السياسة في رحلات جاليفر

محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)

الحوار المتمدن-العدد: 7069 - 2021 / 11 / 6 - 21:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

يعد جوناثان سويفت ، مؤلف رواية رحلات جاليفر الكلاسيكية ، شخصية رئيسية في الأدب الإنكليزي الناقد. كان سويفت كاتبا ساخرا وناشرا سياسيا ورجل دين ، وقد ولد في 30 تشرين الثاني عام 1667 بعد مضي سبعة أشهر من وفاة والده. وتعد رحلات جاليفر أعظم هجاء قدمه جوناثان سويف وإحدى أعظم الأعمال في تاريخ الأدب العالمي . نشرت الرواية على شكل رحلات إلى عدة دول افتراضية نائية في العالم ، في أربعة أجزاء كل جزء يغطي رحلة ليميل جلف في عام 1726م، وتصور رحلات جاليفر إلى عدة أراض غريبة وغير عادية . وقد ركز المؤلف في كتابه على فحص ساخر للطبيعة البشرية ، وقدرة الإنسان على ممارسة الفساد ومخاطر إساءة استخدام العقل.
تعد رحلات جاليفر بمثابة هجاء لاذع، وبقول سويفت أن كتابه يتسم بروح من الدعابة والنقد وتهاجم باستمرار المجتمع البريطاني والأوروبي من خلال وصفها لبلدان خيالية افتراضية .
نُشرت رحلات جاليفر دون الكشف عن هوية كاتبها ، ولكن ومن خلال أسلوب كتابتها ذهبت كل الشكوك إلى أن جوناثان سويفت هو من كتبها . تعتبر الرواية هجوما على الإنسانية أو تقييما واضحا لنقاط القوة والضعف البشرية وتركز في كل تفاصيلها على الطبيعة البشرية والفكر الأخلاقي والفلسفي والعلمي لعصر سويفت .
تروي رواية رحلات جاليفر سرد خياليي لأربع رحلات غير عادية قام بها ليمويل جلفر ، وقد سجل اسمه للعمل كطبيب جراح في السفينة لأنه كان غير قادر على تقديم الدعم المالي الكافي لأسرته.وبعد أن تحطمت السفينة وصل جاليفر أولا إلى ليليبوت وهي جزيرة يبلغ طول سكانها ست بوصات فقط حيث ينعكس تفاهة النظام السياسي في الحجم الصغير لمواطنيه. وفي النهاية ، تم الضغط عليه للخدمة مع الدولة من قبل الملك في حرب عبثية لا معنى لها مع جزيرة بلفوسكو المجاورة .
ثم يستعلم جاليفر في وقت لاحق عن سبب الخلاف بين الجزيرتين . لقد اختلفت الجزيرتان بسبب الاختلاف حول طريقة أكل البيضة فبعضهم يقول أنها تؤكل من نهايتها الكبيرة والبعض الآخر يقول أنها يجب أن تؤكل من نهايتها المدببة . وحدث الانفصال بين الجزيرتين ثم تتالت الحروب بين الجزيرتين لهذا السبب. لقد كانت الحرب ضربا من ضروب العبث بين الجزيرتين لم يرض أن يشارك فيه جاليفر.
يهرب جاليفر أخيرا من ليليبوت ، ويعود لفترة وجيزة إلى انكلترا قبل أن تأخذه رحلة ثانية إلى جزيرة بروبدنغناغ حيث يجد جاليفر نفسه قزما مقارنة بالسكان الأصليين فالسكان يبلغ طولها حوالي ستين قدما بينما يظهر هو كدمية صغيرة .
وفي هذا المكان ، يعتمد جاليفر كليا على حماية الآخرين ورعايتهم ويتعرض للخطر بسبب المواجهات الخطيرة مع فئران ضخمة وطفل فضولي يلعب ويلهو . يتحمل جاليفر كل صنوف اللهو والازدراء من حكام بروبدنغناغ اللطفاء والفاضليين عندما يتم تبيت طلبية عرض البارود والذي كان يهدف إلى إثارة معجبيه باعتباره منتجا مثاليا للصناعة الأوروبية . البارود كارثي و جاليفر يعلم ذلك . وقد كان الخطاب الذي يقدمه جاليفر لأهل بروبدنغناغ الذي يصف فيه الممارسات السياسية الإنكليزية في ذلك اليوم بأنها خطيرة محط سخرية و ازدراء من الحكام والشعب على حد سواء . يغادر جاليفر فجأة دولة بروبدنغناغ في صندوق صغير يحمله نسر ويسقطه في المحيط.
في الرحلة الأولى ، كان جاليفر عملاقا وكان يستطيع أن يدمر ليليبوت بلمحة بصر ولكنه لم يفعل ، لقد أراد أن يبين لنا ضعف النظام الإنكليزي الذي يبدو عملاقا أمام الأقزام ورغم ذلك يعجز عن فعل أي شيء ويعتقله الأقزام ويتحكمون به ويربطونه بالسلاسل والقيود.
وفي الرحلة الثانية ، كان جاليفر قزما في بلاد كلها عماليق وكان هؤلاء يسخرون منه وعندما ينصحهم، يسخرون منه ويرفضون تصديق ما يقوله. لقد أراد الكاتب أن يبين لنا صغر الحضارة البريطانية بين شعوب العالم وكيف يصدرون البارود والموت والدمار في كل بقاع العالم.
سرعان ما شرع جاليفر في رحلته الثالثة إلى جزيرة لابوتا الطائرة وهي أرض غامضة يسكنها العلماء والسحرة الذين ينخرطون في التنظير المجرد والتجارب غير الحكيمة التي تستند إلى حسابات معيبة . وفي هذا الجزء ينتقد سويفت العلم وقوته الظلامية في بعض الأحيان وكيف تطبق التكنولوجيا بفكيها علينا وتستعبدنا وتحول حياتنا وأنفسنا إلى مجرد أرقام . يزور جاليفر هنا أيضًا منطقة كلابدبدرب حيث يتم استدعاء الموتى والتحدث مع شخصيات مثل أرسطو ويوليوس قيصر . ثم يسافر أيضًا إلى لاغناغ ، حيث يواجه مجموعة شترودبراغ ، وهي مجموعة من الأشخاص الذين منحوا الخلود ، ومع ذلك فقد حُكم عليهم بأن يعيشوا وجودهم الأبدي محاصرين في أجساد ضعيفة واهنة.

مرة أخرى ، يعود جاليفر إلى إنجلترا قبل رحلته الأخيرة ، إلى أرض الهوينهنز ، الذين هم سلالة متفوقة من الخيول الذكية. لكن نفس المنطقة هي أيضًا موطن الياهو، وهو سلالة حقيرة وفاسدة من مخلوقات تشبه القرود. يتم في النهاية نفي جاليفر من مجتمع الهوينهنز عندما تصر الخيول المتفوقة بلطف على أن جاليفر يجب أن يعود ليعيش بين نوعه. يجري في هذه الرحلة نقاشات طويلة وغنية بين ملك الهوينهنز و جاليفر يروي خلالها جاليفر للملك تفاصيل الحياة الانكليزية وطبيعة النظام المدني والعائلي والسياسي والقانوني السائدة في انكلترا بعد هذه الرحلة الرابعة والأخيرة ، عاد إلى إنجلترا ، حيث يجد صعوبة كبيرة في التكيف مع الحياة اليومية البريطانية. كل الناس في كل مكان يذكرونه بالياهو.

يستخدم سويفت كل رحلة من الرحلات الأربع في رحلات جاليفر لفضح بعض جوانب الحماقة البشرية. تم تفسير الرحلة الأولى على أنها هجاء بالاستعارات البلاغية للأحداث السياسية في أوائل القرن الثامن عشر ، وتعليق على الحالة الأخلاقية لإنجلترا ، وسخرية عامة من تفاهة الرغبات البشرية للثروة والسلطة ، وتصويرًا لآثار الكبرياء غير المبرر والترويج الذاتي. تمثل الحرب مع جزيرة بلفوسكو المجاورة الصغيرة تنافس إنجلترا مع فرنسا.

في بروبدنغناغ ، تستخدم حالة جاليفر الضئيلة بمثابة تذكير لكيفية تغيير المنظور ووجهة النظر تجاه حالة الفرد والمطالبات بالسلطة في المجتمع. يمثل مجتمع بروبدنغناغ غير الكامل ، ولكن الأخلاقي للغاية ، وفقًا للعديد من النقاد ، مفهوم سويفت للحكام الأخلاقيين.

الرحلة إلى لابوتا ، الجزيرة الطائرة ، هجوم قاسٍ على العلم في القرنين السادس عشر والسابع عشر وتكشف عن معرفة سويفت الشاملة المعاملات الفلسفية للمجتمع الملكي ، المنشور الرائد للمجتمع العلمي في عصره. تُظهر الرحلة الثالثة بشكل لا لبس فيه ازدراء سويفت وازدراءه للنظرية المجردة والأيديولوجية التي لا تخدم الإنسان عمليًا .

لكن الرحلة إلى أرض عائلة هوننمز هي التي تكشف عن هدف سويفت الساخر المطلق - عدم قدرة الإنسان على التصالح مع طبيعته الحقيقية. على وجه الخصوص ، يتم تفسير الهويننمز على أنها رموز وأمثلة للنظام البشري الذي ، على الرغم من أنه بعيد المنال ، يستحق أن يظل مثاليًا ، بينما يتم العثور على الياهو ليكونوا ممثلين لأعماق السقوط المحتمل للإنسانية إذا تم التخلي عن هذا المثل الأعلى.

يقدم سويفت هدفين على الأقل في رحلات جاليفر إلى جانب مجرد سرد قصة مغامرة جيدة. ومن وراء تمويه روايته ، فهو يسخر من تفاهة الطبيعة البشرية بشكل عام ويهاجم اليمين البريطاني بشكل خاص. من خلال التأكيد على ارتفاع ستة بوصات من مجتمع ليلبوت ، وهو بذلك يقلل بشكل بياني من مكانة السياسيين، وفي الواقع مكانة الطبيعة البشرية بأكملها. وباستخدام النار في غرف الملكة ، وراقصات الحبال ، وقانون التفاصيل المرسومة ضد جاليفر ، وجرد جيوب جاليفر ، يقدم سلسلة من التلميحات التي يمكن التعرف عليها لدى معاصريه باعتبارها ناقدة لسياسات اليمين .

ومن خلال المخطط الواسع لسفريات جاليفر ، يبدو جاليفر رجلا عاديا في إنجلترا في القرن الثامن عشر. وهو معني بالأسرة وبعمله ، لكنه يواجه الأسرة التي تصنعها السياسة والتنظير السياسي للناس. ونجد أن جاليفر غير قادر تمامًا على التماهي مع غباء السياسيين الليليبوتيين ، وبالتالي ، فهو و الليليبوتيين يمثلون تناقضات دائمة بالنسبة لنا. نحن ندرك دائمًا الفرق بين الحياة الأخلاقية غير الكاملة (ولكن العادية) لجاليفر ، والحياة السياسية التافهة والغبية للأباطرة ورؤساء الوزراء والمخبرين السريين ورجال المخابرات ورجال البلاط .

في الكتاب الثاني من الرحلات ، عكس سويفت علاقة الحجم التي استخدمها في الكتاب الأول. في ليليبوت ، كان جاليفر عملاقًا. أما في بروبدنغناغ ، جاليفر قزم. يستخدم سويفت هذا الاختلاف للتعبير عن اختلاف في الأخلاق. كان جاليفر رجلاً عاديًا مقارنة بالأقزام السياسيين غير الأخلاقيين في ليليبوت. و في بروبدنغناغ ، لا يزال جاليفر رجلاً عاديًا ، لكن في بروبدنغناغ الناس هم رجال أخلاقيون. إنهم ليسوا مثاليين ، لكنهم دائمًا أخلاقيون. الأطفال والمشوهين فقط هم الأشرار عمدًا.
يثني سويفت على مجتمع بروبدنغناغ ، لكنه لا ينوي أن يجعلنا نعتقد أنهم بشر مثاليون. إنهم بشر خارقون ، مرتبطون بنا بلحم ودم ، فقط أكبر مما نحن عليه من الناحية الأخلاقية. وليس من المستحيل علينا تحقيق فضائلهم ، ولكن نظرًا لأن الأمر يتطلب الكثير من النضج للوصول إلى مكانة العملاق الأخلاقي ، فإن القليل من البشر يحققون ذلك.

يستخدم سويفت رحلات جلفر للتهكم على جوانب مختلفة من المجتمع الإنجليزي. تسمح صراعات جاليفر المختلفة في الأراضي التي يزورها لسويفت بمناقشة عدد من المشكلات التي يراها مع المجتمع الإنجليزي والطريقة التي تُدار بها الأمور السياسية والقانونية في إنجلترا.

عندما يغتسل جاليفر على الشاطئ في ليليبوت ، على سبيل المثال ، سرعان ما يلاحظ أن إمبراطور ليليبوت يختار وزرائه ليس على أساس قدرتهم على الحكم ولكن على أساس قدرتهم على السير على حبل مشدود. هذا هو انتقاد سويفت الخفي لكيفية اختيار جورج الأول ، ملك إنجلترا ، لوزرائه ، ليس على قدرتهم على السير على حبل مشدود ولكن على صلاتهم داخل البلاط الملكي وما إذا كانوا سيتخذون من قرارات بناءً على ما يريد ه الملك جورج أن يفعلوه بدلاً من ما هو مناسب للإنجليز.

عندما يهبط جاليفر في أرض الهوننمز ، يكتشف أن سلالة من الخيول هي كائنات عاقلة تمامًا وغير عاطفية ومنطقية ، وأن الوحش غير المتحضر في هذا المجتمع ، هو الياهو ، هم بشر. خلال هذه التجربة ، يفقد جاليفر هويته في الواقع، ويعتبر نفسه نوعًا من الهوننمز وليس إنسانًا ، وعندما يعود إلى إنجلترا ، بالكاد يمكنه الوقوف مثل الناس ، مفضلاً الخيول على البشر. وهنا يسخر سويفت من أي شخص يختار الفلسفة النظرية على الواقع.

في النهاية ، تمكن الكاتب جوناثان سويفت من خلال قصة طفل خرافية - من الإشارة إلى العديد من المشكلات في المجتمع الإنجليزي التي تحتاج إلى تصحيح ، وقد أنجز ذلك دون الإشارة صراحة إلى أشخاص محددين داخل المجتمع الإنجليزي.

تدور رواية جاليفر حول مجموعة محددة من الصراعات السياسية ، ولو لم تكن كذلك ، لكان قد تم نسيانها منذ فترة طويلة. تأتي قوة العمل المستمرة من تصويره للحالة البشرية ورسمه اليائس في كثير من الأحيان ، ولكن المأمول أحيانًا ، لإمكانيات البشرية لكبح غرائزها الأساسية. رحلات جاليفر هي إحدى الكتب التي ستبقى كلاسيكية وحديثة لأنها تصور بعض القضايا العالمية التي ستستمر في التأثير على حياة الناس في المستقبل. ومن يقرأ الرواية يستمتع بها كثيرا لأنها تصور الألم البشري رغم مرور مئات السنين على كتابتها.


المراجع

http://www.sparknotes.com/lit/gulliver/
http://www.cliffsnotes.com/literature/g/gullivers-travels/critical-essays/
http://www.enotes.com/topics/gullivers-tr

#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات