أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - يوم آخر في حفر الباطن/ الجزء الأخير














المزيد.....

يوم آخر في حفر الباطن/ الجزء الأخير


فرات المحسن

الحوار المتمدن-العدد: 7272 - 2022 / 6 / 7 - 18:03
المحور: الادب والفن
    


سحبت بتثاقل الورقة عند الضوء الشحيح للقنديل المعلق في زاوية الملجأ، بينما كنت أنظر لعيون الجرذ الناطّة من بين لوح السقف والصفيحة الحديدية. كانت أصابعي تهز القلم فوق الورقة هزاً خفيفاً مخدراً، لترسم دوائر متداخلة.راودني الإحساس الغامر نفسه، الذي ينتابني بين الحين والآخر.الخواء المضطرب تحت سماء مفتوحة مليئة بالثقوب الفاغرة. وحيداً، أسير في متاهة لا حدود تلجمها. ورغم عتمة وثقل سقف الملجأ، فقد شعرت بأن جسدي لا زال ممدداً فوق الرمل. تنبلج السماء فوقي مثل كوّة موحشة، ترسل إشارات سحرية عبر نفقٍ بعيدٍ جداً، تأتي منه الأصوات شحيحة لا تستطيع أذناي تمييزها، فينتابني خوف يخالطه استسلام تام مطمئن، وكأنّ بي مساً سحرياً يشلّ كل حواسي. إحساس بالخدر التام والرغبة بالصمت، صمت تام يقتل ما في داخلي.
لا أذكر عدد المرات التي كتبت فيها رسائل. فأنا أمقت كتابة الرسائل. و هذا سبب لي الكثير من الإشكالات في أكثر من مناسبة. فأنا لا أجيد الحديث عن أمنيات وتمنيات وتدبيج تحايا، أو التعبير الدقيق عن المشاعر، وأجد صعوبة في سرد الوقائع ووصف الأماكن. وفي أغلب الأحيان أجدني عاجزاً كلياً عن كتابة ما أردت الحديث عنه، فأرجئه للقاء مباشر واعتذار يكون دائما غير مقبول .
عندما كتب مدرس اللغة العربية عبد القادر البصام، مواضيع الإنشاء الأربعة، فوق اللوح المدرسي الأسود، وطلب أن يختار كل واحد منا موضوعاً ليكتب عنه، ثم يجلبه بعد انتهاء العطلة الربيعية، طالعني مباشرة فتسقطت من نظراته رائحة التهديد. ومع هذا لم يترك الأمر يمر بسلام دون أن ينبهني بحدة وأمام الطلاب، بأن هذه فرصتي الأخيرة، وإن لم أحاول اغتنامها، فذنبي على جنبي. كتبت عناوين المواضيع الأربعة في الدفتر، وتركت الاختيار حتى اليوم ما قبل الأخير من انتهاء العطلة، أو الأحرى قلبتها في رأسي دون أن أستطيع الاختيار. ولكني أنجزت ذلك في اليوم الأخير وسلمت دفتري بروح مغموسة بفرح غامر، في أول يوم دراسي نهاية العطلة. أشاح المدرّس وجهه عني وابتسامة مصطنعة ترتسم بتثاقل فوق شفتيه. في اليوم التالي جلس فوق أول مقعد في الصف ثم نادى باسمي. أوقفني أمام الطلاب فشعرت بالارتباك والفزع فأطرقت رأسي. ثم انطلق صوته:
ـ ما الذي يفعله الطالب حين يصف مكاناً ذهب إليه ؟ من يجيب عن ذلك ؟
ارتفعت الأكف تتطاول كي يشير المدرّس لأحدهم بالإجابة، لكنه صرخ بأعلى صوته أن اخرسوا. وكان صوته المجلجل مثل زئير أسد. ارتبكت الأكف الصغيرة، وراحت تنسحب واحدة تلو الأخرى. انكمشت وأحسست أن الجدران تقترب لتطبق علي وتهرسني. إحساس بالرهبة والانسحاق سيطر على روحي، فراح جسدي يرتجف بتسارع ولم أعد أستطيع السيطرة عليه.
ـ غبي.. ما هذا ؟ أهو وصف لحمّام شعبي يستحم الناس فيه أم هو سرداب موتى ؟
نزّ جبيني عرقاً بارداً غطـّى جبهتي، وراحت ركبتاي ترتخيان. قاومت اندفاع رغوة تصاعدت في أحشائي. ضحكات رفاقي أدخلتني في هلام سائل كثيف، فسقطت أخيراً مغشياً علي .
كان الخوف يسيطر عليَّ حين أفقت وأنا أرى كـّفه الثقيلة تمسد جبهتي بالماء البارد .
ـ دلال صبيان. لا شيء سواه. انهض يا شاطر. رغم أنك لم تكتب عن الموضوع بشكل حسن، ولكن لا بأس. سوف أحتسبها لك هذه المرة.
حين جلست بين دفـّتي مقعد الدراسة، كنت أحبس دمعتي خوفاً ورهبة. وكان خدر تام يسيطر على كامل جسدي. لم أكن بقادر على إسكات ضحكاتهم التي راحت تجلجل في رأسي. وكان جسدي الواهن يتفصد عرقاً بارداً، ويقف المدرّس أمامي وهو يغتصب ابتسامة شاحبة لم تتعدَّ حافـّة شفتيه الغليظتين.
*****
وضعت الورقة جانباً وطالعت مكان الجرذ الفارغ. شعرت بحاجتي الملحّة لمحاورته. من يدري فربما يعرف أكثر مني سبب وجودنا معا في هذا المكان. وربما يخطو بحذر لاكتشاف حسن نية البشر أو شرورهم تجاه الحيوات الأخرى.
ولكن كم عمره الآن ؟ أنضج أم أن الوقت ما زال مبكراً ليعرف أن قدميه زلتا عن الطريق لتقوداه إلى المكان الخاطئ، بالضبط إلى مكمن القتل. البشر وحدهم بحثوا عنه وقرروا اقتحام خلوته الصحراوية. عن عمد، زجّوه في نزاعاتهم وجعلوه يلتهم طعامهم المسموم. هم وليس سواهم من سيقوده لحتفه، إما تخمة أو قتلاً. ولكن أين يا ترى هو الساعة. ألديه أحد غيري يحاوره في هذه المتاهة، أم مل التطلع في وجهي العابس. لِمَ لا يأتي لمناجاتي.
سمعت خشخشة الورقة فشاهدت وجهه المدّبب الجميل والورقة بين أسنانه يسحبها متراجعاً فوق الفراش المغطى بالرمل. مبتعداً بها نحو الزاوية. تشبث بالورقة أول الأمر حين حاولت أخذها منه، ولكنه فجأة تخلى عنها قاضماً بأسنانه الصغيرة زاويتها ثم هرب مختفياً بين الأكياس عند سقف الملجأ.
شعرت بشيء من الارتياح والرضا لمثل هذه الدعابة فقد كنت في أمسّ الحاجة لها في هذا الوقت بالذات، لذا أمسكت قلمي وبدأت الكتابة.
أمي الحبيبة
تحية طيبة
أرجو أن تكوني بخير وصحة تامة. أنا لحدّ الآن بصحة جيدة وصاحبي بصحة وعافية أيضاً.
أشعر بحاجة شديدة لرؤيتك.
قبلاتي
ابنك المحب
ليل حفر الباطن في 23 /2 / 1991

ملاحظة
فجر يوم 24 /2 / 1991 بدا هجوم التحالف الدولي لإخراج الجيش العراقي من الكويت



#فرات_المحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوم آخر في حفر الباطن /الجزء الرابع
- يوم آخر في حفر الباطن/ ج3
- يوم آخر في حفر الباطن / الجزء الثاني
- يوم آخر في حفر الباطن/ ج1
- الإهدار في موارد السياحة الدينية
- الشفق مجلة المبعدين إلى بدرة
- الصمت
- من يكفل للمرأة العراقية حقوقها
- العراق يستحق الافضل
- أربعة بوسترات لعيد الحب
- طلاء الأظافر
- حوار
- شيء من سيرة حسوني الغريب
- الناجي الوحيد
- انتخابات الهيونطة
- مازلت أتوطن كابوسي
- دعوة لكابوس
- جرذ حفر الباطن
- قيل لي
- إخفاء المعلومة حول الطرف الثالث خدعة سياسية


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - يوم آخر في حفر الباطن/ الجزء الأخير