أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اخلاص موسى فرنسيس - قراءة في رواية -ميلانين- للكاتبة فتحية دبش















المزيد.....


قراءة في رواية -ميلانين- للكاتبة فتحية دبش


اخلاص موسى فرنسيس
(Eklas Francis)


الحوار المتمدن-العدد: 6926 - 2021 / 6 / 12 - 09:14
المحور: الادب والفن
    


يقول سعيد عقل: "مَن جعل النقاد نقادًا، ولماذا هم موجودون؟ أليس الحريّ بنا نشر الجمال بدل الوقوف على الأشياء السيئة. الحياة أقصر من أن تقضيها في التفاهات والجدالات البيزنطية".
من هذا المنطلق أريد أن أبدأ قراءتي، فأنا لست ناقدة، ولكن ما إن تقع عيني على عمل جميل أحاول قدر استطاعتي أن أقدّمه للقارئ.
سأبدأ من العنوانِ الذي هو عتبة كلّ نصّ.
الميلانين هي مادّة صبغية بروتينية، تُفرز من قبل خلايا تُدعى الخلايا الطلائية، وتكون في جلد الإنسان، وفي بصيلات الشعر وغيرها.
يعدّ الميلانين ممتصًّا فعّالًا للضوء، وبالتالي يحدّ من خطر الإصابة بالسرطان، وهي مادّة يولد عليها الإنسان، ولكن كمّية الميلانين تختلف من شخص إلى آخر حسب العوامل الجينية.
لماذا هذه المقدّمة العلمية عن الميلانين، وهو عنوان الرواية؟ فقط للإشارة إلى أنّنا نحن نولد هكذا، ولا شأن لنا في لون بشرتنا، ولا سلطة لنا عليها. كذلك أن أولد في هذا البلد أو ذاك لا يد لي في ذلك، وأن أولد في هذه العائلة أو تلك، وفي هذه الخلفية الدينية والعقائدية أو تلك لا يد لي فيها أيضاً، ذكرًا أو أنثى. إذن لماذا يُحكم عليّ من خلال لوني وديني وعقيدتي؟
العنصرية مذهب قائم على التفرقة بين البشر، كانت وما زالت قائمة على مرّ التاريخ، على مستوى الأفراد والدول. هل هناك تعويذة تقي الفرد منها؟ وكيف يمكنه أن يتخلّص من هذه العنصرية؟ المساواة والمناداة بها على قدم وساق حول العالم، وفي أشدّ المجتمعات تحضّرًا نرى حوادث عنصرية، ولكن هل يمكننا إسقاطها على مجتمع كامل؟
ما الذي يحدّد هويّتنا، وبالتالي يحدّد نظرتنا إلى ذواتنا ونظرة الآخر إلينا؟ وحين نسأل من نحن، ومن أين أتينا؟ هل السؤال هو تطاول على حرّيتنا وممارسة لعنصرية ما علينا ولاسيما أنّنا ضيوف في ذلك البلد الذي اعترف بوجودنا خطّيًّا على أرضه، فمنحنا الجنسية صكّ قبول على مستوى الدولة دون أن ينظر إلى لون بشرتنا أو لساننا ، وبالقبول العام من الآخر لنا لا يمسح قبولنا لذواتنا في هذا البناء الجديد وكأنّه يزيد من حساسيتنا، وأحيانًا يجعل الغصن يتعالى على الأصل ،ونتنكّر لكرم المضيف في الإنسانية. من نحن، وما هي هويّتنا؟
عالج هذا الموضوع الكاتب أمين معلوف في كتابه "الهويّات القاتلة" بدقّة موضّحًا هذا الصراع الأزلي. إنّ هويّة الإنسان الأولى والأخيرة هي إنسانيته، ومن هذا المنطلق أرى أنّ قانون الجذب يعمل بفعالية أكبر من أيّ مكان آخر إذ ما يشغل فكرك، وتحرص على ما تتبنّاه من أفكار، وكنت أنت ضحّيتها، أو هي ضحيّتك.
الصراع الحضاري!
نحن نغادر بلادنا حاملين معنا بذرة العنصرية التي زرعها فينا مجتمع يمارس الأشياء، ويتبنّاها دون أن يعرف تسميتها، الاختلاف بالفكر والعرق والطائفة غير مقبول، فما بالك باللون؟
نحمل من بلادنا بذور العنصرية ممّا يولّد فينا حساسية عالية وقرون استشعار، وأينما ذهبنا نسقطها على المحيط الذي نقيم به، وهذا يعود إلى القمع الذي تأصّل في فكرنا، فالمعاناة موروثة، والعنصرية هي الحرب النفسية التي تحقر الإنسان، وتدوس روحه، وتشعره بأنّه دون الآخر، وهذا الظلم والتدمير النفسي لا يتخلّص منه الفرد حتى ولو خرج إلى مجتمع أكثر انفتاحًا، لأنّ التراكمات عبر السنين لا يمكن أن تمحوها سنة واحدة. الحلّ هو الانصهار في المجتمع، قبول الآخر، وهذه ثقافة لا يُسمح بها في بلاد كثيرة من شرقنا، والأكثر من هذا أنّنا لا نعمل في هذه البلاد على الخروج من هذه العنصرية، وهذا الاضطهاد يجعلنا نتقن دور الضحّية، لأنّه يشعرنا بشيء من الشبع النفسي بالشفقة على الذات، وجذب انتباه الآخر لنا.
الإهداء، أجنحة للتحليق، وما التحليق إلّا لروح ترنو إلى الحرية، التوق إلى الغوص عاليًا وعميقًا في قلب كلّ قارئ.
قبل الانتهاء لا بدّ من بداية، وما أجمل ما تبدأ بسكن العزلة والحرف والرؤى والحلم، هذا واقع آخر مواز لواقع يخلقه المبدع، يطوف به، ليولد هذا الطفل من ورق رواية تفتح العيون على سيرة الكاتبة، وطن ترشدنا فيه إلى معاني الأسماء والهويّات.
الاقتباسات من الرومي وجان بول سارتر، اختيارات موفّقة تنمّ عمّا يجول في روح الكاتبة .
المشهد الأول هو قاعة المطار، العتبة التي نغادر منها بلدًا، لندخل بلدًا آخر، وإجراءات كثيرة، تدقيق في جوازات السفر، تأمّل الصور، وهذه مهمّة البوليس في المطار، يحدّقون في صورنا الورقية على جوازات السفر، لا نعرف ماذا يدور في خلدهم، ولكنهم بكلّ الأحوال أوصياء على أمان بلدهم، وعليهم التدقيق في كلّ من يدخل البلد، الابتسامة دائمًا تكون ميكانيكية اعتادوا عليها، ولكن في كلّ الأحوال جميل أن يستقبلنا هذا الغريب في بلده بابتسامة.
معالجة الانسان الشرقي أينما وجد! مقارنته في الوطن وخارجه
في الابتعاد عن الوطن برد يتأصّل في عظامنا، يتسلّل إلينا، عندما نقتلع من دفء الوطن، لننغرس في برد الغربة، مجهول ينتظر كلّ مغترب، الانتقال من حياة اعتدنا عليها إلى مجتمع آخر نحاول جاهدين فكّ شفرته، حبّ المغامرة يدفعنا إلى خوض هذا المجهول، ودراسة الصحافة يحمل الكاتبة إلى باريس التي تحمل في ذهنها صورًا تصفها "فتاة شقراء، عيون زرقاء، وشعر أشقر، "صفحة ١١، أمّا الحنين فلا هروب منه يشدّنا في عمق تلك الشقراء إلى الأحياء المغربية فقط كي نشعر ببعض الأمان من سماع لغتنا وبروائح البهارات والأكلات العربية، تمارس الكاتبة لغتها، ويبدو أنّها تستمتع باستثارة دهشة الباعة بلغتها العربية، هؤلاء المغاربة الذين يتكلمون الفرنسية بلكنة مغاربية، أول ما أشعرها بأنها غريبة، كان مغربيا! لم يخف على الكاتبة ذكر مخيمات المتسلّلين الجدد الممتدّة على طول الشارع. تصمت لتتابع الصور المتلاحقة في ذهنها، تقول: في صفحة ١٢
"بعد الربيع العربي بدأت إفريقيا تتقيّأ أطفالها بلا مواربة ولا خجل، تستفيد من شماعة الفقر، ومن صمت التاريخ على جرائمها في بيع أطفالها قديمًا للقوافل العربية ثمّ للبواخر الغربية، واليوم على ظهور قوارب الموت، تتقيؤهم دون استثناء فيتدحرجون من كلّ فجاجها هربًا من ذلّ الفقر والحاجة، وبحثًا عن الحرية والكرامة في شمال الخير، تحولت البواخر إلى قوارب مطاطية يؤمّها من استطاع دفع ثمن العبور، وتحولت البضاعة السوداء إلى بضاعة ملونة، واستمرّت بملء بطن المتوسّط الذي لا يشبع. توالى عبورهم بلا مواسم" انتهى الاقتباس.
في هذا المقطع من الرواية وضعت يدها الكاتبة على جوهر المشكلة وبدايتها، عانت منها ليس قارة إفريقيا فقط بل معظم بلادنا العربية حين لفظ الوطن شعبه، وهرب أبناؤه من بطش سادة أوطانهم الذين سرقوا الرغيف من أمامهم والدفء والأمان، وراحوا يبحثون عن وطن أفضل لهم، وكانوا طعامًا للسمك في عرض البحار، وعرضة للاتجار بهم في بعض البلدان التي لم يتوان فيها تجار البشر من استهداف الأطفال والفتيات بشكل خاصّ للاتجار بأجسادهم، اغتصبت الفتيات والأوطان من حكامها، وأنجبت أطفالًا غير شرعيين، ورمتهم في الشوارع يبحثون عن هوياتهم،
دخول الأقلية المهاجرة إلى فرنسا من وجهة نظر ابن فرنسا نيكولا الصديق ورؤيته له وهو ابن البلد أنّه زحف مسلم ممنهج. رأيت هذه الشخصية وكأنها ملصقة لزق في النص ربما انا على خطأ، ولكن لم تكن له خلفية ولا استمرارية
الصراع في الحفاظ على الهويّة بين المغتربين، انقطاع الرابط الرفيع عند البعض، وتشبّث البعض الآخر بكلّ طقوسه وعاداته، الحفاظ على أواصر العلاقة بين المغترب ووطنه،
مقارنة بين الربيع العربي وبين التظاهرات في فرنسا والسترات الصفراء،
يوميات كاتبة، في سرد جميل، وحوار داخلي، ولا تبرح صورة القتل والدم مخيلتها،
توظيف التقنيات والسوشيال ميديا والكتابة وتأثيرها في عالمنا اليوم وعالم الكاتبة
ويأتي في صوت الحياة في تعليق من أحد القراء: لا تقتلي أبطالك، سئمنا منظر الدماء وأخبار القتل، هذه الأخبار التي التصقت بنا كلون بشرتنا لا يمكن أن نسلخه عنّا لأنّنا أتينا من شرق مدمّى نازف ابتلع فيه حيتانه المواطن الفقير، ودفعه للموت محاولًا أن يعرف من هو،

المرأة عالجتها الكاتبة بإسهاب أيضا، كما هي الكاتبة التي تتوغل في دوامة التساؤل: لماذا أسندت القوامة للرجل دون الأنثى، فتستعيذ التفكير الذي تعدّه كفرًا، وما هذا إلّا نوع آخر من أنواع ضياع الهويّة والقمع الفكري، والاستبداد، ". ما القوامة إلّا توريث للاستبداد بغضّ النظر عن نوع القوّام". لماذا على الواحد أن يكون دون الآخر؟ الموت حلّ لإخراج رقية من تحت نير هذا الوجع والقوامة، قتل البطل قتل القارئ موت النصّ أو الكاتب، هل تخلصنا آلة القتل هذه من هيمنة الآخر؟
لا يمكن لكاتب أن يكتب دون حرية، حتى في العالم الافتراضي تجد الجلّاد الذي يجلدك حين يقرأ كلماتك، يراها خارجة عن النصّ الديني أو النمطية التي تعودها، والاختلاف هل هو مقبول، وتلك الرعشة في لحظة التحدّي، متعة التفاعل وارتفاع منسوب النرجسية، حتى الثمالة التي تجعل الكاتب يتخطّى ذاته ومخاوفه في حالة من اللاوعي، ليكتب ما لم يستطع أن يكتبه في حالة الوعي، ما بين جنون وسكر ولهفة للكمال، إلى انتصار وتفرد، والغريب، أنّ كلمة "القتل" تتردّد كثيرًا وكأنّها مرادف للحياة.
مقارنة الحضارات بين الشرق والغرب
"إنّهم مثلنا" لا ليسوا مثلنا، كلّ شيء مدروس لرفاهية الإنسان في باريس حتى المهمّشون، وهذا الغرب الكافر، تلك العبارات التي حفظناها منذ الطفولة تسقط الآن، وتتهاوى أمام الحقيقة، والمقارنة أين نحن من هذه الرفاهية؟ أين نحن من الحياة؟
هنا يقتلون الصمت بالصوت، وفي بلادنا يموت الأطفال جوعًا، تجرفهم السيول بلا رحمة، مقبلون على الحياة ونحن مدبرون عنها، يسرفون بالاحتفال، يودّعون موتاهم بكأس، ليس للعويل والبكاء مكان في قاموسهم، يقدّسون الحياة، والموت خلاص، بينما نحن نقضي بالخوف على الحياة، وبالتحسب لعذاب القبر، فنخسر متعة الدنيا وجنة الآخرة.
الحرب الداخلية
وقفة وجودية في ماهية الموت والحياة ومفهومها عند الكاتبة، ما بين ما ربّيت عليه، وما تراه حقيقة أمام عينيها في يوميات باريسية، وفي خضمّ هذه الحرب الداخلية.
الأدلجة المتطرفة،
في شخصية رقية تتجلّى كثيرًا شخصية الكاتبة التي تتخذ منها كاميرا لتصور أحداث روايتها، فهي ترى بعيني رقية، وتشعر بمشاعرها، وتتعب بتعبها، فيأتي السؤال الذي تصفه الكاتبة بالكفر مرة أخرى: "لم فعل الله ذلك، ورضي به، أيكون الله عادلًا وهو يبتلينا بلاء لا نملك له حولًا ولا قوة، فلا نحن من الأسوياء مثلهم، ولا نحن من ذوي الحاجات الخصوصية والعاهات كالأعمى والأعرج وفاقد العقل؟ انتهى الاقتباس صفحة ٤٣.
إنّ اندماج الشخصيتين ينمّ عن صراع داخلي، فواحدة هادئة، والأخرى تشعر بعدم الأمان. الهوية، الانتماء إلى ذلك الوطن الذي يشعرنا بالأمان، ودونه نسير على رمال متحرّكة حتى لو كنّا في أجمل مدن العالم .
تعالج الكاتبة قضية الهجرة ومحدودية الانخراط في المجتمع الجديد، المهاجر غير الشرعي، وتشير إليه بالطفل غير الشرعي، المنبوذ من والديه ومن العالم، لا يستطيع التأقلم، ولا يقبله المجتمع، تصف بدقّة المجتمعات المهاجرة التي تسكن الأحياء الشعبية في باريس فرنسا "الحرية والنور التي تحولت إلى غول كبير يبتلع أطفاله" صفحة ٤٥، مشيرة إلى الفروقات الكثيرة بين ابن البلد وبين المتغرب فيها، وما يتفشى في تلك الأحياء من فقر وجريمة " ففي كلّ حي مروّج وعسس ومستهلك" صفحة ٤٥
شباب متلف من البطالة، تتلقفهم عصابات الحشيش.
لا يخفى علينا أنّ ميلانين شبه سيرة ذاتية للكاتبة، تتحدّث فيها ربما عن تجربتها أو تجربة من عرفتهم، وتلك النزعات والنزاعات التي يعانيها المهاجر في أيّ بلد غير بلده، أيضًا تصف معاناة الكاتب، وعملية كتابة الرواية المجهود الذي يبذله الكاتب من قراءة واستحضار للشخوص، وما التماهي معهم إلّا مشاعر كثيرة أرادت الكاتبة من خلالهم تجسيدها، حتى بعض الشخوص الذين أعدمتهم هو تعديل ومتنفّس لتسير الحكاية وفق ما تبتغي بعيدًا عن أية رقابة، بالرغم كون أحداث الرواية في فرنسا إلّا أنّها مكبّلة بسلاسل وسوط جلاد، هناك أماكن لا يجوز للقلم العربي الخوض بها، ولا الكتابة عنها حتى ولو كان الكاتب يعيش في فرنسا، إذن اجترار الاحتراق وحيدة أسلم من الخوض في المحظورات.
طرح موضوع الكتابة في الرواية ذاتها وقدرة الكاتبة على طرح موضوع كتابة ضمن كتابة
"أرغب كثيرًا في كتابة رواية بلا رقابة ، رواية بتفاصيل موبوءة عن الحبّ أو الموت، عن الخيانات والسمسرة، عن الدين والسياسة والجنس، عنّي وعنك، لكن مشانق الجلاد تعيدني إلى جادة السبيل، فأجترّ كما الجميع حرائقي." صفحة ٤٩
الخوف لا يصنع حياة، والحرية تبقى حلمًا عصيًّا على التحقيق في ظلّ الخوف.
تضطرّ الكاتبة إلى إعدام شخصية رقية كي تنتقل من خلال الحدث وبذكاء إلى وصف مشهد آخر من مشاهد الموت في الغربة،

والتطرّق إلى موضوع علاقة الناس بالله والعبادات الجوفاء.
تعاطي الشيخ مع تطبيق تعليم القرآن للهداية وما بين قبوله للآخر تناقض واضح أيضا طرحته الكاتبة،
كلّ منهم يدّعي أنّه الأقرب إلى الله، وفي السريرة هم أبعد ما يكونون عنه.
لننتقل معها إلى يوم آخر وقصة أخرى، وهي من المحرّمات في بلادنا، قصص الحبّ التي لا تعرف فوارق ولا طبقات، علاقة الحبّ بين السجين وطالبة بكلية العلوم الاجتماعية تعدّ أطروحتها، تقع في حبّ سجين، ممّا يدهش الكاتبة لتعود إلى المقارنة بين الحبّ في الشرق والحبّ الفرنسي الواضح الذي لا يعاني من التعقيدات "إنّهم يختلفون عنا كثيرًا! نحن لا نبوح بسرّ خطير كهذا.. كم اختلقنا صغارًا وكبارًا هويات وحكايات وأوطانا تتناسب وحيثيات الظرف..." صفحة ٦٧
هم لا يلتفتون أبدًا للوراء، فقط لما يأتي، ثنائية الماضي والحاضر حاضرة جدًّا في الرواية، المقارنة بين نحن وهم دائمًا، وهنا في وجه آخر ربما ففيه بعض الحسرة، لأنّنا لا نستطيع أن نتحرّر من هذا الكمّ الهائل من الوجع الذي يثقل أرواحنا وذاكرتنا. التلصّص على الخارج، ترقّب حدوث شيء ما، ولكن يبقى موت رقية جاثمًا على الورق وفي روح الكاتبة، لماذا قتلتها؟ أليس حريًّا بها أن تكمل دورها في الحياة أم أنّ الكاتبة وجدت أنّ أمثال رقية لا دور لهنّ أكثر من مسح البيوت والعيش الرخيص في الأحياء الرخيصة منبوذة في بلدها الأمّ وفي غربتها، وهكذا أرادت لها أن تتحرّر إلى وطن أفضل، وفي خضمّ هذا المشهد الأليم تستولي على محفظة رقية لتكمل دونها مع رسائل بينها وبين سهيل، وكما أسمته "الوطن الضال" صفحة ٧٥
الملفّ الأول: الهويّة الضائعة، رقية سهيل الوطن (الجميع اختصارهم الهوية)
الملفّ الثاني : أنيسة عزوز، صورة الوطن الذي ضيق الخناق على أبنائه، دخول روح رقية في روح الكاتبة، لتضع لها النصّ، وتكمل الرواية، رواية التعليب الذي تدور حوله أحداث الرواية منذ البداية العنصرية التي بدأت بالطفولة، وانتقلت إلى بلاد الاغتراب، وكان أول شعور بالعنصرية من أحد المغاربة، لم تكن رقية إلّا لتكون صورة الكاتبة التي أرادت التحرّر منها، لتكتب ما تريد، ولكن عن لسان آخر. أليست هذه عبودية لكاتب يجد قلمه مكبّلًا، فيخترع شخصية، ويقتلها، ويبتدع أخرى في محاولات عدّة كي يكتب وجعه بحرّية أكبر، وكي تأتي الصراخات من حناجرهم، وعلى لسان رقية تكشف أسرار الجالية والهجرة السرية، منبوذون في الداخل وفي الخارج، وهذا الحنين والتمزّق بين وطن باعنا ووطن نحنّ إليه، وطن الحبّ والعذاب والوطن الخراب "أين كنت؟ قلت: كنت أنتشلتني من غول يدعى" وطني" وأنتظرك.." صفحة ٩٦ هكذا تصبح الأوطان التي تلفظ أولادها،
"هذا الوطن يخنقني فيه الضياع، وشحّ الكرامة، وقلة الاعتراف.. وسترحلين وإني منتظر بعد أن يزف الرحيل... رحيل هو أشبه بالفرار منّي، وما كنت وحدي" الإمضاء سهيل سبتمبر ٢٠١١ انتهى الاقتباس صفحة ١٠٠
العادة السرية، عنوان مثير للجدل، ويمكن تأويله ونسبه إلى تلك الرغبات المكبوتة التي يحملها معه الشخص، والتصريح بها والإفصاح عنها عيب، الأحلام، الطموح التحرر من قيود وتقاليد بالية جسّدتها الكاتبة في خطوط وجه الأمّ ودمعتها المخفية في أكمام فستانها إلى تحفظ الجدّة التي ما إن أصابتها الشيخوخة حتى انطلقت عقدة لسانها تحكي ما لم يعد يستطيع العقل أن يخبئه، نطق بعد كبت وكأنه يقول: كفاكم قمعًا لإنسانيتي، أنا أيضًا لي رغبات، ولي عقل وفكر، وأنا أنثى لها الحقّ بالقول والفعل، هذا العقل انتصر أخيرًا أن يكون تحت قوامة أيّ شخص سوى المرض الذي حرّره كما حرّر رقية في الموت.
قصة الحبّ بين سهيل ورقية، الوطن البديل دائمًا عندما تغتصب الأوطان ،أضفت نوعًا من الأروما خاصة أنّها قصة حبّ من الممنوعات في الشرق، مليئة بالوجدانيات والغضب والحنين والشبق واللذة، ومليئة بالعتاب المشوب بالوجع والاعترافات بالهزيمة المرة، بظلم الوطن مرة أخرى، وكيف يدفع الكبار والصغار للموت إمّا بالرصاص وإمّا غرقاً، كلّ شيء يغشاه السواد، هنا تعدّدت أنواع الموت والسبب واحد ألّا وهو وطن تنكر لأبنائه، وفي رمزيتها صور كثيرة واغتسال من الخطايا "كانت متعددة تلك الخطايا" صفحة ٨٩ تحكي فيها عن العادات التي حملها التونسيون إلى فرنسا، تزويج الفتيات وقوامة رجل عليهنّ والشرف، في قصة الجدّة ،
في رسائل رقية وجدت الكاتبة منفذًا تحكي على لسانها ولسان سهيل، المرأة المحكومة بقانون العشيرة، الطفولة التي وئدت في حفرة الوشم، الغارقة في الحبر الأسود، وجع تونس الهجرة غير الشرعية، التهميش والفقر الموت في الوطن، تغير سحنته وسحقه لأولاده، توق الشباب إلى الهروب والحرّية، فقد الهوية والضياع، العنصرية الاضطهاد، بانسيابية وجمال مشوب بالشغف، وألوان البحر والرومانسية،
لباريس صورة وإن كنت أرى أنّ الكاتبة تحاول "
"جادة بإظهار العنصرية "وعجلات الرقّ الجديد حول انحناءاتهنّ المتعدّدة بلا هوادة،" صفحة ١٠٩، مع أنّها تعترف في الصفحة التالية أنّها لم تغادر وطنها، ولكن الوطن غادرها، أيّ الإحساس بالانتماء، وهي تعيش لاجئة بين وطنها الأصلي وباريس، وتبقى حرّية باريس مغرية، باعتراف صارخ" أم أنّ الحرّية بباريس حيث لا ربّ ولا جلاد مغرية حدّ التوحش؟" ١١٠ من لم يعتاد الحرّية يجدها موحشة وصعبة،
دون أوراق ثبوتية لا يمكن للفرد أن ينخرط في عجلة العمل، ولا بد أن يعمل متخفيًا ومترقبًا أن يقبض عليه من الشرطة المحلية، إذن أرى أن لا ذنب للبلد المضيف لهم إن كان اقتحم هؤلاء باريس عنوة، وهل يرث ابن الحرة كإبن الجارية؟ رأي ربما شخصي، ولكن الفرص سانحة للجميع، ولا أحد فوق القانون إلّا في حوادث فردية لا يمكن أن نسقطها على مجتمع كامل او دولة،
ثقافة قبول الاخر والاختلاف
قبول الآخر والمختلف عنا، هذه مشكلة كبيرة يعاني منها المجتمع العربي الضيق، مشكلة طرحتها الكاتبة، والمعاناة الأكبر تقع على الأنثى حين تقع في حبّ رجل مختلف عنها، فتحاكم كمجرمة بالحبس في المنزل أو التزويج غصبًا عنها لرجل دون اختيارها، كونها ارتكبت معصية كبيرة، "لم أجد لها جوابًا مناسبًا، سوى أنّ الزواج هناك لا يحتاج إلى الحبّ بقدر ما يحتاج إلى العذرية.... وإنّ الأنثى ليست سوى حارسة لتاج العرش المخبوء بين فخذيها. فإذا ما ابتلي القلب، وأذنب فلا بدّ من التعجيل بوأده قبل أن يذنب الجسد. انتهى الاقتباس، ١٣٤

في التصدير الأخير كان التأكيد أنّ ما ورد في رسائل رقية ومن شخصيات الرواية إلّا سيرة ذاتية وضعت فيها الكاتبة بعض روحها وتجربتها، وتجربة الآخرين الذين عايشتهم، وعاشت مأساتهم. إنّ الإنسانية لا تعرف لونًا ولا دينًا، الإنسانية تشدّنا نحو الآخر لتتجلّى في ضوء الحروف، حين تكون الثقافة التي ربّينا عليها هي ثقافة قبول الآخر. إنّ ثورة الكاتبة ولدت فيها هذه الرغبة في تسخير قلمها لطرح مشكلة المشكلات التي تعاني منها المرأة والرجل في الشرق. ضيق المساحة المعطاة لكليهما، هذا القلم تستخدمه مشرط لتشقّ حجب العقول وغشاوة القلوب، وتفتح به بصيرة القارئ على تلك البقع من العالم حيث الإنسان مهمّش ومهشّم من الداخل، لا يوجد أمامه إلّا خيار من خيارين، إمّا أن يموت، وإمّا أن يغامر، ويخرج إلى المجهول مدفوعًا بغريزة الحياة، تهجير داخلي وخارجي، وقمع روحي وجسدي أن ذهب، بلا وطن بلا هوية يسير في شوارع الحياة، ينشد الحرّية في تلألؤ الأضواء في الشوارع الباريسية، أو في حضن رجل يعوّضها عن الوطن المبتور في داخلها، ليمسح دمعة رافقتها منذ الطفولية، وذبلت على وجنتيها، وحفر ملحها وشم آخر لئلا تنسى، فتفرح!



#اخلاص_موسى_فرنسيس (هاشتاغ)       Eklas_Francis#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صمت الهواء
- قراءة في قصيدة لا تُبالِ بي إنْ عَصيتُ أمر القَصيدةِ صُعود ا ...
- اليوم عيدي
- حانة الحياة
- قراءة في ديوان -سماءٌ أخرى-
- أمام المرآة
- مذاق الغبار
- إيزيس
- اشتعال الماء
- في يوم المرأة هدية للرجل
- زائر غريب
- صديقي الأمل
- نحت في الأزقّة القديمة
- لأنّ الشمسَ هنا الآنَ والحياة
- قراءتي في -الرواية العمياء- للكاتب الدكتور شاكر نوري
- الأجنحة
- قراءة د. مريم الهاشمي في ديوان وأمضي في جنوني للشاعرة اخلاص ...
- لسنا قصّة عابرة.
- وسادة التيه
- قراءة في ديوان الشاعر جميل داري -لا جناح لي-


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اخلاص موسى فرنسيس - قراءة في رواية -ميلانين- للكاتبة فتحية دبش