أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي سليمان - دروب الابداع: الروائي وشخصياته















المزيد.....


دروب الابداع: الروائي وشخصياته


محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا


الحوار المتمدن-العدد: 7064 - 2021 / 11 / 1 - 17:59
المحور: الادب والفن
    


الشخصيات هي من يدفع الرواية إلى الأمام _ شينوا أتشيبي.

في البداية لا بد من التذكير بكتاب " أبطال الرواية الحقيقيون " للكاتب باتريك بيسنو، وهو يسعى خلف شخصيات الروايات، حيث يحق التساؤل: من أين يأتي الكاتب بأبطال رواياته، وهكذا انطلق الكاتب يبحث في الوثائق التاريخية عن تلك الشخصيات المغمورة أو الحقيقية الذين تقاطعوا مع مخيلة الروائيين حيث استلهموا أحداثاً حقيقية أو شخصيات حقيقة وحولوها إلى أبطال رواياتهم. ولا بد من القول إن النقاد قد كتبوا الكثير عن علاقة الروائيين بشخصياتهم الأدبية باعتبار أن الكاتب لا يخلق من عدم ويستخدم حياته الشخصية في كتبه، وطرحت الأسئلة: كيف يوجد الكاتب الشخصية الأدبية، كم من الشخصية الأدبية يعبر عن ذات الروائي، ومعروف قول فلوبير " مدام بوفاري هي أنا " وقال حليم بركات " طائر الحوم هو أنا ". وكما يقول الروائي يوسا " إن القصص متجذرة في حياة أولئك الذين يكتبونها "، وما رواية " البحث عن الزمن الضائع " إلا خير مثال عن ارتباط شخصية الرواية بشخصية الكاتب. ويقول همنغواي حول واقعية شخصياته " بالطبع ليست كذلك، بعضها من الحياة الواقعية. ولكنك في الغالب تبتكر شخصيات من خلال معرفتك بالناس وفهمك لهم وتعاملك معهم ". ولكن إيريس مردوخ تقول " لا أظن أن لدي أي ميول لإسقاط سيرتي الذاتية على ما أكتب ". ورغم أن كثيراً من النقاد يرفضون ربط الروائي بشخصياته الأدبية، وأن الروائي يستمد أعماله الأدبية من الواقع، وكما يقول نجيب محفوظ " الشخصية الروائية = شخصية طبيعية + المؤلف ". وبشكل عام يمكن القول، اعتماداً على نقاد الأدب، أن العمل الأدبي يبدأ من أفكار عامة تتجسد في شخصيات أو من شخصيات تتجسد في أفكار عامة، أو من بنية اجتماعية تتجسد في شخصيات، أو من قطاع اجتماعي يتجسد في عمل أدبي.
ولا بد من القول إن هناك من الكتاب من لا يعرف أحد من أين يستمد شخصياته، مثل تشيكوف، وعلى رأي كوبرين " من أين يستمد شخصياته؟ وأين كان يجد ملاحظاته ومقارناته؟ وأين صاغ لغته الرائعة، الوحيدة في الأدب الروسي؟ إنه لم يبح ولم يكشف لأحد أبداً عن دروب إبداعه ". لكن هناك كتاب كثيرين كانوا يتكلمون عن شخصياتهم، ودروب إبداعهم. كما أن هناك روائيين يبدون وكأنهم يلعبون ضد شخصياتهم، فالكاتب يمكن أن يعتم السماء عندما تناضل إحدى شخصياته من أدل الحياة. ويتابع أرنولد كيتل عن هاردي " إن دنيا رواياته قدرية ملطفة قليلاً لتلبي مقتضيات المأساة ". وهناك روائيون لا يدفعون شخصياتهم إلى حدها الأقصى لأنهم يفتقرون إلى الشجاعة مثل غولسورزي. كما أن لورنس لا يهمه من شخصياته الإنسان الاجتماعي، بل سبعة أثمان جليد الشخص الذي لا يرى أبداً كما يقول ولتر آلن. ويمكن من خلال ما كتب النقاد عن علاقة الكاتب بشخصياته أن نقسم الروائيين إلى أربعة أقسام كما يلي:
1 _ من الروائيين الذين ينطلق عملهم الأدبي من أفكار عامة الكاتب الروسي ديستويفسكي، وهو يقول عن روايته " المراهق ": إن فكرة الانحلال قائمة في كل شيء، إذ أن كل شيء مشتت ومنفصل وليس هناك أية وشائج لا في الأسرة الروسية وحسب بل وحتى ولا بين الناس، حتى الأطفال منفصلون. الانحلال هو الفكرة الرئيسية في هذه الرواية ". ومثله أيضاً الكاتب الفرنسي أراغون الذي يقول " لست، في حقيقة الأمر، روائياً كما يجب.. فالقضية عندي دائماً قضية أفكار أحاول أن أجسدها وأعطيها وجهاً ".
2 _ من الروائيين الذين ينطلق عملهم الأدبي من شخصية واقعية، عبر خبر في جريدة عن تلك الشخصية ديستويفسكي في " الجريمة والعقاب " ونجيب محفوظ في " اللص والكلاب "، وأيضاً تورجنيف، وهو يقول عن روايته " الآباء والبنون ": " يجب أن أعترف بأنني لم أحاول أبداً أن أخلق شخصية دون أن يكون لدي، ليس فكرة، بل شخص تنطبق عليه وتمتزج به العناصر المناسبة ". ويفصل تورجنيف رسمه للشخصية الروائية " عندما تثير اهتمامي شخصية معينة تمتلك عقلي. تلاحقني في النهار والليل، ولا تدعني أذوق طعم الراحة ما لم أتخلص منها. فعندما أقرأ يهمس في أذني بآراء حول ما أقرؤه، وعندما أذهب إلى النزهة يعطي أحكامه حول كل ما رأيت وسمعت، وفي النهاية لا يبقى علي إلا أن أستسم فأجلس وأكتب سيرته. أسال نفسي من كان أبوه، من كانت أمه، وأي ناس هم، من هم كأسرة، وما هي عاداتهم. أنتقل بعد ذلك إلى تاريخ تربية بطلي، إلى شكله الخارجي، إلى المكان الذي قضى فيه سنواته التي كونت شخصيته. وأحياناً أذهب إلى أبعد من ذلك، كما حصل لي على سبيل المثال مع بازاروف. لقد استولى علي لدرجة إني أخذت أسجل مذكراته اليومية التي أعرب فيها عن آرائه إزاء أهم القضايا الجارية ". وأحياناً، كما حدث مع تولستوي في روايته " الحاج مراد " إنه عندما رأى نبتة سوداء من الغبار ولكنها ما تزال حية: " لقد ذكرتني، النبتة، بالحاج مراد، أرغب بالكتابة ". ومعروف أن كثيراً من الكتاب جسدوا شخصية نابليون في رواياتهم (ستندال، بلزاك، دستويفسكي) حتى أن شخصية نابليون صبغت رواية القرن التاسع عشر. ومنهم أيضاً همنغواي " أذهب إلى حيث تقودني الحياة. هناك أشياء تفعلها لأنك تحب أن تفعلها، وأشياء تحب أن تفعلها لأنه يجب أن تفعلها. وفي القيام بهذه الأشياء تعثر على الشخصيات التي تكتب عنها.
3 _ من الروائيين الذين ينطلق عملهم الأدبي من البنية الاجتماعية الكاتب الفرنسي بلزاك. وهو يقول: " إن المجتمع الفرنسي سيكون المؤرخ.. كان علي أن أدرس سبب أو أسباب هذه الظواهر الاجتماعية وأتصيد المغزى الدفين للحشد الهائل من الأنماط والانفعالات والأحداث. أخيراً بعد أن أسعى إلى هذا السبب، هذا المحرك الاجتماعي، ولا أقول أجده، ألا يجب أن أتأمل المبادئ الطبيعية.. إن المجتمع يجب أن يحمل معه سبب حركته ". ولا بد من القول إن شخصيات بلزاك الروائية لم تكن تنبع من الكاتب بلزاك بل من الواقع الاجتماعي وفق حركة ذلك الواقع الاجتماعي حتى لو خالفت أيديولوجيا الكاتب بلزاك.
وإذا كان بلزاك قد انطلق من العالم الاجتماعي، فإن كونراد يقول " على كل روائي البدء بخلق عالم له، صغير أو كبير، يستطيع أن يؤمن به إيماناً نزيهاً " كما فعل هو وفوكنر، مع العلم أن الأسباب التي كانت تدفع كونراد إلى كتابة رواية تتمثل بنكتة طريفة أو بخبرة شخصية أو حادثة منشورة في جريدة.
4 _ من الروائيين الذين ينطلق عملهم الأدبي من قطاع اجتماعي يتجسد في عمل أدبي الكاتب الفرنسي زولا وهو يقول: " يرغب أحد روائيينا الطبيعيين في كتابة رواية عن المسرح مثلاً. ينطلق من هذه الفكرة العامة، دون أن يكون عثر بعد لا على حادثة ولا على شخصية. سيكون أول اهتمامه منصباً على أن تشمل ملاحظاته على ما يمكن معرفته عن ذلك العالم الذي يريد تصويره. فهو كان قد عرف هذا الممثل، وحضر ذاك المشهد. وهكذا يصبح في حوزته وثائق، لا بل أفضلها، أي تلك التي نضجت في داخله. ثم يواصل مساعيه، دافعاً إلى الكلام أولئك الذين لديهم أفضل معلومات عن الموضوع، كما يقوم بجمع الكلمات والحكايات والبورتريهات. لكن هذا ليس كل شيء، فسيذهب من بعد للبحث عن الوثائق المكتوبة، ويقرأ كل ما من شأنه إفادته. ثم يزور في خاتمة المطاف الأماكن، ويمكث بضعة أيام في أحد المسارح بغية التعرف على كل زواياه. كما يقضي سهراته في مقصورة ممثلة، ويستنشق بملء منخريه الهواء الذي يحيط به. ثم ما يكمل الوثائق حتى تشرع روايته، كما قلت آنفاً، ببناء نفسها تلقائياً ".
لكن ظهر كتاب الرواية الجديدة في فرنسا الذين اعتبروا على حد قول ألان روب غرييه، وهذا الرأي له جذوره عند فلوبير، أن تصنع في الرواية شيئاً من لا شيء " إن قوة الروائي تتألف بالضبط من أنه يبتكر، وإنه يبتكر بلا نموذج.. الفن لا يقوم على حقيقة موجودة.. فهو يبدع توازنه الخاص ومعناه الخاص أيضاً، إنه قائم بذاته ".
يعتبر بلزاك من أهم الروائيين الذين خلقوا الشخصيات في أعمالهم الروائية (الكوميديا الإنسانية) حيث خلق أكثر من ألفي شخصية روائية، وكان يعامل تلك الشخصيات كشخصيات حقيقية وليست شخصيات روائية وحين كان أحدهم يسأله عن رأيه في قضية ما كان يقول: " يقول فوتران.. وأنا أثق برأيه ". بل أنه أحياناً كان يندهش من بعض تصرفات أبطال قصصه وكأنه كتبت نفسها.
وهناك من الروائيين من يعطي لنفسه كل القدرة على التدخل في حياة شخصياته، وكما يقول نوح ختريك عن الروائي مائيدونيو فرناندث " المتحدث _ الراوي _ يغطي عدة مستويات في وقت معاً ويحشر نفسه في كل مكان، ويجري حوارات مع الشخصيات دون أن يكون هو شخصية، ويؤنب المؤلف بدءاً من لأكبر قدر من العمل يتولاه، ويسمح بتدخل القراء في محادثات الشخصيات، ويختار ويصفي أو يخترع شخصيات كما يشاء ". كما إن للكاتب الايطالي لويجي بيرانديلو علاقة خاصة بشخصياته، فهو يعترف أنه لم يقدم أبداً شخصية ما، لرجل أو امرأة، مهما كانت فريدة أو متميزة لمجرد الرغبة في تقديمها. أما بخصوص مسرحيته " ست شخصيات تبحث عن مؤلف " فهي التي فرضت نفسها عليه وقد أصبحت تحيا حياة خاصة بها وملكاً لها. حياة لم تعد ملكاً له ولم يعد بإمكانه أن ينكرها عليها. ورغم رفضه لها كشخصيات قدم منها الكثير في رواياته، فلم يقدر إلا أن يجعلها تذهب إلى حيث اعتادت أن تذهب الشخصيات الدرامية لتنعم بالحياة إلى المسرح. إن تلك الشخصيات تذهب إلى المسرح بحثاً عن مؤلف ليجعلها تعيش حياتها في كتاب بعد أن وعت نفسها كشخصيات أدبية جديرة بالحياة في كتاب. لكن تلك الشخصيات، وهنا تكمن مأساتها، لا تقدر أن تجد ذلك المؤلف. ".
ولكن الروائية إيريس مردوخ ترى أن الأفكار في كتابة الرواية تتطاير معاً وتولد أفكاراً جديدة، وإن شخصيات الرواية هي الأخرى تولد شخصيات روائية أخرى، ترى أن شخصيات الرواية " ينبغي لهم أن يختاروا أسماؤهم بأنفسهم، وليس بوسع المرء سوى الانتظار. وإذا ما حصل خطأ في الاختيار ممن الممكن أن يكون أمراً خطيراً. ينبغي للشخصية أن تعلن عن اسمها الشخصي. وهي تعترف أنها تكره " ضخ الشخصيات في الرواية، ليس بسبب أن ذلك سيكون موضع تساؤل أخلاقي، لكن لكونه سيكون مملاً أيضاً كما أرى ". والروائي خالد حسيني يتوافق مع إريس مردوخ، فهو يؤمن أيضاً بأنه " ما لم يختبر الكاتب ذات الألم الذي تعانيه شخصياته الروائية فلن يوجد ثمة قارئ سيختبر هذا الألم عند قراءة الرواية ".
ومع الروائية علوية صبح يقوم نوع من الصراع بين الشخصية الروائية والكاتبة الروائية، ففي رواية " مريم الحكايا " كما تقول علوية صبح " حين أخذت بطلتي مريم الكلام عني، بعد اختفائي عن الكتابة واختفاء زهير، وراحت الحكايا تتوالد على لسانها، صارت تتوالد معها تقنيات ملتحمة بتلك الحكايا. وفي خروج شخصية مريم إلى النور من راوية محاها الوحل والماء. وهي تروي ذاكرتها، كان لا بد من حكاية أخرى، لأن الحكاية لا تروى مرتين. كان لا بد للمحكي أن يأخذ مكان المنجز والمكتوب والممحو، وأن تروى مريم ذاكرتها وتحكيها، كي تعيد علوية إلى الكتابة في آخر الرواية، وتعيد الكتابة إلى الحياة ". ويشير كتاب " حركة الحداثة " إلى أن " هذه الشخصيات التخيلية خبيرة في الخيال أيضاً. والتواطؤ، والعلاقة الوثيقة التي نستشعر بوجودها بين المؤلف وشخوصه تنداح عبر كامل سيرورة الحدث إلى الحد الذي تبدو معه أحياناً أن الشخصيات قد قرأت الرواية التي توجد بها هذه الشخصيات فيها ".
وهناك روائيون يندمحون في شخصياتهم مثل فلوبير " مدام بوفاري، هي أنا "، وهناك روائيون يقفون مثل أراغون " في مؤلفاتي لا يمكنني القول في أية لحظة: مدام بوفاري، هي أنا، ولا يمكنني أن أرفض ذلك ". وأعتقد أن موقف أراغون هو موقف أغلبية الكتاب (نجيب محفوظ وشخصية كمال عبد الجواد الذي يمثل الجانب الفكري من نجيب محفوظ وليس الجانب الاجتماعي)، ففي كل شخصية روائية شيء من السيرة الفكرية للكاتب وكذلك شيء من السيرة الشخصية. وكما يقول ييتس " يكتب الشاعر دائماً عن حياته الشخصية، وفي أجمل أعماله عن مأساتها مهما كانت، ندماً أو حباً أو مجرد وحدة "، ويمكن الإشارة إلى ارتباط حياة همنجواي الشخصية والفكرية بما كتب من قصص وروايات حتى أنه كان يقول " أنا أكتب ما أراه ". ومن جهته يرى الروائي أورهان باموق ضرورة التماهي مع كل شخصيات الرواية " قاعدتي الذهبية في الإبداع كالآتي: لكتابة رواية جميلة، ينبغي التماهي مع الشخصيات. إن التماهي مع الأكثر قتامة هو الذي يجعل الرواية أكثر روعة ".
كما أن الروائيين باختلاف أنواعهم يخوضون صراعاً مع شخصياتهم وأفكارهم التي يلبسونها لتلك الشخصيات. وتهتم فرنون لي بزاوية الرؤية في الرواية، وترى أن " اختيار زاوية الرؤية حيث يجب أن تشاهد شخصيات الرواية وأفعالهم. إذ بإمكانك أن ترى شخصاً أو فعلاً بإحدى طرق متعددة، ويكون مرتبطاً بعدة أشخاص آخرين أو أفعال أخرى. بإمكانك أن ترى الشخص من وجهة لا يراه فيها أحد، أو من زاوية أحد
الأشخاص الآخرين، أو من زاوية المؤلف التحليلية الحصيفة ". وزاوية الرؤية هذه يهتم بها أيضاً الروائي هنري جيمس " ثمة طرق عديدة لكتابتها _ قصة: أصدقاء الأصدقاء_ ويخطر لي أن هذا الأمر يمكن أن يرويه الشخص الثالث، حسب عادتي حين أبتغي أمراً، حين أسعى إليه مثلاً بموضوعية فائقة.. فإن لم يكن لدي شخص ثالث راوية، فما هو التأثير الذي أحصل عليه من الشكل غير الشخصي _ أي تأثير فريد ومميز، وأي تعويض أحصل عليه؟ في وسعي بشكل غير شخصي، أن أستوعب الشخص الثالث ومشاعره أو مشاعرها_ فأروي الأمور حتى من زاويته أو زاويتها ". ومن جهته يكتب خوسيه ساراماغو " أعرف الآن أسياد حياتي، من علموني ضرورة العمل الشاق في الحياة، أراهم يمشون أمام عيني، رجالاً ونساء من حبر وورق، من ظننت إني كنت أرشدهم ويطيعونني كمؤلف، كالعرائس الناطقة، من دون تأثير علي أكثر من تأثير الخيوط على يدي التي أحركهم بها ".
وبشكل عام يمكن القول إن الروائيين نوعان في التعامل مع تلك الشخصيات:
1 _ روائيون يرسمون تلك الشخصيات بدقة حسب مقالهم الفكري، ويقودونهم بصرامة إلى مصيرهم النهائي، ولا يتركون مجالاً لحياة خاصة بالشخصيات الروائية تنطلق من عالم العمل الأدبي. إنهم لا يتركون للمقال الروائي أن يرسم حياة الشخصيات، بل يقسرون المقال الروائي ليتحرك ضمن مقالهم الفكري. وقد كتب جوزيف كونراد في رسالة إلى جون غالزوورثي يقول: " في الكتاب ينبغي أن تحب الفكرة وتظل أميناً إلى حد الوسواس لمفهومك عن الحياة. فهنا يكمن شرف الكاتب وليس في إخلاصه لشخصياته. وعليك ألا تسمح لهذه الشخصيات أبداً أن تخدعك عن نفسك، أما بخصوص الناس فينبغي ألا تحفل بهم أبداً وأن تحتفظ لنفسك بقسمة الطاقة المبدعة ".
2 _ روائيون لا يتركون لمقالهم الفكري أن يتدخل في تطور شخصياتهم داخل العمل الأدبي، ويتركون الشخصيات تتطور من خلال طبائعها وأوضاعها الذاتية في العمل الأدبي حتى لو تناقضت مع مقالهم الفكري، إن الشخصيات تقود نفسها وتتطور خلال العالم الروائي من خلال المقال الروائي بحيث ترسم حياتها بعيداً عن الكتاب. وكان ديدرو بعد أن يخلق إحدى شخصياته يتركها تتطور وكأنها شخصية مستقلة عنه، وكأنها تؤلف نفسها.
وربما يقف ساراماغو في الموقف الوسط، فهو يقول " لا أميل إلى الفكرة القائلة إن الشخصيات الروائية لهل حيواتها الخاصة التي ينساق إليها المؤلفون. ومع إنني أرى في الوقت ذاته أنه ينبغي للمؤلف الحذر من أن يقحم على الشخصية فعلاً يبدو خارجاً عن المنطق الذي تتعامل معه تلك الشخصية. لكن ليس للشخصيات الروائية استقلالية عن المؤلف كما يرى أو يدعي البعض. الشخصية الروائية أراها عالقة في يد المؤلف، أعني في يدي أنا مثلاً، ولكن بطريقة لا تعلم هي ذاتها أنها واقعة في قبضتي ". ومن جهته يقول ماركيز " أنا أفضل أن يتخيل قارئ كتبي الشخصيات كما يحلو لهن ويرسم ملامحها كما يريد "، وكأن خلق الشخصيات في الرواية في مرحلتين: مرحلة الكتابة ويرسم فيها الكاتب شخصيات الرواية، ومرحلة القراءة وفيها يعيد القارئ إنتاج الشخصيات حسب مزاجه.
ويشبه موقف ساراماغو موقف نوال السعداوي " وانتهى بي الأمر إلى ترك الرواية_ سقوط الإمام_ ونبذها تماماً من حياتي، فكيف تفرض علي الشخصيات نفسها واسماءها؟ وأغرب شيء أنني حين نبذتها وتركتها بدأت تأتي إلي وتسلم لي قيادها، تعطيني نفسها طواعية وحين جلست إلى الورق وجدتها وكأنها هي تكتب نفسها بنفسها. ولم أحاول التدخل في حياة الشخصيات الخاصة أو العامة إلا لأمنع بعض المحرمات اللغوية أو انتهاك بعض القيم الإنسانية، وخاصة جانب شخصية الإمام ذاته. ولم يكن في مقدوري أن أترك له السلطة المطلقة في الرواية كما في الدنيا، وقلت لنفسي في روايتي على الأقل يكون لي بعض الحرية وبعض السلطة ". وفي رواية " صاحب الظل الطويل " للكاتبة جين وبيستر " صعدت حاملة قلماً ولوحاً على أمل أن أكتب قصة قصيرة خالدة، لكني قضيت وقتاً مريعاً مع بطلتي، فلا أستطيع أجعلها تتصرف بالطريقة التي أريدها، لذا هجرتها هذه اللحظة، وبدأت الكتابة إليك. رغم أن الأمر ليس مريحاً أكثر لأنني لا أستطيع جعلك تتصرف بالطريقة التي أود أيضاً ".
وأيضاً فإن تشرنيشفسكي كان يطمح ككاتب إلى كتابة رواية مستقلة عنه ككاتب رواية تكون " شخصياتي الفعالة متنوعة جداً، ومتعددة في تعابيرها، بعدد الوجه التي يتعين عليها أن تتصف بها، فكروا في كل شخص كما تريدون: كل شخص يتحدث باسمه: الحقيقة إلى جانبي تماماً. احكموا بأنفسكم على هذه المزاعم المتصارعة، أما أنا فلن أصدر حكماً، إن هذه الشخصيات تمدح بعضها بعضاً، تذم بعضها بعضاً، لا شأن لي بذلك ".
وأعتقد أنه يجب الإضاءة على تهكم فاليري على الشخصيات التي تكتب نفسها " قال لي أحد الروائيين: إن شخصياته ما تكاد تخلق وتسمى في فكره حتى تعيش على هواها. وكانت تضطره إلى أن يخضع لمقاصدها ويراعي أفعالها.. وقد رأيت أن من المعجب والمناسب أن يتمكن المؤلفون من صنع مادة كتبهم بواسطة مخلوقات تكفي لحظة لاستدعائها حتى تهرع، حية حرة، إلى لعب الدور الذي تشاء أمامنا ".
وفي النهاية لا بد من كلمة عن دستويفسكي، فقد كان هو (على عكس تولستوي) الذي خلق الرواية المتعددة الأصوات، رواية فيها الشخصيات تملك قرارها وحياتها بعيداً عن الكاتب، لكل شخصية صوتها الخاص، ومع صوت الكاتب يجري ذلك الحوار الكبير بين كل تلك الشخصيات على قدم المساواة كما يقول باختين.
وأخيراً لن ندخل في متاهة الروائي العبقري الذي يأتيه الإلهام، ولا ذلك الروائي الذي يكتب العمل دفعة واحدة كأن العمل يكتب نفسه، الرواية في النهاية صنعة، وصنعة تحتاج إلى فكر وجهد وإتقان لينتج الكاتب عملاً أدبياً ناضجاَ.



#محمد_علي_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخطوط القديم
- حول النخبة العربية المفكرة
- مأزق الثقافة العربية
- زمن التعلم زمن الإبداع
- الدكتور محمد عزيز الحبابي والمفاهيم المبهمة
- رواية: هموم الشباب _ عبد الرحمن بدوي وخطاب التنوير
- كتاب: الوعي القومي _ قسطنطين زريق والنهضة القومية العربية
- توفيق يوسف عواد: علمانية الفصل بين الطوائف
- مصر وثورة يوليو في رواية _ شيء من الخوف _
- أهل الغرام _ حكايات
- رؤية باكثر لشخصية فاوست في مسرحية - فاوست الجديد -
- الأصولية الأصالة الحداثة
- حول رواية - محاولة للخروج - للروائي عبد الحكيم قاسم
- خطاب التوفيقية في رواية يحي حقي - قنديل أم هاشم -
- زمن القصة زمن الرواية
- نحو مشروع نهضوي عربي جديد
- جدلية السيف والقلم
- الجامعة مشروطة أو بدون شروط
- الرواية والمجتمع
- الروائيون والشهرة


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي سليمان - دروب الابداع: الروائي وشخصياته