|
لاشيء اطيب من العافية..
محمد اسماعيل السراي
الحوار المتمدن-العدد: 7244 - 2022 / 5 / 10 - 03:06
المحور:
الادب والفن
:لاشيء اطيب من العافية.. كانت امي تردد هذه العبارة باستمرار ، كأنها النعمة الوحيدة التي كنا نحوزها في هذه الحياة.. لكن هل كنا حقا نملكها ؟ او تتوهم امي ذلك؟ فيسري مفعول هذا الوهم الينا ايضا..؟ فامي ،غالبا ما كانت تصاب بالدوار.. والخواء.. لااعلم ..هل بسبب الغذاء الفقير؟ ام هبوط الضغط .. لااعلم..؟وابي دوما ماكان يعاني من تشنجات عضلات ضهره وعظامه .. لانعلم ،ولايعلم هو، مم يعاني .؟ فلم يختبر الذهاب يوما الى الطييب، او لطبيب حقيقي..او حتى مشفى.. كان رشيد المضمد، والمطهرجي ايضا في ان واحد ،هو طبيبنا الوحيد .. لانجد لديه غير المسكنات، وادوية نزلات البرد..ومراهم الجروح او الحروق .. ومسحات البلعوم.... كنت اعاني من الهزال الدائم والمزمن ربما.. ليس بسبب الجوع ..فقد كنا ناكل جيدا.. اقصد من حيث الكم.. لكن من حيث القيمة الغذائية فطعامنا يعتبر فقيرا جدا.. اغلبه من الخبز..والحبوب..والباقوليا.. وربما لحما او فاكهة ..لكن في مواسم معينه... وتردد امي دائما عبارتها الاثيرة، لما كنا نضج من قرف الحياة، :لاشي اطيب من العافية...
كنا اكثر الناس تعرضا لنزلات البرد في الشتاء، بسبب ان المدفاة الوحيدة النفطية (علاء الدين) هي فقط من يقبع وسط بيتنا الرطب، الفاتح ذراعيه، وصدره، لنسمات واعاصير الشتاء .. فالشبابيك يدثرها الكارتون فقط ..حيث لازجاج.. والابواب الداخلية.. ابواب الغرف، تُغلًقُ بالبطاطين العتيقة المهترئة.. وعلاء الدين تطفأ مع اولى ساعات الليل ..خوفا من نفاذ ذخيرتنا من النفط.. وامي تردد: لاشيء اطيب من العافية... .. لازلت اذكر دعائها الذي تردده كل مساء ..مع غروب اخر شعاع للشمس :(يارب جفينه شر كل هافي ومتعافي..) لم اكن اعلم من هو الهافي.. ولا المتعافي.. ؟ولكني كنت اشعر في قرارة نفسي انهما شريران.. ولكن ماذا يفعل لنا الهافي والمتعافي اكثر من الذي نحن فيه!!؟ لم تكن هذه الدعوه التي ترددها امي.. مجرد جملة روتينية .. كما يردد الكهنة جملهم الصلواتية وادعيتهم الميتة،في المساجد،، بروتين قاتل.. كانت امي تقولها بنبرة ملئها الايمان!! .. اذكر جيدا صوت ذلك البائع ..الذي كان يدلل على بضاعته بجملة، طالما اسالت لعاب مخيلتي: (دموز ..دمووز..).. تتهادى الى مسامعي هذه الجملة من صوب ما.. لااعلم اي صوب هو ..؟ ومن اين مصدر هذا الصوت؟ ربما في( الدربونة) التي خلفنا ..او التي بعدنا؟ او ربما من( الدربونة) التي بعد التي بعدنا؟
كنت انتظر بلهفة، تعريجه ببضاعته على (دربونتنا).. كي اشتري منه الموز.. وتمر ايام ..وايام..ربما كثيرة..او قليلة..لااعلم؟ ففي سن الطفولة تنتفي هذه الحسابات القسرية للزمن.. تشعر ان اليوم اطول..والاسبوع اطول..والسنة دهراا..!! تشعر ان اليوم جميل بكل تفاصيله، وله تقسيمات كثيرة، وفيه ازمنة متعددة.. ويأتي يوووم.. وياله من يوم محبط.. لقد جاء البائع المنشود بعربته الخشبية، الى دربونتنا.. ولم يكن يتاجر بما كنت اضن ،،، كنت اضنه ينادي: موز ..موز.. وتبين ان (الدموز) هذا، نوع من انواع الاقمشة.. كان الرجل بائعا للاقمشة ليس الا ، يسرح فيها بعربته الخشبية بين الازقة ..و(الدرابين)..
ام جابر.. جارتنا في الزقاق ، المراة التي تلتحف عباءتها السوداء.. و(شيلتها ) التي كانت يوما ما سوداء كما اضن.. وهي امراة سمراء البشرة ايضا..او هكذا غسلتها الشمس.. تجلس في بابهم منذ صباح الله.. تضع امامها بضاعتها من الحلوى في صينية (فافون)،، كانت حلواها؛ من الفاكهة والثمار..(عنجاص)، ثمرة المشمش الناضجة جدا جدا (مستويه) ،،، والتي تسيل مكوناتها العضوية الاخرى، عن البذرة الداخلية(الفصمة) .. وتمر هندي مخفف بالماء ومرشوش بالملح،،، وربما ثمرات (كوجه) اتلفتها الشمس... كانت تبيعنا الحلوى بدرهم،، تضع لنا البضاعة على ورقة دفتر او كتاب ،مربعة الشكل، حجمها بقدر الكف.. و بعيدا عن الذباب الذي يحوم حول بضاعتها، او المتساقط فيها في كثير من الاحايين، لكن،،كانت حلواها لذيذة جدا...
وايضا،، من الحلوى اللذيذة على قلبي، والتي لم تسلم من نهب الذباب لها ايضا، حلوى، لااتذكر ماهي مكوناتها او ممَ هي مصنوعة ..؟ ربما الجلاتين..؟ ربما سكر وحليب ومثخنات والوان..؟ كانت لذيذة جدا ..ومن لونين..احمر وابيض.. كان بائعها الجوال الذي يسرح بعربته في الازقة، يطعمنا اياها مع وسيلة ترفيه .. عبارة عن آلة، او لعبة لدائنية، تشبه الكاميرا، وفيها عدسة مكبرة، ننظر من خلالها الى شريط مدور يحوي صورا؛ لمكة ،وللكعبة، والمسجد النبوي ،وصور اخرى لااتذكرها.. نضغط بابهامنا على زر بلاستيكي فيدور الشريط.. كنا لانقبل بالحلوى فقط..ولانعطيه نقودنا حتى ننظر الى تلك الصور الجميلة ...
غالبا ماكنت اصاب بالتسمم.. ربما بسبب الحلوى..او الذباب.. كانت امي تُخرّطُ لي بطني.. وتقرا عليً بصوت خافت، ادعية او رقى، كما يبدو على وجهها المليء بالحبور والصدق.. والنقاء..والجوع.. ولكني مع ذلك..اعاود شراء الحلوى مرة اخرى ..واخررى.. .. لازالت تداعب مخيلتي احداث مهيبة جدا..احداث وقعت في تاريخ الطفولة..لذا فهي مهيبة..وساحرة...ومبهرة.. منها ان الليل كان في مخيالي كائنا مقدسا، وعملاقا..وربما وحشا.. الليل كان زمنا طويلا..وله قعر..ليس كما هو الان ابداااا اذكر مرة اني استقيضت من النوم صيفا وانا اتصبب عرقا ولهباً تحت رحمة مروحة منضدية صغيرة ، هي الوحيدة التي كانت توزع رياحها بعدالة على افراد عائلتها المنسدحين في الحوش، في باحة المنزل .. كان ذراع ، او رقبة المروحة، تتحرك يمينا ويسارا وتنثر رياحها هنا مرة..ومرة هناك ..ومرة لااعلم اين.. كم تمنيت يومها ان لي سلطة تثبيتها على وجهي فقط.. استقيضت من النوم ..ولاادري كم الساعة..انه قعر الليل المهيب،، كنت اضن ان جميع الخلق في هذه الساعة يغط في النوم،،، ماعدا الله..ولكني اشعر احيانا انه ايضا نائم... لكني تفاجئت ..اذ وجدت امي جالسة على فراشها..تدخن.. وهي ساهمة تفكر في شيء ما..كانت دائما تفكر..وساهمة..حتى وهي نائمة.. شعرت انها موجوعة ..او قانطة تحت رحمة امل ضعيف جدا.. لكنه ربما يكفيها ان تعيش لسنين اخرى..او ربما هي تعيش لاجلنا فقط.. يبدوا ان صوت مزاح اخوتي الكبار ..النائمين على سطح المنزل هو من ايقضني؟ كنت مرتاعا لهذه الحادثة جدا..اول مرة اختبر هكذا شعور..ان يكون الناس مستيقضين في قعر الليل المهيب!!! ابي هو الوحيد الذي كان يغط في صمت النوم المطبق..فالحر لم يكن يشكل له عبأً.. حينما راتني امي مرتاعا..ومخنوقا من الحر..قالت بنبرتها الملائكية :(اسملله) وامرتني بالعودة الى النوم..ولااعلم كيف نمت بعدها سريعا بمجرد ان قالت ذلك.. كأنها القت علي تعويذة امان!!
وكان الفجر ايضا، مهيبا..ولذيذا..وقديسا كبيرا.. لكنه لم يكن وحشا ..ولم يشعرني يوما بالخوف.. بل كنت اشعر فيه، ان الله مستيقظ ..ومتيقظ..وهو ينظر اللي..ويقول لي: لاتخف.!!! كنت اشعر ان الله كأمي..طيب ، ونقي، وطاهر، وصادق دوما... لكنه ربما كان ياخذ قيلولة ليلا..بينما امي لم تكن تنام..!!
ومن الحوادث الطفولية الجليلة التي حدثت في فجر طفولتي يوما، اني كنت اعشق صوت الديكة فجرا ، اشعر كانهم بطانة الله.. ومأمورين منه، بممارسة نشر الطمأنينة.. وذات فجر ، وصوت ديك..نهضت من فراشي لاجد امي تخبز.. كان الظلام لايزال حاظرا..والشمس لم تستيقظ بعد.. مشهد.روحاني ..وساحر؛ الديكة تصيح ..والفجر ..والظلام الاخير.. ورائحة الخبز..وانحناءة امي فوق التنور.. اول مرة ارئ امي تخبز فجرا..لكنها كما يبدو ، كانت تفعل ذلك دائما.. مشهد لن انساه ..ولن امسحه من مخيلتي..مادمت حيا...
ومن احداث الطفولة التي لم انساها ايضا،، اننا في مرة ما، عندما كنا نقطن الريف ، وكنت صغيرا جدا حينها، ربما عمري سنتين او ثلاث.. اذكر اني وشقيقي الكبيرين ، وبعض اقاربنا من الشباب، ولما كنا نسرح في اراض وعرة..وزرع .. وكان هنالك نهر بجانب الطريق المرتفع عن باقي الارض المنحدرة.. اذكر ،انا وجدنا حميرا سوداء اللون ببطن ابيض، او هكذا كنت اتذكر!! لا ادري هل سرقها اخوتي واقربائي ، ام وجدوها تاهه بلا مالك..؟ ام هي حمير اقاربنا كانت سارحه؟؟؟ سقناها امامنا من باطن الارض الوعرة حتى وصلنا بها الى الطريق المرتفع المحاذي او المطل على النهر.. ثم حاولنا امتطائها.. صعد الجميع على ظهورها..واصررت انا على المشي راجلا بمحاذاتهم.. لم اكن اخاف امتطاء ظهر الحمار..بقدر خوفي من السقوط في النهر.. كان الماء يغريني..ويملئني سعادة وجلالا..لكني كنت اخافه ... اصر اخي علي ان امتطي الحمار بجانبه .. فلا يصح ان يهرولوا بالحمير وانا أتمشى..فيخلفوني وراءهم .. وربما اتيه..او يتهمهم أبوينا بانهم تركوني وحيدا ، فاكلني الذئب... وتحت الحاح اخي..وتعنيفه..وبكائي..اضطررت للصعود.. وياليتني ماصعدت.. فتحت تأثير خوفي وارتباكي..ومنظر النهر المهيب..كانت اضن ان حمارنا متجه مباشرة الى حضن النهر.. فرميت نفسي من الحمار وتحدرجت على سفح الطريق المرتفع وسقطت في الماء..وقبلها اصطدم راسي بصخرة.. تم انتشالي..وعُصِب رأسي بقميصي..واُصعدتُ مجبورا على الحمار تارة اخرى.. لكنه الان يتهادئ ..بطيءالسرعة ..مراعاة لخوفي وهلعي.. استقبلني الجميع باهتمام في البيت.. اذكر ان اقرباءا لنا كانوا ضيوفا هناك..وابي..وامي...وبيتنا الطيني الجميل .. في الحوش الواسع..عصرا..يحيط الزرع بيتنا من كل صوب..كانه بقعة طينية في وسط لون اخضر زاهي.. تم تنظيف جرحي بواسطة(سبرتو) احمر، ووضع لي ضماد.. وامي تردد: -(غده شرها)، -لاشيء اطيب من العافية.. ربما امي كانت تقصد حينها عافية الروح..وليس الجسد..
#محمد_اسماعيل_السراي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هبوط اضطراري
-
الرسالة الاخيرة
-
الاصل العرقي..من نحن..؟
-
البخاري والشايب..اقصوصة
-
عن البروليتاريا، والكرسمس...
-
تاريخ السلوك البشري(ماقبل النيولت ومابعد النيولت*
-
القرد المدجن
-
ما بين عولمة فوكوياما..ومشاعية ماركس...
-
الطوطم..والطابو..
-
(مدن الظل..الصرايف...) ....احياء على هامش المدينة
-
ما الأسباب التي دعت الايدلوجيات الشيوعية لانتهاج انظمة دكتات
...
-
الحانة
-
التأريخ الضائع (تأريخ الفرد)..
-
الذكاء،هل هو مكتسبٌ او موروث..؟ ومامدى صلاحية مقاييس الذكاء.
...
-
مفهوم الحرية: كآسريّ النظم المجتمعية واخلاق القطيع ,هم الاحر
...
-
المحاريب الرطبة
-
العقوبة والجاني..واستنزاف السنين
-
الدنيا تتغير..والانسان يتغير،ولكن تبعاً لها
-
ملامح الأسطورة في اطروحات مدارس القرن التاسع عشر ،الفكرية ال
...
-
سلوك الشر بين مطرقة التنشئة وسندان الوراثة
المزيد.....
-
بعد سقوط نظام الأسد.. الفنان دريد لحام يوجه رسالة إلى السوري
...
-
اكتشاف كنز من التسجيلات غير المنشورة لمايكل جاكسون
-
تعرضوا للخسارة أو شاركوا في القتال.. 5 فنانين تأثروا بالحروب
...
-
ورشات الأطلس في مراكش.. نوافذ للمخرجين السينمائيين الشباب عل
...
-
الثقافة أولاً .. تردد قناة بابل 2025 الجديد على النايل سات و
...
-
بفستان أبيض فخم .. الفنانة اصيل هميم تحتفل بزفافها من رجل أع
...
-
السوداني يوجه بنقل جثمان المخرج قيس الزبيدي إلى العراق
-
رسالة باللغة الروسية تحذر من هجوم تفجيري على بنك الاحتياطي ا
...
-
بفيلم لجوني ديب وتكريم فيولا ديفيس.. مهرجان البحر الأحمر الس
...
-
اقتراح بترجمة قوائم الطعام في مطاعم موسكو إلى اللغة العربية
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|