أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - تلخيص كتاب (كاليبان والساحرة: النساء والجسد والتراكم البدائي) وبعض الملاحظات النقدية عليه















المزيد.....



تلخيص كتاب (كاليبان والساحرة: النساء والجسد والتراكم البدائي) وبعض الملاحظات النقدية عليه


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 7341 - 2022 / 8 / 15 - 00:15
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


لمؤلفته سيلفيا فيديريتشي*

- عرض موجز للكتاب (مالك أبوعليا)
تكتب سيلفيا فيديريتشي من أجل إنشاء دراسة نسوية حول الى الرأسمالية التي تُركّز على صيد الساحرات من أجل تعميق البحث في تاريخ الصراع الطبقي ومُعالجة العُنف المُصاحب لتوسع الرأسمالية الذي حدثَ في تلك الفترة من التاريخ الأوروبي. إن كلاً من "كاليبان" و"الساحرة" هما عدوين نموذجيين للرأسمالية. كاليبان، وهو شخصية من رواية (العاصفة) لشكسبير، "لا يُمثّل الثوار المُناهضين للاستعمار وحسب... بل رمز للبروليتاريا العالمية و... للجسد البروليتاري كمنطقة وأداة لمُقاومة منطق الرأسمالية". أما "الساحرة" فتُمثّل "تجسيداً لعالم النساء المُضطهدات والتي كان على الرأسمالية سحقهن: المُهرطقات والمُعالجات والزوجة العاصية والمرأة التي تجرأت على العيش بمُفردها، والمرأة التي سممت طعام سيدها وألهمت العبيد لكي يثوروا".
تسأل فيديريتشي "لماذا، لا يزال، بعد 500 عام من حُكم رأس المال، في بداية الألفية الثالثة، يتم تعريف العُمّال بأنهم شحاتين وسَحَرَة وخارجين عن القانون؟ كيف ترتبط مُصادرة الأراضي والإفقار الجماعي بالهجوم المُستمر على النساء؟ وما الذي نتعلمه عن التطور الرأسمالي، في الماضي والحاضر، حينما نُعالجه من وجهة نظر النسوية؟".
وتُضيف "أهم مسألة تاريخية تناولها الكتاب هي كيف يجب النظر الى إعدام مئات آلاف "الساحرات" في بداية العصر الحديث، وكيفية تفسير تزامن ظهور الرأسمالية مع الحرب ضد المرأة".
كان ماركس وانجلز هما الذين وضعا أُسس المادية التاريخية، حيث درسا تاريخ الصراع الطبقي الى جانب التحوّلات في الظروف المادية: مُلكية الأرض، التباين السُكّاني، الأُجور، أسعار المواد الغذائية وما الى ذلك. قدّما مساهمات هائلة في وصف طبيعة الرأسمالية وركزا على نشوئها. ان التاريخ يتطور بحيث سارت الاقطاعية باتجاه الرأسمالية. ولكن تكتب فيديريتشي أن ماركس "افترض أن العُنف الذي ساد المراحل الأولى من التوسّع الرأسمالي سوف يتراجع مع نضوج العلاقات الرأسمالية، عندما يتم ضبط العمل واستغلاله في الغالب من خلال عمل القوانين الاقتصادية".
تقول فيديريتشي أنها تكتب التاريخ المادي لصيد الساحرات. وتتحدث عن قيامها بتوسيع مُصطلح ماركس "التراكم البدائي" ليصف ليس فقط الموارد اللازمة للطبقة العاملة لإجبار العُمّال على بيع قوة عملهم ولكن أيضاً "انشاء نظام أبوي جديد" للسيطرة على النساء واستغلال عملهن الانجابي، و"ميكنة الجسد المادية والايديولوجية". تعتبر فيديريتشي أن العُنف مُلازم للرأسمالية ولا يُمكن اعتبارها تقدماً عن الاقطاع.
تقوم الكاتبة بتحليل الظواهر من خلال ايلاء اهتمام خاص لتجارب النساء ولكنها تربط هذا التاريخ بدراسة أوسع للتاريخ المادي والايديولوجي للانتقال الأوروبي الى الرأسمالية. تستطلع الكاتبة مُقاومة وقمع "الساحرات" وعملية انشاء الجِندر، والاستفادة من الاختلاف لقمع الطبقة العاملة بأكملها.

1- الفصل الأول: كل العالم يحتاج الى صدمة

- الحركات الاجتماعية والأزمة السياسية في أوروبا العصور الوُسطى.
ترى فيديريتشي أن مُقاومة الاقطاع صارت قويةً جداً لدرجة أنه صار من المطلوب اعادة تنظيم جذرية للنظام الاقتصادي-الاجتماعي من أجل الحفاظ على سُلطة الطبقة الحاكمة. نشأ تحالف بين نُبلاء العالم القديم وتُجّار العالم الجديد وقادة الكنيسة لقمع مُقاومة الفلاحين. تبنّت الرأسمالية مطالب النضال، في الوقت الذي اشتدت فيه سيطرة الطبقة العاملة. شغلت النساء أدواراً قيادية في الصراع ضد الاقطاع، وحملن معهن رؤى لنظامٍ يتصفُ بالعدالة الاقتصادية والجندرية. في النهاية، نجَحَت الحملة الواسعة لتحطيم الطبقة العاملة وتضامنها من خلال توجيه الهجمات ضد النساء.
تطورت القِنانة بين القرنين الخامس والسابع لقمع المُقاومة ضد العبودية وهي ارث الامبراطورية الرومانية. أعطت القِنانة للفلاحين مزيداً من الاستقلالية والحقوق والمزايا. لم يكن الأقنان أحراراً، فقد أُجبِروا على العمل لدى أصحاب الأراضي ودفع الضرائب لهم بالعُنف، ودفعوا العشور للكنيسة. سُمِحَ لهم، خارج هذه الالتزامات، مع ذلك، بالعمل لأنفسهم في قِطَع الأراضي الخاصة بهم. كانت مكانة المرأة في الاقطاع أقل من مكانة الرجل، لكنها تمتعت ببعض المزايا التي جُرِّدَت منها أثناء الانتقال الى الرأسمالية، بما في ذلك امكانية استفادتها من أراضي المشاعات، وتضامن النساء من خلال عملهن معاً.
استمر النضالين الواضح وغير المرئي ضد الاقطاع في العصور الوسطى. النضال الواضح كان مثلاً رفض الأقنان للعمل، ورفض الخدمة العسكرية، وتجنّب الضرائب، وأحياناً النضال باستخدام العُنف ضد الاقطاعيين. أما النضال غير المرئي فكان مثلاً "التثاقل-جر القدمين بتثاقل أثناء العمل، التظاهر، الامتثال الزائف لأوامر العمل، الادعاء بالجهل، التهرّب، السرقة، التهريب، الصيد غير القانوني". حصل الأقنان على مزيدٍ من الاستقلالية وقلّت مسؤولياتهم وصار بإمكانهم أن يستفيدوا من اتفاقيات مكتوبة واضحة مع المُلّاك، من خلال مقاومتهم التي استمرت من القرن الثاني عشر وحتى الرابع عشر. كان أحد ردود الفعل الأُخرى تجاه مُقاومة الفلاحين هو إبدال العقوبة، يعني أن يدفع الفلاح النقود بدلاً من الدفع العيني بالمحصول أو الماشية.
هذا التحوّل الحاسم تجاه اقتصاد السوق عَمِلَ كوسيلة للتفكيك الاجتماعي وساهم في تفكك القرية الاقطاعية. استفاد الفلاحون ذوي الوضع الجيّد من ذلك، لكن كافَحَت الأغلببية، وهم من الفلاحين الفقراء لتسديد المدفوعات وصاروا مديونين وخسروا الأرض. عانت النساء، ولا سيما العازبات والأرامل أكثر من الرجال من النظام الجديد لأنهن لم يكن قادرات على الحصول على أرض وكسبن أقل كعمال. كانت النساء هن غالبية من غادروا القرى الى المُدن. عَمِلَت النساء في مُستقرهن الحضري الجديد في العديد من المِهَن والتي أُغلِقَت في وجههن فيما بعد.

-الحركات الهرطقية والألفية.
دُفِعَ الفلاحون الذين فقدوا أرضهم للتو، الى هامش المُجتمع وانضموا الى الحركات الألفية التي ثارت على النظام الاجتماعي القائم. على الرغم من أن هذه التمردات لم تدم طويلاً، الا أنها افتتحت نمطاً جديداً من النضال، والذي كان يتطلع الى التغيير الاجتماعي.
نشأت الهرطة الشعبية التي تتحدى استغلال العمال وفساد الكنيسة، مُتبعةً خُطى الحركات الألفية. عاشت الطوائف الهرطقية مُثُلها العُليا من خلال الإقامة معاً في "مُجتمعات بديلة". كان للهراطقة أتباع كُثُر بين الطبقة العاملة من القرن الثالث عشر الى منتصف القرن السادس عشر. اضطهدت الكنيسة والدولة الهراطقة بعنف، وأشهر مثال على ذلك محاكم التفتيش. استخدمت الكنيسة تهمة الهرطقة لمُهاجمة أي شكل من أشكال الاحتجاج الاجتماعي والسياسي. رَفَضَ الهراطقة علانيةً الحدود التي وضعتها الكنيسة على الجنس، وروّجَ بعض الهراطقة للحرية الجنسية. رَفَضَ بعضهم الزواج والانجاب، وهو ما تقترح فيديريتشي أنه بمثابة شكل من أشكال المُقاومة.

- تسييس الجنس
على مدى قرون، توغّلت الكنيسة في محاولاتها العديدة للحد من السلوك الجنسي بشكلٍ أعمق في السلوكيات الشخصية ونفسية رعايا القرون الوسطى. تقترح المؤلفة أن هذا الهجوم المستمر كان مُتجذراً في النظام البطرياركي. أدرك رجال الدين منذ فترةٍ مُبكرة السُلطة التي تمنحها الرغبة الجنسية للنساء على الرجال، وحاولوا باصرار كبحها من خلال مُطابقة القداسة مع مسألة تجنّب النساء والجنس. توضّح كتابات الكنيسة والتي يعود تاريخ أقدمها الى القرن السادس، بالتفصيل، قوائم السلوك المقبول والسلوك غير المقبول وما هو التكفير المُناسب لها للحصول على الغُفران. في خلال هذه العملية، تم استثمار الجنس وصار موضوعاً للاعتراف بالخطايا، حيث أصبحت الوظائف الجسدية الأكثر حميميةً موضوعاً للنقاش. ازداد تدخّل الكنيسة في الشؤون الحميمية في القرن الثاني عشر، وفَرَضَت قيوداً مُتزايدة على الجنس غير الانجابي والمثلية الجنسية.
تقول فيديدريتشي أنه يجب النظر الى الاختيارات الجنسية غير التقليدية للهراطقة على أنها مُحاولة قاموا بها لانتزاع أجسادهم من قبضة رجال الدين.

-النساء والهرطقة
شَغِلَت النساء أدواراً قيادية في الطوائف الهرطقية. غالباً ما عشن وقاتلن جنباً الى جنب مع الرجال على قدم المساواة. قاومت الطوائف الهرطقية المراسيم الجنسية الصارمة للكنيسة. كان الإجهاض وموانع الحمل شائعة. تسامحت الكنيسة مع بعض هذه الممارسات الى حدٍ ما، حتى الأزمة الديمغرافية التي تسبب بها الموت الأسود (1346-1352)، بعد ذلك تم تجريم هذه الممارسات واضطهادها. في هذا الوقت، بدأ الهجوم على الهرطقة بالهجوم على النساء في المقام الأول: صارت صورة المُهرطق النمطية هي المرأة بشكلٍ مُتزايد، وبحلول القرن الخامس عشر صار الهدف الرئيسي لقمع الهراطقة هو الساحرة.

-النضالات الحَضَرية
هاجَرَ أولئك الذين فقدوا أراضيهم من العُازبات والأرامل والأُسَر الفقيرة وما الى ذلك، الى المُدن، وشكّلوا معاً بروليتاريا مدينية جديدة عملوا في الغالب كحِرَفِيين وعُمّال. كان عمال المُدُن آنذاك هم من انخرطوا في أكثر أشكال الاحتجاج الاجتماعي جذريةً وكانوا الأكثر قبولاً للأفكار الهرطقية وانخرطوا في حالات مُهمة من التمردات المُسلّحة.

-الطاعون الأسود وأزمة العمل
قتَلَ الطاعون المعروف بالموت الأسود حوالي ثلث سكان أوروبا. أدت نُدرة العمالة الى زيادات في الأجور، في حين أن مُقاساة الموت اليومية، أدت، فيما أدت، الى تقويض الانضباط الاجتماعي وعزز المُقاومة ضد الطبقات الحاكمة.
انخفضت الفروق في مستويات المعيشة بين الفقراء والأغنياء بشكلٍ كبير. أطلَقَ ماركس على القرن الخامس عشر "العصر الذهبي للبروليتاريا". ونتيجةً لذلك، انتهت القِنانة بشكلٍ أساسي بحلول عام 1400.

-السياسة الجنسية وصعود الدولة والثورة المُضادة
كانت النساء، في المُدن سريعة النمو، محرومات من الحماية الاجتماعية التي كُنّ يتمتعنَ بها في المُجتمعات القروية. سمَحَ التحالف الرأسمالي الجديد باغتصاب النساء البروليتاريات، ووجه غضب الرجال البروليتاريين ضدهن، وفي بعض الأحيان كانت النساء تُصوَّرنَ على أنهن خائنات للطبقة لكونهن عشيقات لأرباب عملهن. كانت عمليات الاغتصاب الجماعي شائعة. أدى هذا الى تقويض التضمان الطبقي وخَلَقَ مناخاً من كراهية النساء الشديد، وقلل من حساسية السُكّان تجاه ارتكاب أعمال عنف ضد المرأة، مما مهّدَ الطريق لبدء صيد الساحرات. في نفس الوقت، ظهرت الدعارة التي ترعاها الدولة وانتشرت على نطاقٍ واسع، وهي مُمارسة قَبِلَتها الكنيسة. هذه "الصفقة الجديدة" الجنسية كانت جزءاً من عملية أوسع، أدت الى مركزية الدولة رداً على اشتداد الصراع الطبقي.

الفصل الثاني: تراكم العمالة وانحطاط المرأة: تشكيل "الفروق" في عصر الانتقال الى الرأسمالية

بين عامي 1350-1500 سمَحَت المقاومة المُستمرة والأزمة الديمغرافية للفلاحين بالتمتع بمستويات معيشية أفضل نسبياً، بينما كانت الطبقة الحاكمة تفقد الثروة. انتهت هذه العملية الثورية في أوائل القرن السادس عشر، وقامت الطبقات الحاكمة بسحقها من خلال العنف الواضح وأنظمة السيطرة الأيديولوجية التي عززت الفروق بين الجنسين. ظَهَرَ، على مدى القرون القليلة التالية، نظام استغلال مُكثّف وهو الرأسمالية. تقول فيديريتشي، أن هذه لم تكن خطوة تالية طبيعية أو حتمية، بل تشكلت من خلال العنف الشديد.
تقول المؤلفة، أن ما جعل الرأسمالية مُمكنة حسب ماركس هو تركّز الموارد في أيدي طبقة مالكة صغيرة واكتسابها السيطرة على عمل الطبقة العاملة. يُسمّي ماركس هذه العملية بالتراكم البدائي. تطرح فيديريتشي، كما تقول، تحليلاً نسوياً يوسّع مفهوم "التراكم البدائي" ليشمل خلق الفروق والانقسامات داخل الطبقة العاملة، والتحوّل الأيديولوجي لتصور الجسد كآلة، وشن حملة لتحطيم سُلطة المرأة والتحكم في عملهن في إعادة انتاج القوة العاملة.

- التراكم الرأسمالي وتراكم العمالة في أوروبا
اضطرت الطبقة الحاكمة الأوروبية لأن تطور من أساليبها لتواجه تمرّد الفلاحين. كان الاستغلال، في الاقطاع، محدوداً بسبب حاجة اللوردات الاقطاعيين للحفاظ على عدد محدود من الفلاحين. في الرأسمالية المُبكرة، هدد الاستغلال المُفرد بانهيار النظام بأكمله. في القرنين السادس عشر والسابع عشر هدد انتشار الفقر وازدياد معدل الوفيات وتفاقم المقاومة بسقوط الاقتصاد الرأسمالي الناشئ. كانت القوى العاملة بالكاد تبقى على قيد الحياة. كان التصحيح اللازم للإبقاء على الرأسمالية هو استدخال أنظمة جديدة من الرقابة الاجتماعية للسيطرة على عملية إعادة انتاج القوة العاملة، ولا يتعلق هذا فقط بالولادة والتربية، بل النظافة والتغذية وأعمال الرعاية.

- خصخصة الأراضي في أوروبا، ونُدرة الإنتاج وفصل الإنتاج عن إعادة الإنتاج
انخرطت الطبقات الحاكمة الأوروبية في أواخر القرن الخامس عشر، في حملة لتشديد السيطرة على الحقول والغابات والمياه لإبعاد الفلاحين عن مصادر معيشتهم، ومصادرة الأراضي من خلال مجموعة متنوعة من التكتيكات، بما في ذلك إخلاء المُستأجرين وزيادة الإيجارات وزيادة ضرائب الدولة مما أدى الى وقوع الفلاحين في الدَين وبيع الأراضي.
كان هذا التطويق عبارة عن مجموعة من الاستراتيجيات التي استخدمها اللوردات الانجليز والمُزارعون الأغنياء للقضاء على المُلكية الكوميونية للأرض وتوسيع مُمتلكاتهم، وتم تسييج الكوميونات وهدم أكواخ الفقراء الذين لا يملكون أرضاً ولكن يُمكنهم أن يعيشوا من ارتزاقهم على الغابات والمياه العامة. أدت هذه العملية الى تدمير المُجتمعات الكوميونية، واعتماد الفلاحين على العمل المأجور، ومعاناتهم الجوع لمدة قرنين. انتشرت مقاومة الفلاحين لهذه الإجراءات، وغالباً ما كانت النساء، اللواتي عانين أكثر من غيرهم من فُقدان الأراضي الكوميونية، هُنّ اللواتي يقدن هذه الحركات.

- ثورة الأسعار وإفقار الطبقة العاملة الأوروبية
كان هناك، ابتداءاً من القرن السادس عشر، انخفاض كبير في الأجور الحقيقة أو القوة الشرائية للطبقة العاملة. تقول فيديريتشي بأن الأسعار ارتفعت بسبب تطوير نظام سوق قومي ودولي يُشجّع على تصدير واستيراد المُنتجات الزراعية، ولأن التُجّار يُخزنون البضائع لبيعها لاحقاً بسعر أعلى. يعيش الفلاحين الذين تمتعوا بالتنوع الغذائي في القرون السابقة، على الخبز الآن. كان نقص الغذاء شائعاً، وكذلك أعمال الاحتجاجات المُتعلقة بالطعام والتي شارك فيها العديد من النساء، حيث تأثرن بشكل أكبر من ارتفاع أسعار المواد الغذائية. بحلول القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت الاحتجاجات مدفوعةً بالجوع في أغلب الأحيان، واتخذت شكل الاعتداءات على المخابز ومخازن الحبوب، والمُطالبات بوقف تصدير المحاصيل المحلية.

-تدخّل الدولة في إعادة انتاج العمل: إغاثة الفقراء وتجريم الطبقة العاملة
ضمنت الدول الناشئة استمرار الرأسمالية من خلال تقديم الحد الأدنى من المساعدة لإعادة انتاج الطبقة العاملة. أجبرت الدول الناشئة الفقراء على المشاركة في العمل المأجور من خلال تجريم التشرّد ومعاقبته بقسوة. تدخلّت الحكومة في حياة الفقراء وشنّت حملةً ضد "الثقافة الشعبية" من خلال حظر الأنشطة الكوميونية التي كانت مصدراً للتضامن بين العمال، وسيطرت على أوقات الفراغ البروليتاري من أجل فرض استخدام وقت عمل أكثر انتاجيةً. في الوقت نفسه بدأت الحكومات بتقديم الخبز للفقراء لإبقاء العمال المُحتملين على قيد الحياة. تُجادل فيديريتشي أن تقديم المُساعدة الغذائية الأساسية كان الخطوة الأولى في إعادة بناء الدولة بصفتها ضامن العلاقات الطبقية والمُشرف الرئيسي على إعادة انتاج الطبقة العاملة وانضباطها. تم، من خلال هذه العملية، انشاء تقسيم عمل رأسمالي داخل الطبقة العاملة نفسها، مما أتاح لأصحاب العمل التخلّي عن أي مسؤولية عن إعادة انتاج العمال.

-انخفاض عدد السُكّان والأزمة الاقتصادية وضبط المرأة
تحوّلت مسألة إعادة الإنتاج الى مسألة تخص الدولة، بسبب الانخفاض السُكّاني الناجم عن المرض والمجاعة في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كانت المُبادرة الرئيسية التي اتخذتها الدولة لإستعادة النسبة السكانية المطلوبة هي شن حرب حقيقة ضد المرأة تهدف بوضوح الى سحق السيطرة التي مارسنها على أجسادهن. استبدلت الدولة القابلات بأطباء ذكور وأدخلت مراقبة صارمة وعقوبة شديدة على الجرائم الإنجابية بما في ذلك منع الحمل والاجهاض ووأد الأطفال والزنا.

-تخفيض قيمة عمل المرأة
كانت النساء يتقاضين أجوراً أقل من الرجال، ويزداد استبعادهن من مُعظم أعمال العمل المأجور. أدت سياسات الدولة الى تفاقم كراهية النساء داخل الطبقة العاملة، وناضل الحرفيون الذكور لإخراج النساء من العديد من المِهَن خوفاً من أن تؤدي مشاركة النساء الى التقليل من قيمة عملهم. صار نشاط المرأة يعتبر خارج نطاق العمل، والنساء لسن عاملات.

-بطرياركية الأجور
كان الرجال، في الأسرة النووية، مسؤولين عن تأديب زوجاتهم وأطفالهم. لم تكن العديد من العائلات قادرة على سد رمقهم. عَمِلَت الزوجات والبنات ليس فقط في الأعمال المنزلية غير مدفوعة الأجر، بل عمِلن أيضاً على استكمال دخل الرجال من خلال العمل بالقطعة. نظراً لاستبعاد النساء من العمل ذو الأجر المُرتفع، فقد كُنّ يعتمدن على أزواجهن وآبائهن الذين كان بإمكانهم منح أو حجب الموارد عنهن كوسيلة للمكافأة أو العقوبة.

-ترويض النساء وإعادة تعريف الأنوثة والرجولة: النساء هن هَمَج أوروبا
فقدت المرأة، في عملية انحلال اجتماعي مُكثّفة، جميع حقوقها القانونية. أصبح من غير الآمن لهن أن يكنَّ وحدهن في الأماكن العامة، وكان يتم فرض الرقابة المشددة خوفاً من تجمهن معاً في مكانٍ واحد. تم فرض قوانين وأشكال جديدة من التعذيب للسيطرة على سلوك المرأة داخل المنزل وخارجه. تم تصوير النساء على أنهن أقل شأناً، وأنهن عاطفيات وغير قادرات على التحكم بأنفسهن، ولاعقلانيات ومُسرفات وشبِقات ومتوحشات. كان هناك تشابه بين نمط النساء ونمط الرعايا في المُستعمرات لتبرير استغلال كُلٍ منهما. ثم ظَهَرَ نموذج جديد من النساء في نهاية القرن السابع عشر تم تصورهن من خلاله على أنهن كائنات سلبية، باردات جنسياً، أكثر طاعةً، وأكثر أخلاقيةً من الرجال، وقادرات على مُمارسة تأثير أخلاقي عليهم.

-غذّى الاستغلال الاستعماري، وخاصةً عمل العبيد الأفارقة والموارد المسروقة من المُستعمرات الأمريكية، غذّى الثورة الصناعية، حيث أمكَنَ للعمال الأوروبيين من الحصول على السٍلَع الضرورية اللازمة لإنتاج قوة العمل، وأمكَنَ كذلك تزويد الطبقات الحاكمة الأوروبية بالذهب والفضة الذين إستُخدِما لدفع أجور جيوش المُرتزقة التي هزمت الانتفاضات الحضرية والريفية. انبثقت الرأسمالية من هذا التقسيم العالمي للعمل الذي دمَجَ عمل العبيد في إعادة انتاج قوة العمل الأوروبية، مع إبقاء العمال المُستعبدين والمأجورين منقسمين جُغرافياً وإجتماعياً.

-الجنس والعِرق والطبقة في المُستعمرات
جاء بعض الفلاحين الأوروبيين الى الأمريكيتين كسُجناء أو خدَم بالسُخرة. بدأت عملية تقسيم الطبقة العاملة على أُسس عنصرية عرقية في منتصف القرن السابع عشر لمنع الفلاحين من التحالف مع السكان المحليين ضد الطبقة الحاكمة. مثل التمييز الجنسي، كان لا بُدّ من شرعنة العُنصرية وقوننتها. فرَضَ المُستعمرون الأوروبيون التمييز الجنسي على السكان المُستَعمَرين من خلال منح امتيازات للرجال حرّموها على النساء.

-الرأسمالية والتقسيم الجنسي للعمل
الرأسمالية لا تخلق الثروة من خلال زيادة الكفاءة، بل من خلال زيادة الاستغلال. إن خلق الانقسامات والاستفادة منها داخل الطبقة العاملة يُخفي عُنف الاستغلال الرأسمالي. كانت عملية تقسيم الطبقة العاملة على أساس الجنس والعِرق، وخلق التقسيم الدولي للعمل ضرورياً لعملية التراكم البدائي، لأنها سَمَحَت للطبقة الرأسمالية بتأمين السيطرة على العمل.

الفصل الثالث: الكاليبان العظيم والنضال ضد الجسد المُتمرّد

قمنا على موقع الحوار المُتمدّن بترجمة هذا الفصل الثالث الكتاب على جُزئين، وعنوانه (الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد).
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=754979
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=762240


الفصل الرابع: صيد الساحرات في أوروبا
لقد تم التقليل من أهمية صيد الساحرات ونزع الطابع السياسي عنه في مُعظم الروايات التاريخية. تلوم القصة السائدة القرويين الخرافيين والهستيريين على صيد الساحرات، وتصف النساء اللواتي تجري مُحاكمتهن بأنهن مُضطربات أو مُنحرفات. أدرَكَ الكُتّاب والكاتبات النسويين في القرن العشرين أن صيد الساحرات والتعتيم على تاريخه بأنه حرب ضد النساء. فشِلَ المؤرخون الماركسيون في إدراك أهمية مُطاردة الساحرات في دراستهم لعملية التراكم البدائي.

-عصور حرق الساحرات ومبادرة الدولة
كان صيد الساحرات هجوماً من الطبقات الحاكمة الأوروبية على قوة الفلاحين. ظَهَرَت مُحاكمات الساحرات لأول مرة في منتصف القرن الخامس عشر عندما أصبح السحر جريمةً يُعاقَبُ عليها بالإعدام، وتصاعد الصيد في منتصف القرن السادس عشر، وبَلَغَ ذروته بين أواخر القرن السادس عشر ومُنتصف القرن السابع عشر. تم شن حملة مُحاكمة الساحرات في جميع أنحاء أوروبا من قِبَل دول كانت في صراعٍ ضد بعضها بعضاً في كثيرٍ من الأحيان. تم إطلاقها وتنظيمها من قِبَل الحكومات والكنيسة بدعمٍ من المُثقفين. لقد خلقوا معاً هستيريا جماعية بين السُكّان. انقلبَ القرويون على بعضهم، وتم إعدام مئات آلاف النساء بوصفهن ساحرات.

-المُعتقدات الشيطانية والتغيرات في نمط الانتاج
حدَثَ صيد الساحرات في سياق تحوّل كبير في علاقات العمل. لقد كان بمثابة هجوم على قوة المرأة ومُقاومتها للرأسمالية، وكان حاسماً في عملية السيطرة على عمل المرأة الانجابي. كان السحر بمثابة تُهمة تُجرّم مجموعةً ديموغرافيةً كاملةً من الناس وتُعاقب مجموعةً متنوعةً من السلوكيات. تركزَّ صيد الساحرات في أوروبا في الأماكن التي كانت في طور التحول الى رأسمالية. غالباً من كان ضحاياه من الفقراء. وتكشف روايات المُحاكمات عن حدوث صراع طبقي على مُستوى القرية. عاقبت المُحاكمات جرائم المُلكية والفقر، وظَهَرَ في العديد من المُحاكمات نساء مُتسولات اتُهِمنَ بشتم من رفض مساعدتهن.

-صيد الساحرات والثورة الطبقية
كانت المُعتقدات والممارسات السحرية جزءاً من حياة الفلاحين اليومية في المراحل الأولى للرأسمالية. كان السحر تهديداً للرأسمالية لأنه دَعَمَ المعتقدات التي تتحدث حول قوة الفرد الكامنة وإمكانية تغيير الطبيعة والنظام الاجتماعي. حدثَ صيد الساحرات في سياق ارتفاع الأسعار وانتفاضات الفلاحين، التي غالباً ما قادتها النساء.
تكشف اسطورة أماكن تجمّع الساحرات لمُمارسة طقوسهن Witches Sabbat، وهو موضوع تأملات جامحة من قِبَل صائدي الساحرات، عن خوف الطبقة الحاكمة من تجمّعات الفلاحين. نسمَع في هذه الأسطورة صدى الاجتماعات السرية التي كان الفلاحون يعقدونها بالسر ليلاً في الغابات لتخطيط ثوراتهم. تم وصف أماكن تجمّع الساحرات بأنها مليئة بالجنس الجماعي وأكل لحوم البشر، مما يعكس مخاوف البرجوازية من أن يحصل الفلاحون على الحرية الجنسية وأن يقوم هؤلاء الأخيرين بأكلهم (أي بقتلهم وأخذ أموالهم).

- صيد الساحرات، وصيد النساء وتراكم العمالة
هناك استمرارية تاريخية واضحة بين اضطهاد الهرطقة والسحر، لكن الاختلاف الرئيسي هو أن السحر أصبحَ يُعتَبر جريمة "أنثوية". الفرق الآخر هو أن الجرائم الإنجابية كانت موضوعاً مركزياً لمحاكمات الساحرات. تفترض فيديريتشي أن هذا كان يعكس الرغبة البرجوازية في تشجيع النمو السكاني، وبالتالي برر الهجوم على وسائل منع الحمل والاجهاض والقابلات اللواتي كُنَّ يحملن المعارف بهذه الممارسات. لقد أدى صيد الساحرات الى سحق الوسائل التي استخدمتها النساء للتحكم في الانجاب ومأسسَ سيطرة الدولة على جسد المرأة، وهو الشرط المُسبق لإخضاعها لعملية إعادة انتاج قوة العمل. إتُهِمَت الفلاحات بالسحر بسبب مجموعة واسعة من السلوكيات التي مثّلَت حياتهن الجنسية. قامت سُلطات الدولة بفحص أجساد المُتهمات العاريات وعذبتهن لإنتزاع الاعترافات منهن. أُجبِرَ المُجتمع بأكمله بما في ذلك عائلات المُدانات على حضور الإعدام علنياً. من بين ضحايا صيد الساحرات مجموعات كاملة من النساء اللواتي عانين من الخوف والصدمة أثناء مشاهدتهن اعدام أخواتهن وأمهاتهن وبناتهن.

-صيد الساحرات والتفوّق الذكوري: ترويض النساء
اتخذ الشيطان، في القصص التي كرستها السُلطات، شكلاً مُميزاً جديداً، وهو ذكر قوي. كان هذا الذكر يُسيطر على الساحرات، وكُنّ عشيقاتٍ له. تُلاحظ فيديريتشي، أنه يُمكن رؤية مدى انشغال صائدي الساحرات بتأكيد تفوّق الرجال من حقيقة أنه يتم تصوير النساء أنهن خاضعات لرجل حتى عند تمردهنّ على القانون الإنساني والالهي. تم تصوير النساء على أنهن يُدمرن الرجال، وكان يُخشى عليهم من قُدرتِهِنّ على جعل الرجال عقيمين، أو استدراجهم بشهوتهن. لقد قَلَبَ صيد الساحرات البروليتاريا على نفسها، وحطّمَ التضامن الطبقي الذي كان حاسماً لتحقيق مكاسب الفلاحين في القرون السابقة. أجبَرَت مُحاكمات الساحرات النساء على سرد تفاصيل ممارستهن الجنس مع الشيطان، تحت التعذيب. تُجادل فيديريتشي أن صيد الساحرات هذا قد دشّن حُقبةً جديدةً من القمع الجنسي.

-صيد الساحرات والعقلنة الرأسمالية للجنس
بدأ صيد الساحرات حُقبةً تم فيها تطهير الجنس وتوجيهه نحو انجاب الأطفال ومُتعة الرجال. لقد تمت مُهاجمة حياة النساء الجنسية، وخاصةً المُسنات. رسمَ الأكاديميون خطاً حاداً فاصلاً بين البشر العقلانيين والحيوانات اللاعقلانية، واتهموا الساحرات بالبهيمية واللاعقلانية المُطلقة. الى جانب اضطهاد الساحرات، كان هناك هجوم على أشكال أُخرى من الجنس الذي يُخل بالنظام الاجتماعي، بما في ذلك المثلية الجنسية والجنس الشرجي والجنس بين المُسنين، والجنس بين الأطفال، والجنس بين أُناس من طبقات مُختلفة، والُعرِيّ والرقص، والتعبيرات الجماعية عن الجنس، واحتفالات الخصوبة.

-مُطاردة الساحرات والعالم الجديد
تم استخدام تكتيكات مُطاردة الساحرات للسيطرة على الأمريكيين الأصليين والأفارقة المُستعمرين، وتم توجيه تُهَم صيد الساحرات وعبادة الشيطان الى الأمريكتين لسحق السكان المحليين، مما برر الاستعمار وتجارة العبيد. كما هو الحال في أوروبا، هاجمت المُحاكمات في الأمريكيتين قادة المقاومة وسَعَت الى تدمير الأديان المحلية. شبّه الأكاديميون الأفارقة السود بالشياطين وقالوا بأنهم شبقين جنسياً بطبيعتهم ولذلك وجب ضبطهم.

-الساحرة والمُعالج وميلاد العلم الحديث
غالباً ما كانت النساء، في الحياة القروية التقليدية، يعرفن السحر، ويخدمن المُجتمع على أنهن مُعالجات وعرافات. مثلت هؤلاء النسوة بديلاً للنظام الرأسمالي الصاعد. تم الهجوم على القابلات والمُعالجين الشعبيين واستبدالهم برجال طبيين مُحترفين، غالباً ما كان يتعذر على الفقراء الاستفادة من خدماتهم.
ما الذي يُمكن أن يُفسّر لاعقلانية صيد الساحرات في عصرٍ افتخر بالعقلانية؟ توضّح فيديريتشي أن صيد الساحرات كان ظاهرة انتقالية تطورت تحت ضغط المهمة التي كان عليها أن تُنجزها. استفاد صيد الساحرات من اللاعقلانية لسحق مجموعة واسعة من المُمارسات والمُعتقدات الثقافية التي تتعارض مع الرأسمالية. انتهى مُعظم صيد الساحرات في أواخر القرن السابع عشر، والغته السلطات لأنه لم يعد هناك أي حاجة اليه.

الفصل الخامس: الاستعمار والتبشير: الكاليبان والساحرات في العالم الجديد
سبقَ تطور الرأسمالية في أوروبا والأمريكيتين عملية تراكم بدائي أدت الى ابعاد الناس عن الأرض وإفقارهم وتجريدهم من استقلالهم الذاتي المحلي، وتدمير الثقافة الكوميونية. تم تطوير تقنيات القهر، بما في ذلك التبشير وصيد الساحرات في أوروبا ثم تصديرها الى الأمريكيتين. في وقتٍ لاحق، استمر القمع في أوروبا والأمريكيتين بالتطور. تُشبه عمليات صيد الساحرات الموجودة في المُستعمرات تلك الموجودة في أوروبا، وهي، بالمثل، تُستَبعد من مُعظم الروايات التاريخية.

-ميلاد آكلي لحوم البشر
مع بداية استعمار أمريكا، طوّرَت أوروبا "مُجتمعاً استعمارياً"، كان ينظر الى الآخر، على أنه هدف للعدوان بشكلٍ أساسي، ومنهم سكان أمريكا الأصليين. وَصفَ المستعمرون السكان الأصليين على أنهم أشبه بالحيوانات. قد تعكس الأساطير المُبكرة عن السكان الأصليين باعتبارهم مسالمين وأشبه بالأطفال، آمال المُستعمرين في أن يتم إخضاع السكان بسهولة. تم استبدال هذه الروايات لاحقاً بمزيدٍ من القصص اللاإنسانية التي تصور السكان الأمريكيين الأصليين على أنهم أكلَة لحوم بشر وعُبّاد للشيطان. خَدَمَت مثل هذه الحكايات المُستعمرين وصورتهم على أنهم قادمون لزرع الخير وتغيير سلوك هؤلاء الهمج. تُشبه هذه الأوصاف والصور التي نُشِرَت ضد الأمريكيين الأصليين تلك المُستخدمة في شيطنة الساحرات الأوروبيات.

-الاستغلال والمقاومة والشيطنة
حاولَ المُستعمرون الاسبان، في منتصف القرن السادس عشر، تشديد امتصاص العمالة والموارد من المُستعمرات الأمريكية، مما أدى الى تصاعد المُقاومة. بدأت حركات المُقاومة الأمريكية الشمالية والجنوبية بالتشكل، وصارت هذه الحركات ترفض الديانة المسيحية الاسبانية لاجئةً الى الآلهة القديمة. ردّ المُستعمرون الاسبان بشن هجمات على المُمارسات الدينية غير المسيحية ومُعاقبة المُخالفين بالجلد العَلَني أو العمل القسري الشاق في المناجم. لقد حطموا الأماكن المُقدسة وعاقبوا مُمارسة العبادة التقليدية، وأعادوا توطين سكان الريف في القُرى لإحكام السيطرة عليهم. استمرت الممارسات الدينية المحلية تحت قناع المسيحية وفي الخفاء.

-النساء والساحرات في أمريكا
عانت النساء في الأمريكيتين من الحكم الاستعماري، كما هو الحال في أوروبا، أكثر من غيرهن. لقد كُنَّ أشد المُقاومين للنظام الجديد وكُنَّ الموضوع الرئيسي لمُطاردة الساحرات. تمتعت النساء بقوة وامتياز كبيرين في أمريكا ما قبل الاستعمار الاسباني. كانت المقاومة تتمثل في أمور مثل رفض المُشاركة في الطقوس المسيحية ورفض التعاون مع الكنسية والمسؤولين الحكوميين، الانتحار ووأد الأطفال. قامت النساء بتنظيم مُجتمعاتهن وبرعاية الهواكا huacas، وهو معبد بيروفي مُقدّس. شَرَعَ الاسبان في صيد الساحرات الذي استهدف كُلٍ من مُمارسي الدين القديم والمُحرضين على الثورة ضد الاستعمار. وعلى عكس ما حَدَثَ في أوروبا، لم يستطع الاستعمار الاسباني تحويل ساحرات الأنديز الى منبوذات، ولم يتمكنوا من تدمير روابط الناس مع الجبال والمواقع الالهية الأُخرى، وظلت الساحرات رمزاً للمقاومة.

استمر صيد الساحرات في أمريكا المُستَعمَرة حتى نهاية القرن السابع عشر، بعد بضعة عقود من توقفه في أوروبا. كان هناك تحوّل في نمط السردية حول الساحرة على أنها افريقية، مع التراجع النسبي للاضطهاد في الأمريكيتين. منذ ذلك الحين، ظهَرَ صيد الساحرات في جميع أنحاء العالم في الأماكن التي كانت تنتقل الى الرأسمالية. كان صيد الساحرات "مزروعاً في جسد المُجتمعات المُستَعمَرَة". لذلك، على الرغم من توقف النُخبة من قيادة هذه العملية، الا أنها استمرت في الظهور داخل المُجتمعات على تخوم الرأسمالية وأثناء عملية الرسملة. أمكن للنخبة بعد ذلك من رفض اضطهاد الساحرات باعتباره هستيريا لاعقلانية وغير مُتحضّرة. حدثت، في العقود الأخيرة، اتهامات واعدامات للساحرات في قاراتٍ مُتعددة تحت ضغط السياسات الاقتصادية النيوليبرالية العدوانية، حيث تمت مصادرة الأراضي وامتصاص العمالة والموارد الأُخرى. وعلى غرار تاريخ صيد الساحرات، نادراً ما يتم الابلاغ عن عمليات اعدام مُعاصرة للمُتهمات بالسِحر.

بعض الملاحظات النقدية على كتاب فيديريتشي

(الكاليبان والساحرة) هو كتاب نُشِرَ بالانجليزية عام 2004 وتُرجِمَ الى الفرنسية عام 2014، وأدى نجاح هذا الكتاب الى إعادة نشره عام 2017. الكاتبة سيلفيا فيديريتشي هي أكاديمية أمريكية من أصل ايطالي، وبعد أن عاشت جزء من حياتها المهنية في نيجيريا، صارت استاذاً فخرياً للعلوم الاجتماعية في جامعة هوفسترا في نيويورك. وهي ناشطة نسوية من تقليد يوصف بأنه راديكالي، وتصف نفسها بأنها ماركسية.
طوّرَت في هذا الكتاب، وهو أشهر كتاب لها، أُطروحةً يُمكن تلخيصها على النحو التالي: يجب فهم واقعة صيد الساحرات في أوروبا على أنها لحظة لا غِنىً عنها في عملية التراكم الرأسمالي البدائي، بالضبط مثلما هي عملية تجارة العبيد في المُحيط الأطلسي.
بفضولٍ شديد، قررت أن أقرأ هذا الكتاب، الذي يحتوي على الكثير من الوقائع الهامة جداً، والافتراضات الجريئة المُقنعة التي تُضيء على جوانب يبدو أنها الأقل بروزاً في عملية التراكم الرأسمالي. وأنا هنا أتعامل مع موضوعٍ لست متخصصاً فيه.
قد يبدو انه من غير المُناسب أن يقوم شخص غير مُتخصص بتوجيه مُلاحظات نقدية على كتاب كبير مثل هذا دون الحصول على تدريب أكاديمي، ودون تخصص. ولكن أنا أدّعي أنني أملك قاعدةً منهجيةً أساسية يُمكنني من خلالها، وعلى الأقل، أن أتحسس وأتلمّس، أين يُمكن أن يكمن هذا الخطأ المنهجي أو ذاك.
وفي نفس الوقت، من غير المناسب لوم سيلفيا فيديريتشي على القيام بعمل تأريخي دون الحصول على تدريب أكاديمي كذلك، لأن الكثير من الأعمال المُمتازة كتبها أشخاص ليسوا مُتخصصين وليس لديهم شهادات جامعية. هذه بالنسبة لي بديهيات، أود أن أُشير إليها قبل أن أقول أي شيء بصدد هذا الكتاب.

- تستشهد سيلفيا فيديريتشي ص164 باثنين من كُتّاب التحليل النفسي (ليسوا مؤرخين)، لدعم أُطروحتها التي تقول بأن مُعظم الكتابات التي كُتِبَت حول صيد الساحرات، هي من وجهة نظر "الجلّاد". ولكن فيديريتشي لم تذكر أهم مرجعية عالمية مكتوبة على يد المؤرخ الفرنسي يوليس ميشيليه Jules Michelet بعنوان (La Sorcière) عام 1862، وهو مكتوب من وجهة نظر "الضحية" ويُظهِر تعاطفاً قوياً. هذا لا يمنَع فيديريتشي من الادعاء ص253 بأن موضوع صيد الساحرات قد صار ذو أهمية بعد الحركة النسوية.

- تذكر فيديريتشي، في عدة مناسبات في الكتاب أن هناك "مئات آلاف" ضحايا الإعدام. ومع ذلك فإن أعلى تقدير استطعت الحصول عليه هو الرقم الذي تقدمه لنا المؤرخة آن بارستو Anne Barstow وهو 100 ألف ضحية(1). ويُقدّر مُتخصصين آخرين الرقم ما بين 40 ألف و60 ألف. ومع أن فيديريتشي تعتمد تقدير بارستو للضحايا، وتشير الى أن الأخيرة تحدثت حول تلك النساء اللواتي مُتن في السجن واللواتي انهارت حياتهن بعد أن خرجن منه، الا انها ظلت تُضخّم المئة ألف الى مئات الآلاف.
يُضاف الى مسألة العدد، مسألة نسبة الضحايا من الرجال الى النساء. تتفق فيديريتشي مع بارستو في أن نسبة ضحايا النساء الى الرجال من 75-80%. نحن نرى أن هذه النسبة معقولة. ولكن لا تُشير فيديريتشي الى أن نسبة الرجال الضحايا كانت أكبر في روسيا واستونيا وايسلندا(2). كان على المؤلفة أن تفحص هذه المسألة وتُسلّط الضوء على الاختلافات المحلية هنا وهناك، وأن تُفسّرَ اختلاف النمط في هذه المناطق.

-برأيي، يحتوي هذا الكتاب بالتأكيد على مقاطع وأطروحات جيدة مدعومة بحقائق ومصادر مُحددة. مثلما في صفحات 26، 27، 28 تقوم فيديريتشي، بطريقة شيقة للغاية، بسرد أساليب مُقاومة الفلاحين للأعمال المنزلية والالتزامات الأُخرى التي يفرضها اللوردات. ولكن لاحظنا أنه في عدد من المرات تُستَخلَص استنتاجات نهائية حول موضوعات مُعينة دون أدلة كافية. مثلاً لا يجب أن يكون غياب الأدلة هو دليل على غياب الشيء. وهكذا، ص189، أوضحت، أنه باستثناء الصيادين من بلاد الباسك، على الرغم من المُحاولات الفردية العديدة من قِبَل الأبناء أو الأزواج أو الآباء لإنقاذ أحبائهم من الحرق على العصا، فإنه لا يوجد أي رواية عن تنظيم من الرجال يُعارض هذا الاضطهاد، مما يدل، برأي فيديريتشي أنه أمكَنَ للطبقة الحاكمة من فصل النساء عن الرجال. لكن غياب الدلائل حول مثل هذا التنظيم، لا يعني غياب التنظيم نفسه. بالمثل، لا يوجد أي دلائل على تنظيمات نسائية عارضن ذلك. ولكن، هل يصح القول أن النساء انفصلن عن النساء لأن فيديريتشي لم تذكر دليلاً على وجود تنظيمات نسائية؟
تستخدم الكاتبة كذلك الدلائل غير المُباشرة بكثرة، للإشارة الى نتيجة مُحددة.
مثلاً، ص105 تُشير الى تأثير العبودية على أجور العمال الأوروبيين وحالتهم القانونية، حيث من وجهة نظرها أنه ليس من الصدفة أن ارتفاع الأُجور وحصول العمال الأوروبيين على حق التنظيم حصل مع نهاية العبودية.
ان الاشارة الى الارتباط لا يكفي لإظهار السببية. يُمكننا الادعاء بأنه ليس من قبيل المُصادفة أن حالات التوحد قد زادت منذ ظهور المواد الحافظة في المعلبات في السوبرماركت. يجب على المرء أن يدرس علاقة الأسباب بالنتيجة. يمكن الحديث في هذه الحالة مثلاً عن اشتداد نضال الطبقة العاملة، والتوسع الاستعماري، الخ.

-شعرنا أن هناك عدداً من التناقضات المنطقية في كتاب فيديريتشي. فهي تقول ص165 أنه على عكس الصورة التي روجها عصر التنوير، لم يكن صيد الساحرات هو آخر حريق لعالم اقطاعي مُحتضر. تقول أنه من المعروف أن القرون الوسطى لم تضطهد أي ساحرة، وتؤكّد أنه لم تتم صياغة مفهوم السحر حتى نهاية القرون الوسطى. ولكنها تقول، بعد بضعة أسطر، أنه في القرنين السابع والثامن تم استدخال جريمة المالفسيوم maleficium (الروح الشريرة) في قوانين الأباطرة التيتويين الجُدد. وبالمثل تُشير الى أن هناك استمرارية تاريخية واضحة بين اضطهاد الهرطقة والسحر، وتُلاحظ أن صيد الساحرات تطوّرَ أولاً في المناطق التي كان فيها اضطهاد الهراطقة الوالدانيين Waldensian والكاثاريين Cathar أكثر حدة أي في القرون الوسطى، وهو ما يتناقض الى حدٍ ما، مع قولها حول استثنائية صيد الساحرات مُقارنةً بالعصور الوسطى.

-ان الفقرات التي تسعى الى تجريم فلسفات هوبز وديكارت، كمشروعين رجعيين من ناحية، ومن ناحية أُخرى كقاعدة فكرية لصيد الساحرات، هي من بين تلك التي قد يشعر القارئ، وبشكلٍ مؤسف، أنها تقوم بتطويع الحقائق للوصول الى نتيجة مُحددة. بدلاً من رؤية البُعد العقلاني والشكي لفكر هؤلاء الفيلسوفين بالمقارنة مع الفكر اللاهوتي لذلك العصر، تستقرء فيديريتشي في عمليهما ما تريده فقط. هذا هو الحال مع الفقرة ص133، والتي يقول فيها هوبز" وبما أننا نرى أن الحياة ليست الا حركة للأطراف... اذ ما هو القلب، ان لم يكن زنبركاً..." (مُترجمة في الجزء الأول من الفصل الثالث على الحوار المُتمدن). نحن نرى في كلماته هذه روحاً برجوازية مُصممة على جعل العمل غاية وجود الجسد، وهي نابعة معرفياً من الطبيعة الميكانيكية للفلسفة البرجوازية آنذاك. ما العلاقة بين هذا الاقتباس القصير جداً من عند هوبز، وما تريده فيديريتشي أن يقول لنا؟
ان القارئ لكتاب فيديريتشي يصل الى نتيجة مفادها أن هناك شكل من أشكال المؤامرة التاريخية. تكشف فيديريتشي في الصفحة التالية قناع هوبز وديكارت وتقول بأنهما كانا يعملان لصالح الدولة: " يُمكننا أن نرى، في خلفية الفلسفة الجديدة مُبادرة واسعة من الدولة، والتي وصفت ما صنفه الفلاسفة على أنه "لاعقلاني" بأنه شكل حقيقي من أشكال الجريمة. كان تدخّل الدولة هذا هو نص الفلسفة الميكانيكي المخفي. "المعرفة" يُمكنها أن تصير "سُلطةً" ان استطاعت أن تفرض وصفاتها. هذا يعني، أن الجسد الميكانيكي، الجسد الآلة، لا يُمكنه أن يُصبح نموذجاً للسلوك الاجتماعي دون تدخّل الدولة، التي سحقت مجموعةً واسعةً من المعتقدات والممارسات والموضوعات الاجتماعية التي كان وجودها يتعارض مع تنظيم السلوك الجسدي الذي طرحته الفلسفة الميكانيكية. لهذا السبب، لدينا أكبر هجومٍ على السحر والساحرات تم تسجيله في التاريخ، في عصر العقل والشك المنهجي، وهو هجوم كان مدعوماً جيداً من قِبَل الذين انخرطوا في المذهب الجديد"(3).
بالتأكيد، كان هوبز وديكارت يعبرون عن البرجوازية الناشئة، وعن متطلبات النظام الرأسمالي الصاعد. ولكن فيديريتشي توحي للقارئ بأنهما كانا يتآمران على النساء بشكلٍ واعٍ ومقصود.

- أود أن أؤكّد أن فيديريتشي، وللأسف، تقوم برفض العلم ومناهجه بانتظام في كتابها. تقتبس عدة مرات في كتابها وتتناول تحليل كارولين ميرشانت Carolyn Merchant والذي كان ظهور العقلانية العلمية وفقاً لها عاملاً في اشتداد اضطهاد المرأة. ترفض فيديريتشي كتاب اندرياس فيساليوس Andreas Vesalius حول التشريح، وهو كتاب عقلاني علمي بالنسبة الى زمنه.
تُكرّس فيديريتشي فقرات طويلة لتشرح أن الهجمات على السَحَرَة كانت أيضاً هجوماً عقلانياً ضد الرؤية السحرية عن العالم، وهي رؤية، تحترم الطبيعة والجسد وفقاً لها. وهي تقتبس من أجل دعم هذه الأطروحة فقرة صغيرة من هوبز، والتي بموجبها يُمكن للناس أن يكونوا طيعين أكثر ان تم القضاء على الايمان بالسحر. هوبز في الواقع هو فيلسوف للنظام، مذعور من انتهاكات الحروب الأهلية الانجليزية والذي تهدف أفكاره الى تجنّب الفوضى. ومع ذلك، هذه هي الفقرة الكاملة لهوبز التي تُجرّمها فيديريتشي: "لا أعتقد، فيما يتعلق بالساحرات، أنهن يملكن أية قوة سحرية حقيقية، بل أنهن يُعاقَبن بعدل على اعتقادهن الخاطئ بأنهن قادرات على ارتكاب أعمال مؤذية، وعلى نيتهن بارتكابها لو استطعن.. وإن أُزيل هذا الخوف القائم على الايمان بالخرافات المُحاطة بالأرواح، وأُزيلت معه التنبؤات المُستنتجة من الأحلام والنبؤات الزائفة وأشياء أُخرى كثيرة تعتمد عليها، والتي بواستطتها يخدع أشخاصٌ ماكرون طامحون الناس البُسطاء، يصبح البشر أكثر استعداداً بكثير للطاعة المدنية مما هم عليه الآن"(4).
يُمكننا أن نرى أن ما يُحفّز هوبز، تماماً مثلما ما يُحفّز النظام البرجوازي، هو النضال ضد السُلطة التي تمنحها امكانية استغلال سذاجة الآخرين. وفي أوروبا الحديثة، حيث تميل فيديريتشي الى التقليل من شأن ثِقَل الكنيسة الاقطاعية، فإن مثل هذه المقاربة التي يتبعها فلاسفة ماديون مثل هوبز، له أثر ثوري، كما نرى في كتابه الليفياثان: "بالنسبة الى الجنيّات والأشباح الهائمة، فإنني أعتقد أن الرأي بشأنها يُعلّم ولا يُدحَضُ عن قصد، للمُحافظة على صدقية التعويذات ورسم اشارات الصليب والمياه المُقدّسة وغيرها من ابتكارات البشر المُرتبطين بالأرواح"(5)
بالنسبة الى فيلسوف يُعبّر عن البرجوازية، هذا هجوم جيد ضد ما قد يكون عدواً لما يُعبّر هو عنه، أي ضد الكنيسة.
بالتأكيد، نحن نعلم أن الفلاسفة العقلانيون في ذلك العصر بعيدين عن كونهم "ثوريين بروليتاريين" في أفكارهم الفلسفية والسياسية. ولكن لو افترضنا، أننا لا نعرف السياق التاريخي الذي أتوا فيه، وأردنا أن ننتقدهم، فلما لا ننتقدهم لعدم كفاية قطيعتهم مع العالم القديم، وتنازلاتهم للأفكار المُعادية للعقلانية (الأفكار حول الله)، وعدم اتساق ماديتهم، بدلاً من اتباع طريقة فيديريتشي في الهجوم على ما هو عقلاني عندهم؟
لا زلنا نعتقد مع فيديريتشي أن صيد الساحرات لعب دوراً في التراكم الرأسمالي البدائي، وبأن النظرة البرجوازية الى العالم، والى الانسان، ساهمت في توجيه الرأسمالية نحو ممارسة الفظاعات من أجل تكريس الاستغلال. ولكن فيديريتشي تختار، من أجل أن تدعم أُطروحتها المُعادية للعقلانية، أن تقتبس بشكلٍ شبه حصري من أكثر الفلاسفة العقلانيين ذوي التوجه المُحافظ في أوروبا. كم عدد الفلاسفة، من هيوم ولوك وديدرو وهولباخ وفولتير، الذين يتلائمون مع اطارها النظري؟ حتى الفيزياء النيوتونية، التي نشرت الفكرة القائلة بخلو العالم من القُوى الغامضة، لم تسلم من هجمات فيديريتشي. تتحول المادية النسوية التي تدعيها فيديريتشي الى نقيضها هنا: نسوية تُشكك بالعقلانية والعلم، وتُفضّل السحر والخرافات.
ان خوف المؤلفة من ازدياد السيطرة الاجتماعية ليس مُقنع أبداً، حيث تقول: " ان القوة المُلهمة للحاجة الى السيطرة الاجتماعية واضحة حتى في مجال علم الفلك. ان مثال ادموند هالي edmond halley (سكرتير الجمعية المَلَكية) هو كلاسيكي في هذا الصدد. فهو بالتزامن مع ظهور المذنّب الذي سُمّيَ باسمه لاحقاً، نظّم نوادي في جميع أنحاء انجلترا لاثبات امكانية التنبؤ بالظواهر الطبيعية، وبالتالي تبديد الاعتقاد الشائع بأن المُذنبات هي نذير لاضطراباتٍ اجتماعية"(6).
وبالتالي، فإن نشر المعرفة الفلكية بين السكان هو رقابة اجتماعية؟ هل تجد فيديريتشي من الأفضل والأكثر تحرراً احتكار المعرفة العلمية بين النُخَب الببرجوازية وتطويع الجماهير ونشر الاعتقاد بينهم أن هذه الظاهرة الفلكية أو تلك هي نذير عمل قوة الهية غامضة يجب أن يخضعوا لها؟

- التعامل الرومانسي مع المُجتمعات ما قبل الرأسمالية، وأمثَلة الاقطاع:
تُخبرنا فيديريتشي منذ بداية كتابها ص14، أن الهوية الجنسية تُصبح في المُجتمعات الرأسمالية "ناقلةً لوظائف مُحددة". ومع ذلك، تخصص المرأة في العمل المنزلي لم يُنشأ من خلال الرأسمالية الوليدة، على الرغم من أن الرأسمالية عززتها بشكلٍ واضح، الا أن هذا يعود الى المُجتمعات القديمة بعد انقسام المُجتمع الى طبقات. ولكن ترسم فيديريتشي صورةً شاعرية، ولكن مُضللة للعلاقة بين الجنسين في المُجتمعات السابقة على الرأسمالية.

- لا يُمكن استكمال أي نقد لفيديريتشي دون ذكر الفقرات القليلة التي كانت تنتقد فيها ماركس، وقبل كل شيء، تُظهر فيها رغبتها بإعادة النظر في مكان النظام الرأسمالي في التطور الاجتماعي. وهكذا تقول ص13، يبدو أنه لم يُمكن لماركس أن "يُفكّر في أن الرأسمالية قد عبّدت الطريق أمام تحرر الإنسانية لو أنه درس الموضوع من وجهة نظر المرأة". كان ماركس، من خلال الإشارة الى أن الرأسمالية تلعب دوراً تقدمياً في التاريخ، يود أن يؤكد أن هذا بسبب أنه سيُحسّن وضع العمال. استند فكر ماركس واشتراكيته العلمية الى فكرة أن الرأسمالية، هيأت المُجتمع البشري، لأول مرة، ومن خلال تطور قوى الإنتاج، لظهور الاشتراكية.
لكن فيديريتشي تفعل شيئاً آخر. بعد أن أوصت ص24 بتجنّب إضفاء الطابع المثالي على "مُجتمع القرون الوسطى العبودية" كنموذج للتنظيم الجماعي للعمل، فقد فعلت أكثر من ذلك بوصف نموذج "الشيوعية البدائية" على أساس انه كان يُمكن للبشرية على أساسه أن تقفز عن المرحلة الرأسمالية من تطورها، وهنا نجد منطق النارودنيين الروس. تؤكّد فيديريتشي أيضاً بجُرأة أنه كان يُمكن للنضالات البروليتارية في أواخر العصور الوسطى أن تنتصر دون المرور بالمرحلة الرأسمالية، دون أن تُخبر القارئ ما هو نموذج المُجتمع الذي كان سينشأ من هذه الانتصارات. تقول ص21،22: "كانت الرأسمالية هي الثورة المُضادة التي اختزلت الإمكانات التي فتحها النضال ضد الاقطاع الى صفر. هذه الاحتمالات، لو أصبحت واقعاً، كانت ستُجنبنا من الدمار الهائل للأرواح البشرية والبيئة الطبيعية التي ميزت العلاقات الرأسمالية في جميع أنحاء العالم". أما بالنسبة للفكرة الأساسية لماركس، أن الرأسمالية تُمثّل فيما يتعلق بالاقطاع شكلاً مُتفوقاً من الحياة الاجتماعية فهي بالنسبة لها ص22، "دوغما... لم تختفِ بعد". تتكرر هذه الفكرة في أماكن اُخرى أيضا. تقول ص64: "ليس من المُمكن مُطابقة التراكم الرأسمالي وتحرير العمال رجالاً ونساءاً، كما فعل العديد من الماركسيين... أو أن نفهم ظهور الرأسمالية على أنها لحظة تقدم تاريخية".
ما الذي ينبع من هذا؟ من ناحية، تُفقِر فيديريتشي آراء ماركس، سواءاً عن قصد أو بدون قصد، مما تجعله وكأنه يقول بأن الرأسمالية تحررية. ولكنها، من خلال ادعاءها الذي ليس له أي مُبرر، أنه كان من المُمكن لمُجتمعات العصور الوسطى أن تلد مُجتمعاً اشتراكياً، وأن الرأسمالية، من وجهة النظر هذه، لم تكن خُطوةً الى الأمام بل خُطوةً الى الوراء، فإن فيديريتشي تُلقي بالمادية التي تقول أنها تنتمي لها، خلف ظهرها. تتجاهل العلاقة الوثيقة بين أشكال الانتاج المادي والعلاقات الاجتماعية، وتتجاهل الفكرة التي تم تطويرها كثيراً المُتمثلة بأن الرأسمالية بما فيها من صناعة وتقدم في العلوم الوتكنولوجيا وخلق السوق العالمية وتركّز الانتاج، والتي تطورت لأول مرة، قد أرست الأساس للنضال من أجل مُجتمع أكثر عدلاً. تتجاهل أيضاً الفكرة القائلة بأنه بدون هذا التطور الرأسمالي، وإن بَقيَ المُجتمع في أشكال الانتاج ما قبل الرأسمالية، فإن قاعدة "من كُلٍ حسب حاجته" ستظل حبراً على ورق، وأن: "هذا التطور للقُوى الإنتاجية (الذي يتضمن سَلَفاً أن وجود البشر التجريبي الفعلي يجري على صعيد التاريخ العالمي، بدلاً من أن يجري على صعيد الحياة المحلي) هو شرط عمَلي مُطلق الضرورة، لأن الفاقه، التي تُصبح بدونه عامةً، ولا بُدَّ مع الإملاق من تجدد الصراع من أجل الضروريات"(7). ينبع من رأي فيديريتشي أن الرأسمالية لم تجلب الا الشرور، وأن المُجتمعات ما قبل الماركسية كانت أفضل.


*سيلفيا فيديريتشي 1967-... باحثة ومُعلمة وناشطة ايطالية-أمريكية تنتسب الى التراث الماركسي النسوي الراديكالي. استاذة فخرية في جامعة هوفسترا في نيويورك وأستاذة في العلوم الاجتماعية.
حصلت على درجة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة بوفالو، وعملت استاذاً مُشاركاً للفسلفة السياسية والدراسات الدولية في كُلية جامعة هوفسترا الجديدة. شاركت في تأسيس التجمع النسوي الدولي، ومنظمة لحملة فرض الأجور على الأعمال المنزلية في الولايات المتحدة عام 1973. ولها مؤلفات نسوية راديكالية عديدة.

1- https://www.faculty.umb.edu/gary_zabel/Courses/Phil%20281b/Philosophy%20of%20Magic/Arcana/Witchcraft%20and%20Grimoires/wichcrz.ht
ml

2- https://inews.co.uk/opinion/comment/the-long-and-underappreciated-history-of-male-witches-and-the-countries-where-more-people-accused-of-witchcraft-were-men-354563
3- https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=754979

4- اللفياثان-الأصول الطبيعية والسياسية لسُلطة الدولة، توماس هوبز، ترجمة ديانا حرب وبُشرى صعب، دار الفارابي 2011، ص31، 32
5- نفس المصدر، ص31
6- https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=754979
7- الايديولوجيا الألمانية، كارل ماركس وفريدريك انجلز، ترجمة فؤاد أيّوب، دار دمشق 1976، ص43



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانسان واغترابه
- الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد 2
- الحقيقة التاريخية: بُنيتها وشكلها ومضمونها
- انجلز والداروينية
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد 1
- قوانين الوضعيات التاريخية
- الحقيقة والقيمة
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- نهضت من الأنقاض: التاريخ الاقتصادي للاشتراكية في جمهورية ألم ...
- مساهمة في منهجية دراسة الثقافة ونقد مفاهيمها المثالية
- الماركسية ومسألة القيمة: مُقاربة نظرية
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة
- مُلاحظات حول معنى التاريخ
- الفلسفة الماركسية ومسألة القيمة
- مُبادرة يلا نتفلسف: هيا نُسخّف أداة من أدوات التغيير
- من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد ...
- حول مُشكلة ثورة العصر الحجري الحديث في ضوء البيانات الأركيول ...
- العلوم الطبيعية المُعاصرة والنظرة العلمية الى العالم


المزيد.....




- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...
- اعتقال عشرات المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في عدة جامعات أمريك ...
- كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في المهرجان التضامني مع ...
- ال FNE في سياق استمرار توقيف عدد من نساء ورجال التعليم من طر ...
- في يوم الأرض.. بايدن يعلن استثمار 7 مليارات دولار في الطاقة ...
- تنظيم وتوحيد نضال العمال الطبقي هو المهمة العاجلة


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - تلخيص كتاب (كاليبان والساحرة: النساء والجسد والتراكم البدائي) وبعض الملاحظات النقدية عليه