طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 7297 - 2022 / 7 / 2 - 18:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"الحياة ضد الموت": حضارة لا قمعية!
المرحلة الرابعة في تطور التحليل النفسي رأسماليا: بحكم طبيعته، كمرحلة من استكشاف الذات، مثل تلك التي ولّدها التحليل النفسي، سوف تكون تكون قصيرة العمر. الاتجاه الطبيعي للعقل هو الخارج. وبالتالي، فليس من المستغرب أن ظهرت نظريات علمية وعلاجات وعلم نفس شعبي جديد لتحدي التحليل و التركيز على التأمل الذاتي. ولم يرفض اليسار الجديد والحركة النسائية "اخلاقيات النضج،" التي تدمر الكاريزما المؤسساتية للتحليل بشكل فعال. تقارير عالم "ما بعد التحليل" تظهر الطريقة التي تم بها الهجوم على التحليل, التي ساهمت في حدوث طفرة أخرى في روح الرأسمالية.
شهدت الفترة بين 1965 و 1975 نهاية الفوردية وظهور روح جديدة "ما بعد فوردية" للرأسمالية اللامركزية، الخدمية، القائمة على الشبكة. كما هي الحالة في تزايد الإنتاج الاستهلاكي نفسه، استلزمت ما بعد الفوردية تغييرًا في طبيعة الأسرة: على وجه التحديد التحول نحو الأسرة ذات الزوجين لكسب القوت, ونهاية وصمة العار على أشكال الحياة الأسرية "غير النمطية", على وجه الخصوص المثلية . لأن التحليل النفسي كان جزءًا لا يتجزأ من نظام الأسرة بعد الحرب، ولأن أي نظام جديد يجب أن يدمج المفاهيم الجديدة للحياة, لم يكن ممكنا لثقافة ما بعد فوردية أن تظهر إلا بعد معالجة التحليل النفسي بشكل مباشر . ليس هنالك من مقارنة بين رفض التحليل النفسي في الستينيات وتقبله العارم في عشرينيات القرن الماضي. قبل الانتقال إلى عائلة من زوجين لكسب القوت كان من الموجب إنهاء سلطة المحللين في تحديد معنى الحياة الشخصية. كان اليسار الجديد والحركة النسائية المبكرة بمثابة جنود الصدمة لـهذه الخاتمة.
نشأ اهتمام اليسار الجديد بفرويد من انتقاداته للنظام الصارم المستوحى من الشركات. رفضًا لما أسماه "دولة الرفاهية الحربية"، رفض اليسار الجديد أيضًا "أسطورة الهمجي النبيل-كما سماه غرامشي, مثلا " لدى الفوردىة Fordism، وهي فكرة أن الحياة النفسية الداخلية يمكن أن تكون تامة الانفصال
عن الهوية الاجتماعية والثقافية. في تحديه الانقسام بين الخاص (داخل النفس) والجمهور (الاجتماعي والسياسي) الذي يرتكز عليه التحليل النفسي الكلاسيكي، اتجه اليسار الجديد إلى كتّاب مثل نورمان براون وهربرت ماركوز، الذين وضعوا اللاوعي في سياق الاحتمالات الاجتماعية التي أطلقتها الأتمتة والذين وصفوا المتصوفين (الزاهدين في المادة والذين يحددون قيمهم الشخصية بشكل مستقل وبأقل او بدون تأثير من المجتمع)) والفنانين والمثليين جنسياً - اي ما هو خارج نطاق الأسرة التقليدية - باعتبارهم طليعة التغيير الاجتماعي. الكوميونات، وتعاطي المخدرات، والهجمات على الزواج الأحادي، وموسيقى الروك، والأداء على خشبة المسرح للسلوكيات وراء الكواليس، مثل العري، واللباس غير الرسمي، والإفصاح عن الذات، والنشاطات الثقافية، التي كان هدفها التنظيمي الوحيد هو المشاركة: كانت هذه هي القواعد الاجتماعية لقراءة جديدة, طوباوية, لفرويد. رفض المثقفون قتها تأكيد الطبيب والمحلل النفسي الشيوعي الأمريكي النمساوي الأصل فيلهلم رايخ (1957-1897) على الأعضاء التناسلية, او بالأحرى الشهوة الجنسية orgasm. وأهم عمل لرايخ هو كتاب
وظيفة الشهوة
-function- of the Orgasm
https://www.buecher.de/shop/ratgeber--lebenshilfe/-function--of-the-orgasm/reich-wilhelm/products_products/detail/prod_id/22277235/
يلخص هذا الكتاب مسار تطور عمله الطبي والعلمي على الكائنات الحية على مدار 20 عامًا، من عالم علم النفس إلى عالم الأحياء.
-function- of the Orgasm
https://www.buecher.de/shop/ratgeber--lebenshilfe/-function--of-the-orgasm/reich-wilhelm/products_products/detail/prod_id/22277235/
وذلك لصالح النرجسية الأولية-في الطفولة (ماركوس) و الجنسية متعددة الأشكال (براون).
طلب ال FBI من رايخ ايقاف نشاطه العلمي فرفض. فقامت المحكمة بالحُكم عليه في عام 1956 بالسجن لمدة عامين. وفي ذلك الصيف تم حرق أكثر من ستة أطنان من كتبه بأمر من المحكمة. توفي في السجن بسبب عجز في القلب بعد أكثر من عام بقليل، قبل أيام من موعد تقديمه للإفراج المشروط. رايخ هو رائد ما يسمى السياسة الجنسية sexual politics.
Wilhelm Reich Documentary Film Project -Trailer
https://www.youtube.com/watch?v=EoDpWHy0Q9U
ولكن من هو نورمان أوليفر براون Norman Oliver Brown؟
كان نورمان أوليفر براون (1913- 2002) باحثًا وكاتبًا وفيلسوفًا اجتماعيًا أمريكيًا. في البداية عالما كلاسيكيا، تفرعت أعماله اللاحقة إلى مجالات واسعة النطاق ومعقدة فكريا في التاريخ والأدب وعلم النفس والثقافة ومواضيع أخرى. قدم براون بعض الأطروحات الرائدة واكتسب شهرة واسعة في عصره.
ومن اهم اعمال براون قاطبة هو كتابه
Life Against Death: The Psychoanalytical Meaning of History
https://www.amazon.com/Life-Against-Death-Psychoanalytical-Meaning/dp/0819561444
-الحياة ضد الموت: المعنى التحليلي للتاريخ-:
حيث يقدم فيه براون تحليلًا ونقدًا جذريًا لعمل سيغموند فرويد، ويحاول تقديم نظرية منطقية للحضارة غير القمعية، يستكشف أوجه التشابه بين التحليل النفسي وعلم اللاهوت لمارتن لوثر، ويعتمد على الموضوعات الثورية في الفكر الديني الغربي، وخاصة التصوف الجسدي لجاكوب بوهم وويليام بليك. بَدْء براون اهتمامه بالتحليل النفسي عندما اقترح الفيلسوف هربرت ماركوز على براون أن يقرأ فرويد.
اشتهر الكتاب وتم بيع أكثر من خمسين ألف نسخة بحلول عام 1966 وقد تمت مقارنته بأعمال مثل "إيروس والحضارة" لماركوز (1955) وكتاب الفيلسوف ميشيل فوكو "الجنون والحضارة" (1961)، ونُظر إلى أهداف براون على أنها مماثلة لأهداف فوكو.
أشاد براون بكتاب تأويل الأحلام لفروبد (1899) كواحد من التطبيقات العظيمة للبديهية السقراطية "اعرف نفسك!"، لكنه انتقد كتاب فرويد الطوطم والمحرمات (1913)، وكتب أنه في هذا العمل يربط فرويد مراحل التطور النفسي-الجنسي بالمراحل التاريخية، وبالتالي فانه, فرويد, يرى التاريخ على أنه "عملية نمو". رأى براون هذا الرأي على أنه "بقايا من تفاؤل وعقلانية القرن الثامن عشر" واعتبرها غير كافية لا لفهم التاريخ ولا التحليل النفسي.
أصبح براون ، الذي كانت خلفيته في الدراسات الكلاسيكية، مهتمًا بالتحليل النفسي بسبب هربرت ماركوز، فيلسوف مرتبط بمعهد البحث الاجتماعي ومقره فرانكفورت. لم يكن لدى ماركوز اهتمام مباشر يذكر بفرويد أثناء وجوده في فرانكفورت، لكنه كرس مزيدًا من الاهتمام للتحليل النفسي في الخمسينيات، وفي عام 1953 اقترح على براون أن يقرأ فرويد.
سعيًا إلى الانتقال إلى "عالم ما بعد ماركسي"، شرع براون بالاهتمام في التحليل النفسي جزئيًا لأنه أصبح محبطًا من السياسة بعد فشل ترشيح هنري والاس للرئاسة الأمريكية عام 1948. في كتابه "الحياة ضد الموت"، كتب براون أنه بدأ بدراسة متأنية لفرويد في عام 1953، لأنه شعر بالحاجة إلى إعادة النظر في كل من الطبيعة البشرية وآفاق الجنس البشري في المستقبل. وقال أنه ورث عن البروتستانتية ضميرًا يفرض توجيه العمل الفكري نحو إنهاء أو تقليل المعاناة البشرية، وجه براون الكتاب إلى كل شخص مستعد للنظر في أفكار وإمكانيات جديدة. اقترح براون توليفة من التحليل النفسي والأنثروبولوجيا والتاريخ، واصفًا جهود المحلل النفسي "جيزا روهايم" Géza Róheim في هذا الاتجاه بالعمل الرائد ذي الأهمية في المرتبة الثانية بعد فرويد.
(جيزا روهايم عالم أنثروبولوجيا مجري- أمريكي, 1891-1953. يعتبره البعض من أهم علماء التحليل النفسي الأنثروبولوجي ويُنسب إليه غالبا الفضل في تأسيس مجال أنثروبولوجيا التحليل النفسي. كان أول عالم أنثروبولوجيا مدرب على التحليل النفسي يقوم ببحوث ميدانية؛ وبعد ذلك طور نظرية ثقافية عامة. المزيد في
Géza Róheim
American ethnologist
(https://www.britannica.com/biography/Geza-Roheim
كما أثنى براون أيضًا على كتاب ماركوز "إيروس والحضارة" (1955) باعتباره "أول كتاب، بعد مغامرات فيلهلم رايخ المشؤومة، لإعادة ابجاد إمكانية "إلغاء القمع": فرويد اعتبر الحضارة (الغربية) قمعية دوما, ولذا فالعصاب امر لا مفر منه وهو الحالة الطبيعية للبشر بسبب اضطرارهم الى العمل وتأجيل اشباع احتياجاتهم او غرائزهم الجنسية على الفور.
وفقًا للمؤرخ Paul Robinson, فإن الراديكاليين مثل رايخ وروهايم يمثلون تيارًا أقلية في الرأي داخل التحليل النفسي، والذي كان ينظر إليه بحلول الأربعينيات على أنه محافظ بشكل أساسي من قبل المجتمع الفكري الأوروبي والأمريكي. اتفق النقاد من خارج حركة التحليل النفسي على رؤية فرويد كمحافظ. جادل المحلل النفسي اليساري إريك فروم بأن العديد من جوانب نظرية التحليل النفسي تخدم مصالح الرجعية السياسية في "كتابه الخوف من الحرية" (1942)، وهو تقييم أكده الكتاب المتعاطفون من اليمين.
صور عالم الاجتماع فيليب ريف، في كتابه
Freud: The Mind of the Moralist
https://www.amazon.com/Freud-Mind-Moralist-Philip-Rieff/dp/0226716392
- فرويد: عقل الأخلاقي-،
فرويد على أنه رجل حث الناس بشكل مثير للإعجاب على تحقيق أقصى استفادة من مصير غير سعيد لا محالة.
في الخمسينيات من القرن الماضي، تحدى ماركوز وبراون، جنبًا إلى جنب مع تريلينج, في
Freud and the Crisis of Our Culture
https://www.amazon.com/Freud-Crisis-Culture-Lionel-Trilling/dp/B000BWROGK
-فرويد وأزمة ثقافتنا- ،
هذا التفسير لفرويد. لقد اعتقدوا أن فرويد أظهر أنه تم دفع ثمن باهظ للحضارة، وأن العنصر الحاسم لفرويد كان موجودًا في دراساته الميتاتاريخية المتأخرة، والأعمال التي اعتبرها المحللون الأرثوذكسيون غير علمية او رجعية من قبل الفرويديين الجدد. شارك ماركوز وبراون في نظرة عامة مماثلة وكرسا أكبر قدر من الاهتمام لنفس المفاهيم الفرويدية. لقد رأوا عظمة فرويد تكمن في تحليله الماورائي لـ "العصاب العام للبشرية"، وجادلوا بأن الإنسان المعاصر مريض بأعباء القمع الجنسي والعدوان غير المنضبط، وحاولوا توضيح الاتجاه النقدي الخفي في التحليل النفسي الذي وعد بحضارة غير قمعية باعتبارها حل لمعضلة التعاسة الحديثة، وقبول أكثر افتراضات فرويد النفسية تطرفاً وتثبيطاً: الدور السائد للجنس ووجود غريزة الموت. كان لدى براون، على عكس ماركوز، ميول صوفية قوية واستند إلى موضوعات ثورية في الفكر الديني الغربي، وخاصة التصوف الجسدي لبوم وبليك.
يتبع
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
