أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ريتا عودة - إلى أن يُزهر الصّبّار-رواية















المزيد.....



إلى أن يُزهر الصّبّار-رواية


ريتا عودة

الحوار المتمدن-العدد: 7372 - 2022 / 9 / 15 - 11:46
المحور: الادب والفن
    


إلى أن يُزهِرَ الصَّبَّار

ريتــــا عودة




رواية
2017






إهداء

إلى
حَتْمِيَّةِ التّاريخِ
التي عَلَّمَتْـنَـا
أنَّهُ مَهْمَا
اشْتَدَّ الليلُ حُلْكَةً
فإنَّ الفَجْرَ
لا بُدَّ آتٍ


الحكاية كما رواها:








(آدم)


1
العشق..ما العشق..؟ تراهُ تلك اللحظة الخالدة لالتقاء توأميّ الروح، حين يأتي كلٌّ من طريق ويذهب كلٌّ من طريق، أسير ذاكرة من رحيق، إنّما حرٌّ طليق.
أحدّقُ في الرّسالة. حروفها ليست ككلّ الحروف. هي فراشاتٌ ملوّنة.. ترفرفُ من حولي:
" ما زالَ آدم يبحثُ عن حوّائه هنا وهناك، دون أن يفطن أنّها داخل ضلوعه مقيمة. لا يكون العشقُ عشقا إلا حين تكتملُ الدائرة بعودةِ حواء إلى القفص الصدريّ لآدم.. حيثُ الحنان.. حيثُ الأمان."

*


كلماتُ رسالتها قبل أن نفترق معزوفة رقيقة شفّافة، لامست شغافَ قلبي. سأشقُّ صدري لأعيد حوّائي إليَّ. فمتى...؟
ألا تدري أنّها تسكنني..؟
حبيبتي ..
هي الوردة ُ التي أنا عطرُها.
من شرق ِ الشوق كما الحلم ِ أتتْ ، ومن غروبه مع المغيب غابت ولمّا تعُدْ.
*
ذات قدر .
رأيتها.
وقعتُ أسيرَ الدّلال في خطواتها.
غرقتُ في بحر أنوثتها.
لكنَّ الحبّ أتى أكبر من كلِّ القوالب، فاندلقَ .
كلّما كان الحبُّ أكبر.. كانت الغيرة أعنف.
تبادلنا الاتّهامات المعلَّبة.
أكلنا من أرغفةِ الحيرة وشربنا من مياهِ الغيرة، فأُصِبـنا بلوثة عاطفيـَّة انتهت بقرار أَبي طردنا من القصر. ثمَّ أَلقى بنا كلٌّ في بقعة لا يعرف واحدنا أين الآخر.
كم كانَ طقسُ الفراق باردًا مُبرقًا مُرْعِدًا مُوْحِشًا ..!
كم كان البحث عن "حوّائي" مُرهِقًا مُرعِبًا.













2

آه حبيبتي، وأنا أبحثُ عنّي وجدتُكِ. اقتحمتِ مملكتــي كما الشَّمس.صَادرَتِ الرَّتابَة، ووَقـَّعـَتِ على جَدْوَل العشقِ اليَومي.
لكن، في أوج انبهاري بكِ، نفذتْ صلاحيّةُ الحُلم.
غَلَتْ الغيرة فتبخَّرَ الحُبُّ بعدما وقعتِ ضحيّة وسوسة الشّيطانة ابنة عمّي. مِن قصرِه طردنا أبي. افترقنا.
كما بحثَ قيس عن ليلاهُ رحتُ أبحثُ عنكِ في كلِّ بقاعِ الأَرض لأعيدَكِ لقفصي الحُلمي، لكنَّكِ اختفيتِ. كما البُخَار تلاشيتِ. لم أَعثُر لكِ على أَثَر. ظللتُ أحلم بكِ. ما كففتُ يومًا عن عزفِ سيمفونيّة العودة. كيف لا، والحلم ُطاقةُ بقاء. أمَّا هؤلاء، العاطلون عن الحُلم، فما هم إلا توابيت بصمتٍ تسيرُ إلى المـَقابـِر.
كانت صدمة الفراق عنيفة، إذ كانَ حلمُ الحبِّ كبيرًا.
تراني أستطيعُ وسط هذا الفيض من الضباب والغياب والانتظار أن أجدَ طريقا مضيئا للعودة إلى رحم الحُلم.
للحلم بقيّة.
لا بدَّ أن تكتملَ دائرةُ العشق بعودةِ النّورس لشاطئه، والفارس لأميرةِ أحلامهِ، آدم لحوّائه، والطّبيعة لجمال زمن الحبّ الأول. فتعاليْ، نبرمُ معاهدةَ تعايُش سِلمِي، معَ أوجاع الذّاكرة. تعاليْ!





3

كمَا يَنـْسَـلُّ خيط ٌ من نـَسيج ِ حكاية، من حلمي انسللتِ.
كمَا تنسحبُ شمسٌ من كبدِ غواية، من أيامي انسحبتِ.
في جَرَّةِ الصَّبـر، جمعتُ رَمَادَ رفاتِ الهيَام وانتظرتُ نهاية ًأخرى للطوفـَانْ وأنا أتلهفُ لنفض خيوطِ العناكب التي ارتفعتْ كجدارٍ عازلٍ بيننا.

*

أيّتها الأنثى القصيدة التي تحرّضني على التّأمل، من قبلِ أن يكونَ نورٌ، كُنتكِ، كُنتني وكانَ الحُبُّ حارسَنا.
أيّتها الأنثى القصيدة التي تحرّضني على الأمل، مع كلّ طلعة شمس، أستقبلُ تراتيلَ البحر وطيفـَكِ الذي يأبى أن يغادرَ ميناءَ الحُلم.

*

في البدءِ، قلتُ للحُبِّ: "كُـنْ"، فكانَ الرّبيعُ والأراجيحُ والعُطور.
ظلَّ الشّوقُ شجرة تتوَقـَّدُ.. تتوَقـَّدُ . لا تحترقُ ولا تخـُورُ إلى أنْ وقعنا كفـأرَيْن ِهَرمَيْن ِفي مصيدة ِالظّنون، حينَ جَالَ الشيطانُ ينصبُ لنا الفخاخَ ويوسوسُ، يوسوسُ في الصُّدورْ .
ظننتِ أنَّ ذاكرتي مُزْدَحمة ٌ بأسرارِ نساءٍ وأزرارِ نساءٍ، فأعلنتِ رفضَ الانتماءِ ل"مدينةِ رُعبٍ" كهذي.

*
آهٍ حبيبتي، لِمَ يكونُ مساءٌ، ويكونُ صباحٌ، ويحصدُ الفلاحُ أرضـَهُ، وينسجُ صبيٌّ حلمَهُ، وتعشقُ أنثى هنا، وتنجبُ أخرى هناك، وتتناسلُ الخليقة وتكثرُ إن لم تعودي أنتِ ضلعة لصدري؟
ليتكِ إلى تربة الحلم، كحبّةِ قمح ٍتعودين. ليتكِ مع فراشاتِ الرّبيع تعودينَ، تجتازينَ الأسلاك الشّائكة للظّنون، رمادَ الذاكرة، تعبَ الانهيار، وتأتينَ لأعمِّدَكِ في نهرِ الانبهار.
*

آهٍ حبيبتي، في غيابكِ، الكلُّ كانَ إلى زوال. أحبُّكِ، ويتحالقُ الحبُّ ورقة ورقة على أوتادِ المسرَّة.
آهٍ حبيبتي، ترانا كأرجوحتـَيْن نكونُ، كلٌّ في اتجاه ٍستظلُّ تتمايلُ، وحتـّى حينَ تستقرّان ِ لن تلتقيا!









4.

كنتُ أنظر حولي فأرى كلّ ما في الطّبيعة من بهائم وطيور السّماء وجميع حيوانات البريّة اثنين اثنين، فأشتهي أن يكونَ لي معينًا نظيري.
وأتيتِ...
في حلم ٍ رأيتكِ، وحين فتحتُ عينيّ كنتِ قد تجسّدتِ.

*

سمعتُ صوتَا يقول:" ليس جَيِّدا أن يكونَ آدمَ وحده. فأصنعَ لهُ معينًا نظيرَهُ." .
فيما يرَى النّائم رأيتُ يدًا تأخذُ واحدةً من أضلاعي، وتملأُمكانها لحمًا، ثمّ تبني امرأتي من الضّلعَ التي أخذتها منّي، وأحضرتها إليَّ فقلتُ: " هذه الآن عَظمٌ من عِظامي ولحمٌ من لحمي. هذه تـُدعَى امرأة لأنـّها من إمرئ أخذتْ."

*
مع بزوغِ أولى أشعاعاتِ الشّمسِ على القصر أتيتِ.
فتحتُ عينيَّ وأنا أتحسّسُ موضعَ ألم ٍ في صدري.
لم أصدّق ما أرَى.
يا لبهاءِ طلـِّتك، يا لروعةِ حضورك، يا للأنوثة تُشْعِلُ الحرائقَ في دمي، يا لجاذبيّتك كأنّكِ مغناطيسٌ، وأنا قطعة معدنيّة تسيّرُها شحناتُ الدّلالِ في عُـرُوقكِ.
ضمَمْتُكِ إلى صَدري وأنا أهمسُ في أذنكِ: " أنتِ لي.".
وغرَّدَ صوتكِ: وأنتَ لي.
فاسترسلتُ: أسمّيكِ "حوَّاء" ، وأتوِّجُكِ ملكة على عرش أفكاري وحواسّي وكلّ ما لي.
*

تتالت أيامُ النّعيم ِ ونحنُ نسودُ على كلّ ما حولنا في قصر أبي، وحبّه يغمرنا بفرح لا ينطق، وسلام غير عاديّ. ثمَّ، سافرَ أبي في رحلة ٍمفاجئة وأوصاني أن أذكـِّرك بوصيته الغابرة في أن تمتدّ أيدينا إلى كلّ ما في القصر، إلا دُرْج المكتب في وسطِ غرفةِ المعيشة، لا تمتدُّ أيدينا إليهِ لأنّه لو امتدّت فسوفَ نُعَاقـَـبُ بالطّرد منَ القصرِ.
أنذرتكِ فلم تـــَـنبسي ببنتِ شفة، إلى أن أتتْ ابنةُ عمّي، تلكَ الأفعى اللعينة، وراحتْ تُوَسْوسُ لكِ أن لا أمانَ للرّجال، وأنّي أُخفي داخلَ الدّرجِ رسائل غراميّة.
قالتْ:" أحقًا قالَ عمّي لا تمسّا كلّ حاجيات البيت؟"
فقلتِ: "كلّ حاجيات البيت متاحة، أمّا الدّرج الذي في وسط غرفة المعيشة، فقد قال عمّي: لا تمسَّاهُ لئلا تُطردَا من القصر."
آهٍ حبيبتي، ليتكِ كنتِ تدرين كم تكرهكِ تلكَ الأفعى بسبب رفضي الارتباط بها. كانت تدبّرُ المكائد تلو المكائد للإيقاع بي، لكنّها لم تتمكّن منـّي يومًا لأنّني أنا الكلّ. لذلك أتت إليك، أنتِ الجزءُ المأخوذُ منّي، ولم تأتِ لي أنا.
- لن تُطردَا.
قالت تلك الأفعى اللعينة واسترسلتْ:
- عمّي عارفٌ أنّه في درج ذلك المكتب أوراق تخصّ زوجكِ، وأنّكِ لو قرأتيها، ستعلمين حقيقة "آدم".
ورأيتِ أنّ غموضَ ذلكَ الدّرج يستفزُّكِ؛ فاستشطتِ غضبِا، وعاجلتِ بفتحهِ.
تناولتِ الأوراقَ فقرأتِ. حينَ عدتُ للقصر، ناولتِنِـي الأوراقَ فقرأتُ.
انفتحتْ أعيننا فعلمنا أنّنا وقعنا في الفخِّ الذي نصبته لنا تلكَ الأفعى. غمرنا الخجلُ ونحنُ نقرأ وصيّة أبي في أنّ كلّ ممتلكاته لي ولكِ. عمّا قليل سنقفُ بمشاعر عارية أمامه. يا للخجل! رحنا ننسجُ الأعذارَ من أوراق تين التّوبة، ونصنعُ لأنفسنا مآزرَ من النّدم.

*

كنتُ في الحقلِ حينَ تسللتْ تلكَ الأفعى إليكِ. عدتُ فطالعني الشّقاءُ على ملامحِ وجهِكِ. أدركتُ أنّكِ مددّتِ يدكِ إلى الدّرج.
فجأة، وقعتُ في دوّامة من الأفكار والهواجس. تذكـّرتُ فترة ما قبلَ بزوغكِ شمسًا في حياتي. تذكـَّرتُ وجعَ الوِحْدَة وغُـربتي عن نفسي ونوباتِ الكآبة التي كانت تنهشُني. تذكـّرتُ حاجتي المُلحَّة إلى مَنْ تُؤنسُ أيامي وتُشاطرني أحلامي، فمددتُ يدي وقرأتُ.
آهِ حبيبتي، لقد أخبرتكِ بوصيّة أبي، لكنّكِ استسلمتِ لوساوسِ تلك الأفعى اللعينة. بسهولة، تمرّدتِ على مشيئةِ أبي... لم تثقي يومًا أن لا امرأة في حياتي سِوَاكِ. كانتْ ظنونُـكِ بي حالة مَرَضِيَّة. كنتِ دومًا تقولينَ أنّ الشكَّ بدايةُ اليقين، فأقول لكِ بل الشكّ سُوسٌ ينخرُ حبّنا.




5

سمعنا صوتَ أبي ماشيًا في الحديقة عند هبوب ِ ريح ِ النّهار، فاختبأنا من وجههِ في وسطِ شجرِالحديقة. نادَى أبّي:
- آدم أينَ أنت؟
قلتُ:
سمعتُ صوتـَكَ في الحديقة فخشيتُ. لأنـّني خجلٌ منـّكَ اختبأتُ.
سألَ:
- لمَ أنتَ خجلٌ؟ هل مدَدْتَ يدكَ إلى الدّرجِ الذي أوصيتـُكَ ألاَّ تمسَّهُ.؟
قلتُ:
المرأة التي جعلتها معي هي ناولتني الأوراقَ فقرأتُ.
سألكِ:
- ما هذا الذي فعلتِ؟
فأجبتِ:
• هذي الأفعى غرَّتني فقرأتُ.
وأشرتِ إلى ابنةِ عمّي. فقالَ لها: لأنـَّكِ فعلتِ هذا ملعونةٌ أنتِ. يضعُ الله عداوة بين نسلكِ ونسلي. هم يسحقونَ رأسكِ ونسلك ِ يسحقُ عقبَهم.
وقالَ لكِ: تكثيرًا يُكثرُ الخالقُ أتعابَ حبَلَكِ. بالوجع ِ تلدينَ أولادًا وإلى رجلكِ يكونُ اشتياقـُكِ وهو يسودُ عليكِ.
ثمَّ قالَ لي: لأنـَّكَ سمعتَ لقولِ امرأتِكَ، ومدَّدْتَ يدكَ للدّرج الذي أوصيتـُكَ قائلا لا تمسّهُ، تكونُ الأرضُ ملعونة بسببكَ. بالتّعبِ تأكلُ منها كلّ أيّام حياتك. شوكًا وحسكًا تـُنبتُ لكَ وتأكلُ عشبَ الحقلِ. بعَرَق وجهِكَ تأكلُ خبزًا حتـّى تعود إلى الأرض التي أُخِذتَ منها؛ لأنـَّكَ ترابٌ وإلى ترابٍ تعودُ.

*

هكذا طـُردْنـَا منَ القصر.
نادى أبي على الخـَدَم فأحكموا وضعَ منديل ٍحولَ عينيّ وآخر حولَ عينيكِ. انقبضَ قلبي وهُم يُلقون بكِ داخلَ شاحنةٍ ويُلقونَ بي داخل أخرى.
بعدَ ساعاتٍ من السّفر المتواصل والهواجس، فكـّوا الأصفادَ عن يديَّ. ساروا بي قليلا. ثمَّ، دفعوني بأيديهم من خلفي.
رحتُ أهوي.
أ
ه
و
ي
ومعي
ت
ه
و
ي
ذكرياتُ القصرِ.
أنتِ ..
نوباتُ ظنونُكِ المَرَضِيّ.
الأفعَى.
الإغوَاء.
السّقوطُ في الفَخّ.
الشَّقَاء.
ا
ل
ن
د
!

تطايرتْ ذاكرتي كأنّها أوراقُ تينٍ ذابلة تذرُوها الرّيح ومعها تــَـبَعْـثــَرَ سلامُ القلب.
منذ انفصلنا جسديّا وروحيّا عن قلبِ أبّي المُحِبّ، منذ استسلمنا لوسوساتِ تلكَ الأفعى فأعْلنَّا العصيانَ على مشيئتِهِ، وأنا في بحثٍ متواصل عنــّكِ.
آهٍ حوَّاء، أينَ أنتِ الآنَ حبيبتي؟
آهٍ أيّتها المعشوقة ُوالعاشقة.
العاطفة ُكرويَّة.
ذهبتِ غربًا وذهبتُ شرقـًا، لكن لا بدَّ يومًا أنْ.......... نلتقي.





6

تخلّصتُ من المنديل الذي حجبَ عنّي الرؤية لساعاتٍ. فتحتُ عينيّ فإذا بظلامٍ دامسٍ يكتنفني. أغلقتُ عينيّ وفتحتهما ثانية. كانَ النّورُ ضئيلاً، واكتسحتْ أنفي رائحة ُعُـفُـونَة.
بحلقتُ في العتمة فإذا بي أرى أجسادًا منحنيةً تتحرّكُ في كلِّ اتجاهٍ، ومنها من كادَ أنفُهُ يلامسُ ترابَ الأرضِ.
- أين أنا..؟
حشرجَ صوتي.
لم يُجِبني أحد.
- أينَ أنا .؟
ارتفعَ صوتي بحدّة، فأجابني كهلٌ مرَّ وقرفصَ بالقرب منّي في تلكَ اللحظة:
أنتَ هنا في قبضةِ الشّرير.
- ماذا!
هذي زنزانة كبيرة بحجمِ كوكب تُسمَّى "الأرض".
هنا الشَّقاااااااااء.
- لا أفهم.
بخنوعٍ قالَ:
إبليس رئيسُ هذا العَالم.
سيطرَ الرّعبُ على نبرةِ صوتي وقلبي وأنا أسأل:
- كيف؟ أليس سلطان الله أعلى من كلِّ سلطان؟
بلى يا بُنيَّ.
- إذن..؟
- الله محبّة. كما تحبُّ أنت ابنك، هكذا يحبُّ الخالقُ آدم ونسله. كما تشتهي أنت الأفضل لابنك، هكذا يشتهي الله الأفضلَ لكَ ولنسلك، مع العلم أنّه لا مجال للمقارنة بين محبّة الخالق للبشر ومحبّة البشر للبشر. أحيانًا يخيَّلُ إليَّ أنّ الله قلبٌ كبيرٌ لا نهائيّ الحجم، يحوي كلَّ قلوب البشر منذ بداية الخليقة حتى المُنْتَهَى.
سلطانُ الله أعلى من أيّ سلطان، لكنّ آدمَ تمردَّ فاستوجبَ العقابَ.
- قلتَ إنَّ إبليس رئيس هذا العالم، كيف..؟
- وُضِـعَ العَالـَمُ في الشّرير حينَ وقعَ آدم في الخطيئة.
- كيف؟ لا أفهم .
- في البدءِ، خطّةُ الخالقِ كانت ألاَّ يكون هنالك مرضٌ أو موتُ أو جوعُ أو أوجاع، حتّى أنّ طعامَ آدم كانَ من نباتِ الفردوس، كما جاء في سِفْـر التّكوين:
" إنّي قد أعطيتـُكم كلَّ بَقل ٍ يُبْزرُ بزرًا على وجهِ كلِّ الأرض، وكلَّ شجر فيه ثمَرُ شجَر يُبْزرُ بزرًا لكم يكونُ طعامًا."
وَضَعَ اللهُ آدمَ في جنـَّةِ عَدْن ليَعْمَلهَا ويحفظهَا. لفرطِ حبّهِ لآدم وهو الذي قالَ: " لذَّتي مع بني آدم". سخرّ لهُ كلَّ ما فيها. قالَ الله:" نعملُ الإنسانَ على صورتنا كشبهِنا، فيتسلّطونَ على سَمَكِ البحر وعلى طير السَّماءِ وعلى البهائِم، وعلى كلِّ الأرض وعلى جميع الدَّبـَّاباتِ التي تدبُّ على الأرْض". ومنحه القدرة على تسمية كلّ ما في الطبيعة من حوله، فقد جبلَ الرّبُّ الإلهُ منَ الأرض كلَّ حيواناتِ البريَّةِ وكلَّ طيور السَّماءِ، فأحضرَها إلى آدمَ ليرَى ماذا يدعوها، لكي يدرك قيمة كلّ مخلوق. كلُّ ما دَعَا بهِ آدمُ ذاتَ نَفْس حيَّةٍ فهوَ اسمُهُ.
وحينَ رأى آدم أنّ كلّ ما في الخليقة اثنين اثنين، تملكتهُ مشاعرُ الوِحْدَة .
لقد جعلَ اللهُ آدمَ يشعرُ بقيمة الاحتياج لأنثى تؤنسُ وحدته وتكونُ لهُ مَسْكنــًا: "فدعا آدمُ بأسماءٍ جميعَ البهائم وطيور السّماءِ وجميع حيوانات البريّة، وأمّا لنفسِهِ فلم يجد مُعينًا نظيرَهُ". وهكذا بدأ يحلم بأنثى تؤنس وحدته. وعلمَ الله أنَّ احتياجَ آدم لامرأتهِ قد اكتملَ فأوقعَ سُباتًا على آدمَ فنامَ. أخذَ واحدة من أضلاعهِ وملأَ مكانها لحمًا، وبنى الربُّ الإلهُ الضلعَ التي أخذها من آدم امرأة ً وأحضرها إلى آدم، فقالَ آدم: "هذه الآنَ عظمٌ من عِظَامي ولحمٌ من لحمي. هذه تـُدعَى امرأة لأنـَّها من امْرِئٍ أُخِذتْ." لذلك يتركُ الرَّجُلُ أباهُ وأمَّهُ ويلتصِقُ بامرأتِهِ ويكونان ِ جسدًا واحدًا.
- والشّرير،كيفَ أصبحنا في قبضتِهِ..؟
= كانت الحيَّة أحيَلَ جميع حيواناتِ البريّة التي عملها الرّبُ الإلهُ، فقالتْ للمرأة: "أحقـًا قالَ اللهُ لا تأكلا من كلِّ شجر الجنّة؟ " فقالتِ المرأة ُ للحَيَّةِ: "من ثمرِ شجرِ الجَنـَّةِ نأكلُ، وأمَّا ثمرُ الشَّجرة التي في وسطِ الجنـَّة فقالَ اللهُ: لا تأكلا منهُ ولا تمسَّاهُ لئَلا تموتا". فقالتِ الحيَّة ُ للمرأةِ: "لن تموتا!" بل اللهُ عالِمٌ أنـَّهُ يومَ تأكلان منهُ تنفتحُ أعيُنـُكـُمَا وتكونان كالله عارفـَيْنِ الخيرَ والشَّرَّ". رَأتِ المرأة ُ أنَّ الشّجرة َ جيِّدَة ٌ للأكل، وأنـَّها بهجة ٌ للعيون، وأنَّ الشَّجرة َ شهيَّةٌ للنظر، فأخذتْ من ثمرها وأكلت، وأعطتْ رَجُلهَا أيضًا معَهَا فأكلَ. فانفتحتْ أعيُنـُهُمَا وعَلِمَا أنـَّهما عُريانانِ، فخاطـَا أوراقَ تينٍ وصنعَا لأنفسِهمَا مَآزرَ.
- كيف يعقلُ أن نتوارث نحن خطيئة لم نقترفها؟
- نحن نتوارث نتائج الخطيئة الأولى. ألا تـُوْرثُ المرأة ُالحاملُ لجنينها أمراضها؟ إن كانت تعاني مثلا من "الايدز"، ألا يَرثُ الجنينُ "الايدز" أيضًا..؟
- لكنَّ رحمة َالخالق وسْعُ السَّماواتِ والأرض، فلماذا لم يسامحْ آدم وحواء على تلكَ الخطيئة.؟
- لأنَّ العقابَ لم يكنْ مفاجئـا فقد أنذرهما: "لا تأكلا منه ولا تمسَّاهُ لئلا موتـًا تموتـَا". ومع هذا أعلنا العصيان َعلى مشيئته، فوقع عليهما العقاب. أليسَ هو الإله العادل المستقيم الذي ليس فيه لفٌّ ولا دَوَرَانْ؟
- كان بإمكانه أن يغفر.
= عندما يُخطئ ابنك ألا تعاقبه.؟ أنت تُؤَدَّبه لأنّك تحبّهُ لا لأنّك تكرهه.
تخيّل أنّك تنذر ابنك بعقابٍ مَا إن سرقَ مثلا، فيعصَى أمرَكَ ويسرق. ألا تترك المحكمة تأخذ مجراها فتحكم عليه وتزجَّ به في السّجن..؟ بل، قد تسلّمهُ بنفسكَ للعدالة الأرضيّة بدافع تقويمِهِ. العقابُ ليس تعبيرًا عن الكراهية إنّما عن المحبَّة. أنتَ تعاقبُ ابنـَكَ لتأديبهِ وتقويم سلوكِهِ. لو افترضنا أنـّكَ أنذرتَ ابنـَكَ بعقاب ولم تعاقبه، ستفقد هيبتك أمامه كأبٍّ عادل ٍ جدير بالثقة وستُفسد أخلاقه.
- أيعقل أن يتركَ الأبُّ المحبُّ ابنـَهُ في السِّجن دونما رحمة.؟
- من قالَ أنـَّهُ أهمله أو تخلـَّى عنه..؟! لقد أعدَّ الله خطةَ الفداءِ
قبلَ تأسيسِ العَالَمِ، لأنـّهُ كلّي المَعرفة. عَرَفَ أنّ آدم سيقعُ في التّجربة وكانَ الفداءُ الكفاريُّ مُعدًّا مُسبقـًا.
- كيفَ؟ لا أفهم.
يا بُنيَّ، نحنُ هنا في سجن ٍ كبير ٍ بوسع الكـُرة الأرضيّة، ورئيسُ هذا العَالم هو الشّرير، لكنـّنا ننتظرُ المخلّصَ، وهو وحدهُ مَنْ يملكُ مفتاحَ هذا السِّجن. قريبًا سيأتي ليحرّرنا، يفـكَّ أسرَنا ويُعتقنا من العبوديّة ويسمّينا أولادًا.
-أولادٌ..؟! حاشا لله أن يكونَ له أولادٌ.
- بُنيَّ، حين تقولُ أنا "ابنُ" القاهرة ، هل معنى ذلك أنَّ القاهرة أنجبتكَ؟ لا..! هذا يعني أنـّك "من" القاهرة أو "تنتمي" للقاهرة. هذه ليست علاقة بيولوجيّة إنّما علاقة انتماء. هكذا نحن: سنكونُ أولادَ الله أي المنتمون له بالإيمان.
نهضَ ليغادر المكان. نظرتُ فإذا لباسه من وَبَرِ الإبلِ وعلى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ.
وهوَ يبتعدُ سَأَلتُهُ:
= ما اسمك؟
- يوحنا.
أجَابَ واختفَى خَلفَ التِّلاَل وظلّ صوته والصدى يملأ أذُنيَّ:
- قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ فَتُوبُواااااااااااااااااااااااااا..
تُوبُوااااااااااااا.. تُوبُوااااا..

*

انتظارًا انتظرتُ مُخلصًا يأتي ويُحرّرني من هذا السَّجن ِ البغيض. انتظرتهُ وصبرتُ له. رحتُ أهيمُ في الشّوارع بحثـًا عن حبيبتي حوّاء وأنا أداري عن العيون الفُضوليّة أوجاعَ الفقدِ. كانَت اللوعة تغمرُ روحي وأنا أجتهدُ أن أُخفِي دموعًا ظلَّتْ على مَدَى الأيّامِ تنسكبُ بحرقةٍ لاذعة. أحيانًا، كنتُ أقرفصُ تحتَ شجرةٍ من أشجارِ الزّيتونِ شاخصًا في اللاشئ ، يُحاصِرُني طيفُ حوّاء ويُثـْمِلـــني عِطرُ الذاكرة.
فجأة، تستيقظ ُ الكلماتُ، تنفضُ عنها الغبارَ وتتجسّد، فأناجي حبيبتي الحَاضِرة الغائبة:
- أين أنتِ أيتـُّها الأنثى الاستثنائية..؟ تراكِ قريبة منـِّي أم بعيدة..؟ تراكِ في هذا الكوكبِ أم في كوكب ٍ آخر..؟ تراكِ على قيدِ الحياة ِ أم ..؟
آهٍ يا غالية، كما أنَّ الطفلَ بعيدًا عن ثدي أمِّهِ لا يهدَأ أو يستريح وأيضًا لا يقنع أو يشبع أو حتـَّى يعيش، هكذا نفسي نحوكِ حبيبتي. بقربكِ راحتي، فلا تتأخّري في العودةِ إلى صدري.
لا تتأَخَّري..!
















الحكاية كما روتها:









(حياة)







1

المستقبل لأولئك الذين يؤمنون بجمال أحلامهم، وحلمي كان جميلا. من النّظرة الأولى أحببته، على عكس القول المأثور: "الذين أحبـّوا بقوّة، لم يحبـّوا من أول نظرة". أكاد أجزم أنـــّني من قبل النّظرة الأولى أحببته، فقد كان حلمَ كلّ فتيات الجامعة. حين كنّا نتجاذب أطرافَ الحديثِ عن "فارس الحُلم"، كانتْ كلٌّ منـّا تُصَرّح أنـّها تتمنّى "آدم" فارسًا لأحلامها.
*

على الرّغم من أنَّ ّزاوية الحبّ أتت حادّة، إلا أنـِّي أحبـَّبـْـتــُهُ وقرّرتُ أن أكونَ له الحبيبة الألصق من الأخ. لم يُخـْـفِ عنّي أنـّه فيما مضى كان على قيدِ عشق أنثى استثنائيّة تحملُ اسمَ: "حوَّاء". أخبرني عن نوباتِ الغيرة المجنونة التي كانت تعتريها. قالَ إنَّ الحبَّ كالقمر، له وجهان. الغيرة هي الوجه المُظلِم للحبّ. أخبرني عن هواجسها المَرَضِيَّة في كونِهِ على قيدِ حبّ مع أنثى أخرى، وأنّها ظلّت تفرض منعَ التّجولِ في أفكارهِ لأيّ أنثى سِوَاها إلى أنْ وقعتْ ضحيَّة وَسَاوسِهـَا.
انخدعتْ من الأفعَى، ابنة عمّهِ، التي ظلّتْ تدبّرُ لهما المكيدة تلو الأخرى؛ لكي ينفصلا وتنفرطُ حبَّاتُ عقدِ ذلك الحبّ الأسطوريّ. في نوبةِ غيرة مجنونة، تسلّلتْ تلك الأفعى من ثقبٍ في جدارِ ظنونِ حَوّاء. دخلتْ ثعالبُ الشَّكِّ وأفسدتْ بُستانَ العِشقِ. استشاطتْ المسكينةُ غضبًا وقد صدَّقتْ ادّعاءَ الأفعى في أنَّ آدم على علاقة مع أنثى سِواها، وأنـّها مسالمة ووديعة أكثر ممّا ينبغي لأُنثى أن تكون. أوقدتْ حطبَ الغيرة في دماغِ حوَّاء، حيث ساحة المعركة الرّوحيّة، ثمَّ ضربتْ الضّربة القاضية:
- عمّي عارف أن في دُرج ذلك المكتب أوراقا تخصّ زوجكِ، وأنّكِ لو قرأتِيها، ستعلمين حقيقة آدم.
رأتْ حوّاءُ أنّ غموضَ ذلكَ الدّرج يستفزُّها فعاجلتْ إلى فتحهِ.
تناولتْ الأوراقَ فقرأتْ، وحينَ عادَ آدم للقصر، ناولته الأوراقَ فقرأ هو أيضًا.
انفتحتْ أعينهما فعلما أنّهما وقعا في الفخّ الذي نصبته لهما تلكَ الأفعى. غمرهما الخجلُ وهما يَـقْـرَآن وصيةَ أبيهِ في أنّ كلّ ممتلكاته له ولها. ثمَّ، وقفا بمشاعر عارية أمامه وراحا ينسجان الأعذارَ من أوراق تين التَّوبة، ويصنعان لأنفسهما مآزرَ من النّدم.
سارعَ الأبُ بتنفيذِ العقابِ الذي توَعَّدَ آدم بهِ. نادى على بعض الخدم وأمرهم بطردِ الحبيبَيْنِ خارجَ أسوارِ القصرِ وحماية طريق العودة بلهيب السّيوف. قامتْ شاحنتان مدجّجتان برجالٍ جبّارين ذوي بأس شديد بنقل حوَّاء إلى بقعة ما بعيدًا عن القصر، ونقل آدم في شاحنة أخرى إلى بقعة ما بعيدًا عن القصر.
كان الفراقُ الذي دامَ سنواتٍ عِجَاف، إلى أن بزغتُ أنا شمسًا في حياةِ آدم، فأنرتُ كلّ خلايا اليأس بشحناتٍ من الأمل. اجتهدت ُ أن أكونَ له الغجريّة العاشقة، الحوريّة الحالمة، السنونوَّةُ العصيّة على الأقفاصِ واللبؤة الماهِرة. اجتهدتُ ألا أعاتبهُ على ذاكرة ٍ ليستْ للنّسيان. حوَّاءُ كانت عشقـَهُ الأوَّل، أمّا أنا فقد صِرتُ رفيقة حلمه، وأمُ ابنتيه: أحلام وأمل.
الحبُّ يجعلُ الزّمنَ يمضي، والزّمنُ يجعلُ الحبَّ يمضي. لا بدَّ أنَّ حبَّ حوَّاء مضَى من قلبِ آدم لا سيَّما أنـّه منذ انفصالهما عن أبيه، لم يعثرْ لها على أثر.
لم أشأ يومًا أن أستفسرَ عنـها كي أتفادى الوقوع في ذاتِ الوساوس القهريّة التي وقعتْ فيها حوَّاءُ راضيَةً مرضيَّةً. الثّقةُ المتبادلةُ، كانت وستبقَى الأساس المتين الذي بنينا عليه قصرَ حُـبِّنا.
لكن، ظلَّ هاجسٌ ما يؤرّقني:
ماذا لو عادتْ حوَّاء فظهرتْ في حياة ِ آدم..!















2


يقال إنَّ القلبَ هو الأرض الوحيدة التى لا يمكن أن تطأها قدمُ مغتصبٍ، أمّا قلبي أنا فقد قطفتـُهُ بيديَّ وسلمْـتـُهُ لآدم على طبقٍ من المحبّة المتبادلة والتفاهم.

*

هناكَ بين أروقةِ جامعةِ حيفا، التقينا. كنتُ في طريقِ العَوْدَة إلى النّاصرة حينَ اعترضَ آدم طريقي، وهو يناولني منشورًا. ألقيتُ نظرة سريعة عليه فإذا بالعنوان: " يوم الأرض" يلدغني بقسوة فقد تمَلَّكَني الخجلُ من التّعبير عن جهلي لما تعنيه هذه الكلمات التي صِرتُ أسمعها تتردّد كثيرًا في الفترة الأخيرة.
صافحني صوتُهُ الدّافئُ الذي امتازَ بنبرةِ الجرأةِ والإصرار:
- يا آنسة..
- "حياة".
- أهلين حياة.
- شكرًا.
- أنا "آدم" . أعتذرُ أنّني اعترضتُ طريقَكِ.
لكنْ لا يمكنكِ أن تغادري قبلَ مشاركة بقيّة اخوتك في وقفة الاعتصام بمناسبة الذكرى السَّنوية الثّالثة ليومِ الأرض.
على عجل، رحتُ أقرأ ما جاءَ في المَنشور الذي أعلنَ في الفقرةِ الأولى عن اعتصام أمام المبنى الرّئيسي للجامعة في تلك اللحظات بالضّبط. تابعتُ القراءة:

يُحْيـِــي الفلسطينيّون في الثّلاثين من آذار من كلّ سنة ذكرى يوم الأرض الذي تعود أحداثه لآذار 1976 ، بعد أن قامتْ السّلطات الاسرائيلية بمصادرة آلاف الدّونمات من الأراضي ذات الملكيّة الخاصّة أو المشاع في نطاق حدود مناطق ذات أغلبيّة سكانيّة فلسطينيّة مطلقة وخاصّة في الجليل.
على أثر هذا المخطّط قرّرتْ الجماهير العربيّة في الدّاخل الفلسطينيّ إعلان الاضراب الشّامل متحديّة، ولأوَّلِ مرة بعد احتلال فلسطين عام 1948، السّلطات الإسرائيليّة.
شَكَّلتْ الأرضُ ولا زالت مركز الصراع ولُبّ قضيّة وجودنا ومستقبلنا، فبقاؤنا وتطوّرنا منوط بالحفاظ على أرضنا والتّواصل معها، وكان يوم الأرض أوّل هبَّة جماعيّة للجماهير العربيّة، تصرّفتْ فيها جماهيرنا بشكل جماعيّ ومُنَظَّم، حَرَّكَها إحساسها بالخطر، ووجَّهَهَا وعيُها لسياساتِ المُصَادرة والاقتلاع في الجليل، خصوصا في منطقة البطوف ومثلّث يوم الأرض: عرَّابة، دير حنا وسخنين، وفي المثلث والنّقب ومحاولات اقتلاع أهلنا هناك ومصادرة أراضيهم. في هذا اليوم، الذي يعتبر تحوّلا هامّا في تاريخنا على أرضنا ووطننا.
معركة الأرض لم تنتهِ في الثّلاثين من آذار، بل هي مستمرّة حتّى يومنا هذا، ولا تزال سياسات المصادرة تطاردنا، والمخطّطات المختلفة تحاول خنقنا والتّضييق على تطوّرنا في المستقبل، لا بل إنّنا نمرّ بواقع مرير ومرحلة معقَّدة، تكثر فيها التّوجهات العنصريّة التي تسعى إلى نزع شرعيّتنا السّياسيّة وشرعيّة وجودنا، وليس فقط مصادرة أرضنا.
أعلنتِ الجماهير العربية، ممثلة بلجنة الدّفاع عن الأراضي العربيّة، أنّ الإضراب الاحتجاجيّ على مصادرة الأراضي في تاريخ 30.3.1976

*

انقبضَ قلبي، أنا المُغيّبةُ عمدًا عن المشهد السّياسيّ، تحرِسُني تعويذة ُأبي: "امشِ الحيط، الحيط، وقولي: يا ربّ السّترة"، وأنا نتاجُ عائلةٍ تأكلُ خبزَهَا بعَرَقِ جبينها ولا تتحدّث في الأمور السّياسيّة إطلاقا، وأنا الابنة البكرُ لامرأةٍ كلّما فتحتُ البابَ لتتلقّفنِي الحياةُ تُلاحِقُـنِـي توصياتُها:" بُوسِي يدِ الكلب وَإدْعي عليها بالكَسْر" .

*

كان آدم يتحدّث إليّ وأنا أواصلُ الاستغراق في لون الأشجار في عينيه، قامته الفارهة، ونبرة الاصرار في صوته الدّافئ. راحَ يحدّثني عن يوم الأرض ونبضاتُ قلبي تزداد تسارعًا، والعَرق يتفصَّدُ من جنباتِ جبهتي، والحيرة تضربُ أوتادا أوتادًا في رأسي؛ فأدور في حلقات مُفرغة، كلّما حسبتُ أنـّني خرجتُ من واحدة تتلقّفني أخرى.

*

كنتُ في المرحلة الثّانويّة حين واجهني سؤال الزامي في إمتحان المَدَنِـيَّات عن "منظّمة التّحرير الفلسطينيّة". سَرَتْ قشعريرة في جسدي. أعلنتُ عن أنيميا في مخزوني المَعْـرفيّ، وكنتُ قد أجبتُ عن الأسئلة الأخرى كلّها، ولم يبقَ إلا هذا السّؤال الذي انتصبَ أمامي كالصّخرة.
شعرتُ بضيق ٍ في التّنفـُسّ. تـُراني أسلّم الورقة وأعترفُ بجهلي فتأتي علامتي منخفضة كثيرا؛ بسبب نسبة العلامات المخصّصة لهذا السّؤال، وأنا التي اعتدت أن أجتهد لأحصلَ على المراتب الأولى في كلّ امتحاناتي؟
الهمهماتُ تتصاعدُ من حولي. الكلّ يتذمَّرُ من هذا السّؤال الذي أتانا من قمقم علاء الدين. سمعتُ صديقتي تقول: لا تجيبوا عن هذا السّؤال الملغوم. هذه الأوراق ستصل يد الشين. بيت.
مرّة أخرى، دفنتُ جهلي لمعنى الحروف ( شين. بيت) (المخابرات الاسرائيليّة) داخل تربة رأسي، وصبـَبـْتُ انتباهي على مُدرِّسُ المدنيّاتِ الذي اقتحمَ حيرتي باقتحامِهِ الغرفة. راحَ يشرحُ لنا معنى التّعبير( منظّمة التّحرير الفلسطينيّة) وأنا أسجّلُ كلماتِهِ حَرْفيًّا. قبلَ أن يغادرَ، سلّمته الورقة َوغادرنَا سويّا.
لم أدركْ معنى كون ذلك السّؤال ملغومًا إلا بعدَ شهورٍ، عندما حاولتُ الالتحاق بجامعة حيفا، فاكتشفتُ أنّ اسمي في القائمة السّوداء..! هكذا قالت (حَانَة) تلك المرأة اليهوديّة، حينَ شكَا لها أبي عن الظّلم الذي وَقعَ عليّ، فقامتْ بالاستفسارِ عن السّبب لدى المسؤولين.
يا للسّخرية!
تعويذاتُ أبّي وتحذيراتُ أمّي التي كانت تُرافقني كالمنِّ والسَّلوى، لم تكفلْ لي الحماية من هذا المصير الأسود. اجتهدتْ (حانة) في الإثباتِ أنـّها مُخلصة للعائلة، وكانت النّتيجة أنّهم سمحوا لي بالانضمامِ لدورة تقوية صيفيّة في اللغة الانجليزيّة قبل الالتحاق بالجامعة، فقمتُ بالالتحاق بالدّورة اضطرارًا لا اختيارًا. ثمّ، حصلتُ على إعفاءٍ فوريّ من الدروس من قِـبـَل مُدرِّسةِ المَوضوع. كيفَ لا، وأنا المُتفوّقة في كلّ مواضيعي الدّراسيّة، خاصّة اللغة الإنجليزيّة التي عشقتها منذُ نعومة ِ أفكَاري.

*

حاولتُ أن أشرحَ لآدم سببَ امتناعي عن المشاركة في أيّ نشاط سياسيّ داخل حَرَمِ الجامعة، لكنـّهُ لم يُمهلني. راحَ يسيرُ أمامِي وهو يَجذبني إليهِ، كما يجذبُ المغناطيسُ معدنـًا لا ينتمي إلاَّ إليهِ.











4

قبل أن يغيبَ القمرُ بقليلٍ، كما تدخلُ حبّة زيتون ٍالمِعْصَرَة، دخلتُ ساحة َالاعتصام، وقلبي المُثقل بمشاعر متضاربة كادَ يعزفُ سيمفونيّة العودة، لولا خشيتي أن يُفتضحَ أمْرِي.
خلفَ الأجساد البَضّة، تواريتُ. خلفَ نظّارتِي ذات الزّجاج الأسود واريتُ عينيّ، ورحتُ أراقب تحركات الجميع وقلبي يكاد ينفطر متوجسًا خطرًا ما يتربّصُ بالجميع.
وقفَ آدم كالأسدِ وراحَ يتحدّثُ عن سبب الاعتصام. رشقتهُ بنظراتٍ حالمة. لم أسعَ للَجْم ِمشاعري المتدفّقة نحوَهُ. كلُّ العشاق ، في البداية، متشابهون. مع الوقت، يتميّز العاشقان عن الآخـَرين حسب مدى التّقارب بين سماتِ شخصيـَتـَيْهما.
أنا أحبّ آدم بسبب التّوازن الملحوظ بين سماتِ الأمومة في شخصيّته وسماتِ الرّجولة.
كانَ آدم يتحدّث، وهو يرمقني بنظراتٍ حالمة وصوته العميق، الدّافئ يغسلُ تعبَ انتظاري. لقد أضاءَ خلايا كياني الدّاخلي بنور العشق. عينّايَ تبثّانه أشواقي البكر دونما وجل. الرّوحان تسموان، تغادران الجسد، تتلاقيان في فضاء المكان.. تتآلفان.
فجأة، أبصرتُ أيادٍ تمتدُّ حول عُنق آدم كما الأخطبوط. موجاتٌ من الإهانات والبصق والوعيد انهالتْ علينا، وشحنتْ هدوءَ المساءِ بالمرارَةِ والحِقْدِ.
شلّنيَ الفزعُ وأنا أبصرُ قطعةً معدنيّةً تنزلُ على رَأْسِ آدم، الذي استبسلَ في ردِّ ذلك الهُجوم الشّرس عنه.
- لاااااااااااا .!
صرختُ بأعلى صَوْتي، واندفعتُ إلى ذلك المَارد مفتول العضلاتِ، وانهلتُ بحذائي بالضّربة تلوَ الضّربة على رأسِهِ. لكَمَنِي على أنفِي فانتفض الدمُّ في عروقي. ثمَّ، فرَّ خلفَ التّلالِ مع اقتحامِ صفّارةِ إنذار الشّرطة المَكان.
دارتْ بيَ الدّنيا. تمايلتُ وسقطتُ فوقَ العُشبِ الأخضرِ، فوقَ أَرضِ الشَّقَاءِ.
*

عندما فتحتُ عينيّ، كانَ قد غابَ القمر، وكنا نهبطُ نحوَ البلدة القديمة في حافلة استدعاها رئيسُ الجامعة لنقلنا نحنُ (الطّلاب العرب) عائدينَ كالدّجاجِ آمنينَ إلى بيوتنا، بعيدا عن مكانِ الاشتباك بيننا وبين مجموعة الطلاب اليهود (المتطرفين) كما وَصَفَهُم.
راحَ صوتُ درويش الذي ارتفع من مذياع الحافلة التي كان سائقٌ عربيّ يقودها، يشحنُ القلوبَ بالتَّحدِّي:

سجِّل أنا عربي
سَلَبتَ كرومَ أجدادي
وأرضاً كنتُ أفلحُها
أنا وجميعُ أولادي
ولم تتركْ لنا ولكلِّ أحفادي
سِوَى هذي الصّخورِ
فهل ستأخذُها حكومتكمْ .. كما قيلا؟

إذن.. سجِّل..
برأسِ الصّفحةِ الأولى
أنا لا أكرَهُ النّاسَ
ولا أسطُو على أحَدٍ
ولكنني
إذا ما جعْـتُ آكلُ لحمَ مُغتصِبِي
حَذَارِ.. حَذَارِ مِنْ جُوعي ومِنْ غضَبي
حَذَارِ..
...
..
.
*
هكذا، أعلنتُ الثورةَ على ظِلِّي. هكذا، انتصرتُ على نِقَاطِ ضَعْـفي.
هكذا، انتفضتُ من تعويذةِ أبي:
" امشي الحيط، الحيط، وقولي: يا ربّ السُترة "،
وتحذيرات أمّي:
" بوسي يدّ الكلب وادعي عليها بالكسْر ".

*

حقًا، الولادة من رحم التجربة تمنحُ مناعة ضدّ الخوفِ وتعزِّزُ الثقة َبالنّفس. اليوم، أستطيعُ أن أعلن أنّني ولدتُ من جديد.


5

كلعبة ِالشّطرنج، هكذا هي الحياة، بفارقٍ واحد أنَّنا لم نعدْ ندري مَنْ يُحرِّكُ البيادقَ فوقَ رُقعةٍ كانت تسمّى (فلسطين).
ارتفعَ صوتُ جدّي من الذّاكرة وهو يترنّم بصَوتٍ أشبه بالنَّاي الحزين:

فلسطين.. فلسطين
شو شافتْ أيام حِلوين
أمّا اليوم مَسْكِينة
شُو تعبانِة وحَزينِة
رَبّي يسَاعِد
ربّي يعِيــن
هَالمَظْلُومِة :
فلس ... طيــــن

*

الحُـبُّ يجعلُ الإنسانَ العاديَّ شاعرًا والشاعرَ مجنونًا.
رويدًا رويدًا، فجرَّ الحبُّ داخلي الرَغبة في الحياة وفي المطالعة والكتابة وفي الاستماع للأغاني:

" إذا في هالدّنيا حبّ غالي، أكيد بيكون حبّي ليك. وإذا في شوق مُو عادي، أكيد يا عُمري شوقي ليك.لا تصَدِّق أعيش في دُنيا، حبيبي إنتَ مُو فيها."
*
لفتني قولٌ لأديب ٍعالمي اسمه غابريل غارسيا ماركيز:
- أحبُّـكِ لا لذاتكِ بل لِمَا أنا عليهِ عندما أكونُ بقربِكِ.
اكتشفتُ أنـّني أحبّ آدم لذاته، ولِمَا أنا عليهِ عندما أكونُ بقربِهِ.
فبقربهِ، كنتُ فراشة حالمة تتنقَّل من وردة لوردة، فتجذب الأنظار لألوانها ورفيفها. كنتُ سنونوة، ولم يكن آدم لي القفص، بل كانَ المدَى الرّحبَ لأجنحتي. راحَ يحثُّـني على التّحليق عاليًا حيثُ النُّسور وهو يُدَلِّلُني بعبارة:
- يليقُ بكِ التَّفرُّد.

*

مرّتْ الشّهورُ، ونحنُ صديقانِ حميمان. كنتُ أتشوَّقُ للحظة ِ ضَعفٍ عِشقِيٍّ يُسلِّمُني فيها مفتاحَ قلبهِ، وأعِدُهُ ألا أكون دليلة التي تكشفُ سِرَّ قُوَّتِهِ لأحد، ولا تغدر به لأيّ سببٍ كان.

*

كَانَ آدم يرافقني إلى كلِّ مكانٍ كأنَّهُ ظِلّي، مع هذا لم يأتِ اعترافه العشقيّ ممّا ألقاني في بَحْرِ الحيرَة.
كَان يأتي معي بعض المُحَاضَرات فيقومُ بتسجيل المحاضرة عنّي وبالمقابل كنتُ أحيانا أُرافقه محاضراته عن الفلسفة أو التّاريخ.
ذات مرّة، كان منهمكًا بتدوينِ إحدى محاضراتي حينَ أومأتْ اليهِ إحدى الطالبات اليهوديات الفاتنات تطلبُ سِيجَارة.
لا أدري لمَ نهشتني نيرانُ الغِيرَة وهو يناولها السِّيجارة لكنّي احتفظتُ بمشاعري لنفسي.
عندما كنتُ أحتاجُ كتابًا من مكتبة الجامعة كانَ يأتي معي ويساعدني في البحث عنه. كما وكان يرافقني الى سكرتيرتيّ اللغة الانجليزيّة أو الأدب المُقارن كلّما احتجتُ تسليم أوراق أو الاستفسار عن أمرٍ ما. كان يتحدّث عنّي فقد أجاد اللغة العبريّة . حدثَ مرّة أن قالت له السكرتيرة اليهوديّة:
= دعها هي تتحدث.
فأتحدث أنا لكن على مهل يضمن لي إسترجاع المُفردات من الذاكرة.
عندما كنتُ أعودُ مساءً للناصرة كان يرافقني ويجلس في الحافلة خلفي كي لا يُفتضحُ أمْرُ "صَدَاقتنا".
هكذا، كنّا نحيَا كالتوأم . الجميع يتعاملونَ معنا من منطلق أنّ حياة لآدم ، أمَّا آدم فلم يَبُحْ لي ولا مَرَّة بمكنوناتِ قلبِهِ مع أنني كنت أشعر أنني حبيبته.

*


على الرَابيةِ جلستُ أتأمَّلُ بحرَ حيفا، وأُداري قلقي بسبب انتهاءِ السَّنة الدراسيّة الجامعيّة، واضطراري للبقاء في النّاصرة، بؤرة المَلل، إلى شهر تشرين المُقبل.
كنتُ أبنِي قصورًا من رمالٍ فوقَ شاطئِ الأملِ حينَ اخترقتْ رائحة عطرهِ أنفي. ترَاخى فوقَ العُشب ِالأخضر بالقربِ منّي. لم تصبحْ قصوري فريسة لأمواج بحره الهائج.
ظلّت صامدة!
- ماذا تقرأين..؟
= نيتشة.
- آه نيتشة..!
رجلُ القوّةِ والجبروتِ الذي وقعَ في غرامِ امرأة سلَّمَهَا ضعفه قبلَ قُوَّتِهِ.
- تصوّر أنـّه هو الذي قال: عندما تذهب لامرأة اصْحَـبِ العَصَا معكَ..!
- وأنا، أكانَ لا بدّ لي أن أصحبَ العَصَا معي..؟
ابتسمتُ وأنا أحاولُ أن استدرجَهُ ليُحدِّدَ مَاهِيَّة العِلاقةِ بيننا:
- كان عليكَ أن تلْوي عُنقَ القِطّ منذُ لقائنا الأوَّل.
- حياة.
- نعم.
- أنتِ حياتي.
أنتِ رفيقة حلمي.
أنتِ أنا .

*

هكذا تدفَّقَ اعترافـُهُ العشقيّ، في لحظةٍ ظننتُها لن تأتي. كثيرًا ما تخيلتُ أنّي خيط ٌ كبقيةِ الخيطانِ في نسيجِ حياةِ آدم، وأنّه لن يلحظَ غيابي فيما لو نَفيتُ نفسي بعيدًا عن جزيرةِ أحلامِهِ.
كمَحَارَةٍ مسكونةٍ بأمواجِ صوتِهِ العاشق صِرْتُ. رُحْـتُ أسبحُ في بَحْرِ العِشْقِ، أعلو معَ أمواجِهِ وأهبطُ وأعلنُ لذاتي أنَّني:
"أحيـــــــــــَــــــــــا".

- حياة.
ناداني صوتُهُ.
نزلتُ من سقفِ الحُلمِ وهو يهمسُ في أذُنِـي:
- كانت لي حبيبة اسمها "حوَّاء".
كانت عِشقي الأوَّل وامرَأتي.
وافترقنا في ظروفٍ خارجة عن إرادتنا.
بحثتُ عنها طويلا.
بحثتُ في كلّ بقعة محتملة في أَرْضِ الشَّقَاءِ هذهِ ولم أعثرْ لها على أثر.
صمتَ.
انبثقَ طيفُها من موقدِ الذّاكرَة.
انتصبتْ بيننا كأنثى لا من طِين إنـّما من مُفردات.
نبرةُ صوته، أكانَ فيها حنين إليها، أم دعوة للنّسيان..؟
أكانتْ هي سبب اعترافِهِ المؤجَّل..؟
قرّرتُ أن أنسى ما هو وَرَاء، وأنا أقتربُ من حُلمهِ، لننصَهِرَ معًا في بوتقةِ الزّمنِ.
سألته:
- ماذا لو عادتْ حوَّاء فظهرتْ فجأة في حياتك..؟
- لن تجد إلا....
صمتَ . تابعَ:
- الاحترام.
= آدم..!
- نعم..؟
= أحبّكَ..
- وأنا أعشقكِ يا ( وشدّدَ على كلمة):
"حَيَـاتــــِــي".

*
إلى صدرِهِ ضَمـَّـنِي، وكانت المرّة الأولى التي يَضُمّني فيها إليهِ. شعرتُ أنـّني تلك الضّلعة الشَّاردة التي تعْرفُ طَريقَ عَوْدَتِها إلى صَدْرِهِ، حيثُ الحَنَان، حَيثُ الأمَان.


















6

قارورة ً في دُرْج الأيام كنتُ، إلى أن مرَّ بي آدم وحرّرَ من العتمةِ عطري. كان يُؤمنُ بمنطقِ تنميةِ أجنحتي. حثَّـّني على الكتابة وتحرير خواطري من العتمة. رحتُ أقرأ بنهم، فقد اعتقدتُ أنّ وراءَ كلّ أديب جيّد، قارئ نهم. بدأتُ أنشر كتاباتي في الصّحف، خاصّة أنّ تجربتي مع الحياة صارتْ أكثر خصوبة منذ لقائي بآدم، الذي لم يتوانَ عن إثراء مخزوني المعرفيّ بخبراته الحياتيّة. هذا بالإضافة إلى الخصوبة الأدبيّة التي حصلتُ عليها من دروس الأدب المقارن وآداب اللغة الانجليزيّة، فقد بدأتُ أتتلمذُ على أيدي أهمّ الأدباءوالشّعراء المعاصرين ك: أ. ب. يهشوع وناتان زخ.
رحتُ ألتهمُ الكتبَ التهامًا. وأُنْصِتُ في المُحَاضَرَات بلهفة، وكأنّني أشاهدُ فيلما مثيرًا. تفوّقتُ في كلّ واجباتي الجامعيّة.
استهواني فنُّ القصّة القصيرة، خاصّة وأنا أمتثلُ لدورة نهائيّة بعنوان: "كتابة إبداعيّة"(Creative Writing) والتي تمَّ قبولي فيها، بالإضافة ل عشرة طلاب آخرين، بناءً على مقابلة مع المُحاضر الذي مرّرَ الدّورة، وكان شرطُها أن يجيدَ الطّالبُ فنَّ الكتابة.
كانت الدّورة أشبه ما يكون بورشة عمل إبداعيّة. قبلَ كلّ لقاء، يعطينا مُهمَّة أدبيّة لإنجازها. أوّل لقاء لي معه، كان عندما طلب من كلّ طالب كتابة كلمة ما على قصاصة ورقيّة. قام بجمعِ القصاصات وخلطها، ومرّ كلُّ طالبٍ فاختارَ ثلاثة قصاصات بشكل عشوائيّ. ثمّ، طلب منـّا كتابة قصيدة صغيرة جدًّا من هذه الكلمات الثلاثة. شرحَ لنا أنّ هذا التّمرين الأدبيّ يحرّرُ الخيالَ من الأفكار المُسبقة، ويحرّر المفردات من قيودها وهالاتها، ويطلقُ العنانَ للتخيُّل.
حصلتُ على الكلمات: شجرة، طير، بكاء.
كتبتُ:

غردَّ العصفورُ،
فبكيتُ.
أمّا الشَّجرة
فظلَّتْ صَامتة.

*
استهواهُ (صمتُ) الشّجرة ، فأخذ يتناقش مع بقيّة الطلاب عن دلالاتِ ذلك الصَّمت .
هكذا، تبلوَرَ لديّ شغفٌ لكتابةِ القصيدة القصيرة جدًّا، قصيدة الوَمْضَة أو الشذرة.
أذكر أنـّه حدّثنا مرّة عن أنواع الشّخصيات في القصّة القصيرة. ثمّ، طلبَ منـّا انتقاء شخصيّة ما تثير فضولنا فنتابعُ تحرّكاتها، أقوالها، وردود فعلها ثمّ نكتب قصّة ما عنها.
قرأتُ على المجموعة قصّة " الفستان الأحمر" والتي كتبتها باللغة الانجليزيّة بناءً على طلب المُحاضر في كتابة قصّة بطلها غير عاديّ. لاحقًا قمتُ بترجمتها للعربيّة. كانت تلك تجربتي الأولى مع كتابة القصّة القصيرة.
سادَ هدوءٌ غريبٌ جوّ الغرفة وأنا أقرأ قصّة "الفستانُ الأحمر":



استوقفتني إحْدَى جاراتِنَا على بابِ المَنزلِ وهي تتساءَلُ: "إلى أينَ؟"
حَدّقْتُ في الأفُقِ البَعيدِ، وهمسْتُ: "لا أعلَم"، وأخذْتُ أبتعِدُ وصَدَى صَوْتِهَا يُلاحِقُنِي بإصْرَار: "فتَاة غريبة!"
بدأتُ أعبُرُ الشَّارعَ الفَاصِلَ كَحَدِّ السَّيْفِ بينَ الحيّ العربِي المُهمَلِ عبرَ سنواتِ الجفافِ والحيّ الآخَر المزْروع بالجَنّةِ. خطواتِي مُتَثاقِلَة كسلَى. صرخَ أحدُ السّائقين الّذي كادَ يَدْهَسنِي بشاحنتِهِ الضَّخمَة: "عَمْياء. الضَّوءُ أحْمَر!"
لمْ تُثِرْ صرختُهُ انفعالي، لكنَّ قميصَهُ الَّذي دلَّ على كونِهِ جنديًّا أثارَ فضُولِي، فبدأَتْ تتراقصُ في ذاكرتِي صُوَرُ أجسَادٍ مَبْتُورَة، وبيوتٍ مُهَدَّمة. دمُوعٌ، هلعٌ، دَمٌ. صُوَرٌ تُطَالعُنَا بِها النَّشراتُ الإخباريَّة كلّ يوم، بل كلّ ثانية، حتّى أنّها صارتْ جزءًا أساسًا من كلّ نشرَة.
مرَّتْ بِي شاحنة مُزدحمة بالرّجال، فتملّكني هاجسُ عَدِّهِم. بدأتُ بالعدِّ كطفلة تعلّمتْ لتوِّها الأرقامَ الحسَابيّة: جُنْدي، جُنْديّانِ، ثلاثَةُ جُنُودٍ، أربعَة، خَمْسَة. تَلَقّفَ أنفي رائحَةُ طعَامٍ مَا. فكرْتُ باقْتِحَامِ المكانِ، لكنّي أحْجَمْتُ حينَ تذكرّتُ أنَّ ملابسي العاديَّة لا تتناسبُ والملابس الفاخرَة على أجسادِ هؤلاء، فواصلتُ سيري، وبدأتُ بقراءَةِ الإعلاناتِ المَصْلُوبَة على أعمدةِ الكهرباءِ: "حافظُوا على نظافةِ المدينة. بلديَّة حيفا".
ابتسمتُ ابتسامةً شاحبة، وتمَنّيتُ لو ألتقي ثانية بذلكَ الجندي الّذي صرخَ في وجهي إنَّ الضَّوءَ أحمر، لأسألَهُ إن كانت المدينة حقًّا نظيفة.
تنازلتُ عن الفكرَة سريعًا، وبدأتُ بالتّنْقيبِ عن شيء ما بإمكانِهِ إشْغالِي نصفَ السَّاعة المُتبَقِّيَة على ابتداء مُنَاوبَتِي المسائيَّة في معمل النسيج.
جذبَ انتباهي لونٌ أحمرُ لفُستانٍ ما على دُمْيَة. رغمَ المسافة بيننا، رأيتُ المرْأةَ منهمكةً بوضْعِ الثَّوبِ على جسَدِ الدُّمية. ركضْتُ نحْوها، فَقَدْ جعلَ اللَّوْنُ الأحمرُ دَمِي يَجْري بشراسة فِي عرُوقي. إنَّهُ أحمرُ، لكنّه غريبٌ.. غريبٌ جدًّا.. أرْبَكَ أفكاري.. دَوَّخَنِي.. حدّقتُ بهِ وتُهْتُ. كم أحسدُ تلكَ الدُّمْية الصَّامتة الّتي تَفْتَقِدُ مشاعرَنَا الإنْسانيَّة، إلاّ أنّها "تَتَمَتّع" بمَا يَنْقُصُنْا نحنُ! تمنّيتُ لو أتمكن منْ وضْعِ الثَّوْبِ الأحمر على "جسَدي أنا"، بدلَ هذه الثِّيَاب البالية الّتي فقدَتْ رونقَها منذُ زمن!
دونما تفكير، كأنّي أستفيق من حُلُمٍ، دفعتُ جسدي داخلَ الغرفة، وطلبتُ منَ العامِلة أنْ تُنَاولَني ذلك الثَّوبَ الأحمرَ لأرتَديهِ. تَفَحَّصتْ هيَ ثيابِي بنظْرَةٍ خاطِفَة، ثمَّ أعلنتْ ببرُودٍ وبلَهْجَة عربيَّة ثقيلة: "دَه غَالي!"
شعرْتُ أنَّ جدرانَ الغرفة تدورُ منْ حولي، فسألتُهَا بلهفة: "كَمْ؟"
همستْ ببرود: "ألف".
ألف! دَوَّى هذا الرَّقمُ داخلَ رأسِي، فصارَ رأسي كخَلِيَّة نَحْـل مُضْطَربَة. يجِبُ أن أشتري هذا الثَّوب. يجبُ، ولَوْ مَرَّة، أنْ أحصل على شيءٍ أتمنّاه! سأدفع لهَا ما يُعادِلُ نصفَ راتِبي، بَلْ أكثر. ليتنِي ما كنتُ عاملة في مصْنَع. لو كنتُ مُتَعَلّمَة كغَيْري منَ الفتيات، لتَقَاضَيْتُ مَبْلَغًا لتسديدِ احتياجاتي أنا وأهلي وإخوتي الثمانيَّة، الّذينَ ينتظرونَ راتِبي كلَّ شهر بفارغِ الأمَل. حسنًا. سأطلب من (يوسِي) أن يُرَتّب لي ساعات عمل ليليّة لتحسين راتبي في الأشهر القادمة.
فتحتُ الحقيبة، وتناولتُ المبلغَ، ثمَّ بسَطْتُ ذراعي وعلى راحةِ يَدي ألفُ شَاقِل.
ابتسمَتِ المرأة بإعياء ولمْ تتناوَل المَبْلَغَ. ابتسامتُهَا الصَّفراء شلَّتْ حواسّي. بعثرَتْ هدوئي. قالتْ: "ألف دولار"، وَاستدَارَتْ لِتُحَيّي امرأة تَلفُّ جسدهَا بالفِرَاءِ دخلت الغرفة تلكَ اللّحْظَة كمَا تدْخلُ السَّمَكَةُ البَحْرَ.
حملقتُ في كلّ ما حولي. تراختْ شفتَاي. خرجتُ منَ الغرفة بخُطُواتٍ مُخَدَّرَّة. لا أدري لمَ في تلكَ اللَّحظة بالذات، تمَلّكَتْني رغْبَةٌ جامحة في أنْ "أبصِقَ"!

*

احتدمَ النّقاش بين أفراد المجموعة حول جملة القفلة: " قررتُ أن أبصق".
قبل أن أغادر تلك الغرفة المطلّة على بحر حيفا، ناداني المُحاضر، وهو شاعر أمريكيّ الأصل من خلفية يساريَّة، وقال لي: "أنتِ موهوبة".
في اللقاء التالي افتتحَ اللقاءَ بي . طلب منّي أن أقرأ قصيدة:"تمَهَّل" التي كنت قد قمتُ بكتابتها بخطّ يدي ونسخها بواسطة ورق الكربون وتوزيعها على صناديق بريد الطلاب والمُحَاضِر قبل اللقاء مع قصائد أخرى. قرأتُ:


تَمَهَّلْ...
تَمَهَلْ...
أَیُّهَا الجُندِیُّ
المُدَجَّجُ بالحِقدِ
والمَدَافِعِ والبَنَادِقِ
وشَتَّی
أَسَالیبِ القَهْرِ

تَمَهَّلْ...
تَمَهَلْ...
قَبلَ أَنْ تُصَادرَ
هُویاتِ العَنَادِل
قَبلَ أَنْ تقتنصَ
أُغنِیَاتِ البلابِل
قَبلَ أَنْ
تَقتَلِعَ الزیتوناتِ
مَن جُذورِهَا
وتخنِقَ الأُمنِیَاتِ
فی مِذوَدِهَا

تَمَهَّلْ...
تَمَهَّلْ...
ثِمَهَ ظِلّ خَلفِکَ
یُطَارِدُکَ...
وَأَمَامَکَ
طِفلٌ
عَاریَ الجَسَدِ
حَافِیَ القَدَمِ
مُتَسَربِلٌ بالتَّحَدِّی
یُربِکُکَ... یُرعِبُکَ
بِحَجَرٍ فی یَدِهِ

تَمَهَّلْ...
تَمَهَّلْ...
لِئلا یلمَحَ الصَّغِیرُ
فی عَینَیکَ
أَشبَاحَ الرُّعْـبِ
فَیُدْرِکُ أَنَّهُ حُرٌّ
وَأَنَّکَ مَسْجُونٌ
فِی مَخَاوِفَکَ
مِنَ التَّاریخِ
اذَا مَا دَارَتْ
عَجَلَتُهُ
...
تَمَهَّلْ!


وطلب منّي أن أقرأ بقيَّةِ قصائِدي قبل أن يُفسحَ مجال النِّقاش. امتلأتُ بالثقة بالنفسِ وبشموخٍ قرأتُ:



عَلَى ذَاتِ المقْعَدِ
حَيْـثُ هَمَسْتَ قبلَ سَنَةٍ
في أُذنِي:
(أُحِبُّكِ ...كُونِي لِي)
.
.
الآنَ.. الآن..
عَلَى ذَاتِ المقْعَدِ
جُنْدِي وَبُنْـدُقِـيَّـة

*

ثمّ قرأتُ قصيدة: "أريدُ أن أحيَـا":


أُريدُ أَن أَستيقِظَ
مَعَ الفَرَاشَاتِ
لأَهيمَ على وَجهِي
في الحُقُولِ
سَاعاتٍ وَسَاعَات

أُريدُ أَن أُشَارِكَ
الفلاحينَ
في زَرعِ بُذُورِ
الأُمنيات

أُريدُ أَن أَحيـَا:
أُريدُ أَن أُصغِي
لِصَوتِ قَطَراتِ المَطَر
وَهِيَ تُعَمِّدُ العُشبَ
والشَّجَر

أُريدُ أَن أُفَاوِضَ
الطُّيُورَ
على أَجنِحَتِهَا
والنَّايَاتِ
على نَغَمَاتِهَا

أُريدُ أَن أُحَلِّقَ
أَعلَى
مِن كُلِّ النُّسُورِ
أُريدُ أَن أُغَنِّي
أَفضَلَ مِنَ العَنَادِلِ
وَشَتَّى أَنوَاعِ الطُّيور

أُريدُ أَن أَنتَهِرَ
جَرَادَ الظَلاَم
وَكَأَنبِيَاءِ العَهدِ
القَديمِ
أَدعُو للوئَامِ
بينَ الأَنَام

أُريدُ أَن أَفعَلَ
أَشيَاءَ عَديدَة
عَ د ي د ة
لكِنَّ ..
صَوْتَ طَلَقَاتٍ
نَارِيَّة
بَعيدَة
ب ع ي د ة
يُشَوِّهُ
كُلَّ أَحلامِي

ثمّ طلبَ منّي أن أقرأ قصيدة: " صرخة لا محلَّ لها منَ الإعراب" فقرأتُ:


الى متى
يظلُّ الإنسانُ الصادِقُ
ضميرًا مُستَتِرًا
وتظلُّ الأَقزامُ
المُشَبَهَة
بالأَفعالِ
تنصِبُ وترفعُ
مَا تَشَاءُ
متى تَشَاءُ ..؟!


هكذا اختلطَ الحابلُ بالنابلِ. فهنالك من ناقشَ القصائد من زاوية أدبيّة بحتة وهنالك من ناقشها من زاوية سياسيّة بحتة. لكنني منذ ذلك اللقاء أصبحتُ نجمة في سماء المجموعة وراح هو ينتقيني دومًا لأقرأ نصوصي ويعطي المجال لمناقشتها معهم ممّا أثرَى تجربتي الأدبيّة.

*

كنّا نلتقي مرَّتينِ في الأسبوع: يوميّ الأحد والأربعاء مساءً. نجلسُ في دائرة كبيرة نقرأُ وبعدَ القراءة يحتدمُ النّقاشُ الكفيلُ بصقلِ تجربتنا الإبداعيَّة وتقليمِ الشَّوائبِ.
التحقتُ بدورة عن الــ "هايكو"(haiku)، تلك القصيدة اليابانيّةِ الأصل والتي لا تتعدّى ثلاثة سطور، وتحتوي على صورتين شعريّتين، حيثُ العلاقة بين الصّورة والأخرى، هي سرّ نجاح تلك القصيدة .
فتنني هذا الفنّ، لكونه يتطابق مع شغفي بكتابة قصيدة الومضة. أدركتُ أنّ قصيدة الهايكو تستوحي صُوَرها الشّعريّة من (الطّبيعة ) بأشجارها وطيورها وبحارها وورودها ومنها نتعلَّم عن (الطّبيعة البشريّة) بخفاياها.
مراقبة الطّبيعة من حولنا كفيلٌ بإضاءة بؤرة ما داخل طبيعتنا البشريّة.
"إن أردت أن تفهم سرَّ الشّجرة ، اذهب إليها".
هكذا قالَ المُحاضر نقلا عن الشّاعر اليابانيّ المشهور "باشو"(Bashoo) وأردفَ:
" الطّبيعة تَخْلِق ونحنُ نُفَسِّر"
(Nature creates. We interpret.)

صارَ التَّأملُ اليَومِيُّ عُنواني. رحتُ أراقب كلّ ما في الطّبيعة عن كثب، وأنا العاشقة الأزليّة للطّبيعة، كي أستنتجَ شيئا ذا مغزى عن الطّبيعة البشريّة.
كتبتُ الهايكو فأجدتُ الكتابة وحصلتُ لاحقًا على المرتبة الأولى أكثر من مرّة في مسابقات على مستوَى العَالَم لكتابة الهايكو:

" سماءٌ صافية-
طائرة ُ ورق ٍ تطيرُ
أعلى من خيطها"

كانت هذه قصيدة الهايكو القنبلة التي لفتتْ انتباهَ كلّ من قرأها. راح الكلّ يناقش المعنى الدّلاليّ للخيط والطائرة. في نهاية الدّرس قلتُ: أنا أرى نفسي هذي الطّائرة التي تسعى للتّحليق، فترتفع عمدًا فوقَ كلِّ خيطٍ قد يشدّها للأسفل. هذا الخيط قد يكون المجتمع القادر على أن يكبِّـلني بقيوده، أو يدفعني للسّمو. من داخل المجتمع أنطلق، يظلّ المجتمع يغذّيني بالأفكار والمبادئ فأسمو وأحلّق.
قد يكون الخيط الأهل أو الزوج أو أيّ شخص أو عنصر ما من المحتمل أن يشدّني إلى الأسفل، لكنّني أجتهد أن أرتفع فوق الخيط لأحلّق كما النّسور التي تعرف كيف تستغلّ العاصفة لتُحلِّق. أسيطر عليه ولا يُسيطر عليّ. أقودُهُ ولا يقودُنِي.
ثمّ أخذتُ هذه القصيدة خطوة أخرى نحو الخَيَال فكتبتُ:

ريحٌ خفيفة-
لم يبقَ من طائرةِ الورقِ
إلاّ خيطها

وحصلتُ على المرتبة الأولى على مستوى العَالَم مرّة أخرى عن هذه القصيدة التي عَبَّرتُفيها عن تحرر الطائرة(المرأة) من خيطها (قيدها) من خلال قصيدة صغيرة بحجم (نملة)، فجاءتْ (رؤيا) تخصّ الأنثى المُحلِّقة التي لا تعوقها خيوط ولا رياح ولا قيود؛ كي تحقّق ذاتها وتكون سيِّدَة قراراتها.


*

منذ نعومة حبري، كانت نصوصي مُلفتة للأنتباه، تلك التي كتبتها كوظائف جامعيّة، وتلك التي نشرتها في الصّحف المحليّة.
بدأتُ أعزّز ثقتي بتجربتي الابداعيّة. رحتُ أخلقُ عوالمَ في قصصي القصيرة. أنقّبُ عن شخصيّاتٍ مسحوقة، غير اعتيادية لأكتبَ آلامها. صارتْ الكتابة التي تفضح العتمة، الكتابة الملتزمة بقضيّة هي غايتي،فقد أدركتُ أنّ الكتابة مسؤولية نحن انبياؤُها.
قضيتُ سنوات من طفولتي أكتب الخواطر وأخفيها عن عين الرّقيب (أبي) داخل عتمةِ جارور المكتبة.
ظللتُ أقرأ بنهم، وأكتب وأخلق شخصيّات يتماهى معها القارئ، فتثيرُ فضوله ليعرفَ ما حصل معها من خلال حبكة القصّة.
إلى أن جاء يوم، عثر فيه والدي على "دفتر مذكّراتي" الذي كنتُ أواريه خلفَ كتبي في الجزء الأسفل من المكتبة أُدوّن عليه يوميات عشقي.
جُنّ جنونه وانتظرَ عودتي من الجامعة بتحرّق.
كيف لا، وأنا الابنة المسيحيّة أبًا عن جدّ، التي ستجلب العَار على العائلة، بعدما وقعتْ في عشق ِ شابٍ مُسلم..!





















7

الخَوْفُ..!
هذا الماردُ الذي خرج فجأة من القمقم ليتحدّاني.
هذا المارد الذي إن لم أقوَ عليهِ سيقوَى عَليّ.
ها أنا أعلنُ العصيانَ على هذا المَاردِ . أعلنُ أنّني لن أتراجعَ، بل سأواجهه إلى أن يبدأَ بالتّقهقرِ فيصير نملاً أسودًا صغيرًا يتوارَى داخلَ ثقوبِ الكبتِ.
أنثى الميزان أنا.
أقولُ الحقَّ ولو كان الثمنُ حياتي.
ميزاني لا يميلُ مع ريحِ المجاملاتِ وفيروساتِ النِّفاق الإجتماعيّ.
رجلُ الميزان، هوَ.
سلّمَنِي مفاتيحَ الثقة بالنَّفسِ، الجُرْأة والقُـدرة على تَحَدِّي قـُوَى الظَلام لكوني أتمّسكُ بالحَقّ.
حقـًا، كنتُ سأكونُ أنثى عَاديّة، لولا بزوغ آدم شمسًا أضاءَتْ حياتي، وأشعلتْ جذوةَ الأملِ في عُـرُوقي، فسَاهمَ في جَعْـلي أنثَى استثنائيّة.

*

الغالبيّةُ السّاحقةُ مِنَ البَشَر يَحْيُـونَ على هَامِشِ الحَيَاة. أتخيَّلُهُم كَمَا (الجُمَل ِ البَسِيطَة) التي لا تتألّفُ إلاَّ مِن (مبتدأ وخَبـَر) أو (مبتدأ وشِبْه جُمْلة). أمّا أنا فقد وُلدْتُ جُمْلة ً مُرَكَبَّةً لا تَحِدُّهَا نقطةٌ. هاربة من قيودِ الاعرابِ أنا، ما سيأتِي بَعْـدِي مِنْ جُمَلٍ مُعَـقَّدَة أهَمّ مِمّا أتَى قَـبْـلِي.
ها أنا أقفُ في تَحَـدٍّ معَ رَجُـلٍ لقَّنَتْـهُ الأيامُ طُقُوسًا لَنْ يَقْوَى عَلى التَّشْكِيكِ فِيها، لِكَوْنِهِ يَنْـتَـمِي لِفِئَةِ (الجُمَل البَسِيطَة)، فكيفَ أنْزِلُ لِمُسْتَـوَاهُ الفِكْـرِيِّ، فأشرح لهُ أنّ الحُبَّ فوقَ كلِّ اعتبار؟
حينَ خَـلَـقَ اللهُ آدمَ وحوَّاءَ، أرادَهُمَا أنْ ينتميَا إليهِ لا إلى بَشَرٍ. من هو (بُولُس) ومَنْ هوَ (أبُّولُس) حتى نتقاتل، بلْ ونزهق الأرواحَ في سبيلِ معتقداتِنَــا الأرْضِيَّة؟
الله برئٌ مِنَ الدَّمِ الذي يُسفكُ في كلِّ مكانٍ باسمِ الدينِ. ألَمْ يُعْطِنا الخالقُ حُريّةَ الإرَادَة وَحُريَّةَ الإختيارِ مُنْـذُ بدَاية ِالخَليقَـة..؟
كان بمقدورهِ أنْ يَأْمُرَ آدم بعدمِ لَمْسِ شَجَـرَةِ المَعْـرِفَـة. لكنـَّهُ، يتعاملُ معَ آدم وسُلالتِهِ بِـرِقِيٍّ، فهوَ يتركُ لنَــا القَـرَارَ وَحُـرِّيَّةَ الإختيارِ؛ لكونهِ يحترمُ إرادتنـَا أفكارنـَا وقراراتنـَا، ولا يتعاملُ معنا كماكينـَاتٍ مُتَحَـرِّكَة (رُوبُوتس)، إنّما يتعامل معنا من منطلق الرّحمة والمَحَبَّة فهوَ إلهٌ صالحٌ، إلى الأبدِ رَحْمَتُهُ وإلى دَوْرٍ فدَوْرٍ أمَانَـتــُهُ.
*

لم أنظرْ يومًا لآدم على أنـّه مُسْلِم، إنمّا نَظَرْتُ لَهُ على أنـّه (كِيان). أذْهَلَنِي نُضْجُ شَخْـصِيَـتِهِ ومواقفه الحَازمَة. كذلك، لم ينظرْ لي آدم على أنّنِي مسيحيّة. لقاؤُنا الرُّوحيُّ كانَ أسمَى مِن كلِّ قُـيـُودٍ، لمْ يَضَعْهَا الخَالقُ، إنّمَا وَضَعَهَا البَشَرُ، فكَبّلُوا أنفسَهُم بها وباعدتْ فيمَا بينَهُم. وَصَارتْ سَبَـبًا لِلشِّجَارِ وَسَفْـكِ الدَّمِ.
خارجَ قُمْقُـم ِ التّدَيّنِ ومَظَاهِرِ التّقْوَى، التقينا، وَجمَعَنَـا حُبُّنا لِذَاتِ الإله .
هذا الإله الذي ما فتئَ منذُ سقوطِ آدم في الخطيئة، وانفصاله الجَسَدِيّ والرُّوحِيّ عن الخَالقِ، يُرْسِلُ الرُّسُلَ ليلتفِتُـوا إليه ِ ويَـرْجِعُـوا لِحِضْنِهِ، لكنَّ البَشَرَ اقتتلُوا عَلى الرُّسلِ، أيّهم أعظم، وَفَـاتَهُم العودة للخالقِ وتعاليمه السَّماويّة التي تنَـْهَى عنِ القتلِ، وتحثّ على قُـبولِ الآخَـرِ،المَحَـبَّـة، التَّسَامُح والإنسَانيَّة بالمُطْلَق.
اختلفَ البشرُ عَلى العَطِيَّـة، وَنَسُوا المُعْطِي.
تقاتلُوا عُلى المُرْسَل، وَنَسُوا المُرْسِل.

*

جميعُ أفرادِ عائلتي الصغيرة مسيحيّون بالاسم، أو بالورَاثة. يَظُنُّ الوَاحِدُ منهم أنّ ولادته لعائلةٍ مسيحيّةٍ يضمنُ له بطاقةَ العُبُورِ لرضَا الخَالقِ، بينمَا تقولُ الآية:
" كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم. "
( يعقوب 1: 22).
وتقول الآية: " أنا أريكَ بأعمالي ايماني "( يعقوب 2: 18)، أي لا تتفاخر أنّكَ مسيحيّ، إنَّما عِش مسيحيًّا فيفتخر الآخرون بكَ ويسألونَ عَـن سَبَـبِ الرَّجاءِ الذي فيكَ.
جميعُ أفرادِ عائلتي الصّغيرة مسيحيّون بالاسم فقط، أو بالوراثة..! لم أرَ يومًا أحدًا منهم يُصليّ أو يَصُوم. لا يذهبُـونَ للكنيسةِ إلا في الأعْيـَاد. ترتدي البناتُ الفساتينَ القصيرةَ التي تكْشِفُ عن مَفـَاتِـنِهـِنَّ. لمْ تقرأ إحْدَاهُنَّ الآية التي تَحِثّ عَلى ارتداءِ الثّيابِ المُحْتَشِمَة:
" وكذلك إنَّ النّساء يزيّنّ ذواتهنّ بلباسِ الحِشْمَة مع ورعٍ وتعقُّل لا بضفائر أو ذهب أو لآلىء أو ملابس كثيرة الثّمن، بل كما يليقُ بنساءٍ متعاهداتٍ بتقوى الله بأعمالٍ صالحة "
( 1 تيموثاوس 2: 9).
يُغادرنَ في الأعيادِ للكنيسةِ تحرسُهُنَّ دَعَوَاتُ الأمَّهَاتِ:
- حَاولِي أنْ تعثري على عريس بين شبابِ الكنيسة.
شَكَتْ لي إحدى قريباتي باكيةً موقفَ أمّها من عريسٍ مسيحيٍّ تقدّمَ لخطبتِهَا، فوافقتْ الأمُّ فورًا عليهِ ، رَغْمَ عَدَمِ تَوَفُّرِ أيِّ توافقٍ فكريٍّ، عاطفيٍّ أو اجتماعيٍّ بينَ ابنتِهَا والعَريس. يَكفي أنّه ثريّ وأنّه سينقذُهَا مِن حالةِ العَوَزِ الماديِّ التي تَحْيَـاهَا في بيتِ والدِهَا. تالَّمَتْ أنَّ وَالدَتَهَا تقولُ لهَا:
- "البنات أكثر من الهَـمّ عَ القلب". البنات أكثر من السَّمـَك في عِلَبِ السَّردين. يجب أن تقبلي به زوجًا لكِ".

والأمّ ضحيّةُ الجهلِ، فهيَ غادرتْ من بيت أبيها لبيتِ زوجها. لمْ تعْصِرْها الحياةُ ولم تُنَمِّي أجنحتَهَا كي تُحَلّقَ معَ النُّسُورِ. دجاجةٌ خنوعةٌ كانت، انتقلتْ من قِنٍّ لآخر وهي مُشبعَة وَمُقتنعَة بفكرةِ أنّ دورَها في الحَياةِ يتلَخَصُ بالتّفانِي في الطّبْخِ والمَسْحِ وإزَالةِ الغُبارِ. لمْ تقرأ يومًا كتابًا. لمْ تشاهدْ يومًا برنامجًا ثقافيًّا، لمْ تسمعْ يومًا أنَّ:
"الأم مدرسةٌ إذا أعدَدّتها أعددتَ شعبًا طيّبَ الأعْرَاق ِ".
جميعُ أفرادِ عائلتي لم يقرَأُوا يَوْمًا الكتابَ المُقدّسَ ، لأنَّ لا كتابًا مُقدّسًا في بيتِ أيّ مِنْهُم.
جميعُ أفرادِ عائلتي، يُجيدونَ طَهْيَ الطّعَامِ الشَّهيِّ في الأعْيَـادِ،وبعضهم يُجيدُ العَزفَ على العُودِ، وقرعَ الطّبلِ والرّقص، ومنْهُم مَنْ هوَ مُدْمِنٌ على شُربِ الكُحُول ِحتَّى الثّمالة. أحدٌ منهُم لم يسمعْ يومًا ترنيمةً أو مَوْعِـظَة. أحد منهم لم يحكِ لي يومًا عن السيّدِ المسيح الذي لم أعرِفْهُ إلاَّ وأنـَا فِي المرحلةِ الثّانويّةِ، من خلالِ دروسٍ دينيّة بالمراسَلَةِ سَعَيْتُ أنَا لهَا، بعدمَا ضَاقتْ بِي الحَياةُ فصِرتُ أبحثُ عَن المَلجأ الأمين وَعَن مَعْـنى لوُجودي.

*

ها أنا أسيرُ نحوَ الأسد الغاضب، أبِي.
تشلُّنِـي نظِراتُ أمّي المُرْتَعِـبـَة والتي وقفت في الزاوية كأنّها تمثال صامت.
تُـقَـوِّينِي كَلِمَاتُ آدم التي انبعثتْ مِن أَتُونِ الذَّاكِرَة:

" فإمّا حياةٌ تسرُّ الصَّدِيقَ وَإِمَّا مَمَاتٌ يُغِـيــظ العِدَا".













8

هذا الجسدُ المُضْطـَهـَدُ الباحثُ عن فضائِهِ الحُرّ قررَ فجأة أن يخطوَ إلى جلاَّدِهِ، بحركا تٍ رشيقة كأنـّه نورسٌ يحلّقُ فوقَ البَحْـر.
هذه الذّات الثّائرة المُكَبَّلة قررتْ فجأة أن تقومَ باستدعاءِ الصّورة المعروفة لـ "كارمن" برقصتها الغجريّة؛ لكي تنتفضَ معها على القُيود وهي تخطُو نحوَ جلاّدِهَا.
*

لا شيء حقيقيّ سِوى ما هو مُرْعِـب. هكذا كتبَ (رولان بارت)، وهكذا أشعرُ الآن. الحقائقُ ترعبُنَا، تُهَدِّدُ سلامَنا ، قناعاتِنا وموروثاتِنا.
(أنا أحبُّ شابًا مسلمًا وأسعَى لإرتباطٍ مُقدّس بِهِ).
هي حقيقة عمري، لكنّها مُرْعِبَة بالنّسبة لمَن ترَعرعَ على فكرةِ أنَّ الزّواجَ المختلطَ: (عارٌ ... فضيحة...).
النّاس سَواسِية.
نقولُها ولا نفكّرُ في مضمونِهَا ولا نحياهَا.
حينَ خلقَ الله عزَّ وجلَّ آدم لم يقلْ له: أنتَ مسيحيّ أو أنتَ مُسلم، إنّما قالَ له أنا الله فاعبُـدني.
نحن صنعنا الدّيانات وجعلناها تفرّقُ بيننا.

*

- ليس بالخبزِ وحده أحيَـا.
قلتُ لأبي.
لم يفهم لأنّه بالخبز وحده يحيَـا: يأكل ، يشرب، ينام، يقوم، يكدح ويعود فيأكل ويشرب وينام وينهض ويشقى...وتمضي الأيّام على ذاتِ الوتيرة.
- أنا كِيان. لي مشاعري، أفكاري، قناعاتي التي لا يمكن أن أحيَـا بدونِهَا.
لي إرادةُ خصّني الخالقُ بها منذُ بدايةِ الخليقة وإرادتي ترفضُ أن أكونَ سِلعة تـُباع وتـُشترى.
أنا أحبّ آدم وهو يُحبّني، وأرفضُ أن أتزوّج من رَجلٍ آخر مَا دامتْ مشاعري مع آدم.
هذه خيانة عاطفيّة لا يرضاها لي الخالق ولا أنتم: (المسيحيون) !.
صمتتُ قليلا ثمّ تابعتُ بحزمٍ:
صديقتي عشقتْ شابًا مُسلمًا رفضَ أهلُها أن يسمحوا لها بالزواج منه فزوجوها من شابٍ مسيحيّ. ظلّت على علاقة عاطفيّة جسديّة مع حبيبها المُسلم لمدّةِ سنوات إلى أن رحلت مع زوجها للإقامة خارج البلاد.
أنا أرفض النفاق والحُبّ في العتمة.
أنا أحبّ آدم وسأحيا معه حتّى لو كان ثمن المجازفة ... حياتي. لا قيمة ولا نكهة لحياتي إن لم يكن آدم فيها.
*

حاولتُ أن أهبطَ من بُرجِ المثقّفين وأنا أتحدَّثُ مع أبّي كي نتفاهم. تملكتني مشاعر الشّفقة عليه فهو في حالةٍ لا يُحسد عليها. هو لا ينظر لسعادتي، فعيون "الخفافيش" وألسنتهم تتربّصُ به. ماذا سيقولونَ عنه..؟
ابنته تزوّجت مُسلمًا!
يا للعار!
يا للفضيحة!
ابنةُ الجيرانِ نوال فرّت مع حبيبها المُسلم منذ فترة. كان أبي مع صديقِهِ على الرّصيف حين التقيا بوالد البنت. مدَّ الصّديقُ يدَهُ للأبِ " المَنْكُوبِ "(حسبَ تعبيرِ أبي) وهو يقولُ بحسرة:
- " لا أعرف، أأباركُ لكَ زواجَ ابنتك من مُسلم أم أقدّم لكَ التّعزيَة..؟ ".
أخبرنا أبي عمّا حصلَ والألمُ يعتصرُ قلبَهُ.
والآن، ها الخنجر ذاته يُدْمِي قلبه.
حاولتُ أن أجعل أبي يدرك أنّني لن أتخلَّى عن موقفي حتّى لو كان في ذلك حَـتــْـفِـي.
كنتُ واثقةً أنّ أحدًا مِن لائِميَّ لن يفهمني.
كيف لــــِ (جملةٍ بسيطة) أن تستوعبَ (جملة مُرَكبَّة)..؟
*

فجأة، انتفضَ الدّمُ في عروقِهِ.
انتصبتْ قامتُهُ.
كجلياتِ الجَبَّارِ بَدَا .
كداودِ الصّغيرِ بدوْتُ.
انهالَ باللكماتِ المُبـْـرِحَة على صَدْري.
أخذتُ قَرارًا:
لن أبكي لأنّه سيستعذبُ بكائي..!
أخذتُ أصرخُ بأعلَى صوتي وأنا أحاولُ أن أتفادَى اللَكَمات. أصرخُ لعلَّ الجيرانَ يسمعون رفيفَ الفرَاشَة؛ فيهرعونَ لتحريرِهَـا مِن هذا المَارِد الذي سَيْطَرَتْ عليهِ نَوبَةُ هلعٍ مِنَ الفضيحة والهَوَان كما اعتقدَ.
.... طرقتُ الخزّان بقوّة !
.... لم يُرْعِبني شبحُ المَوْتِ.
لم يأتِ أحدٌ من الجيران. لعلّهم يفضلون عدم التّدخل بين أبّ وابنته. لعلّ موضوع الخلاف مُحرج لهم هم أيضا. بحثتُ عن أمّي. كانت لا زالت في الزاوية كتمثالِ أبي الهُول في صَمتِهَا وَجُمُودِهَا لكنّ الرُعبَ كانَ يُطِلُّ من عينيها. رُبَّما كانت تخشَى أن يُفرغَ مَا تَبَقَّى مِن شُحُناتِ غَضبٍ عليها هي فلطالمَا اتهمهَا أنَنا نتاجُ تربيتها هي.
فجأة، وصلَ صديقُ أبي بيتنا.
صديقٌ مفتول العضلات، تخرّجَ من السّجونِ.
هرعَ إلى الطابق الثّاني، حيثُ غرفتي، لنجدتي.
كسَرَ البابَ ودخلَ هائجًا وهو يصرخ على أبي:
- يا زلمي هاي بنتك. كيف بتضربها!
كيف له وهو المُسلم أن يترك الأنثى التي يعشق، رغم كونها لا تبادله الحُبّ بالحُبّ، بين يديّ الجَلاَّد!
*

في المستشفى، لمْ أشأْ أن أطعنَ أبّي بالضّربة القاضِية. كَانَ مِنَ المُحتمَلِ إبعاده عن المَنزل لمدّة أسبوع كفيلة بفراري من كهفِ الرُّعبِ ذاكَ. لكنني كنتُ أشفق عليه من موقفٍ لم أتمنّاهُ له. انا أدرك تمامًا أنّ سببَ رفضهِ لآدم لا يتعلق بالدين البتّة إنَّمَا ينبثقُ مِن خوفِه مِن "كلام الناس" كما يردّدُ دومًا وذلك ينبع مِن عدمِ ثقتهِ بنفسه وضعفٍ في شخصيتهِ.
أخبرتُ الطبيب المُدَاوِم أنّني وقعتُ من على سُّلّم. حرّروني مع بعض المُسكِّنات وأربطة قيّدت صَدري؛ لتمنعَ حركتَهُ التي تؤدّي لآلام مُبــْرحَة.
اعتكفتُ داخل غرفتي وامتنعتُ عن الطّعام والشّراب والتّحدّث إلى أحد.
- تشتهون موتي..؟
دعوني أموت كما تشتهون وابقُوا أبرياء من دمي.
همستُ مِن خَلفِ بابي المُوْصَد وأنا أراقبُ ردود فعلهم لعلّهم يلينون.

*

بدأتْ شتّى أفراد العائلة الذين أعرفهم، والذين لم أعرفهم من قبل يحاولون اقناعي أن أغادرَ غرفتي،. لم أكنْ أعرف أغلبهم إنَما حالة الطّوارئ في بيتنا أتتْ بهم فهرعوا لنجدةِ والدي وتهديدي أو إقناعي بالعزوف عن موقفي بعدما استنجدَ هو بهم.
كنتُ أتحداهم بسؤال:
- لِمَ ترفضونَ المُسلم..؟ ما العيب فيه..؟
جميعهم كرَّرُوا ذات العبارات:
= بدك تفضحينا بين النّاس؟
= بدّك تجيبي رَاسنا الأرض؟
أمَّا خالي المُقرّب جِدّا من قلبي ومبادئي فقد قالَ:
= لا عيب فيه.

ثمّ، أكملَ:
= البيئة مختلفة ، لهذا السّبب سيكون التّفاهم بينكما شبه مستحيل.

*

وصلتْ عمّتي من خارجِ البلاد وهي مُثقلة بمشاعرِ الغضبِ التي صَبّتها فوقَ رأسي. تفاجَأتُ من موقفها فأنا أعتبرها امرأة ناضجة فكريَا وعاطفيًّا. أطلقتْ عليّ رصاصة :
- كيف تفعلين ذلك وأنتِ المثقفة..؟
أجبتُ:
-عمّتي. أرجوكِ ، تحدّثي مع آدم، وإن وجدتِ فيهِ عيبًا، أعِدُكِ أن أنفصِلَ عنه.
وراهنتُ على أنّها ستستيقظ من تلك الغيبوبة الفكريّة.

*


يبدو أنّ والدي هو الذي استدعاها ليستنجد بها وكان قد نجحَ في عمليةِ غسلِ دماغِها بمخاوفِهِ وقلقه.
دعَـتْ آدم لبيتها. تحدّثتْ معَهُ.
فــُــتِنـــَتْ بشخصيّته.
ثمَّ، حاولتْ أن تــُقنع أبي بالسّماح لنا أن نعقدَ قراننا في الكنيسة، فرفضَ.
*
تذكَّرتُ صديقتي لمياء من الجامعة والتي هربتْ فجرًا مع مسلمٍ بمساندةِ أخيها هاني الذي كان يدرس معنا في ذاتِ الجامعة. عندما اكتشفَ والدها غيابها أرسل لهما رسالة عبرَ هاني فحواها أن :
= عُودَا دُونما ضَوضَاءٍ وأنا أعقدُ قرانكما في بيتي.
عادا. لم يعلم أحدٌ سوانا، أنا وآدم، بغيابها. فقد ساعدناهما مع صديق آخر على الفرار. انتظرنا في الرّابعة فجرًا تحت شُرفتها. ربطَ أخوها حبالاً وتدلَّت عليها. قادَ آدم السّيارة وطرنا بهما إلى بلدةٍ بعيدة لكي يُعقَدَ قَرَانهما. ما لبثا أن عَادَا بعدما طمأنها أخوها أن أباهما صادقٌ في وَعدِهِ. استدعَى والدها رجالَ الكنيسة فتمّمُوا طقوسَ الزواج المسيحيّ. حينَ غادرت إلى بيتِ حميها عقدُوا قرانها هناك واستقبلوها بحفاوة وكأنّها أميرة.

*

حاولتْ عَمَّتِي أن تقنع أبي بالسّماح لنا بمغادرة البلاد والعيش بعيدًا عن الوطن، فرفضَ.
مرَّ شهرٌ وأنا سجينة غرفتي أنتظرُ منفذًا.
حانَ موعدُ السّنة الدّراسيّة وهي السّنة الأخيرة لي حيث من المفروض أن أحصلَ على شهادتي الجامعيّة.
بعد جهدِ ساعة ، نجحتْ عمّتي في إقناع أبي بالسّماحِ لي بالعودة للجامعة؛ لكي أنهي هذه السّنة الأخيرة وأحصل على شهادة تكفل لي الحياة بكرامة. علمتُ فيما بعد أنّه أرسل والدتي لإحدى بنات الحيّ المسيحيات طالبًا منها أن تراقبَ تحرّكاتي في الجامعة لكنّها رفضتْ.

*
جاء آدم لمقابلة والدي. كانَ الحوارُ ملتهبًا.
تذرّعَ أبي بحجة أنَ المسلمين يرفضون تزويج بناتهم لشبابٍ مسيحيين فلم يفعل هو.
أخبرهُ آدم أنّه غير مسؤول عن أفكار وقرارات الآخرين.
ثمّ أخبره عن صديقتنا سلمى، الطالبة الجامعيّة المُسلِمَة التي تزوّجت شابًا مُسلما ولم يتآلفا فانفصلنا.
ثمّ، عشقت شابا مسيحيّا يدرس معها في الجامعة. رفضه أهلها لكنها أصرّت على الزواج منه ورحلت عن القرية لتسكن في حيفا حيث البيئة تتقبّل الآخر مهما كانت حالته الإجتماعيّة. والدته أخذت تداوم على زيارتهما رغم كونها مؤمنة تعشق ديانتها وأخذت تتعامل مع سلمى بمحبّة كما يليق بإمرأة تؤمن أنّ الله مَحبَّة.
- هذه حالة استثنائيّة.
قالَ أبي لآدم وأردفَ:
- ربما لأنّها مُطلقة فالمُطلّقات في مجتمعنا لا أمل لهنّ في الزواج ثانيّة.
ابتسمَ آدم وقالَ لأبي بهدوء وكأنّه يعزفُ سيمفونيّة:
- يا عَمّي...
قاطعه أبي باصرار:
عَمَى الدِبَبْ.
ضحكنا أنا وآدم في سِرِّنا وأخفينا اشفاقنا على هذا الرجل
الذي بدا هشًّا كما بيتِ عنكبوت.
احتفظ آدم برباطة جأشِهِ وهدوئهِ المُعتاد.
قالَ لأبي:
"أبو نادر ، سأُخبرك قصة أخرى مُضحكة نوعًا ما. شاب مسيحيّ اسمه سليم أحبّ زميلته الجامعيّة المسلمة عائشة.
في عيدِ ميلادها أرسل لها باقة ورد مع لابتوب هديّة. لسوء حظّهِ استلم أبوها الشيخ الهدية. اتصلَ بوالدِ سليم وقال له:
أنا الشيخ فلان ..وعنواني كذاورقم تلفوني كذا. معك أربع وعشرين ساعة لكي تُصَحَّح غلطة ابنك وإلاّ ستخسره.
تاني يوم اتصل أبو سليم بوالد عائشة وقالَ لهُ: "اليوم الساعة ثنتين بعد الظهر أنا عندك".
ذهبَ لوحده فوجد عشرة شيوخ في استقبالِهِ.جلسُوا صامتين حوالي خمس دقائِق. ثمّ قدَّمُوا لهُ قهوة فقالَ:
= صلُّوا على النبي.
وأردفَ:
= ربنا قال:" أدخلُوا البيوتَ من أبوابها" وأنا دخلتُ بيتكم من الباب أطلب بنتكم عائشة لإبني سليم.
سكتَ فسكتوا.
مدَّ يدَهُ وقالَ:
يا حيّ يا قَيُّوم. السُّكوت علامة الرضَا.خلّينا نقرَأ الفاتحة.
قرؤوا الفاتحة معه.
قالَ أبوها:
- مبروك. لكن ابنك يجب أن يُحضِر شهادة من المحكمة الشَّرعِيَّة إنُّه أَسلَم. ويجب أن تشتروا للبنت ميتين غرام ذّهَب.
ردّ أبو عائشة:
= بُكرَة أو بَعْدُه بتيجيكُم شهادة الإسلام والبنت بدي أشتريلها خمس مية غرام ذَهَب.
في قاعة الاحتفال بزفافهما كان المسلمون أكثر من ثُلثَيّ الموجودين وكان هنالك شيوخ ورجال دين وكان مِن أجملِ الأعراس."
أنصتَ أبي للحكاية باهتمام فهو بطبعه يُحبّ أن يحكي الحكايا وأن يسمعها.
معَ هذا ظلَ على موقفهِ الرافض لإرتباطنا مِمّا جعلنا نتغامز سِرّا أن نُنفِذّ خطَّةَ فرارنا من ذلكَ المأزق.

*

لم يغمضَ لي جفن.
أطلّ الفجرُ.
كنتُ قد أرسلتُ لادم رسالة مفادها أنّ أبي وافق على عودتي للجامعة وأنَ عليه أَن يَسْتعِدَّ للهربِ كما اتفقنا في حَال اُغلِقَتْ جميعُ الأبوابِ في وجهنا. وصلتهُ الرسالة من الفتاة راغِدة التي كنتُ أقدّم لها دروسًا خصوصيّة من قِبَلِ برنامج ( بيرح) والذي كانَ آدم المسؤول عنهُ مِن قِبَل جامعة حيفا حيث يقوم طالب جامعي بتقديم دُروس التّقوية لطالبٍ مَدرسي يحتاج المُساعدة وذلك طوال سنة كاملة يتقاضى الطالب الجامعي عليها ما يُعادل ثمن نصف القسط الجامعِيّ.

*

تناهى لسمعي صوتُ أغنيةٍ تسللتْ عبرَ النَّــافذة:

"أنا مِشْ إلك.
في قفص صغير بدَّكْ إياني أكونْ.
أنا بدِّي طِيــــــر
وجناحاتي تكونْ عَ وسعِ الفَـلَكْ
أنا مش إلك
ولا قلبي إلك"

*

كانوا لا زالوا نيامًا.
ألقيتُ نظرةً أخيرةً على صورةِ أبي المُعلَّقة على حائط ِغرفة الاستقبال.
ألقيتُ نظرةً أخيرةً على وجهِ أمّي الذي أطلّ عليّ من الصّورة المصلوبة قربَ صورةِ أبي.
لأوَّلِ مرّة، أشعرُ أنّها امرأة ذابلة . وردة دونما قطرةِ نَدَى.
أعلنتُ في قرارةِ نفسي:
لاااا. لن أذبل كما أُمّي!
ألقيتُ نظرةً على كلّ ما في البيت من حاجيات.
خزنتُ كلَّ الصُورِ في قُرْصِ الذّاكرة.
تأَبَطّتُ كتابَ:
" أنا أحيا" لليلى بعلبكي. كتابي المُفَضَّل.
فتحتُ بابَ المنزل.
نسيمُ الصّباحِ راح يُنعشُ قلبي.
أخذتُ قِسطًا من الهواءِ وخبَّأتُهُ داخلَ رئتيّ.
مع كُلِّ زّفيرٍ، رُحتُ أزفرُ كلَّ أَسى وذكرياتٍ أليمة لئيمة.
ثمّ ، رحتُ أسيرُ منتصبة َالقامةِ بخطواتٍ وَاثقة نحوَ الشَّمْس.

9

حبّي لآدم ما كانَ زَلـَّة قدمٍ أو قدر، ولا كان وعكةً عاطفيّة ً عابرة كما ادَّعَى البعضُ، إنـَّما هو قدري الأجمل.
قلبي أنا كانَ لهُ وطنـًا، عثرَ فيه على المَاءِ والهَواءِ وفائض ٍمن شـُحناتِ الإنتماءِ. أليس الوطنُ امرأة ًوالمرأةُ وطنًا؟
كنتُ لهُ الوطنَ وما كانَ يومًا ليَ المنفى.
*

في غفلةٍ عن ماردِ الألم، صارَ آدمُ قيثارَةً وصِرْتُ لهُ الأوْتــَارَ. صارَ لؤلؤةً وَصِرتُ لهُ المَحَارَة .
وصَارَ الحبُّ ُ سيمفونيّة يعزفها القلبُ، فتسمعها البلابلُ وتحتار مِن تفَرُّدِهَا.

*
ها أنا أمضي إليهِ ممتلئةً نعمةً، منتصبةً القامَةِ، راضية ً مرْضيَّة.
ها "أصالة" تُـرافِـقـُـني، عَبرَ مذياع السَّيارة، بصوتها الفائض ِدلالاً وأنوثة ً:

"معاكْ رجعتْ لي تاني حياتي ودُنيتي
معاكْ بعيش حبيبي في الدنيا جَنِّتي
ويّاكْ شفتِ بعيونِي طَريقِي وسكّتِي
ماليش غيركْ حبيبي، معاكْ حَاسَّة بأمَان
وطول ما إنتَ مَعَايا مابَخـَفـْش ِمِ الزَّمانْ."
*

أتاني صوتـُهُ عميقــًا دافئــًا:
- سأعوِّضُكِ عن السِّنين التي أكلها الجراد.
رشقتــُهُ بنظراتٍ عاشقة ونحنُ نقتحمُ غرفةَ المأذونِ في القُدس نتبعُ خطواتِ يوسف، ابنُ عمِّهِ، الذي رافقنا لحمايتنا. انقبضَ قلبي وأنا ألهثُ خلفَ خطواته الغاضبة، ونحن نغادر المكان دونما وثيقة زواج، وصوتُ المأذون يطاردنا: "أنتم تأخذون الدّين مطيّة لأهوائكم".
فجأة، أحسستُ أن لا مكان للعصافيرِ بينَ البَشَر.
أحسستُ أنـَّنا سنهيمُ في الشّوارع لأنّ القلوب القاحلة ستنبذ ُحبّنا. تناهى لسمعي نبرة الغضبِ في صوت يوسف وهو يوشوشُ آدم:
- "يحلم بدولارات. لن يحصل عليها. سنبحث عن مأذونٍ آخر."
تحسسَ المسدّسَ في جيبِ بنطالِهِ وهو يقتحمُ السّيارة التي راحتْ تطيرُ بنا إلى عكّا، وعينايَ تراقبان ِالدّكاكين المتراصّة على جانبيّ الشّارع، والبشر الذين بدوا كقطعة بازل كبيرة، أجزاؤها مُلصَقـَـة دونما إنسجامٍ بين القطعة والأخرى. تدَفَّقَ صوتُ (رويدا عطيّة) يخففُ بحنانِهِ، وأحاسيسها المتفجرّة، حِدّة َالتّوتر:

" شُو سَهْلِ الحَكِي..
مين اللي بيعرفْ في قلبِ التاني شُو فِي ؟!
شُو سَهْلِ الحَكِي..
أنا لَوْلا وجودُه فِي عُـمْـري..
عُـمْـري بينطِفِــي"
*

لو أنَّ أبي لم يعثرْ على جوازِ سفري ويمزِّقُــه إربًا إربًا، لكنـّا سافرنا إلى قبرص وتزوجنا زواجًا مدنيًا. لو أنَّ مُوَظف الداخلية المسيحي الذي اعدّ لنا جوازيّ السَفَر لم يشِ بنا لأبي لكنّا الآن في طريقنا إلى قُبرص.
عادَ صوتُ رويدَا يُدَغدغُ الذاكرة:

" لاموني العالم كلّها
وقالولي عنه أتخلَّى..
غيمة رح بتمُــرّ
إن شاء الله... "

ليتَ أبي أبقى لنا منفذًا للأمل!
أغلقَ كلَّ أبوابِ الحياةِ في وجهنا، ودفنَ رأسَهُ في الرّمل كمَا النَّعامة، كأن لا مشكلة تزلزلُ أرضَ الوَاقعِ.

*

استيقظتُ من أوجاعِ الذّاكرة على صرخةِ رويدا:

"كُلن قالولي مَجنونِة
لازم تـِـــــــــنــــــْـــــــــسِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيه..."

أكانَ يتوّقع أن أتنازلَ عن حبّي لآدم..؟
أكان يتوقـّع أن أحيا بقية عمري جثّة هامدة كأمّي وخالتي وعمّتي وجارتي وغيرهنّ الكثيرات؟

" شو سهل الحكي!"

الموتُ أرحم من حياة بلا معنى.
الموتُ أرحم من حياة تبدو كما البحر هادئة، لكنـّها تخفي داخلها حيتان القلق والأرق والموت اليوميّ البطيء.
الموتُ أرحم من أن أذبلَ على رفٍّ في حياةِ رجلٍ يعتبرني مجرَّد بقرة دفعَ ثمنها، ويَحِقُّ له رَكلها أو ملاطفتها متى شاءَ وشاءَت مزاجيّته وأهواؤه .لا يُرعبني الموتُ فالحياة بدون آدم هي الموت ذاته.

*

هدأ هديرُ السّيّارة في محطةِ بنزين، فاتّجهنا نحو المقصف واتّجه يوسف نحو الهاتف العموميّ.
عادَ إلينا ببشارة:
- سنرجعُ للحيّ.
= لماذا..؟
- هذه رغبة أبيكَ.
- اتصلتَ بهِ..؟
= نعم. أخبرتُهُ بكلِّ التّفاصيل. أبوكَ مصرّ على عودتك للحيّ.
يقول: " ستكونا في كنفِ العائلة التي ستوفِّر لكما الحماية ".

*

ارتجفتُ كعصفورٍ داهمتْهُ زخَّة ُ مطرٍ.
(لا بدّ أنّ أبي قد اكتشفَ الآن سرَّ فراري من المنزل!)

*

اتّصلَ يوسف بجارنا "ميلاد"، صديق أبي، وأخبره بأمرنا وطلبَ منه أن يكونَ مع أبي في اللحظات الحاسمة التّالية.
آه، كم أخشى أن تكونَ أمّي ضحية نوبة عنفٍ حتمًا ستنتابُ أبي.

*

عدنا للحيّ وتوجّهنا الى بيت أحد الجيران. انتظرنا، أنا وآدم وبعض أقربائه والمأذون، أن يصلَ والدُ آدم ليشهدَ على عقِدِ قراننا.
مرّتِ الدّقائقُ بطيئة.. متثاقلة.. مُرَّة.
مرّتْ ربعُ ساعة.. نصف ساعة.. ساعة وأكثر.
أخيرًا وصلَ.
هو يعرفني، فقد كان سائقَ حافلة البلد التي اعتادتْ أن تُــقلَّني من المنزل لمحطةِ حافلاتِ حيفا يوميًّا.
استفقتُ من غيبوبةِ الذكريات على صوتٍ يسألني بإلحاحٍ:
- كم من المهر تطلبين..؟
- لا أريدُ مهرًا.
- لا يجوز.
باغتني آدم بنظرة، ففهمتُ أنَّه يحثني على تحديدِ أيّ مبلغ.
كانَ لسانُ حالي يقول:"لستُ سلعة تباعُ وتشترى وعلاقتي بكَ فوق كلّ الماديات. حتى وإن فشلت علاقتنا، لن أقبَضَ الثّمن."
قالَ أحدُهم: ليكن شاقلا لأجل الإجراءات.
رَدَّدْتُ بإستحسان:
- حسنًا ليكن شاقلاً.
اقتربَ آدم من أذني ووشوشني بخبث:
- خذي شاقلاً ورُوحي وإنتِ ..
توسَّلتُ إليهِ:
- لا تقلها، ولا حتّى مازحًا.

*

رفعوا أيديهم ليقرأوا الفاتحة. ارتبكتُ. قررتُ بسرعة أن أصلّي. رفعتُ يديّ وطلبتُ من ربّي أن يباركَ زواجنا، وأن أكون لآدم معينًا نظيره في السّراء وفي الضَّراء وأن يحمينا مِنَ الألْسُنِ الحاقِدَة المُحتملَة الكثيرَة التي ستتربص بحبّنا وطلبتُ منه أن يكون مع أبي في محنتهِ.

*
توَجَّهنا فورًا مشيًا على الأقدامِ إلى منزلِ أسرَةِ آدم. جلسنا في غرفةِ المعيشة، نشاهدُ التّلفاز. أخبرني أبوه أنــّه يتحدّث اللغة الانجليزيّة بطلاقة لكونه خدمَ كسائق سيّارة في الجيش التّركي. بدتْ على وجهه علاماتُ الرضا. أمّا أخته التي تصغرنا سنّا فلم يبدُ على ملامحِها سوى الامتعاض، أمّا ملامحُ وجهِ أخيهِ الصّغير فقد كانتْ مُرَحِبَّة هوَ الذي عاش سنة في أمريكا بعد تخرُّجهِ من المدرسة وها قد عاد لزيارة خاطفة.
راقبتُ البابَ المُقفلَ خلفي.
لا بدَّ أن تأتي أمُّه في أيّة لحظة.
ما أصعبَ اللقاء الأوّل بيننا.
انتظرتُ طويلا.
لم تأتِ.
ظلَّ البابُ مُقفلا.
- " ربّما هي متوعّكة ". طمأنتُ نفسي لكن ظلّ القلقُ ينهشُ أفكاري.

*

في الصّباح، وأنا أغسلُ وجهي، رأيتُها.
وقفتْ خلفي بثوبها الفلسطينيّ الجميل، ومنديلها الأبيض. قالتْ بلؤم:
- خذي (شرفيتك) وارجعي عند أمّك.
دارتْ بي الدنيا.
أحسستُ أنّ عصافيرَ كثيرة تهوي فوق رَمْل ٍحارقٍ بعدما أصابَتْها طلقاتُ صيّادٍ مُحترف.
تمالكتُ نفسي.
هي معركةُ مفاهيم، أنا رضيتُ أن أدخلها، لذا لا بدّ أن استبسلَ في الدّفاعِ عن قراراتي واختياراتي. أنا في مواجهة مع عقليّاتٍ اعتادتْ أن تعيشَ وفْقَ مفاهيم ومبادئ متوارثة. أيّ تغيير في مفاهيمها يشكلّ خطرًا على كينونتها وبقائها.
= لماذا..؟
سألتها وأنا أشفقُ عليها من هذا الموقف الذي وقعتْ فيه دون إرادتها كما وقعَ أبي مِن قبلها.
على الفور أجابتْ:
-أمّك تبكي.
فهمتُ أنـّها متعاطفة كأمّ مع أمّي، ورُبَّما في أعماقها تخشى على إبنها من المواجهة الدَّامية مع أهلي.
برفق سألتها:
- هل الزواج من إبنكِ كارثة..؟
- عودي لأمّك. هي تتألم لفراقك.
= لو تزوّجتُ رجلاً آخر غير آدم ستتألّم أكثر لأنّ أيّ ارتباط آخر سيفشل وينتهي بالطّلاق.
لم تسمعني. ظلّت تُردّد:
- عُودي لأُمِّك. عُودي لأُمِّك!

*

في صباح ِ اليوم الثّاني، كنتُ وحدي ووالدته في المنزل. ذهبَ هو لزيارة ابن عمّهِ. أتت بعضُ النّساءِ من قريباتِ العائلة.
جلسنَ حولي. أحسستُ بالغربة تنهشُ كِياني.
هتفت عمّتُهُ:
= ليه آدم نحيل؟ انتِ تُخفينَ الطعام عنهُ في الخزانة.
كان ذلك السؤال المُضحِك المُبكي فأنا لم أبدأ حياتي معه بَعْد. فهمتُ أنّ هذه صراعاتُ قُوّة . تحاولُ المرأةُ المُسِنَّة أن تفرضَ هيمنتها على المرأة الوافدة حديثًا لدائِرةِ نُفوذها. لم أنبسْ ببنتِ شفّة. ابتسمتُ بصمتٍ وانتظرتُ بفارغِ صَبْرٍ أن يُغادرنَ.

*

قرّرنا أنا وآدم أن نغادرَ النّاصرة الى حيفا كي نتفادى منازعاتٍ لا يُجدي الخوضُ فيها.
هم لا يُدركون أنّنا لا نسعى لتغيير عاداتِ المجتمع، إنما اضطررنا أن نفرض اختيارنا على المجتمع كي نعيشَ بكرامة.
أتى يوسف ليقودَ السيارة. ونحنُ نقتحمها أطلّتْ خالته التي كانت تحترمني وأحترم وعيها وثقافتها وتفرّدها. احتضنتني. قالت لوالدة آدم:
- أعطيهما لحافا ووسادتين لديكِ العديد من اللحف والوسائد.
رفضت والدته الانصياع لرغبة أختها. توارت داخل البيت كأنها تقول: لا شأنَ لي بكما.

*

توجّهنا إلى حيفا وقمنا باستئجار شقَّة مكوَّنة من غرفة واحدة قربَ الجامعة. أمَدّنا أصدقاؤنا من الطلاب الجامعيين ببعض حاجياتِ المنزل كالصحون والملاعق وسرير ولحاف ومخدتين.
هكذا، بدأنا رحلةَ الشَّقاء:
نواصلُ تعليمنا الجامعيّ كي نحصل كلّ على شهادة. نعملُ معًا في مطعم قربَ الجامعة؛ لنوفّر لنا ما يكفل بقاءنا، ونحافظ ُ على أنفسنا من رصاصة طائشة قد تنطلق من مُسدّسِ أيّ فرد من أفراد أسرتي . عَلِمْنا أنّ أبي كان يبحث عنّا في كلّ مكان منذ فرارنا. يذهب إلى أصدقائنا في المطعم الذي كنّا نعمل فيهِ ويُهدّدهم ويحاول أن يعرفَ منهم مكان تواجدنا.

*

قرّرنا أن نمشي في الشَّمس، حتــّى لو اضطررنا أن نجرَّ ظلّينا خلفنا. لن يعرفَ القلقُ طريقـَهُ إلى قلبينا، فنحنُ لا نضع شمسَ اليوم تحتَ سحابِ الغدِ. ألم يكتبَ ماردن:
- إذا اردتَ أن تكونَ ناجحًا منتصرًا في حياتِكَ، يجب أن تنظر وتعمل وتفكِّر وتتكلّم كفاتح ٍ، لا كمَنْ أوشكَ على الهزيمة.

















10

سألَ الممكنُ المستحيلَ أينَ تقيمُ فأجابَ:
" في أحلامِ العَاجز".
كم كنتُ مُمتنَّة للتّجارب الحياتيّة التي نشلتني من قاع العجز والهزيمة، حرَّرتني من الإحباط، وسلـّحتني بالقوّة على المواجهة لتحقيق حلم حياتي.
كم كنتُ مُمتنَّة للأشواك فقد علـّمتني الكثير. الأيام تسقط كحبّاتِ السُّبحة ًحبّة فوقَ حبّة، يومًا بعد يوم. الطريق مُظلم وحالك.
لكن، إن لم أحترقْ أنا وتحترق أنت فمن سينيرُ الطريق..؟

*

سألني أحد الطّلاب في الجامعة:
- ألا تخجلين من الإعلان عن عملك ..؟
- هل العمل عَار..؟
- كلّ الفتيات يخجلن من البوح بسرّ كهذا.
- اعتدتُ ألاَّ أخشى الحقائق. أنا أعمل الذي يقنعني ولا يتعارض مع مبدأ الأخلاق، ولا يهمّني رأيُ الآخرين في سلوكي، فأنتَ مهما اجتهدتَ لن تُرضِي أحدًا.
- لكنّك فتاة جامعيّة وتعملين في مطعم!
- نعم، أعمل في مسح الأرض والزّجاج وإزالة الغبار عنِ الثّريّات وتلميعها، ويعمل آدم في المطبخ، أهذا قصدك؟ ما العيب في ذلك..؟ العملُ شرفٌ، وما مِنْ عَار سِوى العَار نفسه.

*

كان لا بدّ لي ولآدم أن نبدأ من الصّفر.
عثرَ آدم على عمل من خلال مكتب توظيف طلاب الجامعة. بدأ يعمل في تنظيف السّيّارات.
وعثرتُ على عمل في مكتبة الجامعة. بدأتُ أقوم بجمعِ الكتب المُبعثرة هنا وهناك وإعادتها إلى أماكنها على الرّفوف في أوقاتِ الفراغ ، كي نحيا بكرامَة ولا نَخُور فيشْمَـت منّا القاصِي والدّانــِي.
كان لا بدّ لنا أن نحترق لنحيا بكرامة لكنّ الحبّ المتبادل بيننا ظلّ منارة ً تنيرُ لنا طريقنا.

*

........ ها أنا أصغي للمُحَاضِر بانتباهٍ، وأُدَوِّنُ ما يروقُ لي من كلامه.
فجأة، يقتحمُ أبي الغرفة الجامعيّة.
فورًا، أتكوّرُ حولَ نفسي كقطّة مريضة.
أصبحَ ألمي استثنائيّا.
أحسُّ بزَوغانٍ في عينيّ ودوارٍ شديد.
أتأملُ قامتـــَهُ الفارهَة.
دموعي تنسكبُ بحرقةٍ لاذعة.
ها هو يقف كــَـجــُـولياتِ الجَبّارِ على الباب.
نظراتــُـه الحاقدة تصْطادُني.
يدُهُ الغليظة تَـشــُــدُّني من خصلاتِ شعري وتجُرُّني خارج الغرفة، بعيدًا عن النّظرات المُرتعبة.
ألمحُ المسدّس في الجيبِ الخلفيّ لبنطاله.
سيقتلــُــــــني.
حتمًا سيقتـــُــــــلــُــــــني.
...
أنجدوني.
صرختُ بأعلى صوتي.......................

*

استفقتُ.
قطراتُ العَـرَقِ تتفصَّدُ مِن وجهي.
ها آدم على السّرير بالقرب منّي.
يحضنني برفق وهو يهمسُ بحنان:
-لا تخافي أنا معكِ.
كطفلة تاهت في الزُّحامِ، وما أن عثرتْ على صَدرِ أمّها حتّى استكانتْ، أستكين.
-الكابوسُ ذاته؟
سألني آدم.
- هو الكابوسُ ذاته، يتكررُ كلّ ليلة منذ هربنا.
- الأفضل أن نستشيرَ طبيبا.
- لا داعي لطبيب.
إن لم أقوَ على الخوفِ بنفسي سيقوى عليّ.

*

رنّ الهاتفُ.
كنّا نستمعُ إلى أخبار الثّامنة مساء.
لا أحد يعرفُ رقم هاتفنا.
بحلقتُ بآدم، وقلبي يسألُ دون أن يجرؤَ على طرحِ السّؤال علنـــًـا:
- تراهُ أبي..؟
رفع آدم سمّاعة الهاتف.
راح يتحدّثُ مع مجهولٍ.
كانَ التّوترُ باد ٍعلى ملامحِ وجهِهِ.
أعادَ السّماعة مكانها.
- مَنْ..؟
سألته بلهفة، فأجابَ ببرود ٍ مميت:
= الشّين بيت.
- الأمن!
صرختُ بامتعاض.
= نعم. شيروت بيتحون.
- ماذا يريدون منّا. نحن لا نتدّخل في الأمور السياسيَّة.
= يريدونني في مكتبهم غدًا صباحًا.
تفجّرت هذه الجملة كقنبلة بيننا.
... ترى ماذا يخبّئ لنا الغد..!




11

أَنتظِرُ عودتَــه بتحرُّقٍ.
"الانتظارُ صخبٌ مبعثه القلق". هكذا كتبَ (رولان بارت) وهكذا أشعرُ الآن.
قلبي نحلةٌ نزقةٌ تقفز على أغصانِ الترقـّب.
أتناولُ كتابًا لدرويش وأقرأ؛ لعلـِّي أتخلـّص من هذا القلق.

" وضعوا على فمهِ السَّلاسل
رَبطُوا يديهِ بصخرةِ المَوْتَــى،
و قالوا : ....... أنتَ قــاتل !

أخذوا طعامَهُ و الملابس و البيارق
ورَمُوهُ في زنزانةِ المَوْتى،
وقالوا :..... أنتَ سَارق !
طردوه من كلِّ المَرافئ
أخذُوا حبيبتَهُ الصّغيرة
ثم قالوا :.... أنت لاجئ!

يا دامي العينين والكفّين !
إنَّ الليل زائل
لا غرفة التّوقيف باقية
و لا زرد السّلاسل !

نيرون مات، ولم تمت روما
بعينيها تقاتل.
وحبوب سنبلة تجفّ
ستملأ الوادي سنابل .."

*

من قال إنَّ الحياة بدونِ تحدِّيات، حياة لا يجب أن نحياها..؟ أحيانًا تكونُ التحدِّياتُ أكبر من طاقتنا على الإحتمال.
آهٍ، "سقراط "! لو أنَّك تدركُ كميةَ التحدِّياتِ التي واجهتها منذُ الشَّهقة الأولى، لكنتَ تراجعتَ عن فكرتك.
تناولتُ الدُمية الرُّوسيَّة. دميتِي المُفَـضَّلة.
رُحْـتُ أحَـرِّرُ دُميـــَة مِن جوفِ الأُخرى.
كهذه الدّمية هي الحياة.
كلما تمكـَّنتَ من دمية، تباغتــُـــكَ بأخرى إلى أن تنتهي اللعبة.
أخيرًا، حين تغيّرتْ إشارة المرور عبرَ الشَّارع لمَحْتُ آدم.
صار القلقُ حصانًا جامحًا عصيّاعلى التّرويضِ.
أحسَسْتُ بالرَّهبة تغمرُ روحي وهو يتهالكُ فوقَ الأريكة.
أشعلَ سيجارةً من عقبِ أخرى وراحَ ينفثُ دخانَ سيجارته من حولي وهو يرتَشَفُ قلقي.
لم أعدْ أقوى على الإنتظار. عاجلته بالسّؤال:
- ماذا أرادوا منك.؟
= أن أعملَ معهم.
- تعملُ معهم..!
= نعم. دخلتُ مكتب في مبنى الشرطة . كان رَجُلٌ يجلس الى المنضدة. رفعَ يده ليصافحني وهو جالس على مقعده. رفضتُ أن أمدّ يدي لمصافحته. لم يكترث لي. قال الرجلُ:
= "عارٌ عليك أن تعملَ في تنظيف السّيّارات وأنت شابٌ مثقّف. تعاون معنا، نجد لك ولزوجتك عملا في سلكِ التّدريس".
- ألم تخبرهم أنّك لم تعدْ تجد الوقتَ لممارسة أيّ نشاط سياسيّ..؟
أخبرتهم. لكن الرّجل قال:
= " لا نريدك أن تتخلّى عن نشاطك، بل أن تبقى وسط الطّلاب لتنقل لنا أخبارهم".
- وماذا أجبته..؟
= قلتُ له: "أعمل في " الخَرَا ولا أحتاج الخَرَا."
فجنّ جنونه وسألني:
- " يعني أنا الخَرَا..؟"
أجبته:
- "هذا مثل شَعبيّ."

*

لم تنتهِ ملاحقاتُ رجال الأمن لآدم. ظلّوا يتّصلونَ بنا في البيت عازمينَ على إغوائِه بالعمل معهم، إلى أن أخبرَ آدم أحدَ الصحفيّين بالأمرِ، فكتب مقالا فضحَ فيه كلّ التّفاصيل والأسماء، فكفّوا عن مطاردتنا.

*

جارتي لا تجيد القراءة والكتابة، عرضُوا عليها العمل كمُدَرِّسة في سلك التّعليم. ألا يكفي رضَاهم عن زوجها، الذي يتعاون معهم، كي تصلَ إلى أرْقَـى المناصِب؟ طبعا، هم معنيّون بمُدرّسين أُمِيِّين ينشرونَ الجهلَ في وسطنا، كي نظلَّ في القُمْقُم. وكما يُقال: " على كلّ فلسطينيّ في الدّاخل خمسة جواسيس فلسطينيّين، كلّ منهم مستعدّ أن يبيع جاره أو قريبه أو حتّى ابنه لأجل منصب مرموق أو نقود".

*

انتهتِ السَّنة الدّراسية الجامعيّة بعدَ رحلةِ بقاءٍ شاقة. حاولتُ أن أعثرَ على وظيفة في سلك التّدريس، إلا أنّ أبواب وزارة المعارف كانت مغلقة في وجهي.
قرأتُ اعلانا عن وظيفة شاغرة فهرَعتُ أقابل مفتّشة اللغة الانجليزيّة في حيفا. قابلتني بحفاوة فقد كانت في أَمَسِّ الحاجة لمن تقوم بتدريس اللغة الانجليزيّة بعدما اضطرتْ المُدَرِّسَة الشّابةالتخلّي المُؤقت عن وظيفتها بسبب إنجابها المُبَكِّر.
بعدما اطمَأنَّ قلبي إلى أنّ الوظيفة صارت مضمونة، قامت المفتّشة باتّصالٍ هاتفيّ. فجأة ، امتعضَ وجهُهَا. أعادتِ السّمّاعةَ مكانها. ثمّ، اعتذرتْ عن عدمِ تمكّنها من السَّماحِ لي بالتّدريس.
أدركتُ أنّ ( الخفافيش) خلف ذلك الرفض.
آهٍ أيّتها الأبوابُ المغلقة، أين المفرّ؟
هنالك وظيفة شاغرة في المدرسة الثّانويّة في الناصرة.
توجّهنا إلى النّاصرة.
أخيرا، حصلتُ على وظيفة.
فقد قام رئيس البلديّة، المناضل توفيق زيّاد، بتوظيفي فورا، متحدّيا كلّ التّهديدات.
كان حظّي أفضل من حظّ الآخرين. مثلاً:
مُدرّس علم الاجتماع، هذا الشَّاب الشّيوعيّ، أخبرني أنَّه حصل على الوظيفة بعدما قامت البلديّة بتوظيفه دونما راتب إلى أن ربح القضيّة في المحكمة، التي أعلنت أن ليس هنالك ما يمنع انخراطه في سلك التّدريس، طالما المدرسة بحاجة إلى مُدرّس وهو حاصل على الشّهادات الجامعيّة المطلوبة.

*

مشوارُ الألفِ ميل، يبدأ بخطوة.
ها نحنُ نخطو الخطوات الأولى فوقَ طريقِ الآلام، مُصِرِّينَ على حملِ كلّ صليبٍ نضطرّ لحملِهِ لأجلِ استمراريّة هذا (الزّواج المختلط) المُدَان مُسبَقًا بالفشل من قِبــَــل أفرادِ المُجتمع، والمُدان بالازدهار من قِبـــَــلِ قلبينِ عاشقينِ يؤمنانِ أنَّ الحياةَ لا تُسَلِّم مفاتيحَها إلاَّ لمَنْ لا يخشَى التَّحَدي والمُوَاجَهَة والمُدان بالنجاح من بعض العُقول النَّيِّرَة.








12

أذهلني هذا الحنين الذي أيقظني، أنا المُكتظَّة بالتَّحدِّيات، المُفَخَخَّة بالمواجهات. من قمقُمِ العُـزلة حرَّرَني وسَيّرني عائدة من حيفا إلى الناصرة، كعودةِ الطُّيورِ المُهاجرة. ها أنا لا أمشي إنّما كسنونوّة ٍ أطيرُ مُضَمَخَةً بالحُبِّ. أصافحُ (عَيْنَ العذراءِ)، أصافحُ أجراسَ (كنيسةِ البشارة)، أصافحُ الوجوه َالمُرْهقة، والأَزِقّة التي أحفظُها عن ظهرِ حُبّ. في وضحِ النَّهار أسيرُ، أسِيرة َ أشوَاقي. في وضحِ الحُبِّ أسيرُ، أسيرة َذِكرياتي.
كموجةٍ شاردةٍ أعودُ إلى بحري، هويّتي وذاتي.
يتقافزُ بينَ الحَنايا هذا القلبُ المُرْهَق. يتلو عليّ تلك الومضة الشِّعريّة التي أعشقُها للراّئع عدنان الصّائغ:

" بعدَ قليلٍ ....
أمرُّ
أدفعُ الحياةَ أمامِي
كعربةٍ فارغةٍ
وأهتفُ:
أيّها العابرون
احذروا
أن تصطدموا بأحلامي".

*
فجأةً، لمحتُ سيّارة َ أبي خلفنا بين السَّيارات التي اكتظَّ الزّقاقُ بها.
لا مفرّ أيّتها الشقيّة.
لا مفر!
ما عليكِ إلا المُواجَهَة مهما كان الثّمن.!
مرَّتْ بنا سيّارةٌ يقودُها شابٌ. كان صوتُ المذياعِ صاخبًا:

"وجهُكَ فَـاجَأنِي كالأمطارِ
في الصَّيفِ وَهَـبَّ كمَا الإعصَارِ
والحبُّ فَــرَار، والبُعدُ قَـرَار
وأنَــا لا أملكُ أنْ أختـــَار"

آه ٍ أيتها المناجل، أهكذا تسبقينني إلى السَّنابل..؟
" قلبُ المُحبِّ آمن، تدخله الشّمسُ من كلّ الجهات."
طمأنتُ نفسي بهذه المقولة وأنا أستمدُّ الشجاعة من آدم الذي سارَ بالقرب منّي، وأخذ يحثـّـني على المُواجَهَة.
اقتربتْ سيارةُ أبي مِنـّا، حمدتُ الله أنّه لم يكنْ لوحده فقد كان صديقُهُ حنّا معه.
انحنيتُ، وألقيتُ عليهما التّحيةَ عبرَ النافذةِ الأماميَّةِ للسَّيّارة، من جهةِ صديقه. حَـدَجَـنِـي أبي بنظرةٍ حَاقدة. لم ينبسْ ببنتِ شفة. الازدحامُ الكثيفُ للسَّياراتِ أمامَهُ مَنَعَهُ كَمَا مَنَعَـنِي مِنَ الفَـرَارِ. تابعَ قيادةَ السَّيّارة. لحقتُ بهِ وَعُدْتُ فانحنيتُ وسألتُ:
- كيفك يابا..؟
رقّ قلبُ حنّا صديقه فتدَخَّلَ على الفور:
- يا رجل، هاي بنتك. الدم عمره ما بيصير مَيّ. رُدّ عليها.
ثمّ، التفتَ نحونا وطلب منّا أن ندخل السّيّارة.
دخلَ آدم وتبعته، وتبعتنا أشباحُ الحِـيرَة.
أخذ أبي يحدجُـنــَا بنظراتٍ غاضِبة عبرَ المِرْآة الأماميّة للسَّيّارة. ثمّ ،انهالَ علينا بالعِـتابِ:
- ليه هَـربتوا..؟ أنا كان بدي أزوِّجكم بنفسي. فضحتوني بين النّاس. فضحتونـــــي!
تركناه يُفرْغُ كلَّ ما في قلبهِ من أوجاعِ الذّاكرة ونحنُ محتفظانِ بالصَّمتِ كملاذنا الآمن. توجّهنا لبيت حنّا وهناك أحضروا أميّ، ومعها حضرتْ الدّموع ُ بكامل زخمها، ومعها حضرت الشُّموع التي أنارتْ عتمةَ أيّامي، ومن هناكَ عُـدْنَــا معهما لحضنِ العَـائلة، كسَمَكتينِ عَاشِقَـتَـيــْنِ تـَعُـودانِ للبَحرِ الذي لفظَهُما.


















13

" يجب أن تكونَ عندي مقبرة جاهزة لأدفنَ فيها أخطاءَ الآخرين. قد تصدأ قضبانُ الحياة، ولن تصدأَ إرادتي".
هكذا رحتُ أقنعُ نفسي وأنا أنوي مغادرة حيفا والعودة للنّاصرة حيث تنتظرني سهامٌ كثيرة.
*

لم تستمِلْـني المادّيّاتُ يومًا، فأنا الأنثى المعتنقة ُمبدأَ:
"خبزنا كفافنا أعطنا اليوم".
إعتدتُ أن "أمدَّ رجليّ على قدر لحافي"، كما يقولُ المثلُ الشّعبيّ. دومًا اكتفيتُ بالقليل لأنّ سعادتي لم تـنبعْ ممّا في هذا العَالم من مُغرياتٍ وتَعَظـُّم معيشة، إنـّما من تحقيقي لذاتي ، خاصّة وأنا أحيـــَـا مع شريكِ حياةٍ اخترتـُــهُ بكاملِ إرادتي. رفيقُ درب لم تلوّنْهُ الظروفُ التي واجهناها معًا، رغم قسوتها. ظلَّ متمسّكـًا بذاتِ القِيَمِ، المفاهيم والمبادئ التي جعلتني متيّمة ًأزليّة ً لرجولة، فروسيّة، وشهامة ما لمستها بينَ معظمِ من اصطَدَمْتُ بهم من رجال، خاصّة بعض هؤلاء الأدباءِ الذين بدأت أصطدم بهم. هؤلاء الذين يتشدّقونَ بالمبادئ على ورقٍ ومِنْ على المنابر، ويتبرؤون منها خلفَ كواليسِ الحياة.
*

لم أهتمّْ للغدِ، فالغد يهتمُّ بما لنفسه. يكفي اليومَ شرّهُ. قرأتُ مقولة أعجبتني فاعتنقتها كمبدأ:
"الأمس هو شِــيـــك تمَّ سحبُــه، والغدُ هو شِـــيـــِك مُؤَجَلّ أمَّا الحَاضِرُ، فهو السُّيولة الوحيدة المُتوفرة لذلك أصْرِفهَا بحكمة".
*

تملكتني حيرة ٌ مـُقـمَّـطة ٌ بالغضبِ وابنةُ عمّي تلدغني بسؤالها المسموم، وقد جاءت لزيارتنا في حيفا قبل انتقالنا للناصرة بيومين:
- هذه الرفوف الخشبيّة، ستأتينَ بها للنّاصرة..!
فجأة، اقتحمتْ عبارةُ الأديب أنيس منصور أفكاري:
" لا أعرفُ قواعدَ النّجاح. ولكنّ أهمّ قاعدة للفشل هي إرضاء كلّ النّاس".
تأمّلتُ الثّيابَ القليلة المُنَضَدَّة فوقَ تلك الرّفوف. لم تنتابني نوبة خجل كما توقّعتْ هي، كوني لا أملكُ خزانةً للثّياب. كانَ مبدأُ إنهاءِ هذه السّنة الدّراسيّة الجامعيَّة، والحصول على شهادة، في قمّة سلّم أولويّاتي. ارتضيتُ بالقليل، بل بأقلّ من القليل لأحيَا، حتـّى أنَّني اعتدتُ أن أتبادلَ ارتداء ذات بنطال الجينز مع آدم دون أن يشعرَ أحدُنا بالحَرجِ مِنَ الآخر، بل بدفءِ المشاركة في الأمور الحَياتيّة.
*

أبرقَ وأرعدَ كلامُ أمّي عن ابنة عمّي، التي توجّهتْ لأمِّي تطلبُ منها ثيابي، بعدما غادرتُ المنزلَ للارتباطِ بآدم. إعتصرَ الألمُ قلبَ أمّي وهي تخبرُهَا :" حياة على قيد الحياة "، وأنـّها يومًا ما ستعيدُ لي كلّ أَغراضِي.
*
حدّقتُ في ملامحِ وجهِهَا. تراءتْ لي كشُرْطِيِّ مُـرورٍ، يَهْوَى تسجيلَ المخالفاتِ للمارّة.
قررتُ أن أرْكلَ كلَّ ذكرياتي الأليمة مع هذه المرأة التي أزْهَـرَ وجهُها، وهي تتلهفُ لاصْطيادي في لحظةِ ضعفٍ إنسانِيّ.
ببرود حَادٍ أجبتها:
- بل، سأهديكِ هذهِ الرّفوفَ، عزيزتي.

*

بعدما عُـدتُ لحضنِ العائلة، نهشتْ الغيرة ُ قلبَ تلك المرأة التي كانت تتمنّى موتي. أخذتْ تنشرُ الأقاويلَ عنّي. لم يَرُقْ لها زياراتي المتكرّرة لأهلي، فعزمتْ على طَـردي من بيتِ أبي.
وقفَ أبّي صامتًا كأبِي الهول.
كان يخشى سطوةَ هذهِ المرأة.
صمتُ أمّي أدْمَى قلبي.
كيف لهذه الدّمية أن تطردني من بيتِ أبي!
انتفضَ الدّم في عُـروقي.
ذهبتْ كلُّ أوراقِ المبادئِ مع ريحِ تلك اللحظة المَوْبُـوءَة.
كانَ لا بدَّ أن أثأرَ لنفسي، لأمّي ولأبّي من سَطْوَتها.
أمسكتُها بها من خصلاتِ شعرِهَا، وجررتُها خارجَ منزلِ أبي وأمّي.
قامَتُها القصيرة ساعدتني على تنفيذِ المُهمَّة.
أوْصَدْتُ البابَ بالمفتاحِ.
جنَّ جنونُها، فهرعتْ تخبـّطُ بعُنف ٍعلى النَّافذة .
كانَت المفاجأة قد شَلّتِ الجميعَ عنِ الحركة.
حينَ تأكّدتْ أنّها لن تنشرَ الرُّعبَ في قلبِ والديَّ الصَّامِتَينِ صَمتَ القُبور، هرَعَـتْ إلى عمّي تشكونا له، لكي يأتي بدوره فيبثّ الرّعبَ في القلوبِ التي اعتادتِ الخنوعَ لجَبَرُوتِهِم فجاء مُعاتبًا يختالُ خلفها كالطاؤوس.





















14

في معركةِ الحياةِ الصّامتة، تعلّمتُ أن أكتشفَ الكنوزَ المُخَبَأة داخلَ كِيـــَــاني، ولا أدَع الظروفَ مهمَا كانتْ قاهرَة، أنْ تكسِرَنِي.
الحياةُ محطّاتٌ، منها العَسيرة ومنها اليَسيرَة، وعليَّ أنْ أحتملَ كلَّ أنواعِ التَّجاربِ، فالتّجربة التي لا تكسِرُني، تـُـقـَـوِّيــِــنِي، تصقلُ شخصيّتي وتَـبْـنـِيـِـنـِي.
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، ونحن نحياها مرّة واحدة. لنا حريّة الإختيار في أن نحياها بفرح وإبتهاج أو بؤس وتعاسة. أنا قرّرتُ أن أكونَ من فئة المبتهجين، لأنّ الفرح َ قوّةٌ. قرّرتُ أن أرفضَ كلَّ مَطَبـَّاتِ اليَأسِ التي تعترِضُ طريقي، كي أحيَا بسلامٍ، متصالحةً مع نفسي ومعَ الآخَـر.
لن أنحنِي كما الأغصان لرياحِ النّفاق الاجتماعيّ والغبن السِّياسيّ المتزايد في هذه الرّقعة الصّغيرة من الكَوْنِ، والتي صارت تبدو كحلبةِ مصارعةٍ بين فرسانٍ وثيرانٍ ومتفرّجين. هذا ما رحتُ أبتهلُ به في الغُرَفِ الجوفيـــَّـة لرُوُحي، أمّا السّؤال الذي ظلَّ عالقًـا في دماغي وأنا ألمسُ عوارضَ أزْمةِ هُويّةٍ في كيانِ كلّ مَنْ حولي، فقد كانَ :
..... "من أنا".
*

كانتْ إحدى الزّميلات، تتحدّث في غرفةِ المعلمين عن زيارتها للقاهرة.
غاصَ قلبي بين ضُلوعي، وهي تتلوى متذمّرة من موقفِ إخوتنا المصريّين حين سألها أحدهم عن قوميّتها، فأجابت:
" إسرائيليّة ".
أمّا مُدرِّسة المَدَنِيَّــات، فقد اقتحمتْ غرفة المعلّمين والنّقاشُ محتدم حول الانتخابات في إسرائيل، واحتمال فوز نتنياهو. زمّت شفتيها وغادرتْ الغرفة وصَدى صوتها يخذلني:
"لا يعنيني الموضوع، لا من قريب ولا من بعيد".

*

في إحدى زياراتنا لعمّان، ناولتنا موظفةُ الاستقبال بطاقات الوصول لتعبئة التّفاصيل. احترتُ ماذا أكتب في خانة القوميّة. تركتها فارغة، فتناولتْ الموظّفة القلم وسجّلت: "عرب 48"، وراحت تتذمَّر من الفلسطينيّين الذين يعتبرون أنفسهم "إسرائيليّين".
*

تمّ استدعائي للمشاركة في أمسية شعريّة في رام الله. منعني الحصارُ من دخول بلدة فلسطينيّة رغم أنـّني أحمل في دمي كريات دم فلسطينيّة.

*
في معبر طابة، تناولتُ بطاقة المغادرة لتعبئة التّفاصيل. جمعتُ شتاتَ رُوحي وأنا أسَجِّل في خانةِ القوميـّة وعلى بطاقتي وبطاقة آدم وابنتينا أمل وأحلام:
"عرب 48."
تناولَ الضّابطُ المصريّ قلمًا وشطبَ التّعبير: "عرب 48"، وسجلّ على كلّ بطاقة:
"إسرائيليّ".
*

قمتُ بإرسال ديواني: " قبل الاختناق بدمعة" لأحد الأدباء اليهود المحاضرين في قسم اللغة العربيَّـة في إحدى جامعات البلاد، كما أرسلته للعديد من الشّخصيّات المهتمّة بالأدب من الوسط العَربيّ.
دهشتُ حين وجدت منه رسالة، توقّعتُ الحصول عليها من أحبّائي العَرَب الذين يقاسمونني وجع الانتماء لحضنٍ واحِدٍ، لكّن أحدًا منهم لم يكَلِّف نفسَهُ عناء الرّدّ على رسالتي بكلمة تشجيع أو حتى تقريع..!
فضضتُ الرّسالة بلهفة.
رحتُ أقرأ الإطراء الذي افتتحَ به رسالته، وهو يعلن أنـّني شاعرة موهوبة لها بصمتها الأدبيَّة المُتَفَردَّة ، لكنه اختتم الرّسالة بتنويهٍ طعنني في صميمِ كياني، فقد استنكرَ عليّ التّعبير:
" شاعرة فلسطينية" كما جاء في السّيرة الذّاتيّة في الدّيوان وكانَ انتقادُه كالتّالي:
- أنتم الأدباء عليكم مسؤوليّة بثّ روح التّفاهم والتّسامح والسَّلام في اسرائيل.
*

بينما كان آدم يمشي بثقة في بهو فندق في إيلات، هرعَ إليه رجلُ الأمن مرتعبًا، وكأنَّ آدم "غَـرَضٌ مشبوهٌ "(حيفيتس حَشُود) متّحرك. طلبَ منه الهويَّة. كانت نظراتُهُ توحي أنّ آدم من "فصيلة – ب"، كما يطيبُ لهم تصنيفَ عرب الـ 48، وأنّ المكانَ ليس مكانه.
راح آدم يمطرُه ُبالتّذمر.
بإمتِعاض، غادرْنا الفندق الذي نزلنا فيه بسببِ حصولي على بطاقة مجّانيَّة من المدرسة.
منذ تلك الحادثة، أسقطنا من حساباتنا الاقامة في أيّ فندق لليهود لأنّنا في نظرهِم: " حيفِتس حَشُود " أيّ : "غـَرض مشبوه بِهِ ".
(غَرَضٌ ) لا (كِيانٌ) !
*

وقفنا نحن الأربعة، أنا وآدم وابنتينا، في باحةِ مُجَمَّع دكاكين في تل أبيب. كانت الباحة مكتظة بالذين ينوون الدّخول. لم نفهم سبب هذا الإزدحام إلا ونحن ننتظر دورنا للدّخول، فقد سمعنا تمتمات تؤكّد أن وزيرًا يهوديًّا ما سيقوم بعد لحظات بزيارةِ المجمّع .
فجأة، اصطادَتنا فتاةُ الأمنِ من بين كلّ الموجودين. طلبتْ بطاقةَ الهويّة من آدم، وهي تنظرُ إليه كأنّه "قنبلة موقوتة".
ابنتي أمل، ذات الخمس سنوات، تشبثتْ ببنطالِ آدم وهي تُـتمتمُ مذعورة:
- بابا ليه نحن..؟
التقطَ آدم المهتاجُ غضبًا سؤالَ أمل، وطرحه على فتاة الأمن:
- تقدري تقولي لبنت عندها خمس سنوات، ليه نحن..؟
أعادتْ له الهويّة وهي تعلن بخطواتها المبتعدة عدم مبالاتها بأزمة الهويّة التي نعاني منها نحن الفلسطيّنيون ، في بلدٍ كُتبَ علينا أن نُولدَ فيها، ونَحيا هذا الصِّراع الدَّامي على ذاتِ بقعةِ الأرضِ، حيثُ لا شئ يحرّكُ خيوطَ لعبةِ البقاءِ سوى منطقِ القـُــوَّة.
*

"لا تستطيع فصل السَّلام عن الحرّيّة، فلا يمكن لأحد أن ينعم بالسَّلام ما لم يكنْ حُرّا".

قرأتُ هذه المَقُولة، وخلدتُ للنّوم.
















15

الكتابة، هذا الوجعُ السَّرمديّ ، صارتْ لي بطاقة هويّة أفتخرُ بها، وأجدُها وسيلة للبحثِ عن الذّات، فقدْ أتاحتْ لي المجال لطرح ِالعديد من الأسئلة الوجوديّة:

أما آنَ لي أن
أُحَــرِّرَ مِن قارورةِ العطرِ
... جسدي
أحرَّر مِن توابيتِ القبيلةِ
... وَجَعِي
أحرّرَ مِن مشنقة الغــَــبَن
... عُنُقي
ومِن مَرايا الوَهمِ
... وجهي
لأبحثَ عن صوتي
في ثرثرةِ النَّوارسِ
لأمواجِ البَحرِ
وأرسمَ بطاقةَ كِيانِي
في وشوشةِ الوَرَقِ
لأموَاجِ الحِـبـــْـــــر ..؟


رحتُ أردد في الغرف الجوفيَّة لكيانِي أنّي:

" لا أكتب كي أقاتلَ نيرون إنـّما أكتب كي أكون".

لستُ طبيبة نفسيّة ولا باحثة اجتماعيّة؛ لأقدِّمَ الحلولَ لمشاكلٍ حياتيَّة عاديَّة أو أزماتٍ مصيريَّةٍ مستعصيَةٍ كأزْمَةِ:"فلسطين".
ما أنا إلاّ كاميرا متجوّلة، تلتقط الصورَ وتلقي عليها الضّوءَ بشكلٍ موضوعيٍّ دونَ أنْ تطرحَ الحُـلولَ. قراري في أيّ المشاهد ألتقط هو قرار اختياريّ ينبعُ من ملامحِ هويّتي الأدبيّة المُلتزمة.
رحتُ أطرحُ الحجارة الصّغيرة في بئر ماءٍ راكدٍ، فتتولّدُ الدّوائرُ التي تحثُّ القارئَ على التّفكيرِ في الأزمَة المَطروحة وفي حلولِها:

"الى متى
يظلّ الإنسانُ الصّادقُ
ضميرًا مستترًا
وتظلّ الأقزامُ
المشبّهة بالأفعال
تنصب وترفع
ما تشاء
متى تشاء ..؟ "


*

أكتب لأنّ الكتابة هي التي انتقتني ولم أنتقيها.
ولدتُ وولدتِ الكتابةُ معي من ذات الرّحم. رافقتني الرّحلة منذ الشّهقة الأولى. كانتِ العينَ الثّالثةَ التي أرَى من خلالها الأحداثَ وأُقــَـــيّـــِم الشَّخصيّات. أكتب لأحرّك المشاعر الرّاكدة والرؤَى. كثيرا ما كنتُ أغبط نفسي على هذه النِّعمة لكونِها تمنحني الشعورَ اليقينيّ أنّني شريكةٌ في عمليّةِ الخلقِ، لكنّ من فئةِ الابداعِ، وأنّ الأمومةَ جزءٌ مِن كِياني الأدبّي، فالنّصّ نصيّ وأنا المسئولةُ الأولى عن تفردِّه. هي عمليةٌ تشبه ولادة الأبناء، لكن لا مسؤوليّة للأمّ فيما يخصّ المولود البشريّ، أمّا النّصّ الأدبيّ فهو مسؤوليّتي الأساسيّة، وهو الجَّلاد الذي إمّا أن يجعلني أرتقي أو يأمر بنفيي من سَاحةِ الابداع.
كثيرًا، ما أرهقتني الكتابة لكونها الظلّ الذي يأبى أن يفارقــَــنِي، أو النَّـحلة التي تظلّ تطنُّ في رَأسي، وأحيانا تــُـؤرّقني وتـُرهقني، وتسلبني الهدوءَ النـَّـفسيّ، فأظلُّ متحفزّةً متوتّرةً إلى أن أتمخضَ النّصَّ وأضعه في مذودِ الإبداع .
كثيرًا، ما استيقظتُ على ومضةٍ جاهزةٍ أو فكرةٍ جاهزةٍ فكنتُ أسارعُ في تدوينِها قبلَ أنْ تتوهَ منِّي.
كثيرًا، ما داهمتني المُفرداتُ والصُوَرُ الشِّعريَّة في أوقاتٍ حَـرِجَـة: وأنا أسوقُ السّيّارة أو وأنا أقومُ بتدريسِ طُلابي في الثانويَّة، أو وأنا في زيارةٍ عائليَّة. كثيرا ما أحرجتني واضطرّتني للانزواءِ جانبا؛ لأكتب ما تُمليه عليّ.
كثيرًا ما ألقيتُ عليها يمينَ الطَّلاقِ، فكنتُ أعتزلُ شهورًا عن الكتابة، وكانت تُـطاردني وتقدّم لي شتّى الإغراءات الأدبيّة كي أعَاوِدَ مُمَارسةِ هذا الجُنُون الإبداعيّ.
بعدَ صيام طويل الأمَدِ عن الكتابة، صيامٍ يتخَلَله نهمٌ غريبٌ لالتهام الكتب تأتيني الكتابة ُ بلونٍ آخر من ألوانِ طيفِها، فتقعُ كلُّ أسوارُ الصَّدِّ بيني وبينها، وأستسلم طوعًا أو اضطرارًا للوَحي الجديد المُبتكر.
هنالك من يعتبر أنّ الكاتبَ الجيّدَ يجعلُكَ إمَّا تفكر أو تحلم، وأنا قرّرتُ أن أجعلَ قارئي يُفكِّر ويَحْلُم معًا.
كلَّما حاولتُ اللغةَ، كانتْ تباغتــُـنــِي باحتمالاتِها. كلّمَا منحتُهَا اهتمامًا، كانت تمنحني المزيدَ والمزيدَ من المفاجآتِ اللغويّة كالصُّـور الشِّعريّة والعبارتِ المبتكرة كعبارة:
" أحبّك بالثّلاثة" أو عبارة: "العاشرة ُعشقًا"، أو " آتيكَ راضية ً مرضيّةً "أو " في الثّانية عشرة من منتصفِ الحُلم" وغيرها الكثير من العبارات أو الإنزياحَاتِ اللُغَويَّة التي طاب لي أن أسمّيها بيني وبين نفسي:
" عباراتٌ حياتيّة " أيّ أنّها تخُصُّنِي أنا... "حَياة".
كثيرًا ما كانت انزياحاتي اللغويّة تُدهشُ قارئي:

منعًا
لإفتراقِ السَّاكِنَيْنِ
.. قلبي وقلبك ..
قرَّرْتُ أن أَكسِرَ
أَحَدَ
الخطَّيْنِ المُتَوَازِيَيْنِ
*
أنا وأنتَ
كالخنصَرِ والإبهام
لن نلتقي
إلاّ إذا انحنينا
*

الكتابة فعلُ ارتقاء، والكتابة فعل بقاء. هي جنوني كما أنا جنونُ حبيبي.
قالوا :
"إذا أردتَ أنْ تعرفَ شعبا اذهب إلى فنونه".
على مرِّ العصورِ، ظلَّ الشّعرُ يزوّدُ المجتمعَ الإنسَانِيّ بمعنَى الوُجود، والقدرة على لمسِ جَوهرِ الحَيَاة.
أصبحتْ الكتابةُ من أحدِ المُكَوِّنَاتِ الأساسيَّةِ للهُويَّةِ الحَضَاريّة لكلِّ أُمَّة:
" الكتابة جوهرٌ نصيٌّ للذّاكرة المشتركة، الخيال، الأحلام، والقِيــَـم التي تخلقُ حضارةً مَا وتجعلُها متفرّدة ".
صرتُ أعجبُ كيف يمكنُ للبشرِ أنْ يمرُّوا في هذهِ الحياة دونَ أن يقرؤوا كتابًا..؟
أليستْ المطالعة نعمة خصّنا بها الخالق عن دون المخلوقات؟ لا أستطيع أن أتخيّلَ الحياةَ دونَ كُتبٍ، كما لا أستطيع أنْ أتخيَّلها جميلة لو خَلَتْ مِنَ البِحَارِ والأشجارِ والطُّيورِ، ولا أستطيع أن أتخيَّلها أحَاديةَ اللونِ، فما أجملَ فكرةَ تَعَدُدِّ الألوانِ!

*

الكتابةُ هي أداة البَحْثِ في التَّجربةِ الإنسانيَّة وهي تمنحُنَا الفرصةَ لنعيدَ اختراعَ الحياةِ ونغيّرها، وقد يصِلُ التّغييرُ على ورقٍ لدرجةِ تزويرِ الحقائقِ، ففي لحظةِ الإشراقةِ الأدبيّةِ:
كلُّ شيءٍ جَائــــِز. النّهرُ يتدفّقُ بحُريَّة . لا مجال لكبحه أو تحديد مساره.
حتّى الأديب نفسه، يصابُ بالذّهولِ مِنَ النَّصِ النِّهائيّ الذي يُولَدُ بعدَ كلِّ عمليةِ خلقٍ للمُفرَدَاتِ، تبدأُ بفكرةٍ أو ومضَةٍ أو صورةٍ شعريّةٍ أو بذرةٍ صغيرٍ، لا تلبثُ أن تنموَ فتصبحَ شجرةً وارفةً.
تأتي لحظةُ "الإشراقةِ الأدبيّةِ" كما البرق، دون أن تخطّط لها، دون أن تعرف متى وأين؟ دون أن تستأذنك. تصبح أنت عينــًا ثالثة حساسّة، تدأبُ على التقاط كلّ تفاصيل الحياة كالأحداث والصُّور والأقوال والأفعال.
تخزّنُ في الذّاكرة أنماطًا مِنَ الشّخصيّاتِ. تقرأُ ، وتلتقطُ مِنْ كُلِّ مجالٍ القليلَ مِنَ المعلوماتِ أَو الخبراتِ الحياتيّة؛ لتـُــغنِي مجالَ المعرفة لديك. حين يتكاثفُ كلُّ هذا المخزُون، تمطرُ كما السُحُب المُشبعة، لكنْ لا قطراتٍ إنما مُفردات على ورق. تتحوّلُ الصُّورُ التي التقطتها من الطّبيعة، لصورٍ شِعْـريّة. تتجسّدُ الشّخصيّاتُ التي خزَّنتها في الذَّاكِرَة، كشخصيّات أدبيّة تسيّرها حبكة ُ القصّة أو الرّواية.
يتساءلُ الرّوائيُ انطونيو تابوكي:
"ما الإلهام حقا؟"
فيجيب:
" إنّه ذلكَ الصَّوت، الذي هو أنا بطبيعة الحال، لأنّني معتاد على التّخاطب مع نفسي بصمت، وبجمل حقيقيّة كاملة. تكون المسألة في البداية أشبه بحلقة كهربائية مقفلة. ثم يبدأ التحوّل والانقسام، او حتى الفصام، بيني وبيني. فيروحُ هذا الصَّوتُ الداخلي، صوتُ الشَّخصية، يرتدي نبرة ً ليستْ تماما نبرتي، كأنَّـه صوتي وليس صوتي في الوقتِ نفسِهِ. إنَّهُ نوعٌ مِنَ السكيزوفرينيا غير المُؤذية ويجب أن أتفاوضَ مع هذا الصَّوت، وأنْ أخلقَ مسافةً بيني وبينه لكَي أفسِحَ له أنْ يتكوّنَ بمعزلٍ عنِّي.
آنذاك، عندما أتيحُ لهذا التَّمَيُز أو لهذهِ المُفَاضَلَة أن يتجسّدا، تنفتحُ الحلقةُ وتتحولُ مسرحًا.
ثم، أشرعُ أستضيفُ تدريجيًّا على خشبةِ هذا المسرح أصواتـًا أخرَى، من كلِّ نوعٍ ولونٍ، فتنطلقُ القصّةُ.
أجعلُ هذا بَحَّارًا. أُلبــِسُ ذاكَ معطفـًا جِلديـًّا. أدبّر للثّالث زوجة، وهكذا دواليك: تقعُ الأصواتُ على الورقة وتبدأُ الرّواية".

*

قد يتَّهمُنِي البعضُ بالنّرجسيّة، هذه التهمة التي وُصِم بها الأدباءُ على مرِّ العُصُورِ.
لمَ لا..؟
إن لم يدهشني النّصّ الذي أكتبُ ، أنا قبلَ قارئي، كيفَ أضمنُ أن يلمسَ قلبه ويصله وهو في كاملِ اللهفة للغوصِ في المحيطاتِ التي أُقَدِّمُهَا لهُ..؟


" شاعِرَة ٌ
مَاهِرَة ٌ، مَاكِرَة ٌ
مَنْ يَجدُهَا..؟
ثمَنُهَا يَفـُوُقُ اللآلِئِ
كـُلـَّهَا.
بـِهَا يَثِقُ قلبُ قارئِهَا.
لـَهُ ..
لا تصْنـَعُ إلاّ
الدَّهْشَة َوالبَهْجَة.
هِيَ.. كـَسُفـُن ِ التـَّاجـِر ِ،
مِنْ بَعْيدٍ..
تـَجْـلِبُ رُؤَاهَا.
تـَقـُومُ، إذِ الغـَسَقُ قـَريبٌ
تـَتـَأَمّلُ الأ فـُقْ.
ثمَّ، تـَمـُدُّ يَدَيْهَا إلى المِغـْزَل ِ
وَتـَنـْـسِجُ...
مِنْ حَرير ِ الحُلـُم ِ ..
قـَصَائِدَهَا.
لا تـَخـْشـَى بَرْقـًا وَلا رَعْدَا،
فـَقـَصْرُهَا مُؤَسَّسٌ عَلى .. الأَلـَقْ.
يَقـُوُمُ قـُرَّاؤُهَا ..
وَيُطـَوِّبُونـَهَا،
النـُّـقـَادُ ..
فـَيـَمْدَحُونـَهَا.

*

كـَثيرَاتٌ ..
حَاوَلـْنَ اللـُّغـَةَ
نـَثـْرًا وَشِعْرَا
أَمـَّا أنــَا..
العَارفة ُ سِرَّ
رَحِيــِق ِ الزَّهْرَة..
فـَفــُـقــْـتُهُنَّ جَمِيعًا"

*

منذ نعومةِ حِـبـْـري، اعتنقتُ مَبْـدَأَ:

" اللسّانُ الذي
لا يستطيعُ
أن يقول: لااااا...
ليس لسانَ
إنسان ٍ"

والأديبُ هو لسانُ الأمّة وضميرُها، لذلك:

" النّصُّ الجيّدُ
لا يصنعه إلا
صعلوكٌ صغير"

وكما يقول المثلُ الأسبانيّ القديم:

" لا تقترب من العظماء كي لا تصاب بالخيبة..!" .
فالعديد مِنَ الأصواتِ تجيدُ فنَّ التنازلاتِ والمُجاملاتِ، وتضمنُ للأديبِ الانتهازيِّ فرصةَ الوصولِ إلى المنابرِ وإلى بــُــقَعِ الضَّوءِ السَّاطعة، والكاميراتِ التي تجيدُ التقاطَ الوجوه المطليّة بالألوان والمختفية خلف أقنعةِ النّفاقِ الاجتماعيِّ والأدبيّ. ويظلُّ هؤلاءِ الانتهازيّون يتشدّقونَ بالمبادئِ والقِيَم، غير آبهينَ بالطّرقِ الملتويَّة التي رفعتهُم لأبراجِ المَجدِ الوَهميِّ الزائفِ الذي لن يسجّله التّاريخ، بل سيودي بهم وبما كتبوا إلى الفرَاغ.
*

لم يأتِ تقيمي كأديبة من أيّ ناقدٍ لكوني لا أعتنقُ المجاملاتِ السّخيفة. تقييمي الموضوعيّ، جاء دومًا من عددِ قــُـرَّائِي الذي زادَ على الألفِ قارئٍ لكلِّ نصٍّ أدبيٍّ يظهر على الشبكة العنكبوتيّة.
تقول الأديبة (هيفاء بيطار) في مجموعتها القصصيّة التي تحمل ذات العنوان:
"يكفي أن يحبّك قلب واحد لتعيش"،
ومن وحي هذه الأديبة الجميلة بدأتُ أقول:
"يكفي أن يحبـَّني قارئٌ واحد ٌلكي أكتبَ وأكتبَ وأكتب".
يقال:
" لا نبيّ في وطنه".
وأقولُ:
" تقيميي الحقيقيّ الموضوعيّ يأتي من قارئِي". أمّا النُقّاد فقد خاطبتهم بومضة : "إقرأ ملامح القصيدة لا ملامح وجهي".
دوما شعرتُ أنّني في حلبةِ سباقٍ. أسيرُ ببطءِ السُّلحُفاةِ، وتمرُّ بي قوافلٌ منَ الأرانبِ السّريعةِ العَدْوِ، الوُصُوليَّة، الإنتهازيَّة. مع هذا، أظلُّ أسيرُ الهُوَينَى فالعِـبــْرة لمَنْ يــصِلُ الهدفَ:
وهدفي أنا، كان وسيبقى، أن أتركَ ولو بـَــصْمَة ذات قيمة على رقعةِ الإبداعِ، وأكونَ خيطــًا ولو صغيرًا لكِنْ مُتَـفـَردًا في نسيج ِالكتابةِ الإبداعيّةِ العالميّة.

16

أمرتنا فتاة الأمنِ بالانتظار خلفَ الحاجزِ، وراحَ الشَّابّ الواقفُ بالقربِ منها يحدج كلّ مَنْ في سيارتنا بالنّظراتِ المُترَبِصَّة من خلفِ الزّجاج الأسود لنظّارته الشَّمسيّة، ومِن خلف زجاجِ النّاظور.
ككُلِّ مرّة نعبرُ بها الحدودَ من طابة المصريَّة إلى بيوتنا أتساءل:
"ما الذي ينظر إليه هذا الشّابّ..؟ تراهُ ينظرُ إلى ملامحنا إن كانت تشي أنّنا فلسطينيون، أم أنّه يحتاج أن يقرر إن كنّا "مواطنين صالحين" حسب المفهوم الإسرائيليّ، فالمواطن الفلسطينيّ الصَّالح أو مَنْ حمل لقب "عرب 48" هو ذلك المواطن الأبكم الأخرس والأعمى.
أم أنّه يتفحّص ثيابنا ليستدلّ على هويتنا ، فالمرأة المُحَجبّة حسب مفهومهم خطرٌ على أمْنِ الدّولة، وكذلك الحَامل لأنّ حملَهَا قد يكون خدعة كما حصلَ مرّة مع أختِ زوجي الحَامل التي اقتادوها إلى غرفةٍ خاصّة للتّأكدِ من كونِها فعلا حاملا.
اقتربتْ الفتاةُ بزيِّ الجنديّة منّا، لتسألَ إن كنَّا نجيدُ العبريّة كي تبدأ بالتّحقيقِ معنا وعيناها تتنقّلان من فردٍ إلى آخر، وهي تطرحُ السّؤالَ تلوَ السّؤالِ، وجوابُ النَّفي ذاتِهِ يتكرّرُ معَ كلِّ سؤال:
"هل قابلتم أحدا، تكلّمتم مع أحد، سمحتم لأحد أن يكون معكم في السّيّارة، أعطاكم أحد هديّة لإيصالها لاسرائيل، معكم سلاح أو لعبة على شكل سلاح؟ هل كانت السّيّارة في كراج، هل اقتُحِمَت السّيّارة بهدف السَّرقة؟ هل قام أحد بترتيب حقيبة سفركم...".
طلبتْ منّا أن نترجّلَ فنقوم بنقلِ جميعِ حاجيّاتنا إلى صناديق بلاستيكيّة كبيرة. أمطرَهَا آدم بموجةِ غضبٍ، لكنّها حتمًا لن تفلحُ في إنقاذنا من جحيمِ المرورِ عبرَ الحاجز الكهربائيّ، وتمرير كلّ حاجياتنا على الآلة الفاحصَة، وكلّ المفاجآت التي تنتظرنا. قامَ الحاجز الكهربائي بإصدار طنينٍ متتابعٍ حادٍّ حينَ مررتُ من خلاله.
أمطرتني فتاة ُالأمن بنظراتٍ حاقدة، كأنّها تتّهمني أنّني (قنبلة موقوتة).
أشرتُ إلى إسوارة ذهبيَّة صارت بعدَ الحَمْل والولادة أصغر من حجم يدي.
حاولتُ أن أتخلَّص منها لكن هيهات.
نادتْ الفتاة على رجلِ أمنٍ أعلى رتبة منها، فحدجني بنظرة ثاقبة، وأومأ لها أن تأخذني إلى غرفة صغيرة جدّا عن يميننا، ما لبثت الفتاة أن اقتادتني إليها. ساورتني مشاعرُ الخجل في أن تطلبَ منـّي خلع ملابسي. شعرتُ بارتياح لأنَّها لم تفعلْ. أخذتْ تمرِّرُ ذلكَ القضيبِ الكهربائيّ فوقَ جسدي وفجأة سألتني:
- معك سلاح!
- لا.
عادتْ تمرِّرُهُ فوق جسدي. وأنا أتأفّفُ وأتلوّى سرّا، ولا أجرؤ على التّفوهِ بكلمة كي تُعتقني سريعًا من هذا الجَحيم.
فجأة، طعنتني بسؤالٍ وذلك القضيب الأسود يتوقّفُ قربَ خاصرتني اليُمنى، وكأنّها باغتتني:
- ماذا يوجد هنا.؟
- لا شئ.
احتفظتُ برباطةِ جأشي وهي تتابعُ تمريرَ ذلكَ القضيب ِالأسود فوق كلّ خلية من خلايا جسدي.
أخيرًا، حرَّرَتني.
كان آدم يمطرهم بوابلٍ من التّذمّر وابنتايَ تعلنانِ صمتًا عن اشمئزازهما من الموقفِ المُتَكَرِّرِ كلّما عبرنا حاجزًا أمنيّا.
كانَ يقولُ بامتعاض:
- دومًا تعلنونَ لنا أنَّنا مواطنون من الدّرجةِ الثّالثة ..!
طلبَ منه الشّابّ المرتدي زيّ جنديّ أن يباشرَ بوضع الحقيبتين وبقيةِ الحاجياتِ فوقَ الشّريطِ الكهربائيّ المُتحرّك. مرّت حقيبة ابنتيَّ بسلام، ثمَّ مرّتْ الحقيبةُ الحمراءُ الكبيرة والتي أحتفظ فيها بحاجيّاتي وحاجيّات آدم.
فجأة، ترك الشّابّ شاشةَ المُراقبة أمامه وهرعَ إلى الحقيبة الحمراء التي استقرَّتْ في قبضةِ يدي.
بادرني بسؤالٍ فيه نبرةُ تخويفٍ:
- أنتِ قمتِ بترتيب حاجيّات هذي الحقيبة..؟
كانت التّمثيليّة الفاتنة أنْ توْقعَنِي أسيرةَ الرُّعبِ، وكأنـّه اكتشفَ شيئا داخلَ الحقيبة يهددُّ أمْنَ الدّولة.
ببرودٍ أجبتُ:
- نعم أنا. افتَحْها وتأكّدْ بنفسك أنّها ليست ملغومة."
- متأكّدة؟
- ألمْ تمرّ الحقيبة أمامَ كاميراتكم؟ هل وجدتَ فيها شيئــًـا؟
- فيها سِلاح..؟
= عن أيِّ سلاحٍ تتحدّث! نحن كنـــَّـا في رحلةِ إستجمامٍ وأنتم أفسدتم علينا استجمامنا.
لمحتُ خلفه رفوفًا عليها أوراق للشّكوى، تعلنُ عن ديمقراطيّةِ الدّولة لكلّ عابرِ حُدود.
خطرتْ على بالي فكرة، فهرعتُ أقول:
- حسنــًــا، هاتِ ورقة الشَّكوى تلك من على الرّف خلفك، أريد أن أقدّم شكوى.
لم ينبسْ ببنتِ شفة، ولم يأبه لنغمةِ التّهديدِ في كلامي.
نظر إليّ بتهكمٍ كأنّني نحلة تتحَدَّى أسَدًا.
كنتُ منفعلة وأحسستُ أنّني أكادُ أختنق، لكنَّ لسانَ حالي كان يقول:
" لمن نشكو سَارقَ الكَرمِ؟ لِلسّارقِ ذاتِهِ..! ".
هرعَ إلينا موظفٌ آخر أعلنَ بصَرامَة:
- خذوا الحقيبتين وانتظروا في الصَّالة ريثما يتمُّ فحص السَّيارة.
*

جلسنا في الصّالة ننتظر، وأعيننا تراقبُ اليهود يعبرون عائدين بسيّاراتهم " للوطن" كما تعبرُ العصافير من مكان لآخر دونما معوّقات، بينما نحن عَالقون في هذه الصّالة كأنّنا (قنابل بشريّة موقوتة مُتَحَركَة). كلّ حركة محسوبة علينا. إن اتّجهنا لرمي شيء ما في سلة القاذورات، تهرع إحدى فتيات الأمن لفحصِ السَّلة، وإن اتّجهنا للمرَاحيض تلحق بنا وتتفحَّص كلَّ زاوية في المَكان، وإن خرجنا للشّرْفة تطاردُنا نظراتُهَا، وتتربَّصُ بكلّ حركة نأتي بها. ثمّ تأتي لتتأكّد من سلامةِ المكان.
قرّرنا أن نمتنعَ عن الحَرَكة، فجلسنا نشاهدُ التّلفاز ونحن نتمتعُ ببرودةِ المكيّف الهوائيّ، ونشربُ عصيرَ برتقالٍ طازج اشتريناه من مَقصفٍ لرجلٍ يهوديّ. بدأتْ النّشرة الاخباريَّة بخبرٍ عاجلٍ اقترنَ بصُوَرٍ حيّة من مكانِ الحَدَث.
ها أطفالٌ يُطلقونَ ستّة آلاف طائرة ٍ ورقيــّة عَــبَّرُوا من خلالِها عن حرمانهم من الحُـريـّة داخلَ قفصِ عصافيرٍ كبيرٍ اسمُه:"قطاع غزّة"ِ، وما أكثر أقفاص السّلطة الفلسطينيّة.
ها هم يُعبّرونَ عن مأساةِ شعبٍ مُحَاصرٍ بالحواجزِ الأمنيَّة ونصف رجاله بل أكثر أسرَى في المعتقلات الإسرائيليّة.
أطفالُ غزّة بطائراتهم الورقيّة يحصلون على رقم قياسيّ في كتابِ "جينيس".
يا للسّخرية المريرة!
يا للسياسات المُزرية!
شعبٌ محاصرٌ لا يجد منفذا للهواء والماء وكسرةِ خــُبز، يشغله أن يُدوَّنَ اسمُهُ في كتاب جينيس؟
*

ها أنا أشهقُ وأزفرُ وأطلقُ مليونَ صرخة:

" آخ خ خ خ يـــَا زمن ".

*

وصلنا البيت في منتصف الليل منهكينَ من سَفَرِ ساعاتٍ. أغلقنا النّوافذَ وأسدلنا السّتائرَ وخلدنا للنّوم.
في تمام السَّاعة الثالثة فجرًا، سمعنا خبطًا على بابِ المنزل كأنّ أحدا يقرعُ طبولَ الحَــرْب.
شقّ صوتٌ عتمة َ تلك الليلة:

- إفتخِ الباب. إ فْ تَ خِ الباب.
فتحنا البابَ فإذا بعدد من أفراد رجال الأمن برفقة قوَّة من الشّرطة داهمتِ المنزل؛ لتنفيذِ أمرِ اعتقالِ آدم مُدَّعين أنَّ الاعتقالَ يأتي لأسبابٍ أمنيّة.























الحكاية كما روتها:








(حَوَّاء)










1

هربتُ من حِصَارِ نظراتِ رفيقاتي وأنا أبتلعُ دموعًا تعوَّدتُ طعمها المرّ منذ ذلك الفـِراق الأسطوريّ بيني وآدم. لم أتمكن من جمع شتات حلمي وأنا أسترخي تحت شجرة الزّيتون الوارفة في حديقة دير الرّاهبات، فقد تناهَتْ لسمعي كلماتُ أغنيةٍ من مذياع سيّارة توقــَّفَتْ خلفَ سُور الحديقة.
أحسستُ روحي كحبّاتِ رمّان تنفرطُ حبّة حبّة فوق العشب الأخضر مع كلماتِ الأغنية:

"ليش الحبّ الأوّل
ما بيرضَى يفارقنــْـا
بيرجع من الأوَل
على الماضي يفيــِّـقـنــْا.. ؟

نكبر مهما كبرنــَا
بيرَجَّعنا صغار
بيصير يذكِّرنَـــا
يرمينا بالنَّــار
وبنارُه بيحرقنَـــا.. بيحرقنــَـا.."

ارتفعَ هديرُ موتور السّيّارة. تداخلَ مع الكلماتِ التي راحت تخبو شيئا فشيئـًا، وتغيبُ مع غيابِ شمس هذا المساء:

" صوت في هَــ الليالي مِنْ المَاضِي بيندَه لي
بيسرقني من حالي، من بيتي، من أهلي..."
*

لقد قرّرتُ أن أستأصلَ الحبَّ من ذاكرتي، بعدما أضناني البحثُ عن آدم. لم أجد مكانا آمنا أفضل من دير للراهبات. توجّهتُ إلى رئيسةِ الدير. قصصتُ عليها حكايتي وتوسلتُ إليها أن تأذنَ بانتمائي لهنّ، فضمتني إلى صدرها بحنان، وراحتْ تمسِّد شعري بأناملها الرّشيقة، وهي تستمع لقصّة ذلك الفراق الأسطوريّ عن آدم حين طردنا والده من القصر، وألقتْ بي الشّاحنة في غابَة فظللتُ أسير إلى أن عثرتُ على الدير.
ناولتني الكتاب المقدّس وهي ترنو إليّ بأمومة قائلة:
- ماذا ينتفعُ الإنسان لو ربحَ العالمَ كلّه وخسرَ نفسه.
ثمَّ ربَّتَتْ على كتفي وهي تقول: سينسيكِ الرّبُّ كُلّ تَعَبٍ.
حَضنَتني وهي تقول:
" ستنسينَ المَشَقَّة. كَمِيَاهٍ عَبَرَتْ تَذْكُرينَهَا.".
*


قررتُ أن أشيّعَ الذّاكرة إلى مثواها الأخير؛ كي أحيا دونما أوجاع، لكنّها ظلـّت تطاردني بأشباحها المتمرّدة كلـّما خلوتُ إلى نفسي. كانت ذاكرتي وآدم المَنّ والسَّلوى اللذَيـْنِ كانا غذائي وعَـزائي كلّما نسجتْ عناكبُ الوِحْـدَة خيوطها من حَولي.
إعتدتُ أن ألجأ لشجرة الزّيتون هذي حين أحتاجُ أن أحلم. أسترخي تحت أذرعها الحنونة فتحاصرني الذّكريات. أستدعي آدم، فيتجسّدُ أمامي. يضمُّني إليه. يعاتبني على تلك الغيرة الأنثويّة السّقيمة التي أودتْ بنا إلى هذا الفِراق اللعين.
أتابعُ تفكيكَ الصًّور المُركبّة المَخزونة في الذّاكرة، وأعيدُ تركيبها كما أشاء. أتفننُ بإزالة الغبار عن أوراق ِالأحداث. أدمنتُ الابتهالَ كي أُلجمَ خيولَ الحنين من الانفلاتِ في برَاري الشوّق. أدمنتُ قراءةَ الكتاب المُقدّس الذي وجدتُ فيه عَـزَائي الرُّوحيّ وخاصةً المزامير. فُتِنتُ بشخصية السيد المسيح ، محبته، إنسانيته ورسالته السّامية.
*

كم سنة مرّتْ وأنا أنتظرُ معجزةً تأتيني بآدم..؟
شَعري الشَّائب يشهدُ على طول انتظاري.
دموعي التي لا تنفكّ عن الانسكاب ِ تشهدُ على حُرقة ِ انتظاري.
- آدم، حبيبي أينَ أنت ؟
انطلقتْ من صَدري هذي الصَّرخة.
شقَّتْ سكونَ المساءِ.
تداخلتْ معَ قرعِ أجراسِ المَكان.
حملهَا نسيمُ المساءِ بعيدًا بعيدًا..
خلفَ أسوار ديرِ الرَاهبات..
خلفَ التِّـلال..
خلفَ البِحار..
خلف قُـضبان الذّاكرة..
وبقيتُ وَحْدي.
عالقة هنا كحبّةِ تُـفاحٍ خضراءٍ أخيرة على شجرةِ الصّبرِ.

2

رأيتُ فيما يرى النائم...
( رجالا كالخفافيش يطاردون آدم، يقبضونَ عليه. يحتجزونَهُ داخل غرفةٍ ضيِّـقة.
تمتدُّ أناملٌ كثيرة حولَ عنقِهِ.
تضغطُ ..
يصرخُ ..
تضغطُ بشدّة ...
يصرخُ من قحف رأسِهِ)...
أستيقظتُ.
قطراتُ العَـرَقِ تتفصَّدُ مِنْ كُلِّ خليةٍ في وجهي.
ألهثُ بإعياء.
أبَحْلقُ في السَّريرِ المجاورِ لي.
أختي (تريز) نائمة، ربما تحلمُ بالملائكة وتهتف في سرّها:
"يوم الربّ قريب".
كما يطيبُ لها دومًا أن تُرَدِّدَ.
حدّقتُ في الآية المصلوبة على الحائط فوق رأسها:

(في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم. يوحنا 16: 33)
وآية أخرى في إطار آخر:
(ادخلوا من الباب الضيِّـق لأنَّـه واسعُ الباب ورَحْبُ الطَّريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه. متى 7: 13).
*
آه يا ربّي، ما أضيق الباب الذي دخلتُ منه..!
آه يا ربّي، ارحمني من هذا العذاب، من هذا الانتظار المرير، من مشاعر الغُـربة، من الوِحْـدَة، مِنْ حَنيني إلى آدم..!
هرعتُ إلى غرفة المعيشة كي لا أتسبّب في إزعاج تريز. تهالكتُ فوق الأريكة. تناولتُ جريدة ملقاة فوق المنضدة المستديرة. رحتُ أقلِّبُ الصفحاتِ ببرودٍ.
فجأةً، اعتقلتْ انتباهي صورةُ آدم!
ظننتُ أنـّني أستحضرُ آدم من الذّاكرة كعادتي.
جذبتُ الجريدةَ إليّ وحدَّقتُ فيها.
بلى، هو آدم..!
غريبٌ أمرُ هذي الجريدة. من أتى بها إلينا؟
نحن منقطعاتٌ عن العالم الخارجي. لا يشغلنا سوى التعبّد ورضَا الربّ عنّا، أمّا الأمور الأرضيّة فليستْ ضمنَ مجالِ اهتمامنا.
إجتهدتُ في أن أكبحَ جماح نبضاتِ قلبي المتسارعة.
حدّقتُ في آدم.
ملامحُهُ لم تتغيّر كثيرا. ما زالَ يملك حضورًا طاغيًا يأسر القلب.
ما زالت عيناه تتدفقان حنانــًا ورجولة.
ابتسمتُ وأنا أتأملُ الشَّيبَ الذي غزا شَعْـرَهُ، فقدْ صِرْنا متعادلـَين في اكتساحِ أعراضِ الشَّيخوخة أجسادنا.
نقلتُ نظراتي إلى عنوانِ المقال، الذي لم يستقطبْ انتباهي كما صورة آدم التي قرّرتُ أن أنتشلها من الصّفحة، وأحتفظ بها تحت وسادتي؛ كي تكون لي عونًا في أيّام قحطِ العاطفة.
أخذتُ أرتجفُ كعصفورٍ وقعَ في مصيدة، وأنا أقرأ الحروفَ التي انتصبتْ أمامي كما المَشَانِق:
" اعتقلتْ الشّرطة الإسرائيليّة فجرَ اليوم، الخميس، النّاشط آدم.
كانَ عددٌ من أفراد "الشّاباك" وبرفقة قوّة من الشرطة قد داهمت منزل آدم قرابة السّاعة الثّالثة من صبيحة اليوم الخميس؛ لتنفيذ أمر الاعتقال.
علم موقع "عــ48ـرب" أنَّ الشّرطة قامت بالعبث بمحتويات منزل عائلة آدم ومصادرة عدد من المحتويات، ومصادرة هواتف نقـَّـالة بالإضافة لمصادرة الحواسيب التّابعة للعائلة والحواسيب النَّـقالة.
أكدتْ حياة، زوجة آدم، نبأ اقتحامِ المنزل بشكلٍ همجيّ، وقالتْ:
بعد أن داهموا منزلنا في الثّالثة صباحا قرابة الـ 18من رجال الشّرطة وما يسمى بــ (الشّاباك) أجروا عمليّة تفتيش شاملة، وصادروا عددا من المحتويات منها حواسيب العائلة.
كما أشارت إلى أن عناصر أجهزة الأمن، رفضوا التّعريف عن أنفسهم، وقاموا بإبعادها عن آدم، ومنعها من التّحدث معه. وأضافت أنّها أصرّت على رؤية أمر الاعتقال مما اضطَّرهم بعد ربع ساعة إلى عرْضه عليها، مدَّعين أن الاعتقال يأتي لأسباب أمنيّة."

*

هوتِ الجريدة من يدي، ومعها هَـوى قلبي واعتصرني الألم.
يا للضّيق الذي لا يحتمله عقل بشريّ.
هو الحلمُ الذي أيقظني من سباتي قبل قليل.
آه آدم، لقد أحسستُ بكَ قبل أن تصلني أخبارُكَ
آه آدم..!
أيعقل أن تكون الآن معتقلا وأنا هنا ممنوعة من الاقتراب ِمنكَ؟
تـُـرَاهُم يمارسونَ معكَ أساليبَ التّعذيبِ والتـَّـرهيبِ ؟
لا بدّ أن أعرف في أي معتقل أنت.
لا بدّ أن آتي اليك لأكون لكَ عونًا في الضِّيقِ...!
لكن كيف أغادر هذه الصَّوْمَعَة، كيف..؟


















3

" هؤلاء الطغاة
أصحيحٌ يا ربي
أنـَّهم مرُّوا
من بين أناملِكَ الشّفيفة
وتحمـّلتهم..؟! "(عدنان الصائغ)

هكذا رحتُ أتساءل بصمتٍ وأنا أفكِّرُ في وسيلةٍ تتيح ُلي مساندةَ آدم في هذي الأزمَة، بل هذا الصَّراع الدَّامي الذي وقعَ في دوامته، كما تقعُ حبّةُ زيتونٍ في معصَرَة أو فراشة في خيوط ٍلزجَة لأحدِ العَـنـَـاكِـبِ.
قرّرتُ وأنا أحاولُ ترتيب أفكاري المبعثرة وضبط مشاعري المضطربة، كما أمواج بحرٍ في صباحِ يوم ٍعاصف، أن أبحثَ عن مصدرٍ أستقي منهُ المعلوماتِ عن آدم قبل أن أغادر المكان، لأنّني حين أعود إلى مسرح الحياة الصَّاخب، حيثُ الصِّراع بينَ الشّرِ والخيرِ، حيثُ البقاء للأقوى، لن أتمكّن من التَّـقهقر والعودة إلى هذا الملجأ الآمن.
أخبرتُ الأخت (تريز) عن هواجسي، فهي المُقَــرَّبَة إلى قلبي، وهي مستودعٌ آمنٌ لأسراري منذ قادتني خطواتي الشّريدة إلى هذا المكان.
همستْ في أذني:
- عليكِ بكمبيوتر الأمّ (مريم) رئيسة الدّير.
- أخشى لو أخبرتها بالحقائق أن تمنعني من مغادرة الدّير.
- ستقدّم لكِ النّصائح لكنها لن تمنعك. هي إنسانة متفهِّمة جدّا.
- لكن، ماذا يفيدني أن أخبرها أنّني عثرتُ على آدم وأنا أجهل أين هو وكيف أصل إليه.
-أنتِ تجيدين تشغيل الكمبيوتر، فقد تفوقتِ علينا جميعا في دورة الحاسوب التي تلقّيناها منذ شهور.
= حسنا..!
- سنطلب من ماما مريم أن تسمح لكِ باستخدام الحاسوب للبحث عن معلومات قد تساعدك في العثور على آدم.
تبادلنا ابتسامة رضا، وأنا أرنو لتريز بمحبّة أخويّة وأردّدُ ما قفز للذّاكرة من آياتِ الكتاب المقدّس:

" من بدء الخليقة ذكرًا وأنثى خلقهما الله.
من أجل هذا يترك الرّجل أباه وأمّه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسدًا واحدًا.
إذن ليسا بعد اثنين، بل هما جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرّقه انسان ".( انجيل مرقس10 : 6-9)

*

سمحتْ لي الأمّ مريم باستخدام ذلك الجهاز الصّامت، فجرَ اليوم التَّالي. لم يغمضْ لي جفنٌ طوال الليل، كما أنـّي لم أتململْ في سريري لئلا تصحو الأخت تريز، وتغضب منّي فتمتنع عن مساندتي. الشّيطان شاطر وأنا لا أجهل أفكاره. دوما يسعى لزرع بذور الخصام بين البشر، لكنّه مهما زرع َمن بذورٍ في تربة حياتي، لن يحصدَ إلا الهزيمة.
أخيرا، قرعتْ الأجراسُ معلنة ًعن فجرِ يومٍ جديدٍ. نهضتْ تريز بخفّةِ فراشة. ارتديتُ ذلك الثّوب الأبيض، وأخفيتُ شعري الشّائب خلف المنديل الأبيض. اتّجهنا ويدي في يدها، للصّلاة في الكنيسة . صار آدم محور ابتهالاتي. ركعتُ أمامَ المذبح. رفعتُ يديَّ النحيلتين نحوَ السّماء، وأخذتُ بخشوع ٍ أبتهلُ:
(في اسم الآب والابن والرّوح القدس، إله واحد آمين.
شكرا يا ربّ لأنّك إله صالح، إلى الأبد رحمتك، وإلى دور فدور أمانتك.
شكرا يا ربّ لأنّك أبو الرأفة وإله كلّ تعزية.
عند كثرة همومي في داخلي، تعزيــَاتــُكَ تلذذُ نفسي.
شكرا يا ربّ لأنّك إله عظيم: عظيمٌ في غفرانك، عظيمٌ في تحريرك، عظيمٌ في شفائك، عظيمٌ في محبّتك.
محبّة ً أبديّة أحببتنا، من أجل ذلك أدَمْتَ لنا الرّحمة.
شكرا يا رب لأنّك معي لا تهملني ولا تتركني.
شكرا يا ربّ لأنّك لا تتغيّر ولا يعتريك ظلّ دوران. أنتَ هوَ هوَ، أمس واليوم وإلى الأبد.
شكرا يا ربّ لأنّنا نستطيع أن نأتي إليك كلّ حين، وأنا أتقدّم من عرش النّعمة أطلب رحمة، أنالُ عونًا في حينه.
يا ربّ، ها أنا أضع " آدم" أمام عرش نعمتك. أسألك أن تغطيه بدمّك من رأسه حتى أخمص قدميّه.
أسألك أن ترفعَ عنه كلّ ضيق.
أسألك أنْ تحامي فتنقذ، تعفو فتنجي.
قلوبُ الملوكِ كجداول مياهٍ بين يديك تحرّكها كيفما تشاء.
يا ربّ، من لي سواك ألجأ إليه؛ ليخفف وطأة هذه الأزمة عن آدم، ويفكّ أسره.
مكتوبٌ عنـكَ أنـَّـكَ تسمعُ أنــّاتِ الأسير.
أنتَ قلتَ: "كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم".( إنجيل مرقس11: 24)

أسألك في اسم الرّبّ يسوع المسيح أن تُسَهِّل طريقــَـكِ قــُــدامي، كي أعثرَ على معلوماتٍ قد تقودني إلى آدم.
مباركٌ اسم الرّبّ كلّ حين.
كلّ من طلبوا وجهك استناروا ولم يخجلوا أبدا.
قد كنتُ فتى وشختُ، ولم أرَ صدّيقًا تــُخليَ عنه.
لا يخزى منتظرو الرّبّ.
يفرح جميع المتّكلين عليك.إلى الأبد يهتفون وتظللهم.ويبتهج بك محبّو اسمك. لأنّك أنت تبارك الصدّيق يا رب. كأنه بترس تحيطه بالرّضا.( مزمور5: 11-12)
أرفع هذه الصلاة في اسم ربّي ومخلصي يسوع المسيح.
أثق أنك إله ٌحيّ تسمعُ وتستجيب.
آمين ثم آمين).













4

"سنرجع يوما إلى (حــُبــّنــا)،
ونغرقُ في دافئاتِ المُــنــَى.
سنرجعُ مهما يمرُّ الزَّمانُ،
وتنأى المسافاتُ ما بيننا".
هكذا رُحْتُ أدندنُ ، كما اعتدتُ أن أفعلَ مع كلّ غروب وأنا أسترخي تحتَ شجرةِ الزّيتون، أحلمُ بالعودة إلى فردوسِ العشقِ، حيث لم يكن في الكون سوانا أنا وآدم، أوّلُ عاشِقــَيـْـنِ في سِفـْر الحياة، حيثُ كنتُ لهُ وطنًا وكانَ لي هُويَّة.
كم كانَ وما زال يـُطربني أن أستبدل كلمة "حـَيــّــنـا" بكلمة
" حـُـبـّـنــا ".

*
ككلّ فجرٍ، راحتْ شاشةُ الحاسوب تنفلشُ أمامي، كأنَّ الحياة تستقبلني بحفاوة وتدعوني لأقتحمها من أوسع أبوابها. سارعتُ بطباعة اسم "آدم" في محرّك البحث ، فاذا بي أعثر على المقال التّالي:
(( بعد 16 يوما من التّعتيم الاعلامي وحظر النَّشر، وحظر الاعلان عن حظر النّشر، تمَّ الكشف أمس عن قضيّة اعتقال الشّخصيّة البارزة لدى فلسطينيي الـ 48، آدم ، بشبهتيّ "التّجسّس والإتّصال بعميل أجنبيّ"، خطوة يراها الفلسطيّنيون تصعيدا مُمَنهجًا ضِدَّ الفلسطينيين لمنع التّواصل مع العالم العربيّ، والحَدِّ مِنْ نشاطِ مَنْ يفضح سياسة إسرائيل.
سمحتْ محكمة الصّلح الإسرائيليَّة في بيتح تكفا أمس بالنّشر الجُـزئيّ عن اعتقال آدم.
وقالت الشّرطة، في بيان مقتضب، إنّ آدم مشتبه بـ " مخالفات أمنيَّـة خطيرة وقضيّة تجسُّس والاتّصال بعميلٍ أجنبيّ".

آدم ، 50 عاما، يعدّ واحدا من نشطاء العمل الأهليّ في الدّاخل، ويرأس جمعيّة "العودة" الأهليّة العربيّة ، وله نشاط جماهيريّ واسع على الصّعيد العامّ. قالت زوجته، السّيّدة (حياة) ، إنَّ الشرطة الإسرائيليّة اعتقلته يوم الخميس الماضي، حين وصلتْ قوات كبيرة إلى بيتهم في الثّالثة فجرًا، وأجرتْ تفتيشا دقيقا وعاثتْ في حاجيّات المنزل خَرَابًا أمام عينيّ ابنتيهما (أمل) و(أحلام)، مع منع ثلاثتهنّ من الحركة داخل المنزل.
ولا يزال آدم ممنوعا من لقاء محاميه أو أحد من أفراد أسرته حتى هذه اللحظة. أكدَّت السّيّدة (حياة) أنّ ما يجري يندرجُ ضمنَ الملاحقة السِّياسيَّة نتيجة لنشاط زوجها في فضحِ السِّياسَة الإسرائيليَّة.
ورأى محامي المعتقل، أنَّ الشُّبهات المنسوبة لـ (آدم) أصبحت في الآونة الأخيرة بمثابة تُهَم جاهزة، يمكن تلفيقها ضدّ أي ناشط سياسيّ وحقوقيّ له علاقات مع العالم العربيّ، ومع الحملة الدّوليّة لمناهضة ممارسات إسرائيل التّعسُفيَّة.
وأضاف: " إنَّ المحاكم الإسرائيليّة تُضفي شرعيّة على السَّواد الأعظم من نشاطاتِ الأجهزة الأمنيــَّة ".
كما وقال النّائب (...)، لــ (الأخبار): " يبدو أنّ المؤسّسة الإسرائيليّة بدأتْ تفقد أعصابها، وتعتبر أيّ تواصل مع العالم العربيّ خطرا على أمنها. لا يمكن فهم ما يجري إلا في إطار ما قاله رئيس الشّاباك الاسرائيليّ بعد الحرب على لبنان، وهو أنّ ما يجري في صفوف الفلسطينيّين في الدّاخل هو التّهديد الاستراتيجيّ على إسرائيل كدولة يهوديّة. وعندما تعرّف المخابرات بأن العمل السّياسيّ الذي يتحدّى الصهيونيّة، والحدود التي ترسمها إسرائيل بأنّه تهديد استراتيجيّ فهي تلاحق الشّخصيّات الوطنيّة".
وأضاف: " لقد فشلوا في السّابق وسيفشلون الآن" . وتابع:
(آدم) معروف بعمله الوطنيّ السّياسيّ، واسرائيل تعمل طيلة الوقت لإضفاء بُعد أمنيّ على هذا النّوع من العمل السّياسيّ".
هذا وقد كان وَقـْعُ القضيّة قاسيا على الجماهير الفلسطينيّة في الدّاخل، إذ تصدّرت عناوين المواقع الإلكترونيّة ونشرات الأخبار التّلفزيونيّة.
ومع اقتراب المساء، شهدت مدينة حيفا تظاهرة شارك فيها المئات، وقفوا على جانبيّ الطّريق، ورفعوا صور (آدم). وكانت الهتافات عالية، يسيطر عليها الغضبُ وسطَ حضورٍ طاغٍ للشُّرطة الإسرائيليَّة، التي وقفتْ على الجانب الآخر للشَّارع. طالـَبَ المتظاهرون بوقف الملاحقة السّياسيّة للقياداتِ العربيَّـة، وهتفوا من أجل تحرير الأسْرَى، وصمود آدم في التّحقيق.
وفي مقدمة المتظاهرين، ظهرت زوجة المعتقل، السّيّدة (حياة)، التي أكّدت أن آدم يملك القوّة الكافية للتّصدّي لمثل هذه الشُبهات المُجحفة.
وحَمَلَتْ السّيّدة حياة ملصقاً بصورة زوجها، كتب عليه بالأسود والأحمر "الحرّيّة لأسرى الحرّيّة"، بينما رفعت ابنته (أحلام) لافتة ضخمة برتقاليّة كتب عليها "أطلقوا سراح آدم"، ورفعت ابنته (أمل) لافتة بعنوان: "كلّنا آدم ، كلّنا أسرى" )).
*
رحتُ أستمعُ لحديث السّيّدة حياة، عن ظروفِ إعتقالِ آدم، بفضولٍ أنثويّ ولوعة مكبوتة.
نشبتْ نيرانُ الغيرة في قلبي.
كم مرّة أكدَّ آدم لي أن لا امرأة في نبضِهِ سوايَ..؟
" أنتِ لا سواكِ" كان يكرّرها بثقة ِوشهامةِ الفُـرْسَان.
" أنتِ لا سواكِ" كان يرسمها أيقونة على جناحِ نورس.
"أنا سيّد الرّجال لا أرتمي في أحضان امرأة إلا حبيبتي" .
مع أوّل فرصة إرتمى في أحضان امرأة أخرى!
بينما، انعزلتُ أنا عن الكون، وعشتُ غريبة في دير" راهبات مريم المجدليّة"، لكي يبقَى نبضي طاهرًا نقيًا يمدّني بكريات العشق الوهميّة، فينعش قلبي، وأحيا على ذكراه.
*
هي في جمالِ زهرِ البنفسج، أمّا أنا ففي جمال الطُّيور، وهو يعشقُ الطُّيور. تغريدُها وأجنحتُها.
كم مرّة أخبرني أنّني سنونوة وأنـّه لي المَدَى؟ كم مرّة أخبرته أنــّه لو كان عينــًا، أكونُ له الدَّمعة، ولو كان وردة أكونُ عِطرها، ولو كان بحرًا أكون حوريته؟
هي في جمال النَّـدى، أمّا أنا ففي جمال القدّيسة (ريتا)، تلك الجوهرة الفريدة ذات القلب الذّهبيّ، التي نذرتْ حياتها للتَّقوى والتّقشف، بعدما ذاقت من الآلام ألوانها، وصادفت الشَّاق المستحيل في حياتها، فلم تيأسْ، بل تسلّحتْ بالصَّبرِ والصَّلاةِ ، بإِماتَة ِ الجَسَدِ وَالتَّــقَـشُّــف، فذلّلتْ العقباتِ الجِسَام وانتصرتْ على الباطلِ، غير هيّابة بما أحاقَ بها من آلام مبرحَة.
*

غُصْتُ بمهارة أنثويّة داخل أمواجِ عينيها.
بدتْ لي أنثى عَمَليَّة اعتادتْ على ركوب ِأمواجِ الحَياة والتَّـصَدّي لها، بينما أنا لستُ إلاّ أنثى رومانسيّة أهوى التّقوقع داخل قـُمـقـُم ِ أحزاني. أهوى رثَاءَ الذاتِ. أجترُّ الذّكرياتِ كما الإبل .
هي تنظرُ للمستقبل بينما أنظرُ أنا كامرأةِ لوط للماضي. لا أتقدّم للأمام، وأنسَى ما هو وراء. منحنية َ الهامة، مهزومة ً، أمشي.
بينما، تمشي "حياة" منتصبة َالقامَة، مرفوعةَ الهامَة.
في كفـّها قصفة زيتون وفي كفّي أوراقُ ذاكرةٍ مُغتصبة.

*

شيئا فشيئا، دبّت مشاعرُ التَّسامحِ في عروقي.
هي أنثى استثنائيَّة.
لمَ لا يقع آدم في حبّها بعدما فقدَ الأملَ بالعثورِ عليّ؟
هو رجلٌ، والرّجلُ لا يستطيع أن يصومَ عن الزّواج حين يفقد شريكةَ حياتِهِ، فهو يحتاجُ مُعينــًا نظيره، بينما تستطيع الأنثى أن تتدبَّر أمورها من غير شريك حياة.
هذا فضلا عن أنّ (العاطفة) هي المحرّك الأساسيّ لعقارب قلب المرأة، بينما (الرّغبات) هي المحرّك الأساسيّ لنبض ِ قلبِ الرّجُل.
قلبُ الأنثى كقلبِ العاشقة النقيّة "أفروديت"، لا يتسّع إلا لحبٍّ وَاحِدٍ كبير يعصفُ بها ويتركها أسيرة حلاوته مدى الحلم، فهي تبحثُ في الرَجُلِ عَنِ الأحتواءِ والإنتماءِ.
أمّا قلب الرّجل، فهو كقلب "راسبُوتين".
ياه كم هو كبيــــــــــــــــــر ومخاتل.!
إنّه يتّسع لحبّ كلّ نساء الأرض.
*
رحتُ أبحثُ عن مقالٍ آخر يروي هذا الظّمأ المُزْمِن لمعرفةِ أخبار حبيبي آدم.
عينايّ منشدّتان إلى شاشة الحاسوب وكأنــّهما ممغنطتان.
كلّ الوجوه التي مرّتْ بي، من آدم لحياة لأمل لأحلام للمحامي، للجيران، لكثيرين غيرهم، بدأت تُعَشِّشُ في ذهني.
ها أنا أسمعهم كأننّي أسمع جوقة موسيقيّة واحدة، تدندنُ بصوتٍ خافتٍ واحد، راح يزدادُ صخبًا شيئا فشيئا وشاشة الحاسوب تأتيني برغيفِ خبزٍ آخَـر من صنعِ أتون الحياة:

" إذا الشّعبُ يومًا أرادَ الحياة
فلا بدَّ أن يستجيبَ القدر".









5

أنظرُ وجهي في المرآة الكبيرة المصلوبة على الحائط المقابل، بينما يعملُ الحاسوبُ في البحثِ عن مقالٍ آخر عن آدم.
منذ متى لم أنظرْ وجهي في المرآة..؟
منذ متى وأنا معتقلة عاطفيًّا في هذا الدَّير..؟
هم اعتقلوا آدم داخل سجنٍ وُجُودِيٍّ، أمَّا أنا فقد اعتقلتُ نفسي داخل سجن وِجْدَانِيّ.
أنظرُ وجهي في المرآة.
أرَاني.
في عينيّ آدم أرَاني.
آه آدم..!
أيّها الطّفل الأنانيّ الذي يظنّ أنّه محورُ الكَوْنِ، وأنَّ كلَّ الغَزالاتِ يَدُرْنَ حوله كما تدورُ الأرضُ حولَ الشَّمسِ..!
أيّها الطفل النَّـرجسيّ الذي يسعى للاستحواذ على قلوب كلّ العَـذَارى كي يُثْــبِــتَ لحبيبتِهِ أنـّه (الرَّجلُ الحُلمُ)، وأنّها حَظِيَــتْ بسيِّدِ الرّجالِ.
أيّها الطفل، الذي يظنّ أن الإناث كما الألعاب كلّها في متناول غروره. يمتلكها متى شاء، ويقذفها في أتون الفِراق متى شاء، كأنّها ماكينات لا تتألم.
آهٍ آدم.
حبيبي أنتَ.
*

أعادني المقالُ الذي ظهر على شاشةِ الحاسوب إلى أرض الواقع. نفضتُ عنّي ضبابَ الشُّرودِ ورحتُ اقرأ:
(( عَلِمَ مراسلُ موقع (بكرا) المتواجد مع المتظاهرين المندِّدين بالاعتقالات السّياسيّة لنشطاء الجماهير العربيّة في محكمة (بيتح تكفا)، أنَّ المحكمة مدَّدت الآن اعتقال الناشط آدم لـ 5 أيام إضافيّة على ذمَّة التّحقيق، وذلك حتّى يوم الإثنين القادم، لمواصلة التّحقيق معه في التّهم المُوَجَّهة له، وهي الاتّصال بعميلٍ أجنبيّ والتَّـجَـسُّس ، وفق ما أفادنا به المحامي (...) وكانت الشّرطة قد طلبت تمديد اعتقال آدم لـ 12 يوما، لكنّ المحكمة رفضت الطلّب، وقامت بتمديد اعتقاله لـ 5 أيّام فقط.
فورَ إعلان تمديد الاعتقال حاول أفراد عائلة آدم، زوجته وابنتاه، الدّخول إلى قاعة المحكمة لرؤية والدهم الذي لم يُتَحْ لهم رؤيته منذ 12 يوما، فما كان من أفراد الشّرطة إلا أن دفعوا أفراد العائلة خارج مبنى المحكمة.
وكان نشطاء عرب ويهود قَد بدأوا بالتَّــظاهر أمام محكمة (بيتح تكفا) منذُ ساعاتِ الصباح، احتجاجًا على المُلاحقاتِ السياسيَّة، التي تنتهجها حكومة إسرائيل ضدّ المواطنين العرب في الدّولة تزامنا مع مثول المعتقل آدم في المحكمة المذكورة، لتمديد اعتقاله لاستكمال التّحقيق معه في الشّبهات المنسوبة إليه بالتَّجسُّس الخطير والاتّصال والتّخابر مع عميل أجنبيّ.
هذا ويتواجد أعضاء كنيست عرب من جميع الأحزاب وبعض رؤساء البلديّات والمجالس المحليَّــة العربيَّـــة في موقع الحدث.
وقد رفع المتظاهرون خلال المظاهرة شعارات مُندِّدة بحكومة إسرائيل وسياستها، وطالبوا بالافراج عن جميع المعتقلين، خاصّة آدم. ورفعوا شعارات أهمَّها: "كفى للملاحقات السّياسيّة" و "الحريَّة لأسرى الحريَّة".
كذلك، هتف المتظاهرون هتافات ندَّدوا فيها بسياسة الحكومة وأجهزة المخابرات، جاء فيها: "حريَّة .. حريَّة لسجناء الحريَّة" و "ما بنهاب وما بنهاب إسرائيل دولة إرهاب" و "إسرائيل دولة شرطة" وهتافات وطنيَّة أخرى.)).
*

آه آدم..!
آهٍ حبيبي..!
هم اعتقلوك ليختطفوا منك كينونتك العربيّة؛ ليسرقوا أرضك التي هي قدسك والتي هي مهد البشريَّة، لكن شُبّه لهم. شجرةُ البرتقال تعرف غارسها. شجرة الزّيتون تعرف غارسها، وتبادلُهُ حُبًّا بِحَبٍّ. زهرةُ الصّـبّار، مهما اقتلعتْهَا يدُ الاحتلالِ، تعودُ وتعلنُ عن وجودها.
آهٍ آدم..!
هم اعتقلوا الجسد، أمّا الرُّوح فلا يقدرون عليها. ألم يذكر الكتاب المُقدَّس: " لا تخافوا ممن يقتلون الجسد، أمّا الرّوح فلا يقدرون عليها"..؟
ها روحُكَ ترفرفُ الآن من حولي. تخبرُنِي أنّني أجمل النِّساء. ببشرتي التي أكل عليها الدّهر وشرب، أنا جميلة.
بشعري الكستنائيّ الذي اكتسحَ الشَّيبُ أغلبَ خصلاتِهِ، أنا جميلة.
بعينيّ، اللتين فقدتــَا بريقهما العسليّ حين أدمنتا صنعَ الدّمعِ المَريرِ.. أنا جميلة.
آه آدم..!
ها أنا أسمعُـكَ تترنّم ، كما كنتَ في فردوسِ والدِكَ ونحنُ نخطو بين الشَّجر نقطفُ ما طاب لنا من ثمر:
" الذي يعرف حبيبتي ينحني ويصَلِّي لإلهٍ في العُـيون ِالعَسَــليـّة "

آه آدم..!
بين عينيّ وعينيك ، بندقيــــّــــة، فكيف أجتازُ كلَّ الأسوارِ الشّائكة، والنَّار والحِصَار، وأعبر إليك كي أعودَ ضلعًا في صدرك، فتكون نهاية هذا الشّر الذي استشرى في قلوبِ البشر، ونستعيد الفردوس الأوّل؟















6

يومًا بعد يومٍ، رحتُ أتابعُ قضيَّة آدم في المواقع الألكترونيَّة، والألم يعتصر قلبي وأنا أشهد على التّعامل غير الإنسانيّ مع زوجته وابنتيه اللواتي مرّتْ شهور وهنَّ ممنوعات عن مقابلته وجها لوجه، فقد كان التّواصل بينهم عبر حواجز زجاجيّة، والكلام عبر هواتف يتمّ مراقبتها، وعدد الزّيارات لا يتجاوز المرّة أسبوعيا، بشرط أن يتمّ الاتّصال هاتفيّا بموظّف السّجن لتعيين لقاء، ولم يُسمح لأحد سوى من ذوي القرابة الأولى بزيارته في السِّجن لمدة لا تتجاوز نصف السّاعة، ومن خلف حاجز زجاجيّ، ومُنعتْ عنه الكتب ومُنع من الحصول على ثيابه أو أيّ شئ من حاجيّاته، حسب ما جاء في الصحف الألكترونية.
اشتكتْ السّيّدة حياة من عدمِ تسهيلِ فُرَصِ اللقاء بآدم، حيث كانتْ تضطرّ أن تنتظر ساعات، خارج القضبان، رغم أن ساعة اللقاء محدَّدة مسبقا، متحمّلة الجوّ الحارّ الخانق، إلى أن يسمحوا لها بالدّخول.
كانت الرّسائل وسيلة الاتّصال الوحيدة بين آدم وزوجته، كما جاء على لسانها، والتي كان محددًا عدد صفحاتها وعدد مرّات استقبالها. لذا كان كل منهما يكتب للآخر بحروف صغيرة؛ كي يتسنَّى له أن يكتبَ أكثر. صرّحتْ حياة أنّها كانت تكتب لآدم عن كلّ ظروفِ حياتها خارجَ القضبان مع ابنتيها، بكل تفاصيلها الصّغيرة، حتى أنّها كانت تصف له البراعم الجديدة على زهرةِ البرتقال في حديقةِ المنزل؛ِ كي لا يفقد إحساسه بالمكان.
كانت تناضل مستبسلة من أجل إطلاق سراح آدم، متنقّلة كما النَّحلة من منبر لمنبر؛ لفضحِ المؤامرة التي تهدفُ لكسرِ معنوياتِ زوجِهَا ونتفِ ريشِ جناحَيْهِ.
هذا، وأعلنتْ السّيّدة حياة أن آدم تعرَّضَ لتعذيبٍ نفسيّ وجسديّ فورَ إعتقالِهِ، تمَّ خلاله انتزاعُ الأقوالِ التي وضعوها هُمْ في فمِهِ، وتمَّ التّحقيقُ معَهُ ساعات متواصلة وهو مقيَّـد اليدين خلفَ ظهره، مسمّر فوقَ مقعدِ أطفال، غير آبهين بقامته الممشوقة، وكلما انتهى طاقمٌ من التّحقيقِ معه، يأتي طاقمٌ آخر لاستبداله ومنعه من الخلودِ للنوم.

*
انهمرتْ الدموعُ من عينيّ.
شعرتُ بغصّة في حلقي وضيق ٍفي صَدْري، كأنّ الشُّعبَ الهوائيَّة أخذتْ تضيقُ والهواء لا يمرّ عَبْرَها.
شعرتُ أنّ الحياة سجنٌ كبيرٌ، وأنّ الانسانَ تحوّل إلى جلاّدٍ لأخيهِ الإنسان.
توجهتُ إلى المِرناة وأشعلْتُها .
أخذتُ أنْصِتُ بخشوع ٍ للمرنمِ وهو بثقةِ المنتصرِ يُرَدِّد:

" ضاقتِ الدّنيا قصادي
واتقفلت الأبواب
لكن إنتَ يا ربّي فاتح
ليَّ أعظم باب.

أنت يا ربّ الحياة
ومعاك طوق النجاة
ابنك لو منــّـك تاه
أبدا مش رَحْ تِـنْـسَـــاه "
*
أخذتني خطواتي لشجرةِ الزَّيتونِ، فاستلقيتُ فوقَ العشبِ الرَّطبِ.
أخذتُ أتساءلُ ووجْه آدم يترنحُ أمامي:
هل:" شدّة المحن تصنع الرجال "، كما قال ريتشارد نيكسون..؟
" نحن شعبٌ لم يختر قضيّته، إنّما قضيّته هي التي اختارته ".
هكذا صرّحتْ السيِّدة حياة. وأردفتْ:
" المتفائل إنسان يرى ضوءا غير موجود، والمتشائم أحمق يرى ضوءا ولا يصدّقه. نحن الفلسطيّنيون صرنا جميعنا متشائلين، كما كتب الأديب (إميل حبيبي). لسنا متفائلين ولا متشائمين. صرنا نعرجُ بين الفريقين، مع أنّنا شعب يحبُّ الحياة. مَنْ فينا اختار هذه الأزمة المصيريَّة التي وقعنا فيها، كأنّنا حبّات زيتون، تقطفنا أيدي الإحتلال، وعلى بساطِ القمعِ والإضْطِهادِ تلقينا، ثم تجمعنا، وداخل معصرةِ العُـنصريّة تقذفنَـا."
*

"ما هي الحياة؟ وما جدواها؟ " راح السؤالُ يتصاعدُ كما البخورِ من حولي.
أهي قصّة يرويها أبله، مفعمة بالضجيج والصَّخب، وليس لها معنى، كما يدّعِي (شكسبير)..؟
أهي مثل "البصل، قشرة تحت قشرة ولا شيء في النّهاية إلا الدموع" ، كما يدّعي الأديب (أنيس منصور)..؟
أم هي "طفلٌ ينبغي ملاطفته حتــّى ينام"، كما يدّعي (فولتير)..؟
إنّ الورطة التي وقعَ فيها آدم جعلتني أعتنقُ فكرة (شاتوبريان) :
" أنّ الحياة تمرُّ سريعًا، ولكنّها تُـثـْـقِـلُ في مرورها "، كما بدأتُ أتّفق مع (اتيان راي) في قوله:
" أصبحَ الخوفُ من الحياة شرًّا أكثر انتشارًا من رهبة الموت ".

*

أخبروا (نابليون) يومًا أنّ جبالَ الألبِ شاهقة، تمنعُ تقدّمه، فقالَ:
" يجب أن تزولَ من الأرض ".
ويذكر الكتاب المُقدَّس:
" إن كان لديك ذرّة إيمان تستطيع أن تنقلَ جبال"، أي بقليل من الإيمان تستطيع أن تتغلبَ على أضخمِ مشكلة، حتى وإن كانت شاهقةً كالجِـبَــالِ.
ها أنا أقولُ بإصرار:
"من أنت أيّها الجبل العظيم، أمامي تصيرُ سهلا".
لكن، ماذا لو أنّني لم أعثر على آدم..؟
ماذا لو استقبلتني (حياة ) بعِدَاءٍ ملموس..؟
أين أذهب إن لفظتني الحياة..؟
الحياة بما فيها من معتقلات، وأسلاك شائكة، واحتلال،وكراهية واغتصاب ونفاق وخداع وشرور من صُنع البشر، أمامي.
ديرُ الرَّاهبات بما فيه من أمان وسلام وطمأنينة ورجاء، خلفي.
إن قرّرتُ أن أفتحَ بابَ الحياةِ وأقتحمها، لن أتمكنَ من التقهقر، فالباب سيُغلقُ كما باب الفِـردوس.
رحتُ أسترجع في ذهني تلك الأقوال المشجّعة التي درستها في مادّة الفلسفة، مع إحدى الرّاهبات، وأتقنتُ حفظها غيبا:

" ليس النّجاح سوى القدرة على الانتقال من فشلٍ إلى فشلٍ دونَ أن تفقد حماسَكَ". (تشرشل)

إذا فكـَّر كلّ من النّاجح والفاشل في مشكلة ما، فإنّ النّاجح يفكر في الحلّ، بينما يفكر الفاشل في المشكلة.( أبراهم لينكولن)
أنا لن أفكر في المشكلة إنّما في الحلّ.
أنا أفكر، إذن أنا موجودة وأنا أحيا.
أنا أحيا لأنّني أحبّ آدم، وحين تحبّ تبدأ بالسّير عكس مصلحتك الشّخصيّة.( برنارد شو)
لم تعد مصلحتي الشّخصيّة تشغلني، إنّما تستحوذ عليّ فكرة أن أكونَ بالقرب من آدم.
لم تعُـدْ راحتي الشَّخصيّة تشغلني، إنـّما يشغلني أن يدركَ آدم أنّني بحثتُ عنْهُ، وأنّني حاربتُ طواحينَ الهواءِ من أجلِ الوصولِ إليه، كي أكونَ له عونًـا في الضِّيقِ.
*

حين يمرُّ الحبّ بنا، لا يعودُ أيّ شيء كما كان.( غادة السّمان)
مرَّ الحبُّ بقلبي وصِرتُ أسيرته.
الحبّ الذي يستعصي على النّسيان، يستعصي أيضًا على التّكرار.
( غادة السّمان)
سأعود الآن للدّير وأخبر الأمّ مريم أنّني سأغادر غدا للبحث عن آدم.
أعظم خطأ يرتكبه الإنسان هو الخوف من الوقوع في الخطأ.
( ألبرت هوبارد)
وأنا لم أعُد أخشى الخطأ.
لقد بدأتُ حياتي بالغيرة العمياء.
كنتُ أغار على آدم حتــّى من خيالي إذا لامس خيالـَهُ على الأرض.
بدأتُ حياتي بالشّكوك وها أنا أنتهي إلى اليقين.( بيكون)
يقينٌ أنّني من آدم ولن أكون لسواه، لذلك سأتحدّى كلّ العقبات التي تقف في طريقي للعودة إليه.
كلمة مستحيل لا توجد إلا في قواميس المجانين.( نابليون)
إلى صدره الدّافئ سأعود، بين ضلوعه سأختبئ، لتعزفَ الطبيعة ُ سيمفونيةَ العودةِ، ويعمّ الفرح والسّلام الإلهي.
سيفتحُ الفردوسُ أبوابه، لتستقبلَ الملائكة بحفاوةٍ آدم وحواء الذَيـْن ِ كانَ زمنـُهما زمنَ الحبِّ الأوّل.
سأكونُ لآدم وطنا وهويّة.














7
الطريقُ الى الحريَّــة، طويلٌ طويل.
ها أنا أطلُّ على المدينة من قمةِ الجبلِ، حيث أيدي الرّاهبات تلوّح لي بالوداع الأخير، وعَـبَـرَاتهنّ ترافقني كالظلّ مع ابتهالاتهنّ.
كلّ شيء من هنا يبدو ضئيلا، ضئيلا: النّاس، الأشجار، السّيّارات.
من أقصى أقطابِ الشَّوقِ ، سآتيكَ يا آدم.
من أقسَى أشواكِ الفِراقِ، أتحرّرُ لآتيك أيّها الرّجلُ الحلمُ، أيّها الرجل الفلسطينيّ الأصيل الذي يملك "مفتاح الماستر" لأبوابِ قلبي.
*

طلبتُ مِن سائقِ سيارةِ الأجرة أن يُقلّنِي إلى مركز المدينة. استوقفتنا شارةٌ حمراء. لفتَ انتباهي طفلٌ يمسك بيد أبيه ويده الثّانية تتشبثُ ببرتقالة. فجأة، ارتفع صوتُ المذيعِ في النَّشرةِ الإخباريَّة:

(( يسودُ في المحافل الدّبلوماسيّة في البلاد، الاعتقاد والقناعة بعدم وجود أدلّة ملموسة تربط آدم بلائحة الاتّهام المُوجـّهة ضدّه. هذا ما أفادتْ بهِ إحدى المُراقبات العاملات في الاتّحاد الأوربيّ، والتي شاركتْ في العديدِ مِنْ وقائعِ جلساتِ محاكمة آدم.
اتَّضَحَ مِنَ الشَّهاداتِ التي تمّ الاستماع إليها، بحضور محامي الدّفاع، أنّها تفنّد أقوال النّيابة، وتؤكّد موقف آدم الذي ينفي التُّهم الأمنيَّة المنسوبَة إليه كافّة.
إفاداتْ الشّهود أمام المحكمة، وفحص الحواسيب الأرضيَّـة والنَّـقالة وثلاثون ألف مكالمة هاتفية من قبل مختصّين، زعزعت ادّعاءات مركزيّة في لائحة الإتِّهام، وعمّقت علاماتِ السّؤال حول اتّهامات محوريّة كانت موجهة ضدّ آدم، بحيث أنّ إفادات الشُّهود جاءتْ لتُبطلَ بشكلٍ قاطعٍ ادّعاءات النّيابة والتّهم المنسوبة لآدم، كما بيّنت أنَّ النيابة لا تملك أيّ دليل ملموس قادر على توريط آدم في التُّهم الموجّهة إليه.
أكدّ محامي الدّفاع أنّ كلّ هذا جاء ليعزّزَ القناعة بأنّ المحاكمة ليست إلا محاكمة سياسيّة.
هذا وسيتواجد في الجلسة الأخيرة للمحكمة، والتي ستعقد في تمام السّاعة العاشرة اليوم في محكمة الصّلح في حيفا، مراقبتان من الاتّحاد الأوربيّ ومندوبة عن السّفارة الهولنديّة في البلاد، وسيرافق جلسة المحكمة العديد من الشّخصيّات الشّعبيّة والنّاشطين في العمل السّياسيّ والاجتماعيّ، وأعضاء كنيست عرب)).

قام المذيعُ بالاتّصال بأحد الشّخصيّات للتّعقيب على الموضوع فقال:
- لستُ خائفا ولكنّني قلق. ما يجري اليوم يؤكّد الجملة التي أردّدها دائما وهي: ما زلنا نخوض معركة البقاء !
اثنان وستون عاما وما زلنا نخوض المعركة نفسها .
المؤامرات ما زالت تُحـَاكُ والأحلام السّيّئة ما زالت تراود العنصريّين.
بناة دولة إسرائيل ومؤسّسوها غرسوا فكرة "الترانسفير" وأوْرَثوها للقادة السّياسيّين وللقادة العسكريّين جيلا أثر جيل.
نحن سكَّان البلادِ الأصليّين ما زلنا شوكة في حلوقهم، وقطعة زجاج في حناجرهم ولن نكون الهنود الحمر .
ما زلنا نعيش التَّحدي الكبير وأمامنا أيام صعبة وقاسية.علَّمتنا التّجربة بل التّجارب أن نتحدّى ونصمد ونكتب ملحمة البقاء كما فعل آباؤنا. هذه المعركة لا نقودها وحدنا، فهناك قوى يهوديَّـة عقلانيَّــة تخوضُ وإيانا المعركة ضدّ الفاشيّة. هذه المعركة سنخوضها في الكنيست، وفي الجامعات، وفي أماكن العمل، وفي الشّوارع، وفي السّاحات وفي كلّ مكان. سنبقى في هذا الوطن الصّغير. سنبقى منغرسين فيه، فترابه يَعْـرِفُـنَـا وأشجاره تعرفنا وصخوره كذلك. نحن نحبُّــه، ونحن حجارة الوادي. وهل في هذا شكّ؟ وهل في هذا عيب..؟ نحن هنا . هنا باقون .. باقون. باقون)).
*

سألتُ سائقَ السّيّارة إن كان يعرف مكان المحكمة التي تمّ ذكرها في الّنشرة الاخباريّة، فأجابني بالإيجاب. هكذا، بدأتْ السّيّارة تسير بنا إلى المحكمة وقلبي يتدحرجُ ككرة مطاطيّة خارج جسدي، والعرق يتفصَّدُ من كلّ خليّة من خلاياي، ودماغي يعملُ بنشاط مُفرط ولسانُ حالي يقول:
كل إنسان يتعذّب في هذه اللحظة في أيّ مكان هو صديقي.
( غادة السمّان)

*

كانت باحة المحكمة فارغة حين وصلتُ، فتأكّدتُ أنّ الجلسة قد افتـُـتِحَتْ .
على باب المحكمة سألتني الجُنديــَّة:
- إلى أين؟
لفتَ انتباهي ملصقٌ على زجاج الباب خلفها عليه صورة كلب مع إشارة ممنوع الدّخول.
أجبتها باقتضاب:
= محكمة آدم.
طلبتْ منّي وضع جميع حاجياتي في سلّة صغيرة مرَّرَتها داخل جهاز أمنيّ، وأشارت لي أن ألحق بها جانبًا. راحتْ تمرِّرُ أناملها فوق جسدي. حينَ أطلقتْ سراحي تناولتُ صليبي ومحفظتي ومضيتُ إلى قاعة المحكمة.
بحثتُ عن آدم.
داخلَ قضبانِ خليةٍ صغيرةٍ كان جالسًا، يحيط به ثلاثة من الجنود.
تسمَّرتُ مكاني. قفزَ للذّاكرة مشهدُ الفراق المصيريّ بيننا، حين عصبوا عينيّ وألقوا بي في شاحنة قذفتني في مَنفَى، بعيدا عن نبض آدم.
قفزَ للذّاكرة كلّ ذلكَ العذاب الذي عانيتُ وأنا غريبة هائمة في شوارع لا تعرفني، أبحثُ عن أثر قد يُوصلني لآدم.
قفز للذّاكرة ذلك الدّير الذي آواني وكان الملجأ الآمن لي ولأحلامي الشَّريدة.
فجأة، التقتْ العينُ بالعين.
تلاقتْ الرّوحان في فضاءِ المحكمة.
رفرفَ القلبان.
تعانقتْ النّظراتُ طويلا إلى أن أشاحَ آدم وجهه عنّي؛ ليرُدَّ على سؤالٍ وجَّهَهُ له قاضي المحكمة.
أخذتُ أتفحّص الذين حولي.
أبصرتُ السّيّدة حياة وابنتيها. بدتْ وجوهُهُم مطابقة لِمَا رأيتُ في الملفَّاتِ الصّوتيّة في الحاسوب.
كان التَّوترُ بادٍ على ملامحِ كلِّ الوجوهِ.
غبتُ في دوّامة من الذّكرياتِ، وعيناي تتتبعانِ كلَّ حركة يأتي بها آدم، وهو يُلقي عليّ نظرة بين الفترة والأخرى.
*
أعلنَ القاضي قرارَهُ بالسَّجنِ المُؤبدِ على آدم.
تجمدّتْ الدّموعُ في عينيّ.
انتفضَ آدم واقفَا والأصفادُ في يديه، وهتفَ بنبرة ٍ واثقة:
- لا يأس ولا احباط ولا تراجع عن الصّمود والإصرار والتحدّي والإرادة الحُرَّة.
غابَ صوتُـهُ خلفَ البابِ الذي أُغلق بعدما اقتادَهُ جنديّانِ خارجَ أَسوارِ المحكمة.
سارعَ الصحفيّون بتسجيل ردِّ فعل حياة، التي وقفتْ شامخة كما شجرة السِّنديان وهي تقول:
- القرارُ كان مُتَوَقَّعًا على خلفيّةِ العنصريّة المُتفشّية في إسرائيل. لكنْ لنْ ننكسر. معنوياتنا مرتفعة، فالسِّجن ليس نهاية القضيَّـة. قد يسجنونَ الجسدَ أمّا الأفكار والمبادئ والحقوق الشرعيّة فمستحيل أن يتم سجنها أو طمسها.
لن يحدِّدَ أحدٌ لنا معنى حياتنا. وظيفةُ التَّـاريخِ أن يمشي كما نـُملِي. قوّةُ الحياة حاسمة دائمًا وتشدّنا، كذلك النِّضال من أجلِ الحُريَّة والتَّحَـرُّر.
*

نفضتُ عنـّي كل أوجاع الذّاكرة.
مضيتُ إليها، وإلى صدري ضَمَمّتُها. دون أن تنبسَ إحدانا ببنتِ شفة، عرفتني.
ها نحن، موجتان متجانستان في بحرِ حياةٍ صَاخب.
آدم، القاسم المشترك بيننا، غائب عن كلتينا، حاضر بكثافة في قلبينا.
حاضرٌ في أفكارنا كما البرتقال والزَّيتون والزَّعتر.
حضنتُ أمل وأحلام، واحدة عن يميني والأخرى عن يساري ورحنا نسيرُ خارج أروقة المحكمة، وحياة تلحقُ بنا بخطوات ثابتة.

*
فيما يرى الحالمون..
أبصرتُ أيادٍ تقرع الخَـزَّانَ بإصرارٍ.
أبصرتُ مثلثًـًا قاعدتـُهُ فلسطينيو الـدّاخل وأحدُ ضلعيهِ المُتساويـَيـْن فلسطينيو الشَّتات، والثّاني فلسطينيو الضَّفة.
ثمّ، أبصرتُ أربعَ يرقاتٍ تتخبّطُ داخل شرنقةٍ واحدة. كلٌّ تتحولُ إلى كائن آخر، قادر على أن يحدّق في وجه النَّكبة.
ها الفراشاتُ الأربعة(أنا وحياة وأمل وأحلام) لا تسيرُ على رؤوس اليأس، إنـّما تنطلقُ حُرَّة ً في فضاءِ وطنٍ (مُحْتــَلّ).
*

"ليس الآتي أشبه بالماضي من القطرة بالقطرة"، كما قال (ابن خلدون).
الماضي مثخنٌ بالجراح إنّمَا الآتي منذورٌ للزّغاريدِ والنّشيدِ والأفراحِ وأجراسِ العودة .

*
حين لمحتنا العيونُ المحتشدة في ساحةِ المحكمة، والتي كانت ترفعُ الشِّعارَ ذاته: "تستطيعُ العيش معي، يا ابن عمّي، لكن لا تستطيع العيش مكاني". (سميح القاسم)
ارتفع صوتٌ واحدٌ كما الرَّعدِ من كلِّ الحَـنــَاجِرِ:

كأنّنا عشرون مستحيل
في اللد والرّملة والجليل
هنا ..
على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج
كالصَّبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار
هنا ..
على صدوركم باقون كالجدار
ننظِّفُ الصّحونَ في الحانات
ونملأ الكؤوسَ للسادات
ونمسحُ البلاطَ في المطابخِ السَّوداء
حتى نسلّ لقمةَ الصِّغار
من بين أنيابكم الزرقاء
هنا..
على صدوركم باقون كالجدار
نجوع .. نعرى .. نتحدَّى
نُنْشِدُ الأشْعَارَ
ونملأ ُالشوارعَ الغضابَ بالمظاهراتِ
ونملأ السجونَ كبرياء
ونصنعُ الأطفالَ .. جيلا ثائرًا .. وراءَ جيل
كأننا عشرون مستحيل
في اللدّ والرملة والجليل
إنـَّا هنا باقون
فلتشربُوا البَحْرَ...
نحرسُ ظلَّ التينِ والزيتونِ
ونزرعُ الأفكارَ كالخَميرِ في العجينِ..
برودةُ الجليدِ في أعصابنا
وفي قلوبنا جهنم حمرا
إذا عطشنا نعصرُ الصخرا
ونأكل التراب إن جعنا ..
ولا نرحل
وبالدم الزكي لا نبخل .. لا نبخل .. لا نبخل
هنا ..
لنا ماض ٍ .. وحاضر .. ومستقبل
كأننا عشرون مستحيل
في اللدّ والرملة والجليل
يا جذرنا الحيّ
تشبَّثْ..
واضربي في القاعِ يا أصُول
أفضل أن يراجعَ المُضْطَهـِدُ الحسابَ
من قَبْلِ أنْ ينفتلَ الدُولاب
لكلِّ فعل ٍ :- …
إقرَأوا
ما جاء في الكتاب
(توفيق زياد)















ريتـــــا عودة
نُشرت هذه الرواية في موقع:
" الحوار المتمدن"
في تاريخ:
26تشرين الأول 2010






ريتا عودة
شاعرة وقاصّة ومترجمة من مواليد النـّاصرة 29-9-1960
حاصلة على شهادة اللقب الأول في اللغة الانجليزية والأدب المقارن.
تقوم بتدريس اللغة الانجليزية في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة.
حصلت على المرتبة الأولى في مسابقة لكتابة قصيدة الهايكو على مستوى العالم أكثر من مرّة.
حصلت على المرتبة الأولى في مسابقة "الهيجا" على مستوى العالم.
تملك مُدوّنة على الشبكة الإلكترونية: http://ritaodeh.blogspot.com
تمَّت ترجمة نصوصها إلى العديد من اللغات عبر شبكة الإنترنيت.
صدر لها :
ثورة على الصّمت 1994 - وزارة الثقافة والمعارف- الناصرة
مرايا الوهم 1998- المدرسة الثانوية البلدية –الناصرة
غجرية عاشقة 2001 – دار الحضارة – القاهرة
ومن لا يعرف ريتا! 2003- دار الحضارة – القاهرة
قبل الإختناق بدمعة 2004 - دار الحضارة – القاهرة
سأحاولكِ مرّة أخرى2008 بيت الشعر الفلسطيني - رام الله
مباغتا جاء حبّك2016- دار الرصيف- رام الله
أنا جنونك2009- مجموعة قصصيّة- بيت الشعر الفلسطيني - رام الله
مجموعات الكترونيّة:
بنفسجُ الغربـــَة - رواية قصيرة - 2008
طوبى للغرباء- رواية قصيرة -2007
ديوان باللغة الانجليزيّة:
Buds of Dream-Haiku and Haiga Collection
2014



#ريتا_عودة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ((أقفاصٌ))
- رحلتي مع الهايكو/دراسة
- منطق..ومضة قصصيّة
- قصّة ليست قصيرة / ((أقفاصٌ))
- جلاَّد..خلفَ كلِّ مبدعة
- ((هل هذا هايكو..؟ ))
- قراءة في قصيدة/الشاعر رعد الزامل
- ما هو الهايكو..؟!
- الوجه الآخر للحقيقة
- زوايا حادّة-1
- الشاعرة ريتا عودة: الشحنة السحرّية الهامسة
- ((نوافذٌ مُغلَقَة))
- الرَّجُل/ الوَطَن
- وَمَضَاتٌ شَائِكَة
- العشقُ أَحياني
- ((أيّها المَطَرُ...))
- ((ويلٌ للطُّغَاةِ))
- ((إبنُ العاصفة..))
- إعتذار
- ((أنكيدو... بَطَلُ الأُسطُورَة))


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ريتا عودة - إلى أن يُزهر الصّبّار-رواية