، أنه يُمكننا أن نُلاحظ حقائق التاريخ المُعاصر بشكلٍ مُباشر، وطالما أن الأمر يتعلق بحقائق الماضي فإنه بالفعل لا يُمكننا أن نُلاحظها بشكلٍ مُباشر. وكما قُلنا آنفاً، فإنه يُمكن "مُلاحظتها" بشكلٍ مُتوسَّط، من خلال المصادر التاريخية، والتي يُمكن تصويرها على أنها الى هذا الحد أو ذاك سلسلة مُستمرة من الصور الفوتوغرافية "الفورية" ("على مستويات مُتعددة") والتي تتسجّل بكميات وأعداد هائلة لا تنضَب تقريباً (وإن كانت مُجزأة ومتشذرة) حول مُختلف جوانب المُجتمع وتطوره، على الأقل منذ أن أصبح جُزءاً من الحضارة (يقول الكاتب في مُلاحظة هامشية هنا، أنه يُشير الى المصادر المكتوبة. أما فيما يتعلق بآثار الثقافة المادية، فهي، كما نعلم، تقع بعيداً خارج إطار هذه الحدود الزمنية). من ناحيةٍ أُخرى، يوجد الآن، حتى في العلوم الطبيعية، تطوّر مُكثّف لعددٍ من التخصصات العلمية (فيزياء الجُسيمات الأولية، الفيزياء الفلكية، وما الى ذلك) والتي لا يُمكن فيها مُلاحظة الموضوع (الظاهرة) الا بشكلٍ غير مُباشر، أي من خلال قراءات الأجهزة (المُنحنيات، الصور الفورية، الخ)(60). بإختصار، لو أراد المؤرخون والفيزيائيون، على سبيل المثال، أن يُناقشوا هذه المسألة، ليس كل مجموعة على حدة، بل على طاولة واحدة، فلن يكون من الصعب استنتاج أن هذه المُعارضة بين فئتي الحقيقة (على الأقل فيما يتعلق بمجالات مُعيّنة من العلوم الطبيعية المُعاصرة) لم تعد موجودة. الوضع تقريباً نفسه عندما يتم وضع التاريخ كعلم والعلم الطبيعي مقابل بعضهما من خلال معيار "قابلية تكرار" الحقائق. صحيح أن المؤرّخ لا يُمكنه أن يُعيد إنتاج أو خلق حقائق تاريخ بلد مُعيّن في فترة مُعينة تجريبياً، لكن الجيولوجيين أيضاً، كما نعلم، لا يُمكنهم أيضاً لإعادة خلق عدد هائل من "الحقائق" في مجالهم. ينطبق نفس الشيء على البيولوجيا التطورية، والذي، لا يُمكنه، على سبيل المثال، مُراقبة عملية تطور الأنواع الأحيائية الحديثة (بما في ذلك التحوّل من القرود العُليا الى الانسان). ومع ذلك، في مثل هذه التخصصات، هناك طريقتان تحلّان محل المُختبرات التي لا تملكها. الأولى، وهي الطريقة النظرية، التجريد العلمي، الذي يجعل بالامكان التغلغل في العمليات المخفية عنّا وغير القابلة لأن تتكرر بصرياً. الطريقة الثانية معروفة في المبحث التاريخي على أنها الطريقة المُقارنة. يُمكن بمُساعدة هذه الطريقة التوسّع في مجال المُراقبة التاريخية، والتي يُمكن بنتيجتها تفسير العمليات المُتماثلة في المراحل والمُتتالية في أماكن مُختلفة وتكميل بعضها البعض: أ- يُمكن بفضل ذلك العثور على الروابط المفقودة في العملية، وأخيراً ب- يُمكن إعادة بناء السلسلة التطورية.
وهكذا، بالنسبة الى مبحث التاريخ، لا يُمثل الواقع العلمي في "عدم قابلية اعادة انتاج" الحقائق أي عقبة أمام الحصول على الحقيقة الموضوعية أكثر مما هو عقبة للعديد من مجالات العلوم الطبيعية التي تتميز حقائقها بنفس السمة. يُمكن إيجاد ما يُميّز حقائق المبحث التاريخي عن حقائق العلوم الطبيعية في التعارض الرابع. ولكن قامت الكانطية الجديدة بتشويه جوهر الأمر تماماُ(16). سَعى ريكرت والعديد من أنصاره لتفسير علم التاريخ بأنه علم الحقائق Science of Facts، مُنكراً أن التاريخ هو علم قوانين التطور التاريخية الموضوعية. ولكن الحقائق، في منهجية التفكير التاريخي الريكرتي هي مقولة ذاتية وعابرة تماماً طالما أنه يُنظَر الى نسيج الحقيقة في المبحث التاريخي على أنه نظام مُعيّن من "القِيَم الثقافية". غير أن مثل هذه "الحقيقة" بالذات، المُطلَقة في تفرّدها وعدم قابلية اعادة تكريرها هي التي أُعلِنَ عنها أنها "تاج ابداع" المؤرخين و"مغزى جوهر" مبحث التاريخ. من وجهة النظر الماركسية للتاريخ، فإن حقائق المبحث التاريخي، التي تُعتَبر أساس المعرفة التاريخية، ليست من ناحيةٍ أُخرى الهدف النهائي للمبحث، على الرُغم انتسابها الى مكانة "شرفية" في سردية التاريخ أكثر من دور الحقائق في العلوم الطبيعية. تكمن الأهمية الأساسية للحقائق في المبحث التاريخي في أنها تعكس الواقع الذي انقضى الى الأبد والذي لا يُمكن استعادته، في حين أن الحقائق في العلوم الطبيعية عادةً ما تكون خالية من أي دورٍ "بديلٍ" مُماثل. علاوةً على ذلك، كما لاحظنا سابقاً، تحدث الحقائق التاريخية، على مستوى الأحداث، مرةً واحدةً ولا تتكرر، بينما يكون مجال التكرار واسعاً على مستوى البناء الاجتماعي. بقدر ما يتعلق الأمر بحقائق الطبيعية، فإنها لا تتكرر وحسب، بل يُمكن إعادة تكرارها تجريبياً بعدد لا حصر له من المرات تقريباً. ولكن الأهمية العلمية للحقائق في فروع المعرفة المُتشابهة، مُتطابقة. لا تظهر الاختلافات الا في مرحلة بناء النظرية. بالنسبة الى عالم الطبيعة، الحقيقة في هذه المرحلة هي مُجرّد حصن وأساس وسقالة للتوصّل الى النتيجة النهائية. بعد التوصّل الى النتيجة تفقد الحقائق العلمية على هذا النحو أهميتها، ويتم إزالة "السقالات"، لأنها تصطدم مع بناء "النظرية النقية". إن دور الحقائق في المعرفة العلمية التاريخية يختلف عن ذلك. يجب على الباحث هُنا، أن يتحرك نحو النظرية بأقصى قدر من الحفاظ على من المعنى المُدرَك لنسيج الماضي الحقائقي، لأن على الحقائق هنا، أن تُظهِرَ نفسها كتجسيد لمنطق التاريخ الداخلي، وهو الشكل الذي تتمظهر فيه انتظاماتها. وهكذا، حقائق العلم بالنسبة الى المؤرّخ هي أساس المعرفة العلمية وتجسيدها في نفس الوقت. لهذا السبب بالذات يُقدّر المؤرّخ كل حقيقة تاريخية أصيلة. وكلما زاد ربطها (ربط الحقيقة) بالمنظومة، زادت احتمالية ليس فقط التوصّل الى استنتاج نهائي وحسب، بل وإمكانية الاقتراب من جوهر الظواهر والعمليات أيضاً.
في هذا الصدد، علينا أن نُعالج مسألة عبئ القيمة التي تأخذها الحقيقة على عاتقها في المبحث التاريخي. لقد سَبَقَ ولاحظنا أعلاه أنه يُمكن إيجاد ثلاثة "شاشات" أو أنواع من الانتقاء، في طريق الدراسة قبل أن يتم التوصّل الى "التاريخ الحقيقي": 1- انتقاء الحقائق في الزمن الذي تم "تسجيلها" فيه، أي في الوقت الذي تم فيه وضع المصدر. 2- الانتقاء الذي يؤديه الزمن (غزو "التاريخ الحيّ" للتاريخ المؤرشف في الوثائق). 3- انتقاء الحقائق في سياق البحث التاريخي. سبق أعلاه أن تمت مُناقشة المُقدّمات الموضوعية لتحميل المصادر التاريخية عبئ القيمة. وهُنا دعونا نُشير الى بعض الطُرق التي تتجلى فيها القِيَم في المصادر. تجلّى إثقال كاهل "الحقائق الموثّقة" بالقيمة في العلاقة بين الحقائق نفسها التي تنتمي الى مجالات مُختلفة من حياة المُجتمع (على سبيل المثال، الانتاج المادي من جهة، والحملات العسكرية من جهةٍ أُخرى). هذه العلاقة هي عملياً انعكاس لهرمية القِيَم في عقول "جامعي" السجلات وما الى ذلك. اضافةً الى ذلك، نفس طرح القيمة هذا مسؤول عن الحاجة الى التمييز بين مستويين على الأقل من "معلومات" المصادر: 1- العالم كما يظهر بالنسبة الى وعيهم (الخارجي، الصريح)، و2- العالم كما يظهر على مستوى ما هو غير مقصود (داخلي، غير مُتعمّد، غير محسوب، مُسجّل في نظام مُختلف من الرموز، أي بلغة العادات والمعايير الأخلاقية، الخ). في المستوى الأول، من الواضح أن "الرسائل" ستكون مُحمّلة بِقِيَم الطبقة الاجتماعية المعنية (الطبقة التي ينتمي اليها "جامعو" المصادر)، بينما في المستوى الثاني ستحمل الرسائل قِيَم ذات طابع انثروبولوجي (اثنية، نابعة من التقاليد، الخ). أما القِيَم الايديولوجية، فهي تُحدد بشكلٍ رئيسي ما الذي رأوه وشهدوه.
هذه هي الطريقة التي تُوضَعُ فيها الحقائق في اللحظة التي يتم فيها تسجيلها. سنتخطّى الحديث حول عُنصر "استبعاد" الزمن لمصدرٍ ما، بالرغم من أن هذا الأمر مؤسف، الا أنه عَرَضي. دعونا الآن نَشرَع في مُعالجة مسألة انتقاء الحقائق في سياق البحث التاريخي.
نحن نعلم أن المبحث التاريخي، يستخدم، من أجل التغلّب على الخضوع لـ"النظرة الذاتية" لـ"صانعي" المصادر التاريخية، يستخدم ترسانة من التكنيكات التي تطورت على مر القرون وأُطلِقَ عليها "النقد الخارجي والنقد الداخلي للمصدر". ولكن ليس هذا هو كل شيء في مسألة موضوعية البحث التاريخي. يُشير مُمثلو المبحث التاريخي اليوم في عملية البحث، الى تنوعات طبيعة الوعي الاجتماعي واستجابة وسلوك وتوجهات البشر القِيَمية في فتراتٍ مُختلفة كأنها "دليل" على أنه يستحيل من حيث المبدأ تحقيق معرفة تاريخية تعكس بشكلٍ كافٍ ما حدث في الماضي. يُزعَم أنه بسبب أن العصور المُختلفة تتحدث بلغاتٍ مُختلفة حيث لا يكون للمفاهيم المُتطابقة معانٍ مُختلفة تماماً وحسب، بل حتى أن بُنية التفكير كلها تختلف من عصرٍ الى عصر، نقول، يُفتَرَض أن يواجه المؤرّخ بسبب ذلك إما خيار "إزالة نفسه" تماماً من الاطار الفكري لزمنه وأن يُحاول أن "يقول ما لديه" بلغة العصر الذي يدرسه، أو أن يواجه خيار الاعتراف بعدم إمكانية معرفة الماضي من حيث المبدأ، وأن يُنشئ عن قصد بُنىً ذاتية تطبع "الموضوعات التاريخية" بخاتم عصره (أي عصر المؤرّخ)، وهذا ما هو سائد اليوم في ممارسة ما يُسمى بالسوسيولوجيا التاريخية.
ولكن، ما اختزله المبحث التاريخي البرجوازي الى مُشكلة في المعنى واللغة هو في الواقع مُشكلة معيار الموضوعية في المبحث التاريخي، والذي تمتلك، (أي مُشكلة المعنى واللغة)، فيما يتعلق بجميع المشاكل الأُخرى، بما في ذلك "اختلاف لغات العصور المُختلفة"، أهميةً ثانويةً على خِلاف ما يُعتَقَد.
وهنا يكن الجوهر الابستمولوجي للنزاع حول مفهوم "الحقيقة التاريخية" في التحليل النهائي.
كيف يُمكن للمؤرّخ أن يصل الى معرفة موضوعه بما يتطابق مع الواقع؟ كيف يُمكننا أن نعرف أن أي اعادة بناء للماضي التاريخي، يكون موضوعياً في طابعه، أي أنها (أي المعرفة) تُشكّل إعادة بناء دقيقة الى هذه الدرجة أو تلك للموضوع كنظام يتطور بإطراد؟ نحن نعلم أن نظرية المعرفة المادية الدياليكتيكية فقط هي التي طرحت إجابة شاملة على هذه المسائل على المستوى الفلسفي العام(62)، والتي فيها يتم التغلّب بالتساوي على التفسير التأملي والمادي المُبتذل واللاأدري والذاتي الذي يُميّز "الفلسفة النقدية" لعملية الادراك ومصادر ومُحتوى المعرفة.
سنُركّز اهتمامنا على المسائل التالية فيما يتعلق بتحليل الماركسية اللينينية للمعرفة التاريخية:
1- العلاقة بين الحقيقة العلمية للتاريخ وحقيقة التاريخ.
2- جوهر تعريف "المعرفة العلمية" في السياق الاجتماعي والتاريخي.
3- الحقيقة في المبحث التاريخي كوحدة دياليكتيكية للذاتي والموضوعي.
4- التجربة التاريخية كمعيار لصحة المعرفة التاريخية.
لنبدأ حديثنا حول أول هذه المسائل. نحن نعلم أن مُعارضة "الحقيقة العلمية للتاريخ" بـ"الحقيقة التاريخية"، ضمن حدود منهجية التاريخ الماركسية، تكشف الرابطة الداخلية (حتى إن كانت مُتوسَّطَة) بين ما "الأصلي" و"نُسخته"، بين الواقع التاريخي والواقع نفسه. لكن هذا يعني أنه يوجد بين هذه قُطبي هذه الثُنائية، اختلافاتٍ أساسية من ناحية، وتشابه لا يقل أهميةً، من ناحيةٍ أُخرى. من الواضح أنه يُمكن تمييز "الحقيقة" في نظام المعرفة والحقيقة "الأصلية" في نظام "التاريخي الحقيقي" على أن هناك ما هو أوّلي وهناك ما هو مُشتَق، موضوعي وذاتي، بالاضافة الى ذلك، من حيث زمان ومكان وقوع "الحَدَث"، ومكان وزمان "تسجيلها" في المصدر، من ناحية، ومكان وزمان إعادة انتاجها في المبحث، من ناحيةٍ أُخرى. في الحالة الأولى، تحكم "الحقيقة"-مُتجاهلين تصحيحات المصدر- قوانين يحكمها الواقع الموضوعي، بينما في الحالة الثانية تحكمها قوانين الحصول على المعرفة العلمية. يؤكّد لينين أن المادي "يرى أن العالم أكثر غِنىً، وحيويةً وتنوعاً مما يبدو"(63). فيما يتعلق بالتشابه، يجب أن يدور الحديث في المقام الأول حول تشابه المُحتوى، أو بعبارة أُخرى، أي مُلائمة ما يعكسه أحدهما للآخر، أي الحقيقة الموضوعية. كما نعلم، الحقيقة الموضوعية ليست التصريح القائل بأن المعرفة الواقع يتطابقان، بل أن إظهار أن هناك تطابق بهذه الدرجة أو تلك، أي اقتراب أو تزامن للأول مع الثاني.
وهكذا النقطة المُهمة في المعرفة التاريخية كذلك، هي إعادة الانتاج العلمي للواقع التاريخي (وليس للواقع على هذا النحو) في الفكر، أي ليس تطابق الشيء ونسخته في الفكر. إن أكثر ما يسعى اليه الباحث الذي يشغل مكاناً مادياً هو التقريب الأقصى للصورة مع الواقع، مع معرفته الواعية بأنهما لن يتطابقا أبداً. وهنا يكمن تقدّم المعرفة بشكلٍ عام وتقدم المعرفة التاريخية بشكلٍ خاص.
وبالتالي، فإن الحقيقة الموضوعية لا تعتمد بأيِّ حالٍ من الأحوال على الفرد المُدرِك، على الانسانية(64). بعابرةٍ أُخرى، إن عدم اعتماد الوجود التاريخي على انعكاسه في العقل هو السمة الحاسمة وجوهر "حقيقة" المبحث التاريخي.
من الواضح أنه ضمن حدود منهجية التاريخ، لا تتمثل النُقطة في الاعتراف بالحقيقة الموضوعية على هذا النحو، ولكن ما إن كانت المعرفة التاريخية الموضوعية الصحيحة مُمكنة أم لا، وإن كانت مُمكنة، فبأي وسائل وبأي طُرُق يُمكن الحصول عليها؟ هذا السؤال ذو الأهمية الكبيرة ليس فقط للعلم بل للمُجتمع ككل، كما سَبَقَ ولاحظنا، غير موجود بالنسبة للمؤرخين البرجوازيين اليوم. تتجسد مصداقية المعرفة التاريخية، بالنسبة لهم، في التأكّد من أن "لُغة" المؤرخين لا تحتوي على تناقضات منطقية. إن هذه النظرة للتاريخ، المحرومة من معيار للحقيقة الموضوعية، تُعلِن أن مقولة الحقيقة الموضوعية ذاتها هي مقولة "ميتافيزيقية" و"تأملية" وما الى ذلك(65).
ندد لينين بمثل هذه المظاهر من اللاأدرية والذاتية في جدالاته مع النقديين التجريبيين: "هل للأرض تاريخ مُحدد وضعته الجيولوجيا؟... هل من الجائز حقاً تجنّب هذا السؤال؟..." بالاضافة الى ذلك، يُكرر لينين بشكل أساسي نفس السؤال عند ولكن الآن فيما يتعلق بالتاريخ باعتباره موضوع المبحث التاريخي: "هل معرفة تاريخ الأرض وتاريخ البشرية (لا تتسم بأهمية فعلية يا تُرى؟ ان هذا مُجرّد لغو مُزوّق"(66). تُقرر الماركسية مسألة الأهمية الأولية للمعرفة العلمية الطبيعية والتاريخية على حدٍ سواء، على الرغم من أنها تُقرر أن تأكيد صحة المعرفة في الحالة الثانية أصعب منه في الحالة الأولى.
كَتَبَ لينين: "فيميناً وشمالاً، نثَرَ دوهرينغ، في أعقد مسائل العلم على العموم ومسائل علم التاريخ على الخصوص، كلمات: الحقيقة الخالدة، النهائية، الأخيرة. فسَخِرَ منه انجلز ورد عليه: توجد بالطبع حقائق خالدة، ولكنه ليس من الذكاء في شيء استعمال كلمات كبيرة للاشارة الى أشياء بسيطة"(67). ومع ذلك، فإن الطريق الى الحقيقة الموضوعية أكثر تعقيداً وصعوبةً في مجال التاريخ منه في مجال العلوم الطبيعية. هذه الحقيقة الموضوعية تواجه في طريقها مُشكلتين تنفرد بهما، تنبثقان من الحقيقة الأساسية التي مفادها أن البشر، الواعين، هم الذين يصنعون التاريخ(68). هذه مسألة، في المقام الأول، تُميّز الهدف الذاتي عن المُحتوى الموضوعي لنتائج أفعال البشر. لكن هذا ثانوي. على عكس العلوم الطبيعية، يواجه الباحث التاريخي، في طريقه الى الحقيقة الموضوعية مسألة "موقع" الباحث نفسه "المُثقَل" بانتمائه الى مُجتمع مُحدد تاريخياً، وبيئة طبقية مُعينة، ومن ثم الى مدرسة فلسفية مُعينة، وما الى ذلك، استحالة وجود أي دراسة تاريخية غير مُتحزبة "خالية من الايديولوجيا" فوق الطبقات بحيث يُمكنها أن "تتخذ موقفاً مُشتركاً للبشرية جمعاء". هذا مُستحيل. نظراً لأنه تمت مناقشة أول مسألتين أعلاه، ولا تزال المسألة الثالثة أمامنا، سنقتصر على التصريح التالي. لكي يكون التفكير التاريخي صحيحاً، ولكي لا يكون محتواه ذاتياً بل موضوعياً، يجب أن يرتكز على معيار تجربة المُجتمع التاريخية(69).
كَتَبَ ماركس في أُطروحاته حول فويرباخ: "ان معرفة ما اذا كان التفكير الانساني له حقيقة واقعية ليست مُطلقاً قضية نظرية، انما هي قضية عملية. ففي النشاط العملي ينبغي على الانسان أن يُثبت الحقيقة"(70). يُشدد لينين، فيما يتعلق بأطروحة ماركس الأولى حول فويرباخ أنه "يجب أن تكون وجهة نظر الحياة، وجهة نظر الواقع العملي وجهة النظر الأولى والأساسية في نظرية المعرفة"(71). ان خبرة التاريخ (بما في ذلك خبرة البحث) تُحوّل تعارُض الذات والموضوع الى وحدة دياليكتيكية، تُطبّق في عملية تحصيل المعرفة. يتضح مبدأ الموضوعية بالنسبة الى المؤرّخ فيما يلي:
أ- اعتبار تاريخ المُجتمع كمنظومة لعلاقات مُترابطة، تشتمل، على أساس التحدد المادي "النهائي"، على وظيفتها وتطورها.
ب- مُعالجة تاريخ المُجتمع من وجهة نظر الصراع الطبقي، أي التناقض الاجتماعي الحاسم. (تكمن الطبيعة غير الكافية للموضوعانية في حقيقة أنه لا يتم مُتابعة التحليل حتى نهايته، حتى جوهره، أي الى أساس الظواهر ومُحتوى العلاقات الطبقية)(72-73).
جـ- مبدأ التحزب في العلم، أي قُدرته على التمسك بوجهة نظر الطبقة الاجتماعية التي يفتح موقعها التاريخي الموضوعي الطريق الى الوضع الأكثر ثوريةً وانتقاديةً في البحث التاريخي. لهذا السبب فإن مبدأ التحزب في التأريخ الماركسي هو تعبير عن ضمان موضوعية المعرفة التاريخية. لاحَظَ بليخانوف: "وحيثما يتعيّن على المؤرخ وصف الصراع بين قوى اجتماعية متضادة فإنه سيتعاطف حتماً مع طرفٍ أو آخر... ومن هذه الوجهة سيكون ذاتياً... لكن مثل هذه الذاتية لن تمنعه من أن يكون مؤرخاً موضوعياً تماماً اذا لم يبدأ في تشويه تلك العلاقات الاقتصادية الواقعية التي نمت على أساسها القوى الاجتماعية المُتصارعة"(74). ولهذا السبب بالتحديد، أعلنت الماركسية لأول مرة عن حزبيتها، وفي هذه الحالة، هذا مُرادف لموضوعيتها العلمية. نحن نعلم انه لم يُدافع أحد عن مبدأ الحزبية في العلوم الاجتماعية بشكلٍ منهجي أكثر من لينين. لكن في الوقت نفسه، لم يُطالب أحد بالحقيقة التاريخية أكثر مما فعل هو: "ولكن يجب أن نكتب... بدقةٍ مُطلقة ما هو موجود"(75)، وكَتَب: "من المستحيل عدم الاعتراف بما هو موجود: ان الواقع سيفرض نفسه بنفسه"(76)، و"يجب أن يتضمن التاريخ ما تم اثباته بشكلٍ واقعي"(77).
د- وآخراً، مبدأ تكامل المعرفة. موضوعية البحث في تعريف لينين لا تعني الأمثلة، ولا الاستثنائات، بل الشيء نفسه(78).
نحن نعلم كم كان لينين قليل التسامح مع اولئك المولعين بـ"اللعب بالأمثلة"، وبالتمسك التعسفي بـ"الحقائق الصغيرة المُنفصلة" كَتَب: "ان اخذ المرء الحقائق في مُجملها، في ترابطها... فهي قاطعة بلا شك. أما ان اقتُطِعَت الحقائق المُنعزلة من سياقها... ان كانت مُجزأة وتعسفية... فلن تكون أكثر من لعبة...(79). وبالتالي فإن مُطالبات لينين بأن يقف المرء على أساس يتكون من حقائق دقيقة لا جدال فيها لا يُفهَمُ على أنه مجموع بسيط من الحقائق المعزولة، بل كمجموعة يُمكن أن تظهر فقط بشرط أن يتم الاضاءة الكاملة على الحدث وعلى مُجمل العلاقات الضرورية(80).
وهنا يكمن معنى فرضية لينين: لكي يكون التحليل علمياً حقاً، يجب أن "لا يقوم على تأملات مُجرّدة بل على دراسة دقيقة لما حدث بالفعل في تطور البشرية التاريخي"(81).
ومع ذلك، فإن الاعتراف بالتجربة التاريخية الاجتماعية كمعيار للحقيقة الموضوعية لا يعني رفعها الى مُستوى المُطلق. تحمل التجربة الاجتماعية، مثل أي ظاهرة للواقع والوعي الذي يعكسه، بصمة الزمن. انها، الى جانب التطور التقدمي للمُجتمع، ترفع نفسها باستمرار، الى مستويات تاريخية جديدة نوعياً.
ان الأساس الموضوعي لعملية توسّع نطاق الرؤية التاريخية المُستمر، موجود في الثراء الذي لا ينضب للحقيقة التاريخية، في لانهائية جوانبها وارتباطاتها، وبالتالي بين حدود المعرفة المتاحة حتى اللحظة. لكن الظرف القائل، بأن كُل عصر، ووفقاً لمتطلباته، "يقترح" حقائق وارتباطات حقائقية جديدة للباحث، لا يُمكنه بأي حالٍ من الأحوال أن يكون حُجةً لصالح نسبوية وذاتية المعرفة التاريخية. لا تختلف المعرفة التاريخية، في هذا الصدد، بأي شكلٍ من الأشكال عن تلك الموجودة في العلوم الطبيعية: في التاريخ "تتراكم" الحقيقة Truth كما تفعل في العلوم الطبيعية. بالاضافة الى ذلك، ان حقيقة أن المنظور التاريخي يُستبدله منظور آخر هي شهادة مُقنعة على عدم استنفادية الحقيقة التاريخية. ولهذا السبب بالذات "يستطيع التفكير البشري بحُكم طبيعته أن يُعطينا وهو يُعطينا الحقيقة المُطلقة التي تتكون من مُجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العلم تُضيف ذرات جديدة الى مُجمل الحقيقة المُطلقة هذا، ولكن حدود كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارةً وتضيق تارةً من جراء نمو المعرفة اللاحق"(82). في علم التاريخ أيضاً، يكون ازدياد عُمق الاستيعاب العلمي للواقع هو جوهر التقدم.
يترتب على ذلك أن المؤرخ، يكتشف حتماً، عند مواجهته مسألة الحقيقة Truth، البُنية المُعقدة لحقائق العلم التاريخي التي تعكس دياليكتيك الفكرة والشيء، الذاتية والموضوعية، الصحيح والخاطئ. ان دور الجهاز المفاهيمي في البحث التاريخي واسع. هذا هو بالضبط ما يُفسّر الطبيعة المُتناقضة لعملية المعرفة التاريخية، والتي يتبدّى فيها الأوقات التي يظهر فيها الركود المؤقّت للمفاهيم بالنسبة الى مقدار الأبحاث التاريخية، والأوقات التي تتقدم فيها المفاهيم على المبحث. ان تحسين المفاهيم السائدة والمقارنة المُستمرة بينها وبين الخبرة البحثية ونتائجها هو المسار الذي يُمكن من خلاله التغلغل في الطبقات الأساسية للعصور التاريخية.
في الختام، يبقى لنا أن نُجيب على هذا السؤال: هل التغير في صورة الماضي الانساني بمرور الوقت يعني "إعادة كتابة التاريخ من قِبَل كُل جيل"، أن البحث التاريخي محكوم بالتسلسل الحالي للظروف؟ هل هو "ذاتي"؟ وخاضع "لخدمة احتياجات اللحظة"؟ أم أن ما يدور هنا هو انعكاس خاص للتفاعل بين المُمارسة الاجتماعية في زمنٍ مُعيّن ومفاهيم التاريخ كمبحث؟
نحن نعلم أن صورة العالم تتغير بإستمرار، ولكن ليس فقط في مبحث التاريخ. كل العلوم، بما في ذلك الفيزياء وعلم نشأة الكون والبيولوجيا تُعيد النظر باستمرار ليس فقط في تفاصيل تلك الصورة بل الصورة ككل أيضاً. ولكن، لا يخطر ببال أي شخص اعتبار هذه "الثورات" واعادة البحث، دليلاً على ذاتية تلك العلوم وعدم قُدرتها على طرح معرفة موضوعية. ولكن لماذا اذاً يتم تفسير عمليات اعادة البحث التاريخية تلك في المبحث التاريخي على وجه التحديد بهذه الطريقة؟(83).
هناك ظرفين مسؤولين عن هذا في رأينا. أولاً، هناك ظرف موضوعي: التطور الاجتماعي يحدث بسرعة أكبر بما لا يُقاس من تطور عناصر الطبيعة، وبالتالي تُوفّر التجربة في هذا المجال حُججاً لإعادة دراسة الصورة العلمية لموضوع البحث بشكلٍ متكررٍ وأسرع مما يحدث في العلوم الطبيعية. لذلك يجب اعتبار دور المنظور التاريخي في تحصيل المعرفة التاريخية كعامل يُعزز موضوعية المعرفة. الظرف الثاني ذاتي. التأريخ، الذي يعكس بوعي أو بغير وعي موقف الطبقات المُستغلة، يُثقَل حتماً بـ"القِيَم العابرة" و"المصالح"(84). في مثل هذه الحالات، يتم استخدام مجال التاريخ لأغراض مُعادية للتاريخ بِعُمق. إن التأريخ الماركسي، الذي يعترف بحزبيته صراحةً، يستهدف بجوهره مُعالجة التجربة التاريخية للشعوب مُعالجةً علمية. هنا، يُمكن أن تستند اعادة دراسة النظرات العامة فقط على الاعتبار العام للعلم نفسه.
وهكذا، في حين أن نظرتنا للتاريخ تتغير بسرعة نسبياً، وفي حين أن الماضي يطرح لنا باستمرار جوانب جديدة، فإن هذا يعني فقط أن خبرتنا التاريخية قد اتسعت وتعمقت. نظراً لأن عدد الأحداث-كحقائق موجودة في المصادر التاريخية محدود نسبياً، في حين أن عدد الحقائق وارتباطات الحقائق هي بدون حدود، فإن اكتشاف جوانب جديدة من الروابط والصلات والتحوّلات غير المعروفة سابقاً سوف يستمر في المستقبل بتقدم المعرفة التاريخية.

* ميخائيل أبراموفيتش بارغ 1915-1991 مؤرخ سوفييتي ومُختص بتاريخ بريطانيا العُظمى ومنهجية التاريخ. دَرَسَ في الأعوام 1934-1936 في معهد كييف التربوي. انتسب الى صفوف الجيش الأحمر بعد تخرجه. أُرسِلَ عام 1937 الى مدرسة كميلينتسكي حيث عمل كمدرّس ثم مدير مدرسة. أكمل سنته الرابعة في دراسة التاريخ في كلية التاريخ في جامعة خاركوف سنة 1939، وتخرّجَ عام 1941.
دَرَسَ في عام 1942 في المعهد العسكري للغات الأجنبية في موسكو وكان وقتها رئيساً لقسم الدعاية في لجنة حزب مدينة خاركوف. ومنذ عام 1943-1947 دَرَسَ في معهد التاريخ التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية. كان منذ 1956-1968 أُستاذاً مُشاركاً ثم بروفيسوراً في معهد موسكو الحكومي التربوي، وعَمِلَ من 1968-1991 في معهد تاريخ العالم التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية، وترأسَ مجموعةً من العلماء في تاريخ الحضارات المُقارن. ولديه أكثر من 200 منشور.
من أبحاثه: (الثورة الانجليزية في منتصف القرن السابع عشر) 1991، (الثورة الانجليزية العُظمى بعيون قادتها) 1991، (بحث حول الاقطاع الانجليزي من القرن 11-13) 1962، (مقولات ومنهجية العلم التاريخي) 1984، (كرومويل وعصره) 1950، (الطبقات الشعبية الدُنيا في الثورة الانجليزية في القرن السابع عشر) 1967، (مفهوم تاريخ العالم كمبدأ علمي للعلم الماركسي التاريخي) 1973، (مسائل التاريخ الاجتماعي في ألأبحاث التاريخية الغربية القروسطية) 1973، (شكسبير وعصره) 1976، (العصور والأفكار، تشكّل التاريخانية) 1987.

1- See Filosofskaia entsiklopediia, vol. 2, p. 368: "History . . . denotes. . . the discipline that studies this process (i.e., the process of social development - M. B.) in all its concreteness and diversity."
2- أُنظر لينين: "التاريخ لا يدرس الجوهر المُجرّد للظواهر والعمليات والحقائق، بل يدرس تطورها العياني في تفاعلها وتغيّرها مظهرها العياني".
V. I. Lenin, -PSS, vol. 42, p. 242
3- See V. Kosolapov, "Fakti ta ikh rol v istorichnim doslidzhenni," Ukr. istor. zhum., 1963, no. 2 N. M. Doroshenko, Problema fakta v istoricheskom poznanii, Leningrad, 1968 S. Sychev, "Istoricheskii fact i ego metodologicheskoe znachenie," Trudy MIIT, part 11, no. 282, MOSCOW, 1968 G. M. Ivanov, "K voprosu o poniatii fakt v istoricheskoi nauke," Voprosy istorii, 1969, no. 2 V. S. Bibler, "Istoricheskii fakt kak fragment deistvitel nosti," in the collection Istochnikovedenie , MOSCOW, 1969 A. Ia. Gurevich, "Chto takoe istoricheskii fakt," ibid. A. I. Uvarov, "Istoricheskii fakt kak element teorii," UZ Kalininskogo ped. in-ta, vol. 91, 1971 V. I. Salov, "Istoricheskii fakt i sovremennaia burzhuaznaia istoriografiia," Novaia i noveishaia istoriia, 1973, no. 6.
4- See K. Marx and F. Engels, -Soch., vol. 20, p. 513 ff
5- وهكذا، وصَفَ أهم مؤرخي العصور الوسطى الروس الذين ينتمون الى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وصَفوا أعمال باحثي القرنين السابع عشر والثامن عشر (مثل الباحث الانجليزي جون سيلدين John Selden وسبيلمين ومادوكس) بأنها "خُلاصة رائعة للحقائق" stupendous compendia of facts، أي أنها وثّقت معلومات بالكاد تمت مُعالجتها أصلاً.
6- See C. Seignobos and C. Langlois, Vvedenie v izuchenie istorii, St. Petersburg, 1899, p. 88
7- من هُنا جائت مقولة ليوبولد رانكه Leopold von Ranke الشهيرة: ""لا يُمكن رؤية الماضي كما هو الا بشرط واحد: ان التزم المرء بالحقائق بأكبر قدر مُمكن من الدقة.
see smmtliche Werke, vol. 33-34, Leipzig, 1879, p. VII
كان رأي نوما كولانجيس Numa Denis Fustel de Coulanges تكرارً حرفياً لهذا تقريباً: "دراسة النصوص بشكل مباشر بأدق تفاصيلها، وتصديق فقط ما تُظهِرُهُ وازالة الأفكار الحديثة بشكلٍ مُباشرٍ من تاريخ الماضي".
see Fustel de Coulanges, Istoriia obshchestvennogo stroia drevnei Frantsii, vol. 3, St. Petersburg, 1907, p. XII
ومع ذلك، ويا للعَجَب، لم ينجح أيٌ منهما في رؤية "الماضي كما كان فعلاً". أظهَرَ رانكه قُدرةً جيدةً في سيره نحو الميول القومية والدينية. بدوره، اتبع كولانجيس بدرجةٍ أكبر من مُعاصريه مفهوماً مُتحيزاً لم يُظهِر بسببه، وبعبارةٍ مُلطّفة، أي احترام للحقائق Facts التاريخية.
see P. G. Vinogradov, "Fustel de Kulanzh," Russkaia mysl , book 1, 1890
8- See Seignobos and Langlois, op. cit., p. 88
9- See M. A. Kissel , Sud ba staroi dilemmy, MOSCOW, 1974,~.72
10- See H. T. Buckle, Istoriia tsivilizatsii v Anglii, vol. 1, St. Petersburg, 1862, p. 62. See J. S. Mill, Sistema logiki, MOSCOW1,9 14, p. 54
11- من الضروري التمييز بين الأُسس المثالية الذاتية للتفسير الوضعي لعملية التطور الاجتماعي (فسلفات كونت وميل وسبنسر التاريخية، الخ) من جهة، والبحث التاريخي العياني الذي قام به الوضعيون من جهةٍ أُخرى. لقد تخلل هذا الأخير التفاؤل فيما يتعلق باكتساب المعرفة والتركيز على العمليات ذات الطابع البنيوي (على عكس عملية سرد الأحداث الذي يوفّر مواداً للكتابة اللاهوتية حول التاريخ)، وبذلك، رَسَمَت لوحات تاريخية كبيرة كانت بمثابة أساس لتعميمات واستنتاجات كثيرة. يكفي أن نتذكر كتابات تيودور شتيرنيغ Theodor Inama von Sternegg وكارل لامبريخت Karl Lamprecht وكارل بوخر Karl Bücher فضلاً عن بافل غافريلوفيتش فينوغرادوف Pavel Gavrilovich Vinogradov وماكسيم ماكسيموفيتش كوفاليفسكي Maksim Maksimovich Kovalevsky وديميتري مويسيفيتش بيتروشيفسكي
Dmitry Moiseevich Petrushevsky وآخرين. وغنيٌّ عن البيان أن النقد الشامل لعلم تأريخ العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر الوضعي هو خارج نطاق هذا المقال. سوف نَقصُر أنفسها هُنا فقط على الاشارة الى أنه تم هنا تجاهل الطبيعة المُميّزة لحقائق Facts التاريخ وبالتالي خبرة تحصيل المعرفة التاريخية.
12- V. S. Stepnin, Sovremennyi pozitivizm i chastnye nauki, Minsk, 1963
أ- "قيّم ديلتاي علم الاجتماع الوضعي بنفس الطريقة السلبية. لقد وبخ كونت وميل وسبنسر بسبب عدم دقة مصطلحاتهم ودوغمائيتهم العلمية وميتافيزيقيتهم الطبيعانية. ادعت السوسيولوجيا انها تدرس المجتمع ككل، ولكن في الواقع، وسواءاً كان الأمر يتعلق بالتطور التاريخي أو علاقات مكونات البنية الاجتماعية، لم تستطع سوى الأبحاث المتخصصة والتحليلية مقسمةً حسب التخصصات (السيكولوجيا، الاثنولوجيا، دراسات الأنظمة الثقافية والمؤسسات الاجتماعية) ان تؤتي نتائج عمليةٍ مثمرة. لقد استتبعت عدائية ديلتاي للطبيعانية، رفضاً للسوسيولوجيا كعلم".
من كتاب (تاريخ السوسيولوجيا الكلاسيكية)، مقال: أزمة الاتجاه التطوري في السوسيولوجيا، والاتجاهات المعادية للوضعية في السوسيولوجيا على أبواب القرن العشرين، ايغور سيميونوفيتش كون، تأليف مجموعة من الماركسيين السوفييت، ترجمة مالك أبوعليا، نشر الكتروني فقط، ص96.
13- W. Dilthey , Einleitung in die Geisterwissenschaften, vol. 1, Leipzig, 1883. Compare G. Simmel, Die Probleme der Geschichtsphilosophie, Leipzig, 1892
ب- أطلق مؤرخي الفلسفة على فيلهلم ديلتاي 1833-1911 بأنه "كانط المعارف التاريخية". لقد عارض ديلتاي العلوم الانسانية (والذي عرّفها بأنها علوم الروح) بالعلوم الطبيعية. قال ديلتاي في كتابه (مقدمة حول علوم الروح) Einleitung in die Geisteswissenschaften ان تحرير العلوم الخاصة بدأ في نهاية العصور الوسطى، ولكن ظلت تلك العلوم التي بحثت المجتمع والتاريخ كموضوعٍ لها سجينةً للميتافيزيقيا (حتى القرن التاسع عشر). ويُكمل، انها في عصره، خضعت الى قمعٍ لا يقل عما كانت عليه، اي لقوة العلوم الطبيعية المتصاعدة. لم يُنكر ديلتاي ان الانسان كان كياناً نفسياً جسدياً مُحدداً كان يمكن تفكيكه فقط بالتجريد، وانه يمكن للعلوم الاجتماعية والطبيعية بهذا المعنى أن تدرس حياة الانسان نفسها. لكن العلوم الطبيعية بحثت في الطريقة التي أثرت بها مجريات الأحداث على وضع الانسان، في حين كانت العلوم الانسانية في الأساس علماً للروح التي درست النشاط الحُر للانسان بحثاً عن أهدافٍ معينة. ان الأشياء المادية التي يدرسها العلم الطبيعي معروفة لنا بشكلٍ غير مباشر فقط، كظواهر. أما بيانات علم الروح، فهي على العكس، تؤخذ من التجربة الداخلية، من الملاحظة المباشرة للنفس وللآخرين والعلاقات بينهم. وجادل بأن الحقائق الاجتماعية يمكن أن تُعرف لنا من الداخل، ويمكن اعادة انتاجها داخل انفسنا، الى حدٍ ما، من مراقبة وضعنا. يمكن عن طريق معرفة هذه الحقائق الداخلية أن نُحيي محبتنا او كرهنا للعالم التاريخي ونستعرض مشاعرنا كلها. ان الطبيعة بالنسبة لنا عمياء. فقط قوة الخيال البشري هي التي تومض شعلة الحياة في داخلنا. ان الطبيعة غريبة عن الانسان وخارجية بالنسبة له. ان المجتمع هو عالم البشر.
ان العنصر الأساسي لعلوم الروح، حسب دلتاي، هو الخبرة الداخلية المباشرة Erlibins، هناك حيث يُدرك الانسان ويعي وجوده في العالم بشكلٍ مباشر. لقد جعل تشابه هياكل العالم الروحي والعقلي لمختلف الأشخاص من التعاطف والمودة ممكناً، والذي كان بدوره اساساً لفهم العالم الداخلي للآخرين ودوافعهم ورموز الثقافة. "نحن نُفسّر الطبيعة، ولكننا نفهم الحياة الروحية"، هذه هي اطروحة ديلتاي الرئيسية. كانت نظريته عن الفهم واحدة من المحاولات الأولى لفهم نظري لمسألة فك رموز وتفسير معنى النشاط الاجتماعي-التاريخي وموضوعيته. ولكن ديلتاي اعتبر وجود فلسفة او سوسيولوجيا او تاريخ تدّعي امكانية تعميم مسار التاريخ ككل هو أمر مستحيلٌ من حيث المبدأ وغير صحيح، بما أن التجربة المباشرة التي تم الاستناد اليها في الفهم كانت فردية. "ان اي صيغة نعبر فيها عن احساس التاريخ هي فقط انعكاس لشعورنا بالحياة... من المستحيل استخلاص اي حقيقة مثمرة من هذه الصيغ والادعاء بأنها يمكنها أن تُعبّر عن معنى التاريخ، ليس هذا الا ضباب ميتافيزيقي.
من كتاب (تاريخ السوسيولوجيا الكلاسيكية)، مقال: أزمة الاتجاه التطوري في السوسيولوجيا، والاتجاهات المعادية للوضعية في السوسيولوجيا على أبواب القرن العشرين، ايغور سيميونوفيتش كون، تأليف مجموعة من الماركسيين السوفييت، ترجمة مالك أبوعليا، نشر الكتروني فقط، ص95
14- W. Dilthey, op. cit., p. 81 compare M. A. Kissel , op. cit., pp. 75-76
15- W. Dilthey, op. cit., pp. 9, 25 ff
16- Ibid., p. 41 ff
17- كان باكل وفوستيل ولانغلويس وسينوبوس يُشاركون الرأي القائل بأن الحقائق التاريخية، مثل الظواهر الطبيعية، تمتلك القُدرة على التكرار، مما يجعل من المُمكن مُلاحظة الانتظام في تتالي الأحداث.
Buckle (op. cit., p. 3), F ustel de Coulanges (op. cit., vol. lV, p. XXIII), as well as Langlois and Seignobos (op. cit., p. 99)
18- See M. A. Kissel , op. cit., pp. 76-77
19- W. Windelband, Geschichte und Natunvissenschaft, 3rd ed., Strassburg, 1904 H. Rickert, Granitsy estestvennonauchnogo obrazovaniia poniatii, St. Petersburg, 1904
20- H. Rickert, Filosofiia istorii, St. Petersburg, 1908, p. 55
21- من وجهة نظر الكانطيين الجُدد، تكمن قيمة الحقائق التاريخية كتاريخ ثقافي في عدم تكراريتها وفردانيتها. ومن هنا تنبثق مهمة التأريخ كمبحث تفريدي ideography.
See H. Rickert, Filosofiia istorii, pp. 27-28
22- H. Rickert, Granitsy estestvennonauchnogo obrazovaniia poniatii, p. 121
23- E. H. Carr, What is History?, New York, 1962, p. 18 [All quotations from non-Russian sources are retranslated from the Russian.]
24- التيار الحاضري هو تيار مثالي ذاتي في فلسفة التاريخ البرجوازية، يُنكر الموضوعية في المعرفة التاريخية ويرى أن مبحث التاريخ هو إسقاط لأفكار الحاضر ومصالحه وتناقضاته على الماضي.
25- Becker s paper was published three decades later (see What Are Historical Facts ?" The Western Political Quarterly, 111, no. 3, 1955)
26- L. Febvre, Combats pour l Histoire, Paris, 1953, p. 8
27- Karl Heussi, Die Krisis des Historismus, Tubingen, 1932, p. 56
28- Th. Litt, Wege und Irrwege des geschichtlichen Denkens, Munich, 1948, p. 12
29- B. Croce, Theoria e Storia della Storiographia, Bari, 1927, p. 4
30- E. Callot, Ambiguites et Antinomies de l histoire, Paris 1962, p. 50
31- R. Aron, Introduction a la philosophie de l histoire Paris, 1948, pp. 38-39
32- A. I. Marrou, De la Connaissance Historique, Paris, 1954, p. 7
33- كَتَبَ كالوت، أحد أنصار ما يُسمى فلسفة التاريخ النقدية: "ان حقائق الحاضر أو أحداث الماضي لا تُخبرنا عن النومينا (الشيء بذاته)، بل فقط يمشف عن التجربة المُباشرة).
(E. Callot, op. cit., p. 50)
34- E. Callot, op. cit., p. 50
35- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم، ص153
36- نفس المصدر
37- See T. M. Ivanov, op. cit., p. 78
38- ان نقطة الانطلاق لا يُمكن أن تكون "الفكرة"، بل الظاهرة الخارجية الموضوعية فقط.
مختارات فلاديمير لينين في 10 مُجلدات، المجلّد الأول، دار التقدم 1978، ص81
39- Ibid., vol. 4, pp. 101, 124, 159
40- كان هيغل يُميّز بين الجانب الموضوعي للتاريخ (العملية) وجانبه الذاتي (المبحث/التخصص)، أو تاريخ الأفعال في الماضي historia rerum gestarum، والأفعال نفسها res gestae.
See Hegel, -Soch., vol. 8, MOSCOW,1 935, p. 58
جـ- المقطع العرضي في التاريخ، هو مسقط أفُقي في "جسم" التاريخ ثُلاثي الأبعاد.
د- يضع مؤلّف المقالة المُلاحظة التالية هنا: "تتغير صورة الماضي وتغتني نتيجة تفاعل عددٍ من العوامل: 1- ازدياد أبحاث المصادر. 2- توسّع مجال الدراسات التاريخية. 3- تكرار الوضعيات التاريخية. 5- حلول عصر تاريخي جديد. 6- الثورة في العلم والتكنيك التي تجعل من المُمكن استخراج معلومات جديدة من البيانات التي سبق دراستها أو من الأدلة التي لم تُعيرها تقنيات البحث التقليدية أي اهتمام، وعدد من الأمور الأُخرى.
41- مختارات فلاديمير لينين في 10 مُجلدات، المجلّد الأول، دار التقدم 1978، ص81
42- E. Rotchacker , Logik und Systematik der Geisteswissenschaften, Munich, 1952, p. 73
43- See K. Marx, Grundrisse der Kritik der Politischen Okonomie, Berlin, 1953, pp. 375 ff
44- في الأدبيات البرجوازية حول هذه المسألة، والتي تخلط بين الجوانب الانطولوجية والمعرفية لمسألة الحقيقة التاريخية، لم يتم بعد تحديد ما إن كانت هذه الحقائق المُعقدة يُمكن اعتبارها "أحداثاً مُنفصلة". كما نعلم، أنكرت الكانطية الجديدة صراحةً "واقعية" تلك الأحداث مُعتبرةً إياها نتاجاً للنشاط المفاهيمي الذي يُنظّم الوعي، الخ. حسب ريكرت، تتكون الحروب من المعارك والهجومات والهجومات المُضادة، في حين تتكون الثورات من أحداث متنوعة للغاية، وما الى ذلك.
T. Rickert, Granitsy, p. 321
من ناحيةٍ أُخرى، تتجاهل الوضعية الجديدة تماماً مُشكلة بُنية "الحقائق" التاريخية نظراً لأن الشيء الوحيد الذي يخضع للتحليل هو "حقائق اللغة"، في حين أن جميع الحقائق ليست أكثر من تصورات تأملية "عقلانية".
(see A. Schttz, Der Sinnhafte Aufbau der sozialen Welt, Vienna, 1960, pp. 118s.
45- مختارات فلاديمير لينين في 10 مُجلدات، المجلّد الأول، دار التقدم 1978، ص81
46- نفس المصدر، ص80-81
لا يعني هذا أن النقد المادي للتاريخ يتجاهل "حقائق الوعي"، بل هذا يعني فقط، أنها تظهر، لدُن وضعها في مستوى (الأولي-الاشتقاق)، فإنها تظهر كشيء مُشتق، نابع، فوقي. علاوةً على ذلك، يكاد لا يكون في مقدور الناس، في المُجتمعات الطبقية المُتناحرة، توقّع النتائج النهائية لأفعالهم الاجتماعية لإنهم لا يمتلكون فكرةً عن مجموع العلاقات الاجتماعية التي يعيشون في ظلها.
مختارات فلاديمير لينين في 10 مُجلدات، المجلّد الأول، دار التقدم 1978، ص81
47- مراسلات ماركس وانجلز، ترجمة فؤاد أيّوب، دار دمشق 1981، ص496
48- رأس المال-المُجلّد الثالث، كارل ماركس، ترجمة فالح عبدالجبّار، دار الفارابي ص946
49- دفاتر عن الدياليكتيك، لينين، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة 1988، ص120
50- رأس المال-المُجلّد الثالث، كارل ماركس، ترجمة فالح عبدالجبّار، دار الفارابي ص945،946
51- نفس المصدر، ص949
52- نفس المصدر، ص958
53- نفس المصدر، ص949
54- K. Marx and F. Engels, -Soch., vol. 3, p. 38
55- V. I. Lenin, -PSS, vol. 1, p. 411
56- See ibid., vol. 30, p. 350
57- بما أننا نُناقش المصادر المكتوبة، فإنها تُجسّد شكلين من "توسطات" الواقع. لقد كانت اللغة، كما نعلم، حِكراً على طبقة مُعيّنة. كانت هذه الفئة مُتحيّزة من جانبين: 1- جانب اثني مُعيّن-معيار وعيها التاريخي، ومعيار ما هو "جدير" و"غير جدير" في ذاكرتها التاريخية، مما يؤدي الى "انتقائية أولية"، و2- وعي المجموعة (الوظيفة، الطبقة) والذي يؤدي دور ثاني في انتقاء ما هو "جدير" وفقاً لمصلحة المجموعة ((أو الطبقة). أضف الى ذلك، نحن نترك قضية "الحقائق الموثّقة" documented fact خارج اطار هذه المقالة. تتطلب هذه القضية المُهمة في مبحث التاريخ مُعالجةً خاصة.
58- رأس المال-المُجلّد الأول، كارل ماركس، ترجمة فالح عبد الجبار، دار الفارابي 2013، ص16.
"ان تحليل الأشكال الاقتصادية، لا يُمكن أن يستعين، لا بمجهر ولا بكشّاف كيميائي. فينبغي لقوة التجريد أن تقوم مقامها".
59- See, for example, S. Frank, Ocherki metodologii obshchestvennykh nauk, MOSCOW, 1922, pp. 101 ff. A. Danto, Analytical Philosophy of History, Cambridge, 1965, p. 109
60- B. Kedrov, Klassifikatsiia nauk, vol. 1-2, MOSCOW 1961- 65
61- See above, pp. 8-11
62- See V. I. Lenin, -PSS, vol. 18, pp. 343 ff
63- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم 1981، ص144
64- نفس المصدر، ص139
65- K. Bock, The Acceptance of Histories, Berkeley and Los Angeles, 1956 , pp. 86 ff.
66- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم 1981، ص148
67- نفس المصدر ص149
68- K. Marx and F. Engels, Izbrannye pis ma, MOSCOW 1955, p. 423.
69- V. I. Lenin, -PSS, vol. 29, pp. 19 ff
70- مختارات ماركس وانجلز من أربعة مُجلّدات-المُجلّد الأول، دار التقدم 1975، ص37،38
71- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم 1981، ص161
72,73- Ibid., vol. 1, p. 455
74- في تطور النظرة الواحدية الى التاريخ، بليخانوف، دار التقدم 1981، ص208
75- مختارات فلاديمير لينين في 10 مُجلدات، المجلد الثامن، دار التقدم 1977، ص468
76- نفس المصدر، ص471
77- V. I. Lenin, -PSS, vol. 38, p. 154
78- V. I. Lenin, -PSS, vol. 29, p. 202
79- Ibid., vol. 30, p. 350
80- Ibid. Compare L. N. Kagan, "0 spetsifike primeneniia kriteriia praktiki v istoricheskoi nauke," in the volume Praktika - kriterii istiny, MOSCOW, 1960, pp. 241 ff.
81- V. I. Lenin, -PSS, vol. 4, p. 36
82- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم 1981، ص151،152
83- كتب لينين عن مثل هذه التجارب أنها "نموذج بالغ الإثارة عن مدى التشويه الذي يلحق بصورة الوقائع الفعلية عندا يُنظَر اليها من زاوية نظرية مغلوطة".
تطور الرأسمالية في روسيا، فلاديمير لينين، ترجمة فواز طرابلسي، دار الطليعة 1979، ص139
84- لا يُمكن الخلط بين أنواع مُختلفة من التجارب الذاتية في كتابة التاريخ والتي تُمليها اعتبارات عابرة، وبين عملية تطور المبحث التاريخي الا ان نظر المرء للأُمور من الخارج. ولكن هذا يعني أن المعرفة التاريخية التي تستند الى هذا المعيار، وتجعل اعادة انتاج الصورة الصحيحة الموضوعية للماضي الانساني مُمكنة-في كُل حُقبة مُعطاة- تٌقدّم صورة دقيقة للواقع وتقريبية بهذه الدرجة أو تلك.

ترجمة لمقالة:
M. A. Barg (1977) The Historical Fact: Structure, form, Content, Soviet Studies in History, 16:1, 3-47



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انجلز والداروينية
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد 1
- قوانين الوضعيات التاريخية
- الحقيقة والقيمة
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- نهضت من الأنقاض: التاريخ الاقتصادي للاشتراكية في جمهورية ألم ...
- مساهمة في منهجية دراسة الثقافة ونقد مفاهيمها المثالية
- الماركسية ومسألة القيمة: مُقاربة نظرية
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة
- مُلاحظات حول معنى التاريخ
- الفلسفة الماركسية ومسألة القيمة
- مُبادرة يلا نتفلسف: هيا نُسخّف أداة من أدوات التغيير
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- حول مُشكلة ثورة العصر الحجري الحديث في ضوء البيانات الأركيول ...
- العلوم الطبيعية المُعاصرة والنظرة العلمية الى العالم
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- حول مُشكلة التحليل البنيوي للتاريخ
- كتاب لينين -المادية ومذهب النقد التجريبي- ونظرية المعرفة الم ...


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - الحقيقة التاريخية: بُنيتها وشكلها ومضمونها