أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - أم ياسين … ! ( قصة قصيرة )















المزيد.....

أم ياسين … ! ( قصة قصيرة )


جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)


الحوار المتمدن-العدد: 7322 - 2022 / 7 / 27 - 11:04
المحور: الادب والفن
    


بيوت متعانقة في وضح النهار .. تخلت عن حيائها ، وهناك … كوخ ( أمينة ) ينزوي في حيرة وتردد .. وأمينة .. امرأة تخطت الثلاثين .. فيها شيء من عته .. مات عنها والداها ، ولم يتركا لها شيئاً سوى العوق والفقر وكوخ بالٍ يؤويها .. تخوض في ظلام دامس دهاليز الحياة وحيدة .. تخبز وتبيع ما تخبزه للناس .. !
وكان ( صمد) .. هو من يجلب لها الحطب بعربته .. رجل كامل الفحولة .. اعتادت شهيته المفتوحة أن تستقبل أي صنف من النساء .. وكانت هي بقايا امرأة ، والشيطان بينهما ، فاستسلمت له دون وعي كامل منها .. يرويها ويرتوي ، وحبلت أمينة سفاحاً .. بلا زواج .
وعندما علم الجيران دافعوا عن حقها ، وأجبروا صمد على الزواج منها حتى يكون ما تحمله في بطنها إبن حلال .. لكنها منذ أن شعرت بأول نبض لجنين في رحمها ، لم تعد تبالي لا بزوج ، ولا بأي شيء آخر سوى هذا المخلوق الذي بدأ يتكون ، وينسج حياته في أحشائها ، وينقر على جدار بطنها كأنه يستعجل الخروج الى عالم لا يعلم مقدار نصيبه فيه !
واستسلم العذاب صاغراً لصبرها وتحملها ، وقوة إرادتها التي لا تلين بعد أن أثخنها بالجراح ، وأفرغ فيها آخر سهامه .. وجاء المولود ، وتورد وجه الحياة ، وذاقت أمينه طعم الأمومة وثملت بها ، وبدأت حياتها مع لحظة مجيئه ، وأسمته ( ياسين ) تبركاً باسم أبيها .. !
ينهمر فيض من الدموع على خديها ، وترقص الفرحة في قلبها ، وهي تضم مولودها الى حضنها لأول مرة ، وتلقي عليه النظرة الأولى بعد طول انتظار ومعاناة ، ثم بدأ الجيران ينثرون بين يديها حلو الكلام ، وهم يباركون لها السلامة والمولود الجديد ، ورغم تهالكها وآلام النفاس إلا انها بدأت تشعر باحساس جديد لم تعرفه من قبل ، وهي ترى نفسها محاطة باهتمام ورعاية أهل الحي من كافة الفئات ..
ويصير المولود الجديد حديث الناس ، ويتغير كل شيء في لحظة من اللحظات النادرة الى صورة وردية جديدة للحياة لم تألفها أمينة ، فترى نفسها ، وكأنها تسبح في حلم لطيف عذب ، فكل شيء بات من الآن جميلاً ومحتملاً وله معنى .. !
لم تتركها جارتها أم بشير لوحدها ، وهي التي تعرف حالتها ، فأخذت تزورها كل يوم لتنظف الطفل وتغير له ، وتعلمها كيف تتصرف مع ابنها .. كيف تحمله ، وكيف تغير له ، وكيف تقمطه ، وكيف ترضعه ، وكيف تخرج الغازات من بطنه … … …
لم يكن صمد مسروراً لا بالولد ولا بأمه ، والزواج بالنسبة له حاجة وانتفت .. وذات يوم .. يختفي من البيت والحي كله دون أن تراه عين .. يتردد السؤال عنه في المقهى ، وبين أصدقائه ومعارفه ، ولا يظفر أحد بجواب حاسم يفسر سر اختفاءه ، فلم يبقى إلا أنه هرب وترك المسكينة تعاني شظف العيش ..
لكن شعوراً خفياً يوحد ابناء الحي أوقات الشدائد ، ويجعل منهم قوة متضامنة كأنهم أخوة ولدوا من أم واحدة ، فلم يتركوها وحيدة في صراعها المرير مع الحياة ، بل قاسموها فتات فقرهم .. !
وبعد أن طوى النسيان زوجها بات عقلها كله مشغول في تدبير ما يكفل لها ولابنها نثريات الحياة وديمومتها ، فعادت الى عملها ، وضاعفت من جهدها .
ودارت بهم الأيام ..
وبدء ياسين يناغي ويتقلب في فراشه ، وترّف على فمه ابتسامة عذراء يطلقها في الفراغ لا يخص بها أحداً .. تقول جارتهم أم بشير انه يخص بها الملائكة في السماء ، ثم أخذ يطيل النظر في عيني أمه المعلقتين في عينيه ، ويحتضنها بابتسامة إمتنان كبيرة ، ويطاردها بنظراته أينما تذهب .. تضمه الى صدرها في حنان ، وتلثم وجنتيه في لهفة ، ثم تعيده الى دفء فراشه !
ترفع يديها وتشخص ببصرها الى السماء ، وتتمتم بلسان ثقيل .. كلمات مبعثرة غير مفهومة كأنها تنتزعها انتزاعاً :
— يا ربي احفظ لي ولدي .. يا رب !
وهي تمسح الدموع التي تكاثرت على وجهها بيديها ، وبأطراف ( شيلتها ) .. !
وجاء يوم ..
كان فيه قلبها يتقطع اربا ، ويتجلى الحزن في عينيها ، وهي ترى ابنها الغالي ينام على الأرض .. لا لا يجب ان ينام ياسين في ( كاروك ) مثل بشير وحسون ابني جارتيها ، فأخرجت من الخمسة دنانير التي ادخرتها للأيام .. ديناران واشترت بهما كاروك من خشب ، وفرشته ووضعت ياسين فيه ، واخذت تتفرس في وجهه الذي يضج بالحياة وبالحيوية ، وتتامله بانبهار كانها تتامل حُليةً غالية ..
ما يكاد النوم يمس اجفانه حتى تتركه في كاروكه وتخبز وتخبز حتى يهدها التعب ، وتغفوا عيناها دون ارادة منها ، وتستغرق في نوم ثقيل .. يداهمها حلم كئيب بات يتكرر مرة بعد أخرى .. كأن أفعى تتسلل في غفلة منها ، وتقترب من كاروك ابنها .. تفر من فمها صرخة مفزوعة ، فتشد نفسها وتهرول نحوه ، وتحتضن كاروكه بعينين حانيتين ..
ينطفئ الخوف والقلق المستعر بين ضلوعها .. يطمئن قلبها ، وترتاح قسمات وجهها ، ثم تعود الى عملها ، وهي تتف في صدرها ، وتهلوس بما تتصوره آيات من القرآن كأنها تطرد ذلك الحلم من ذاكرتها الذي يحمل نذر شؤم ، ثم تخلد لنوم عميق بعد أن يتمكن منها التعب ..
وها هي الايام تمر ، ولا تعرف التوقف ..
وذات يوم ..
ارضعته حتى شبع ، وأخذت تغني له بلسانها المعوج اغنية تستجدي بها النوم الى جفونه .. لكن الطفل لم يكن راغبا في النوم .. كان يضحك لحركات أمه وهي تداعبه .. اغراها ضحكه ، فاخذت تزغزغه من بطنه لترى منه المزيد من الضحك .. فهذا يسعدها ويدخل السرور الى قلبها .. تزغزغ ، وهو يضحك .. يضحك ، ثم أخذ يكركر واللعاب يسيل من أطراف فمه ، وهي تكركر معه بطريقتها !
حتى شرق وانتابه سعال عنيف .. تفاجأت فاخذت تنفخ في وجهه .. احتقن وجهه وخرج المخاط من انفه وفمه ، وفاضت عيناه بالدمع ، والتقى ماء عينيه بماء انفه ، وسال على ذقنه وعنقه ، وهي تنفخ وتنفخ .. هذا كل ما كانت تعرفه ، وكل ما أوحى به عقلها الناقص ، وكل ما تعلمته من جارتها أم بشير ..
تتسع عيناها دهشة ، وهي تنظر الى ولدها نظرة فزع ، ثم بدأ صدرها يضيق وقلبها يختنق ، واطرافها ترتعش ، وبدأ العرق البارد يتفصد فوق جبينها ، وقفت به وهي حائرة تائهة ، ثم أخذت تحركه .. لا تعرف ماذا تفعل ، والطفل يزداد احتقانا ، ويستحيل وجهه قرمزياً ، ويتحول صوته الى شخير خافت ، وطاش عقلها ، وأطلقت آهة صامتة كأنها ترى روحها تُذبح أمامها ، فاخذت تبكي وتنشج كطفل يتيم ، ثم أطلقت صراخاً هستيرياً حاداً ، وتعالى صراخها ، وكأن كل شيء فيها كان يصرخ .. يتجمع متفرجون من أعمار مختلفة أمام الباب باغراء من صرخات أمينة المدوية التي هزت اركان الحي ، ثم اقتحمتا أم بشير وأم حسون عليها الكوخ ، والهلع يملأ وجهيهما وهما ترددان :
— يا رب .. سترك يا رب !
تلقفته أم بشير من يدها ، وأخذت تنفخ في فمه وتدلك صدره ، ثم قلبته وأخذت تربت على ظهره ، وهي تردد سيلاً من الآيات والأدعية ، والجو مكفهر .. خوف وقلق وقليل من أمل بدأ يتضائل ويتضاءل حتى كاد أن يصبح صفراً .. تبادلت المرأتان نظرات حائرة ، وتغرورق عيناهما بالدموع ، ولم تنطقا بكلمة ، والطفل تفصله عن الموت أنفاس معدودة .. لم تتوقف أم بشير ولم تفقد الأمل ، وواصلت تحريكه ، ومحاولة بث الروح فيه .. لكن الطفل تخشب بين يديها .. لا يحرك ساكناً .. تتبعه المرأتان بعيون دامعة ملؤها الاشفاق والأسى .. بكتا .. ثم سكن كل شيء .. !!

ألا يا نفس أجمِلي جزعاً … إن الذي تحذرين قد وقعا
أوس بن حجر

( تمت )



#جلال_الاسدي (هاشتاغ)       Jalal_Al_asady#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زليخة … ! ( قصة قصيرة )
- الخادمة .. ( ناني ) … ! ( قصة قصيرة )
- الفروسية .. أيام زمان … ! ( قصة قصيرة )
- الشقيقتان … ! ( قصة قصيرة )
- يا طالع النخلة .. مهلاً … ! ( قصة قصيرة )
- شحاذ .. رغماً عنه … ! ( قصة قصيرة )
- المسافة بين القرية والمدينة … ! ( قصة قصيرة )
- مثلما تُكيلون يُكال لكم … ! ( قصة قصيرة )
- التنور … ! ( قصة قصيرة )
- العين الحمرة … ! ( قصة قصيرة )
- خيوط العنكبوت … ! ( قصة قصيرة )
- حيرة زوجة … ! ( قصة قصيرة )
- لم كل هذه الدموع … ؟! ( قصة قصيرة )
- زوجة .. مع وقف التنفيذ ! ( قصة قصيرة )
- أيامٌ مرَّت وراحت … ! ( قصة قصيرة )
- وكانت أيام … ! ( قصة قصيرة )
- من شابه أباه فما ظلم .. ! ( قصة قصيرة )
- الولد سر أبيه .. ! ( قصة قصيرة )
- الأفعى … ! ( قصة قصيرة )
- زوج .. أبو عين زايغة ! ( قصة قصيرة )


المزيد.....




- مارسيل خليفة في بيت الفلسفة.. أوبرا لـ-جدارية درويش-
- أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة
- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - أم ياسين … ! ( قصة قصيرة )