أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - إشكالية- في البدء كانت الكلمة 2/3















المزيد.....


إشكالية- في البدء كانت الكلمة 2/3


كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)


الحوار المتمدن-العدد: 7254 - 2022 / 5 / 20 - 09:29
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قد يُشَخِّصَ طبيب غربي يستمع لإذاعاتنا وفضائياتنا، سخونة أحاديث مختلف نوعيات وانتماءات نخبنا الثقافية عما يسمونه "الهوية"، بأنها حالة التهاب مزمن في الهوية!!
وهذا ما سوف نتناوله في هذا الجزء من مبحثنا هذا.

الهوية: أزمة ومفاهيم
الهوية من أخطر مفاهيم "مركزية الكلمة" إيجاباً وسلباً في الماضي. وربما سلباً محضاً في الحاضر. فإن كان مفهوم الهوية قد لعب دوراً في إيقاظ وعي الشعوب، وتماسكها بما يدفعها لتحقيق ذاتها. فقد أدى أيضاً لتناحرها. وتدمير متبادل لإنجازاتها. عبر محاولة كل شعب تسييد هويته.
الآن في عصر العولمة وتعملق دور وسائل التواصل الاجتماعي، في توحيد ثقافة سائر شعوب كالعالم. يتردد في الشرق هواجس الهوية. خوفاً عليها من مؤامرات متخيلة من الغرب لطمسها. حتى يتسيد علينا بهويته الكافرة الفاسقة!!
هكذا يقتضي الأمر ونحن نتقصى الشروخ في منظومتنا الفكرية. أن نستعرض مفاهيم الهوية المتعددة. فعلاوة على ضرورة هذا لاستجلاء الاختلاط في تداول هذا المصطلح. فإن اكتشاف التعدد في مفهوم الهوية في حد ذاته، كفيل بخلع ثوب القداسة عن ما هو غير مقدس بطبيعته.
نفترض تسهيلاً للمعالجة ثلاثة مفاهيم رئيسية مختلفة للهوية:
 هوية أصولية.
 هوية مثالية جدلية (هيجلية).
 هوية وجودية ( لا هوية ).

الهويـة الأصولية:
تعريفها: 
هي مجموعة من الملامح الثقافية الأساسية والثابتة، تميز الجماعة عمن عداها. بحيث أن تجاهل واحد أو أكثر منها يؤدي لتصدع كيان الجماعة الأدبي.
هي بهذا جوهر ثابت ومحدد. ومستمر الوجود على مر التاريخ. بغض النظر عن مدى فعاليته في توجيه حياة الجماعة. ذلك المدى الذي قد يتضاءل إلى حد الكمون أو درجة الفعالية صفر. في مراحل الغزو الحضاري الكاسح مثلاً. ويصل إلى مستوى الفعالية التامة، في لحظات النهضة الأصولية الصافية. وما بين النقيضين النظريين من حالات عملية، تقترب من هذا القطب أو ذاك.
الأصالة هنا قيمة، تقاس إيجابياً بمدى تطابقها مع الجوهر القابع في صفائه الماسي المتوهم في مكان ما. أو بالأصح زمان ما من تاريخ الجماعة. ويترتب على هذا المفهوم ما يلي:
 شدة الاستقطاب بين الأصالة وعدم الأصالة، الحق والباطل، الأبيض والأسود، بما لا يسمح بمساحة من الحرية والسماحية Tolerance، ويؤدي إلى أحادية النظرة.
 بروز إشكالية تحديد مكان الجوهر (الهوية)، بمعنى زمانه التاريخي الذي يتيح توصيفه، كما في حالة تاريخ ممتد لآلاف السنين كتاريخ الشعب المصري، مر فيها بمراحل متباينة إلى حد التضاد، مما يضع على المحك المنهج المتبع لتحديد الفترة موضع الهوية، ويمكننا استعراض أربعة مناهج:𔆑. منهج الاعتماد على الخيار الفكري السائد في اللحظة الراهنة: يتناقض هذا المنهج منطقياً مع مفهوم الهوية الأصولية، الذي يستمد مرجعيته من الماضي وليس الحاضر، مما يبطل الاعتماد على المناخ الفكري الحاضر لتحديد موقع الهوية بالاختيار من بين بدائل عديدة، حتى لو كانت كلها ماضوية، فسيبقى الاتهام الموجه لأي خيار هو شبهة دخول عناصر غير جوهرية، أي قادمة من تأثيرات خارجية لتحديد هوية الجوهري، وفي هذا تناقض منطقي، ينسف شرعية كل من المنهج والخيار.𔆒. منهج الاختيار الانتقائي الذي تمارسه كل فئة في المجتمع وفقاً للأهواء والانتماءات: يعني هذا المنهج الإقرار بتعدد الخيارات، وما هو متعدد يفقد صفة الجوهرية، أولاً لتناقض التعدد مع مفهوم الجوهرية، ثانياً لأن التعدد يعني القابلية للاستبدال، وما يستبدل ليس بجوهري.𔆓. الاختيار على أساس "حكم قيمة"، لأزهى العصور في تاريخ الأمة: من الواضح تناقض هذا الأساس مع مفهوم "الهوية الأصولية" المعتمد على الصفات الجذرية، بغض النظر عن تقييم نتائجها العملية، علاوة على التناقض القائم من احتمال تدخل عناصر من تأثيرات خارجية في صياغة المواصفات التي تم على أساسها إصدار "حكم القيمة".
هكذا ينسف التناقض المنطقي مع المفهوم هذه المناهج الثلاثة، التي لا يخفى أنها الأكثر جاذبية، بل هي الدافع لحماس أهل الهوية، ويبقى المنهج الأخير – الذي لن يتحمس له أحد – هو الوحيد المتسق منطقياً مع مفهومه.𔆔. المنهج العلمي التحليلي للاختيار: يعتمد على تحليل المواصفات العامة والملامح الثقافية المشتركة للأمة في عصورها المتعاقبة، من واقع خطابها الثقافي وأدائها العملي وأسلوب حياتها، وطرق استجابتها لمتغيرات كل عصر، وتحديد الملامح الأصيلة، وتتبع فعاليتها في كل العصور، وعزل الملامح الدخيلة، وبحث تأثيراتها سلباً أو إيجاباً على الهوية الأصيلة.

هوية مثالية جدلية (هيجلية)
إذا كانت الهوية الأصولية تمثل طفولة "مركزية الكلمة"، فإن الهوية الجدلية تمثل زمن الكهولة والنضج، في يمناها ريشة من ذهب، وباليسرى القرطاس، فيما تنظر إلينا باستعلاء من تحت عدسات القراءة السميكة.
هي المقابل للهوية الأصولية من حيث موقع "الجوهر"، الموجود في حالتنا هذه في المستقبل، فهو موجود الآن بالقوة (الإمكان)، في انتظار تحققه العيني في المستقبل، عن طريق النفي الجدلي بين الشيء ونقيضه، في عملية خطية مستمرة ذات اتجاه واحد.
نقرأ لهربرت ماركيوز:
[إن فكرة "الجوهر بوصفه ذاتاً" تتصور الواقع على أنه عملية يكون كل وجود فيها توحيداً لقوى متناقضة " هي عملية ديناميكية، صراع لا ينتهي بين المتناقضات، ليس بهدف انتصار أي من الطرفين، أو للوصول للمتوسط الحسابي أو الهندسي لهما، بل لتخليق كائن جديد، أقرب للحقيقة المطلقة النهائية، ليكون طرفاً في نفي جدلي جديد.] (كتاب "العقل والثورة"- هربرت ماركيوز)
[لا يشير لفظ الذات هنا إلى الأنا الأبستمولوجي أو الوعي فحسب، بل إلى طريقة في الوجود، هي تلك التي تتسم بها وحدة تطور نفسها في عملية تتسم بالتعارض والتضاد . . وكل ما هو موجود لا يكون واقعياً أو حقيقياً إلا بقدر ما يمارس فاعليته بوصفه "ذاتاً" من خلال كل العلاقات المتناقضة التي تؤلف وجوده . . . . إن مضمون الواقع المعطى يحمل بذرة تحوله إلى شكل جديد . . . . إن ميلاد الحقيقة يقتضي موت حالة الوجود القائمة بالفعل. وهكذا يرتكز تفاؤل هيجل على نظرة هدامة إلى الواقع المعطى، وتقوم حركة العقل، التي تمتد حتى تشمل الأشكال جميعاً، بإلغاء هذه الأشكال وتبديلها حتى تصبح مطابقة لفكرتها . . . . فالشيء يتصف بالحقيقة إن كان على ما يمكن أن يكون عليه، بحيث يحقق كل إمكاناته الموضوعية، وعندئذ يكون الشيء في لغة هيجل في هوية مع مفهومه، وللمفهوم NOTION معنى مزدوج، فهو يشمل طبيعة موضوع ما أو ماهيته، وبذلك يمثل التفكير الصحيح عنه، وفي الوقت ذاته يشير إلى التحقق الفعلي لتلك الطبيعة أو الماهية، وإلى وجودها العيني . . . . وهكذا فإن الفصول الأولى في منطق هيجل تبين أن الذهن البشري عندما يغامر بمتابعة مفاهيمه، يجد نفسه إزاء تفكك وتحلل لموضوعاته المحددة تحديداً واضحاً، فهو أولاً يجد أن من المستحيل عليه تماماً أن يحدد هوية أي شيء على أساس الحالة التي يوجد عليها الشيء بالفعل، ويؤدي الجهد الذي يبذله من أجل الكشف عن تصور يحدد هوية الشيء على ما هو عليه، إلى إغراق الذهن في خضم من العلاقات اللانهائية . . فمن الواجب أن يفهم كل شيء في علاقاته بالأشياء الأخرى، بحيث تصبح هذه العلاقات هي نفس وجود ذلك الشيء] (كتاب "العقل والثورة"- هربرت ماركيوز)

الظاهر هنا، بعكس الهوية الأصولية، أنه يعتبر الواقع المادي ولا يتجاهله، لكن العلاقات التي يتحدث عنها، ويعتبرها وجود ذلك الشيء ليست العلاقات المادية المحسوسة بين الأشياء، والتي يتحتم علينا اكتشافها دون أن نخشى من " إغراق الذهن في خضم من العلاقات اللانهائية " حسب العبارة السابقة، وربما هذا التخوف المصطنع هو المبرر لكي نتصور في المادة، أو نفرض عليها علاقات من أعلى، مثالية، ميتافيزيقية، لتصبح المادة هنا بعد أن تم تنحية علاقاتها الطبيعية، كحبات المسبحة، لا حول لها ولا قوة، في انتظامها المصطنع في علاقات مفروضة عليها، تم وصفها باللانهائية، وقد تقرر أن " هذه العلاقات هي نفس وجود ذلك الشيء "، أي علاقات النفي الجدلي بين الشيء ونقيضه، وهي ما يحق لنا نعته بالعلاقات المثالية أو الميتافيزيقية، ما لم يتم التدليل عليها معملياً بمنهج الفرض والتجربة، وهذا ما لم ولن يحدث.



هوية وجودية (اللاهوية):

هي شهادة وفاة لـ"مركزية الكلمة" وميلاد عملاق لـ "مركزية الفعل".
[أنت حر، إذن فاختر، أعني اخترع وابتكر، فليس هناك قاعدة أخلاقية عامة يمكن أن تبين لك ما الذي ينبغي عليك أن تفعله، وليس ثمة علامات تهديك سواء السبيل في هذا العالم] (كتاب "الوجودية"- چون ماكوري- عالم المعرفة)
هذه هي الحرية الصريحة المطلقة، لكنها من منطلق "مركزية الفعل" وليس "مركزية الكلمة"، وبين المنطلقين في فهم هذه العبارة بون شاسع: فهي تعني من منظور "مركزية الكلمة" انفلاتاً، فالعقل حر الطيران، وبدون قاعدة أخلاقية من يدري ماذا يجلب علينا، إبداعاً بنَّاءً أم مدمراً؟ أما من منطلقها الصحيح – الذي تم إنتاجها من خلاله- أي مركزية الفعل فالأمر يختلف. فالإبداع هنا مصدره الإنسان الكامل. بجسده الثقيل في علاقاته مع الأشياء في العالم. هو مربوط بهذه العلاقات، لا يملك منها فكاكاً. وحريته المطلقة لا تعدو أن تكون ترتيب هذه العلاقات بأفضل أسلوب يراه محققاً لتطلعاته، دون حجر من قاعدة أخلاقية فوقية مفروضة.
يختفي تبعاً لذلك الزيف والنفاق وخنق الإبداع. فالحرية مطلقة والمسئولية أيضاً تامة،.
وزالت القواعد العامة، التي يرتاح إليها أواسط الناس، لتكون مقصلة لكل قادر على رفع هامته. أو من يجرؤ على تحريك المياه الراكدة المقدسة. ولا نستنكر والحالة هذه الاضطراب والاختلاط الذي يعتري من اعتاد انتماء القطيع، لمجرد اختفاء الحظائر والأسوار.
وهذا يستدعي إشكالية الشكل والمضمون، أو الإطار والمحتوى. فرغم الاتفاق على تلازمهما، إلا أنه إذا كان المحتوى يستدعي إطاره بإلحاح، ولا يقر إلا بتكوينه. إلا أن الإطار وإن كان يرجح محتواه، ويدفع بعض الشيء في اتجاهه، إلا أنه غير قادر وحده على فرضه. لتسود حالة يمكن توصيفها بمظهر دون جوهر، وقد تجلب نتائج وبيلة.
مثل حالة استدعاء إطار الديموقراطية لمحتوى أصولي في تكوينه. فيكون فرض الديموقراطية في هذه الحالة فوقياً متسامياً، مادامت لم تنبع من العلاقات "الفعل" في هذه البقعة بالتحديد. فالتغيير في "مركزية الفعل" يبدأ من "الفعل" وليس من "الكلمة" أو "الإطار" الذي هو في هذه الحالة "كلمة" في مكانة ثانوية وليس أولية. حتى وإن كان له تأثير ما باتجاه ترجيح مضمونه الخاص.
[الفعل يوجد Ex-sist أو exist ( مشتق من الفعل اللاتيني ex-sistere ) كان يعني أصلاً يبرز stand out ، أو ينبثق Emerge. وهو يعطي إيحاء إيجابياً، حيث يعني الانبثاق من خلفية يتواجد بها وجوداً حقيقياً، لكن فلسفياً الآن تعني كلمة يوجد أنه "ملقى به حولنا في مكان ما" أي أننا سنقابله في مكان ما من العالم] (كتاب "الوجودية"- چون ماكوري- عالم المعرفة)
الإنسان إذن هو هذا الفرد الموجود هنا والآن، وليس كياناً نظرياً مقولباً. هو منقطع عن كل ما عداه، متجاوز لكل شيء في العالم والتاريخ. ليكون اتصاله بالعالم بعدها تحقيقاً للاختيار الحر الأصيل، والأصالة هنا بمفهوم معاكس تماماً للأصالة الأصولية، فهي أصالة الذاتية في الاختيار والقرار.
[مصطلح سارتر "الوجود لأجل ذاته Pour-Soi" يعرف من خلال فكرتي السلب والحرية، فما هو "لأجل ذاته" يظهر في الوجود Exists أو ينبثق Emerge بأن يفصل نفسه عما هو في ذاته En-Soi ، وما هو في ذاته له وجود بذاته، وهو وجود ماهوي Essential ، أما "ما هو لأجل ذاته" فهو حر في اختيار ماهيته: فوجوده هو حريته] (كتاب الوجودية) 
تلعب الحماسة هنا دوراً أساسياً يخرجنا عن دائرة العبث Absurd حيث تستوي كل الألوان والأفعال، فتطلق النار مثلاً على "س" دون أن يتطلب الأمر السؤال أو الإجابة عن السبب. أما ما نحاول تحميله هنا على مفهوم "الهوية الوجودية" فهو أن الماضي والحاضر ورؤى المستقبل تجتمع هنا والآن في حماسة جياشة، تصنع الانفجار، الانبثاق، لحظة تحقق الهوية، وكل فعل يتم تحت هذا الشرط صحيح مهما كان المحتوى، لذا يستوي هنا أن نعتبرها هوية حرة أو "لا هوية".
لنا هنا بعض الملاحظات على كل من مفاهيم الهوية الثلاثة:
بالنسبة للهوية الأصولية نلاحظ ما يلي:
 أن تقبع الهوية في الماضي يعني الانتماء للماضي زمانياً، والانعزال للتقوقع على الذات مكانياً. ليكون التطور محل اتهام "مبدئياً" وحتى يثبت العكس، فيدلل أنه لم يأت بجديد جذري. وأن الآباء والأجداد قد قالوا أو فعلوا مثل ما جاء به في مواقف مشابهة. وأن المسألة لا تعدو تنويع على اللحن الأساس. أو مجرد تأويل عصري للأفكار والكلمات القديمة، في أحسن الأحوال. والادعاء بإمكانية تطور أبعد من ذلك في ضوء هذا المفهوم للهوية مجرد وهم، ومحاولات تلفيقية للجمع بين ما لا يجمع. بالربط بين التطور كاتجاه للأمام والسلفية كاتجاه للخلف. فتكون النتيجة "للخلف در" أو "محلك سر". وفي أحسن الأحوال ملليمترات قليلة للأمام، تعتبر رحيلاً في قطار الماضي السريع، إذا ما قورنت بمعدلات التطور العالمية.
 يرافق هذا المفهوم دوجما – من أي نوع – تجسد الهوية، ليكون التشبث بطيفها ومقولاتها الوجه الآخر من العملة، ليروج كل من وجهيها للآخر.
 التشبث بالهوية الأصولية يفضي في مداه الأقصى إلى العنصرية، كالنازية والفاشية وأسطورة شعب الله المختار وحزب الله وجنده وما شابه. وعلى الوجه الدوجماطيقي احتكار الحق. لتسود الكراهية على مستوى العاطفة. والتعالي والأستاذية أو الإمامة للعالم على مستوى الفكر. أي الشمولية في النظم السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
وإن رأينا الحياة هكذا سجناً كبيراً، فإن البعض من المخلصين الصادقين مع المفهوم الأساسي سيعدونها المثل الأعلى، واليوتوبيا المأمولة. ولن يقلل من شأنهم أن نعدهم متطرفين. فالتطرف فيما نؤمن جميعاً أنه حق فضيلة!!
 هنا يتصف الناس بالخنوع والتزام التقليد. والنفور من الجديد عقلياً ونفسياً على مستوى المناخ الثقافي. وتفريغ التطور المادي الذي تجبرهم عليه الحياة من محتواه القيمي على مستوى الممارسة العملية.
وبصفة عامة تتجسد في ظل الهوية الأصولية، الدوجماطيقية أو الوطنية، أخطر مثالب "مركزية الكلمة". ضمور وجمود وتخلف حضاري وعنف. لكن من يتمسك بالمبادئ عليه بطيب خاطر أن يقبل نتائجها. ومن يرفض النتائج عليه أن يعيد النظر في المبادئ التي أثمرتها.

وفيما يتعلق بالهوية الجدلية:
ربما وصلت "مركزية الكلمة" بالدياليكتيك الهيجلي" إلى ذروة العظمة. على الأقل ممثلة في "المادية الجدلية" على المستوي النظري. وتطبيقها العملي في الشيوعية اللينينية والماوية وأطيافها المختلفة.
لتبدأ "مركزية الكلمة" من هذه النقطة بالذات مسيرة الافتضاح. وصولاً للنهاية المجللة بكل ما حققته الماركسية من إحباطات. وإذا نأينا بأنفسنا عن الرد على المماحكات التي تدعي أن العيب في التطبيق وليس في النظرية، دون حتى أن نتكلف عناء القول أنها إذن نظرية غير صالحة للتطبيق، لنعود إلى أساس الفكرة، فإننا نجد هربرت ماركيوز الفيلسوف الأمريكي الذي اقتبسنا من كتابه "العقل والثورة" تفسيراته لهيجل والتي حددنا منها معالم الهوية الجدلية، يقول "ويجب فهم العلاقات على أنها تخلق بواسطة حركة الموضوع الخاصة . . ويجب فهم الموضوع على أنه هو ذاته الذي يقيم ويظهر العلاقات الضرورية بين ذاته وبين ضده"، وهذا يفترض نوع من التحكم لدى الموضوع في تطوره بحيث يمكنه أن يظل ذاته على الرغم من أن كل مرحلة عينية في وجوده هي "سلب ذاته"، يقول أيضاً: " وتتميز عملية الاتجاه إلى التجاوز هذه بأنها اتجاه موضوعي كامن في الواقع، من حيث هي معطاة، فهي فاعلية لا في الفكر بل في الواقع."، عملية الصيرورة التاريخية الجدلية إذن تحكمها الضرورة، فهي حتمية جبرية مادية مدعاة، لأنها في الواقع جبرية مثالية منسوبة للمادة كما سبق وأوضحنا، فإن كان ثمة حرية فهي حرية الانصياع لحكم الضرورة، بما يوفر أساساً للأنظمة الشمولية وأيديولوجياتها، هي تربطنا بالقدر، ليس الذي عرفناه منذ الأزل كما في "الهوية الأصولية"، لكن الذي سنظل نطارده إلى الأبد، حيث المثل الأعلى، الحقيقة المطلقة النهائية، والتي لن نعدم في المستقبل من يبشرنا أنها هذه الدولة بالذات والصفات، وأن الخضوع لها هو الحرية والفضيلة معاً، كما فعل في الماضي هيجل مع الدولة البروسية، ومارتن هيدجر مع ألمانيا النازية، ليكونا أنبياء للطغيان، ودليلاً للسير في الطرق المسدودة.
"الهوية الجدلية" تعتمد التاريخ ولا تهدره كما تفعل "الهوية الأصولية" التي تنتقي بقعة محددة في جوفه، تسقط ما قبلها وما بعدها، لكنها لا تراه تاريخاً تلقائياً متعدد الاتجاهات والمسارات، لكنه تاريخ خطي غائي في اتجاه واحد، هو تحقيق المثال النهائي المطلق، وخلال ذلك نتحرك كل لحظة إلى واقع جديد، أكثر تطوراً.
من رفض الحرية الصريح في الأصولية إلى حرية الضرورة في الجدلية.
ننتقل إلى الحرية المطلقة في "الهوية الوجودية".
رغم ما ذكرنا عن مفهوم الحرية المطلقة الوجودي من أنه ليس انفلاتاً فكرياً، لأنه حرية وجودية مربوطة بالعلاقات الطبيعية بين الأشياء في العالم، إلا أنه يبقى "بعض" وليس "كل" التخوف المرتبط بفهم مغلوط، فغياب أي قاعدة أخلاقية مازال محل دهشة، لا تلبث أن تزول مع إدراكنا للوجه الآخر من عملة الحرية الوجودية، المسئولية، فالذات الحرة تتحمل مسئولية حريتها كاملة، فإن جلبت ضرراً شخصياً فعليها، وإن جلبت ضرراً لذوات أخرى يكون عليها تحمل مسئوليته، عقاباً بحجم الضرر، ولنلاحظ أن القواعد الأخلاقية موجودة منذ فجر التاريخ، كأنما لكي يتفنن من يشاء في كيفية كسرها أو الالتفاف حولها، بل وارتكاب أبشع الجرائم باسمها، ولا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى أمثلة، وواقعنا العالمي الآن لا يعاني مما يفعله الفوضويون ودعاة الحرية المطلقة، بل بالعكس تماماً، إذ يرتكب المحافظون ودعاة الأصولية أبشع ما ارتكب خلال التاريخ الإنساني من جرائم.
يبقى لنا في الجزء الأخير من هذا المبحث أن نتناول مفاهيم الخصوصية والذاتية. لنكون قد حللنا بعض ما يعتري العقل الشرقي الآن من تشوهات. تمثل ما شبهناه بحجارة مقدسة تعترض سريان نهر الحضارة في هذه المنطقة.



#كمال_غبريال (هاشتاغ)       Kamal_Ghobrial#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية- في البدء كانت الكلمة 1/3
- مقولة -لا طلاق إلا لعلة الزنى-
- الصعود في الممنوع- قصة قصيرة
- بداية ذئب- قصة قصيرة
- قراءة النصوص المقدسة
- اختلاف الرؤى الإنسانية
- المادية اللاماركسية
- آلهة وشياطين
- نحن ولغتنا الفصحى
- الإنسان وصناعة الآلهة
- 84 عاماً على حرب أكتوبر
- نحن والديموقراطية
- الإصرار على كليب حياً
- العماء والاستعماء
- العالم الغربي والإخوان المسلمون
- الميتافيزيقا - ماوراء الطبيعة
- المسألة الفلسطينية
- أنا واليهود
- اتفاقيات السلام ومصالح الفلسطينيين
- ماذا يحدث في الفيسبوك؟


المزيد.....




- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...
- صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها ...
- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - إشكالية- في البدء كانت الكلمة 2/3