أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احسان العسكري - الانتقالات التصويرية الثابتة في سرد سمير غالي ( العمة مريم) اكثر من قصة قصيرة















المزيد.....

الانتقالات التصويرية الثابتة في سرد سمير غالي ( العمة مريم) اكثر من قصة قصيرة


احسان العسكري

الحوار المتمدن-العدد: 7126 - 2022 / 1 / 4 - 17:29
المحور: الادب والفن
    


الانتقالات التصويرية الثابتة في سرد سمير غالي
( العمة مريم) اكثر من قصة قصيرة
لا شك أن للسرد انعطافات و تبدلات يفرضها الكاتب على ما يعتقد انه بحاجة لأن يتم اخراجه من النمطية الى الخيال المكتنز بتطورات الواقع هذه التبدلات وسواها تضع المتأمل في نص ما في جوهره ، ماهيته ووظيفته فهي توقفه امام الثبات المتصوَر علمياً وفقاً لطبيعة الفكرة و اللغة ومرجعية الاستناد السردي ومنهجه المتوخى لإيصال الفكرة ، سمير غالي يجذبك دخوله و يشدك موضوعه و يعطيك نتيجة تتوقعها وانت تقرأ للمرة الأولى و تتفاجأ في المرات الاخرى .

(( أذكر ذلك اليوم ولا أنساه . كان أبي منعنا من استقبال مريم السوداء . سمعناه ينهر أمي من وراء باب حجرة النوم الموصدة :
ــ تستقبلين عبدة ساقطة في البيت .. ماذا يقول الناس عنا ؟
لم نفتح الباب في الليلة التالية . كان القصف قد بدأ مجددًا مع حلول الغروب ، والحي العسكري الذي نسكنه بدا بطابوق بيوته الشاحبة مثل مقبرة موحشة ، فأغلب الناس هجرته نحو المدن البعيدة عن الحدود ))

لايمكن ان يُقال عن هذا الدخول انه طبيعي و لا جديد فيه ، فالكاتب هنا وضعنا مباشرة وسط معركة غير متكافئة بين طرف متسلط مقتدر و هو الاب و طرف اخر لا تكفي قوته المؤقته ان تصمد امام الطرف الاول و ثباته، استخدم الكاتب هنا بساطة و رتابة الحادثة وهي زيارة امرأة لبيت وعدم رضا صاحبه عن هذه الزيارة بغض النظر عمن قام بها، وان عدنا نحو النص هنا نجده قد جمع اكثر من مورد وهي : الحرب ، الحدث ، المكان ، الزمان ، الخوف ، الوحشة ، الغضب و الكبرياء .
وكل هذه الموارد المختلفة في نتيجة الايحاء و مدى تاثيره تجعل من القصة القصيرة بداية لحكاية كبيرة كيف ؟ كل مفردة انتقاها سمير غالي لها دلالة ما هو لايريد ان يُظهر اباه بهكذا مظهر قدر ما يريد ان يؤرخ لنمطية مجتمع الاسرة وتأثرها بالخطاب الجمعي للمجتمع الاكبر وهو المنطقة او القرية او الشارع او الزقاق ولا يريد أيضاً حشو نصه السردي بما اعتدنا على ملاحظته في نصوص هذه الايام فترك بعض التفاصيل الدقيقة و الاعتماد على التفاصيل الأساسية يجعل من القص اكثر قبولاً و جذباً لمتعة القراءة و التأمل ، ثمة خيال خصب هنا بقدر خصوبة اللغة و عمق تأثيرها .
الحرب الازلية الواضح و الخفية و شحوب الجدران و الهجرة ، لكل شيء دلالته ومعناه وهذه تأتي من مدى تاثر الكاتب ببيئته وعمق انتمائه لتاريخه و معاناته اليومية في دوامة حياة اختصرها لنا بهذا الجزء من القصة .

(( بقينا ننظر إليها خلال نافذة غرفة الضيوف المطلة على الزقاق . كانت كما في كل ليلة ، تحمل على رأسها قدرًا تغطيه عدة أرغفة خبز ، وتحت عباءتها تبدو وجوه بناتها بضفائرهن المنتصبة كأنهن عنزات صغار ، ظلت تدق بابنا لوقتٍ طويل قبل أن تتوقف ، ثم رأيناها تهش طفلتيها أمامها عائدةً إلى بيتها في الظلام ))

ابتسمتُ وانا اتخيل مشهد العمة مريم و ضفائر بناتها هو مشهد سائد في تلك الأيام نتذكره جيداً خاصة اشرطة القماش التي تضفر مع الشعر و الملابس الرثة البسيطة ذات الالوان الصارخة ، وهنا يمكن تأثير القص الذي يستخدم الايحاءات العقلية لتغذية الخيال الفني . وهذا تجلى لنا من بداية القصة فالحوار فيها سريع ، مؤثر ، منتج و بسيط يمثّل البيئة التي يدور القاص فيها و اكثر ما شدني شخصياً هو غياب التكلف و الابتعاد عن مفردات غير ملائمة و ترك الكلمات غير المستعملة في حواراتنا الاعتيادية الطبيعية فلا تلوين غير مبرر و لا توكيد غير منطقي و كل ما في الحوار قريب جدآ مستوى التعبير للشخصية العادية.
اما لعودة العمة مريم الى بيتها !! حكاية من نوع خاص ففي جملة تهش طفلتيها .... رسم لنا القاص تاريخ محنة و فشل قدما من مفردات تلك الحرب التي دخل بها الكاتب الى قصته فاضاف للسرد روح الشعر و اخرجه من قالب الرتابة و نقلنا معه لكوامن ابداعه و جمال فنه في رسم الحدث و ترك لنا حرية التأمل و استنباط الخيال السردي بحرية مطلقة، فكل من يقرأ هذه القصة تجره لواقعه الخاص ومخيلته الشخصية وتؤثر فيه تأثيرها المطلوب تاثيره .

(( لايمكنني نسيان أحاديث مريم مع أمي في تلك الليالي البعيدة . كنا مبعثرين حولهما تحت الأغطية ، وكانتا تبدوان وهما تتوسطانا كمئذنتين محنيتين على بعضهما وقد جللتهما طبقات العتمة ، ورغم المدافع التي كانت ترعد فوق بيتنا قاطعةً بوحهما الحميم ، إلا إن عينيها وهما تمسحان سقف الحجرة كلما جلجلت قذيفة في الآفاق ، كانتا تظلان تلمعان بدعاء خفي وهما تتابعان تلك الكبسولات المحشوة بالموت والخراب حتى تتبدد انفجاراتها في قلب المدينة ، فتبتلع ريقها ))
وبعيداً عن اللغة التي تظهر التراتبية المباشرية - ان جاز لي توصيفها- اجد ان سمير غالي مدرك لأهمية المكان في القص و تأثير الزمان عليه و على الرغم من كون المكانية طاغية في السرد الا ان للزمان التأثير الاكبر فالمكان محدود و ليس بمتسع الافق فيما يبدو الزمان خصباً بتفاصيل حياة بأكملها والمشاهد المكانية تنقلنا فوراً لاحداث زمنية متواترة فهو يتحدث عن حقبة زمنية معينة العجيب فيها انها لازالت موجودة في نفوسنا و في حياتنا اليومية .
مشاهد الحب و الحرب و الصداقة و شعور الانسان بحاجته للانسان ، و اما العبارات الكلامية المستخدمة في تصوير احداث القصف و القنابل فهي تعبر عن قوة تأثر القاص بوجع المجتمع فهو وجعه الشخصي الخالد نقله لنا عبر سطور ممتلئة بكل ماهو بديع ومؤثر في النفس .
فـ تصوير المشاهد مثير للذهول في حقيقة الامر و لا أدري هل يمكن للشعر ان يوصل لنا هذه الفكرة و يوظف هكذا حركة زمكانية ؟ ((ثم تدس يدها تحت البطانيات لتتأكد من قلوبنا إن كانت ماتزال تنبض ، فإذا هدأ روعنا ، عادت إلى أمي لتبدأ من حيث انقطع الكلام ))
هل هذه القصة قصة مكان ؟ ام انها قصة حرب او تأريخ آخذ بين عناصر البيئة وصاهرها عبر تصوير القاص للمكان والزمان و العاطفة و الايمان و الخوف و الاطمئنان ؟ جمع الخوف و الاطمئنان في سطرين في قصة قصيرة بهذه الطريقة يعتبر ابداعاً عظيماً لدرجة العبور فوق مستوى التعبير السردي المتبنى في القصة القصيرة .

(( ظل حديثها عن اللصوص الذين يجولون ليلًا حول البيوت الخالية من الرجال يصب داخل روحي إلى اليوم كثغاءٍ قادمٍ من قعر بئرٍ عميق ، فكنت أتخيل خطاهم الحذرة فوق السطوح ، يعقبها سقوط علب الصفيح المصفوفة داخل الأقنان وفزع أجنحة الحمائم المذعورة . وكانت تحلف بعيونها الحلوة التي سيأكلها الدود ، إنها رأتهم يهبطون مع لفائف العتمة مثل ضباعٍ شبقة ويجوسون داخل الحجرات ، وإنها كانت تضم بنتيها تحتها وتظل ترتعد طوال الليل ، فيما شخير أشداقهم يكوي أذنيها كرصاصٍ ذائب وهم يلوغون بألسنهم اللزجة صدرها ورقبتها وبطنها وفخذيها ، وإنها كانت تستغيث بزوجها المجدول من التعب في سواتر الجبهات البعيدة . ثم تهمس لأمي :
ــ لكن صوتي لم يكن يصل إليه ، فلساني يا أخيّتي كان يصير مثل قطعة حبل تحت تراب أحذيتهم التي تدوس وجهي وفمي حتى طلوع الصبح .
ما عادت مريم تطرق باب أحدٍ لقضاء وحشة الليل ، ولم نعد نراها كثيرًا مذ أصيب زوجها في الحرب . لم يذهب الرجال لعيادته ، لكننا رافقنا أمهاتنا بعد أيامٍ للسلام عليها . تحدثت قليلًا عن جروحه الطفيفة ، وقالت إنه عاد لوحدته العسكرية بعد انتهاء اجازته ، وكانت عيونها تشبح نحو باب الغرفة الأخرى بنظرات حائرة ))
اي عينٍ لم يأكلها الدود ؟ فكل العيون التي تأكل الاجساد والاشياء بنظراتها سوف تؤكل ذات طمرٍ في ترابٍ ما . سمير غالي لم يكتب مجرد قصة قصيرة ابداً انا ادعي انه كتب رواية مختصرة هو ببساطة اختزل تأريخ من عدم الاتزان الاجتماعي الذي سببته مسببات عدة منها الدين و المجتمع و الكبت النفسي و العاطفي و الرتابة الاجتماعية القاتلة لأحلام الحرية ، هو دوزن حياتنا جميعا بما تتطلب آلية العزف على وتر الصدمة ، انها انتقالات عظيمة وثابتة في نص سردي قصصي تفوق فيه الزمان المطلق على المكان المحدد .
تصوير مشهد الذين اسمتهم لصوص و عدم تورعها عن نقل ماحدث وكأنها راضية رافضة او مقتنعة ناكرة ، لايمكن الجزم بما تجول به خواطر امراة بلا رجل ، الا ان النقطة الحساسة التي ارغمنا الكاتب على التوقف عندها هي مفردة " اللصوص" وهي كفيلة باجتثاث تخيلاتنا غير المعقولة ، هو يريد ان يقول سوء الظن مباح ولكنه مجرد سوء ظن يا سادة ، و السؤال هنا هل ترانا نبقى نعلّل تصرفات هذه المراة وحكايتها ام نعمد الى امها بالمرض سواء أكان مرضاً نفسياً أم جسدياً حسب متطلباته ؟ فبين فكرة استحقاقها للنبذ لأنها وضِعت بهكذا موقف وبين الشفقة عليها بسبب العجز الناتج عن غياب الحامي ؟ العجز الذي اشبعها من شيء تحتاجه رغماً عنها ، ام ان القاص اراد ان يشركنا في حيرته من القضية بالمجمل ؟ خاصة وانها انقطعت عن زياراتها للبيوتات المجاورة بعد عودة زوجها من الحرب مصاباً .
تركنا الكاتب في دوامة الفضيحة شبه المخفية و الحالة الاجتماعية المزرية المتمثلة بلصوصية و اعتداء و اشباع رغبات و ذوبان كبت و خروج عن مألوف اجتماعي ديني اخلاقي مركب ، لا اعلم .

(( ولم يكن في الشارع من يملك هاتفًا في بيته غيرها ، فكانت امهاتنا تذهب اليها بين فترة وأخرى لتقصي أخبار الآباء الذين تأخرت اجازاتهم . كانت تفرح بدخولهن منزلها ، فتسارع نحو تلك الغرفة ، تفتح بابها بحذر ، وتعود منها بسجاجيد جديدة ومخدات لم يقعد عليها أحد ، وتقدم لهن الشاي والتمر المداف بالدهن الحر . وكم رأيناها تحل بينهن صرة أحجارها النادرة ، وتحدثهن عن الفصوص التي تدر الحليب في الأثداء ، وتلك التي تجلب الرزق وتزيد محبة الرجال ، ثم ترشهن بعطورٍ فاخرة وتشيعهن بلا عباءة حتى منتصف الزقاق ))
حكاية العمة مريم التي تبدو حكاية عادية لامراة ما ، تعتبر حكاية جيل لازال تحت تأثير المعاناة من الحروب و عسكرة المجتمع و اعتبار القتال اول الحلول و انجعها ، نحن نتحدث عن شخصية الفرد العراقي الذي اذا ازعجه طفله يقول له اجلس و الا قتلتك واذا اراد ان يعبر عن شدة حبه يقول قتلني الشوق وحتى حينما يغني يذكر القتل فكل الحياة تؤدي الى القتل ، اراد القاص الثورة على هذا الحضور المضني لفكرة القتل بتجاهلها ببساطة هو ذكر الحرب و السرقة والاعتداء الجنسي و المقاتلين و حكايات الموت و روايات الجند ولكنه لم يعر لفكرة القتل اهتمامه بل استبدلها ربما بأفكار اخرى وعادات محببة مثل حسن الاستضافة والايثار عبر وصف حالة العمة وهي تستقبل نساء الحي الباحثات عن اخبار ازواجهن عبر استخدام هاتفها . استبدال غير متكافئ لكنه رائع سيما وان القصة بمجملها تبدو للقارىء ناقلة لحدث مركب وهي في الحقيقة ملحمة عاطفية ارًخت لتبدلات ذاكرة شعب .

(( لم يودع أحد مريم يوم طردتها الحكومة من بيوت الجيش . ولا امرأة في الحي العسكري ذرفت وراءها دمعة . كانت تتلفت لوحدها في الزقاق يوم توقفت أما منزلها شاحنة كبيرة في ذلك الغروب ، وكانت تنوء تحت ثقل قطع الآثاث مع بناتها . لم يعنها أحد سوانا نحن الأولاد الصغار . تراكضنا نحمل معها ما أمكننا . أفرغنا لها قن الدجاجات ومشواة السمك المركونة فوق تنور الطين ، وأنزلنا من علية السطح باقة الثوم الكبيرة وقلائد البامياء المجففة ومشانق الأسماك اليابسة ، ونقلنا إبريق المراحيض النحاسي الثقيل ، وحملنا صحون الصيني الثمينة والمزهريات وصور الشهداء المزججة على الجدران . ولما لم يتبق سوى الحجرة الموصدة ، وقفت ببابها تقلب وجهها وكأنها تتمنى لو تموت ، فلما حثها سائق الشاحنة بصوته المشروخ على الإستعجال شهقت ببكاءٍ مر وقالت :
ــ أعينوني
كان يستقر مثل ثمرة بطيخ ذابلة داخل حفرة في فراشه أحدثها سبات طويل ، وكان بلا يدين ولا رجلين ، ولم يكن يدخر تحت ثوبه الأبيض النظيف علكة لحم ، ولولا قلق بؤبؤيه في محجريهما الغائرين لظننا إنه دمية سوداء ضاعت أطرافها . فلما رآنا نحيط به حدق مذهولًا في وجوهنا ، ثم أدار لمريم وجهه المحتقن بالعذاب وصاحت :
ــ أذكر لي أسم واحد يحبنا ، سأذهب أقبل حذاءه ليحملك بدل هؤلاء .
حملناه ملفوفًا بالأغطية . كان مثل ريشة ، لكن مريم اشتكت من ظهرها تحت خفته المفرطة ، وتركته بين أيدينا ، فتلقفه السائق منا ووضعه إلى جواره مثل طفل رضيع ، ثم نفثت الشاحنة بوجه الحي العسكري دخانًا أسودًا ومضت تهتز بين البيوت ، وبدت مريم مع بناتها بين صرر الأفرشة والثياب مثل ضباءٍ سلخت وجوهها حمرة الغروب ))
ياله من مشهد موجع ويالها من تربية عظيمة تلك التربية التي تربت عليها اجيال الحروب فرغم عزوف المربين عن المساعدة لم يكترث المتربون لاسباب العزوف وانطلقوا ببراءتهم و عفويتهم لإعانة المرأة دون اعتراض اهاليهم ، ولو قارنا اجيال الفيس بوك و تربية آباء السلم لرأينا هوة كبيرة بين الحقبتين . وهنا استطاع القاص ان يرينا هذه الهوة و يعيدنا لزمن غابر باق بتأثيراته و انتقالاته عبر ادمغة اشياعه و جيله الممتحن ، ففي خضم القص و الاحداث وتصويرها يبتعد القاص عن الوجع لحيضات ثم يعود له بقوة وهنا تتجلى لنا عظمة مخيلته خاصة وهو يرسم بقايا رجل اتعبت امرأة كاملة وربما كان هو وظروفه المأساوية السبب في كل ما يجري وكل ما تفعله وفعلته سابقاً ، لكتمل فصل الظلم بطردهما من بيت كانت حياتهما واطفالهما محد احضانه .
مثلت العمة مريم ( حسب رأيي) دور المحتل البسيط لتفكير منطقتها فهي رغم كونها امرأة غير مرغوب بها من ارباب البيوت استطاعت ان تكون لها قاعدة من الاعوان والمؤيدين وان كانوا من غير البالغين فهذه قاعدة قابلة للادارة يعتمد قائدها على استدرار العواطف البريئة و القيم المكتسبة تربوياً لاتباعه حتى يحقق هدفه ثم ينفث عليها ما تبقى من دخان سيجارته و يمضي تاركاً اياهم لمن هم اقرب منه وان عادوا خائبين خاسرين الا انها خسارة لا يبقى منها سوى ذكرياتها ولكن الخوف من الخسارات التي تترك اثراً لايزول وهنا نعرج على دخول القاص و أول جملة ابتدأ بها قصته وكأنه يشير للقاريء عبر حادثة قديمة بتوخي الحذر من احداث قادمة قد تدفعه الى عيشتها تربيته اووبساطته او عدم اهتمامه بنفسه و تجاهله لخبايا المستقبل والاثر الذي يمكن ان يتركه .
(( انتهت الحرب ، ونشبت حرب أخرى وانتهت ، وأحالوا أبي إلى التقاعد وطردتنا الحكومة من بيوت الجيش ، فاستأجرنا بيتًا في الأرياف البعيدة عن المدينة ، وأصرت أمي على تزويجي . كانت تعتقد بأنني سوف أعقل وأترك قراءة الكتب وأعود إلى الصلاة إذا ما وضعت امرأة صالحة في حضني . أنفقنا كل ما ندخر على مهر العروس الباهظ ، وفي الصباح لم يكن لدينا ما نشتري به ذبائح لمأدبة العشاء . حاول أبي أن يستدين من صديق قديم كان معه في الجيش فاعتذر منه ، لكنه أشار عليه بعائلة في الحي تمتهن بيع المواشي على أن يتكفل هو ثمنها . عندما شارف النهار على الإنتصاف بدأ وجه أمي يسود ، وحين كبرت المأذنة لصلاة الظهر لاحت آخر الزقاق عدة خراف تسوقها امرأة يلحقها أبي ، فلما أقحمت خرافها عتبة الباب ضج البيت لزغاريدها الصاخبة . كانت رشيقة مثل عصا الخيزران ، وتفوح منها رائحة الحبة الحلوة ، ولون وجهها مثل حنطة ألهبتها الشمس .. وصاح أبي في الجميع
ــ قوموا للسلام على عمتكم مريم ))

بعد أنّ المكان هو الشخصية التي شاطرت مريم في بطولة القصة وسيطرته الزمانية عليها نقلنا القاص لمكان غيره لكن عادت سيطرة العمة مريم فبدلاً من يخلط المكانُ العناصر بعضها بالآخر خلطت مريم الاحداث عبر ظهورها هذه المرة وهي تسوق خراف العرس فتكونت قصة اخرى داخل القصة الام عبر تغيير المكان و الزمان و حضور البطلة التي ظننا اننا اختفت لبرهة هذه القصة التي ولدت من رحم التغيير المكاني والزماني خلطت التفاصيل كما اختلطت ذكريات المدينة بالقرية لتسيطر حالة الدهشة التي أصابتنا بصدمة عودة مريم بهيئتها وشخصيتها غير المكترثة بتأريخها الذاتي فمسحت الصمت بكلّ ما يحتويه من حيرة وبذلك بدا كل ما في المكان بدون ملامح سوى العودة للزمان والمكان السابق حيث لا أسماء للشخصيات ولا سمات مخصصة لها فما هم سوى اب محافظ جداً وام بسيطة و اطفال ومجموعة شخصيات تتحرك وتتفاعل ضمن المكان القديم نسجت الرتابة خيوطها على مكانها الحديث لتمزقها زغايرد العمة مريم و هي تقتحم باب البيت بخرافها و استقبال ذات الاب الكاره لوجودها ودعوته الممتزجة بالفرح له لاستقبالها .
زمان ومكان و امراة ثم مكان وزمان وامراة ، صدمة و دهشة و عمق وخيال و انتقال من حال الى حال وتصوير فني شفيف رغم كمية الوجع وغيرها من احداث تسامقت وتساوقت و انتقلت بنا بين الفضاءات عبر هذه القصة القصيرة المتبنية لمكانين وزمانين تجر احداثهما امرأة واحدة ، لو اردنا الخوض فقط في بديهيات حياة هذه المرأة وتركيز القاص عليها لاحتجنا لدراسة مستفيضة توصلنا لأكثر من نتيجة لكني اعتقد ان قرائتي هذه ستكون قراءة المتلقي البسيط وهذا جل ما اريده وهو ان يخاطب الاديب العقل الذي يقبله كأديب و لايترفع عنه عبر اعتناقه لمذهب النخبوية المنغلقة على نفسها و الاهتمام لرأيها او الاعتماد عليه .
سمير غالي المسروق حقه كسرقة حقي وحق غيرنا يثبت كل لحظة انه أديب عصامي وكاتب كبير ومهم لا يمكن لأي منظمة مهما كان اسمها وثقلها وتخصصها ان تضيف له شيئاً قدر استطاعته هو ان يضيف لها الكثير و برأيي يشرفها مجرد حضوره في فعالياتها.
...............................................
قلم صدام : قماش أسود تلبسه النساء الحزينات ، اشتهر في ثمانينيات القرن الماضي خلال فترةالحرب الطويلة مع إيران .



#احسان_العسكري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محاكاة الممنوع و تعميد المفردة بالوضوح قراءة في رائعة امل عا ...
- وقفة مع الابداع الشعبي - طارق صبار الحلم الذي في طور التحقق
- التسامق النصي في كتابات باسم فرات .قراءة في انموذجٍ من حقائق ...
- شرف الخصام
- لماذا خسر الحكيم مقاعده في الانتخابات ؟
- تعددت المشاهد و الجمال واحدُ - قراءة في فصلٌ المساء الذي لم ...
- الحكاية
- أناقة المفردة بنكهة الجنوب قراءة في مجموعة الشاعرة فيان البغ ...
- من رد دعوة الشاعر تبوأ مقعده في جلباب الندم قراءة في معلقة ...
- المُحارب القديم يُشبِعُ ذكرياته بحاضرٍ قرين بها قراءة في قص ...
- رحلة ( العائدون الى المنافي) وانتقالات الوجع الموفق
- اعطني نصاً وذائقةً اُعطيك نمطاً لحياةٍ أجمل
- الوَلَدِ السَّوْمَري بين الترحال وعشاءه الاخير قراءة في قصيد ...
- لهم تغريبة واحدة ’ وله وجود متعدد (عبدالسادة البصري) مغترب ف ...
- هو وجع يمشي..وبلاده وجع تمشي .. ورغم ذلك فهو عنوان الراحة (ه ...
- (ألفُ انكسار) وخلود واحد معادلة اوجدت لها د. راوية الشاعر حل ...
- مهند طالب هاشم كاتبٌ بشاعرية العاشق وشاعرٌ بخيال الكاتب قرا ...
- من اوقد جمرات الراكض ومن ركض على جراحه ؟ قراءة في جمرات الش ...
- مزاولة التذكر بين هاجس الابتعاد وحلمُ القرب قراءة في ملحمة ...
- ارجوحة الصياد بين الثبات والانتقاء والتقاط الندى قراءة في خط ...


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احسان العسكري - الانتقالات التصويرية الثابتة في سرد سمير غالي ( العمة مريم) اكثر من قصة قصيرة