أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - شحاذ .. رغماً عنه … ! ( قصة قصيرة )















المزيد.....

شحاذ .. رغماً عنه … ! ( قصة قصيرة )


جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)


الحوار المتمدن-العدد: 7289 - 2022 / 6 / 24 - 22:59
المحور: الادب والفن
    


منذ أن تفتح وعي ( رجب ) على الدنيا ، وهو يعيش مع أم وأب شحاذين ، توارثوا المهنة أب عن جد ، ورغم انهم شحاذون فان الجوع لم يكن يطرأ على حياتهم ابداً . لقد كان ما يكسبونه من مال كافياً ليسد عنهم غائلة الجوع .. بل يفيض منه الكثير .. عشرات أو مئات أو ربما ألوف من الدنانير - في وقت كان فيه للدينار رنةٌ تُسمع - جمعها أبوه على امتداد سنين عمره ، ويحتفظ بها في أحشاء فراشه ( الدوشگ ) الذي ينام عليه ، ولا يسمح لأحد كائن من يكون أن يقترب منه .
كان رجب يصحو من النوم على تردد اسمه على لسان أمه العجوز كل صباح .. صارخةً به تدعوه للنهوض .. تستقبله بوجه عابس عندما تراه يتململ ليكسب دقائق اضافية ليتنعم بإغفاءة الفجر اللذيذة .. يظل اسمه ملتصقاً بلسانها .. يطارده حتى ينهض .
يتثائب .. يمد ذراعاه في الهواء ويتمطى .. تشير له باصبعها أن يقف .. تسير أمامه محنية الظهر .. تبربش بعينيها المريضتين ، ثم تذهب لايقاظ ألاب ، وهو شيخ يعرج في مشيته تحت ثقل جسمه المكتنز .
ليجتمع الثلاثة حول الطعام ، وهم في صمت ثقيل لا تسمع منهم سوى صوت مضغ الطعام وبلعه .. يأكل الاب والام من البيض والخبز وغيرهما ما يأكله أثنين أو أكثر .
أما رجب فحصته نصف حصتهم أو أقل .. لأن الام والاب لا يريدون لرجب أن يشبع حتى لا يبدو عليه أثر النعمة ، ولكي يبقى شاحبا هزيلا ممصوص الجسد ، ليزداد تعاطف الناس معه وتزداد الغلة ، فيضطر المسكين أن يقوم وهو نصف شبعان .
وعندما ينتهون من الطعام .. تتركهم الأم .. وتذهب لبعض شأنها .. يشد الأب بسرعة دشداشتة التي تآكلت اطرافها بفعل الأيام ، ويسقطها على جسده الممتلئ ، ويتمنطق بحزام عسكري عتيق من فضلات الجيش البريطاني !
يخرج الاب والابن للطواف في الشوارع والازقة والجوامع والدوائر الحكومية .. يخبئ الأب عينيه خلف نظارة سوداء سميكة مدعياً العمى ، ويرفع رأسه الى أعلى كما يفعل العميان الحقيقيون .
يسير بقدمه العرجاء على مهل كأنه يزحف بأقدامه ، وهو يردد كلاماً يبدو كأنه كلام محفوظ .. منمنم بآيات من القرآن ، وأدعية يرددها ، ولا يعنيها ، ولا يحس بها ، ولا تخرج من القلب ، ورجب يسحبه من يده ببطء كأنه يقوده .
يرتدي رجب أسمالاً قذرة وممزقة .. لا يكاد الشتاء يأتي عليها حتى يظل يرتعش من تحتها كالسعفة ، وترتجف شفتاه ، وتصطك أسنانه من شدة البرد ، ويظل يسعل حتى يكاد يختنق بسعاله ، وهو منظر كان يسر الأب كثيراً لان ذلك يزيد من شفقة الناس على رجب خاصة النساء منهم .. المؤلم أن الآهات التي تخرج من صدره لا تجد لها صدى في قلوب الام والاب المتحجرة !
وكان رجب يرى الطلبة الصغار ، وهم يسيرون الى مدارسهم .. يتدافعون ويتضاحكون ، فيقف أمامهم مأخوذاً بما يرى ، ويتمنى أن يكون معهم ، ويتسائل مع نفسه : ما ذنبه اذا كان ابن شحاذ حتى يُحرم من أن يكون مثلهم ؟ انه يريد ان يتعلم كما يتعلمون ، ويعيش كما يعيشون ، فلا يجد المسكين منفذاً لأحلامه وحسراته سوى أن يفر الى دموعه ، فيبكي بصمت !
ثم يتقهقرون عائدين الى البيت في آخر النهار .. منهكين .. يدخلون الكوخ يسبقهم سعال رجب .. تفوح منهم رائحة الطرقات ، والشمس قد دبغت جلودهم بلون الغروب .. يكتفون بما تناولوه من صدقات الطعام ، وينامون جميعاً مع نيام الشمس .
كانت ولا تزال مهنة الشحاذة تعتمد على الفن والذكاء ، وعلى موهبة التمثيل .. الفرق أن الشحاذ يقوم بدور واحد مكرر لا ينتهي ابداً ، وهي مهنة متعبة تتطلب صبراً طويلاً ، والبقاء على حالة واحدة من التوسل والتظاهر بالذل والهوان يمثلها الشحاذ طوال النهار ، ويبقى محنطاً داخلها لا يغادرها حتى ينتهي يومه !
يشعر رجب اثناء التطواف الشاق بالجوع والتعب حد الانهاك .. حتى يحس ، وكأن اطرافه بدأت تتخلى عنه ، فهو يسير ساعات في رحلة طويلة شاقة على معدة خاوية ، ويتحمل صابراً مشقة السعال الذي أخذ يشتد ، ويضيّق عليه انفاسه ، ثم أخذ الفتى بمرور الأيام يذبل ويذبل ويزداد هزالا ، ودبيب الاصفرار يتسلل الى جسده ، واحياناً يشعر بلسعة الحمى ، فيتفصد جبينه عرقا حتى وهم في عز الشتاء !
ورجب يعرف أن أبيه لن يخرج فلساً واحداً من أمواله التي يكتنزها .. لا من أجله ، ولا حتى من أجل نفسه ، فكل حياته وما حولها شحاذة في شحاذة .. حتى اللقمة والهدمة مشحوذة .. حتى الدواء ان اراده يشحذه ، ومع ذلك ، فرجب يعرف ايضاً أن أباه قد جمع من الشحاذة ، ومن بخله الشديد أموالا لا تعد ولا تحصى .
ان المعاملة القاسية التي كان يتلقاها من أمه وأبيه ، والاهمال المتعمد تجعله أحيانا يصدّق ما كان يصل الى اذنيه من همسات ، وما كان يراه على وجوه الناس من تلميحات ، بأنه ليس ابنهم ، وانما طفل تاه من أمه في احدى المزارات ، فتلقفته زوجة شعبان - أمه الحالية - التي صادف وجودها هناك تتسول ، واختفت به في الزحام ، ثم اخذته الى زوجها ، وفروا به الى مدينة اخرى .. حتى حل بهم المقام في تلافيف حيّنا تائهين ، ثم اطلقوا عليه اسم رجب .
ومن باب اكرام الضيف ، بنى لهم طيبوا الحي ( صريفة ) لا تصلح حتى مربطاً للحيوانات .. ومنذ ذلك الحين ، وهم يستخدمون الطفل رجب في مهنتهم .. !
وعندما كبر رجب وأصبح صبياً بدء يحس بثقل هذه المهنة ، وبثقل المرض الذي بات يفتك برئتيه ، ويسعى بهما حتى أتلفهما ، فاخذ يتهرب من أبيه حتى لا يأخذه معه في جولته اليومية الشاقة .. لقد كبر ولم يعد طفلا يثير الشفقة .. لكن الام - المنزوعة القلب - أخذت توقظ الاب قبل الابن حتى لا تعطيه فرصة التملص عن مصاحبة أبيه .
حتى جاء يوم ..
كان فيه جالساً مع أبيه في الجامع ليأخذا شيئا من الراحة .. مستنداً الى عامود منزو من أعمدة الجامع .. يسترخي .. لا تسمع منه سوى صفير أنفاسه اللاهثة .. يضع في فمه قطعة خبز .. يحاول بها اسكات عويل امعائه .. كأنه كان يأكل بها آخر زاده !
تنتابه فجأةً موجة حادة من السعال العنيف تكاد أن تقتلع ضلوعه .. تتقلص عضلات وجهه ، ويزداد اصفِّراراً .. يكسوه العرق البارد .. يحس بقشعريرة كأن زفرة من هواء بارد تلفحه .. لم يعد جسده العليل قادراً على الصمود أمام السيد الصامت ، فقد أكله المرض .. تتبدد من جسده في لحظات .. البقية الباقية من حياة .. يصدر عنه تأوه خافت .. يشهق .. ثم يُسلم الروح بهدوء !
يموت رجب بالسل .. !
دون أن يحس بموته أحد ، ولم يبكيه أحد ، ولا حتى يتنهد عليه أحد .. تلوح على وجهه شبح إبتسامة حلوة كشق الفجر .. كأنه كان يستقبل بها .. مَلك الموت .. !!

( تمت )



#جلال_الاسدي (هاشتاغ)       Jalal_Al_asady#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسافة بين القرية والمدينة … ! ( قصة قصيرة )
- مثلما تُكيلون يُكال لكم … ! ( قصة قصيرة )
- التنور … ! ( قصة قصيرة )
- العين الحمرة … ! ( قصة قصيرة )
- خيوط العنكبوت … ! ( قصة قصيرة )
- حيرة زوجة … ! ( قصة قصيرة )
- لم كل هذه الدموع … ؟! ( قصة قصيرة )
- زوجة .. مع وقف التنفيذ ! ( قصة قصيرة )
- أيامٌ مرَّت وراحت … ! ( قصة قصيرة )
- وكانت أيام … ! ( قصة قصيرة )
- من شابه أباه فما ظلم .. ! ( قصة قصيرة )
- الولد سر أبيه .. ! ( قصة قصيرة )
- الأفعى … ! ( قصة قصيرة )
- زوج .. أبو عين زايغة ! ( قصة قصيرة )
- وداوها بالتي كانت هي الداءُ … ! ( قصة قصيرة )
- في البدء كانت الخيانة … ! ( قصة قصيرة )
- جحلو … ! ( قصة قصيرة )
- العقاب من جنس العمل … ! ( قصة قصيرة )
- فقراء يائسون … ! ( قصة قصيرة )
- الزواج فوبيا … ! (قصة قصيرة )


المزيد.....




- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - شحاذ .. رغماً عنه … ! ( قصة قصيرة )