أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اخلاص موسى فرنسيس - نحت في الأزقّة القديمة














المزيد.....

نحت في الأزقّة القديمة


اخلاص موسى فرنسيس
(Eklas Francis)


الحوار المتمدن-العدد: 6824 - 2021 / 2 / 25 - 22:21
المحور: الادب والفن
    


نحت في الأزقّة القديمة، وبيت ما زالت جدرانه تحمل لوحات أسطوريّة، وعبق عائلة اندثر بعض أفرادها إلى غير عودة ، هل العالم الآخر هو النهاية؟
لا، بل تبدأ منها مرحلة أخرى في عالم الأساطير والأرواح، هذا البيت المترع بالضحك كما الدمع، هذا البيت الذي يطوي في ثناياه ذكريات الحنين، ينأى عن صخب العالم الحديث بعيداً في عمق الذاكرة والوحدة.
"إلى "الفتاة الخجولة" كتب في زاوية اللوحة التي تتوسّد الحائط في هذا المنزل المنكوب، كأنّها رسالة من زمن مضى، كتبت بخطّ يده، أو نبوءة عمّا سوف يكون في المستقبل. كم من المرّات نخطّ مستقبلنا دون وعي منّا، نجتهد في وصفه ورسم حدوده على الورق وفي أذهاننا، وننسى أنّ ما نكتبه يلزق بنا مثل لعنة، ونصبح ملزمين به دونما أدنى وعي منّا.
هكذا هي الرسائل نخطّها من ماضٍ إلى مستقبل، هل هو كتبها أو هناك من تسلّل إلى روحه، وكتبها عنه؟
أحياناً ننسى ما نتفوّه به، وننسى تصرّفاً ما حتى ننسى خطاباً كتبناه، ويأتي ليشهد علينا بإصبع الاتّهام: نعم أنت كتبت، وكنت حاضراً جدّاً في الحروف، وكنّا نحن هنا، وهذه الاحبار هي الشهود، وهذه الطوابع وحياتك هي الشاهد الأول، وتلك السطور تنداح في الخيال، لتصبح الشرك الذي نقع فيه، والمتاهة التي نضيع فيها بإذن من اللاوعي فينا، والباطن الذي أصدر الأوامر، فكتبنا.
الأرواح تسافر بعد الموت إلى الأماكن التي كانت تقطنها سابقاً، وإلى الأماكن التي أرادت، ورأت فيها أجمل اللحظات، ومن جهة أخرى تسافر، لتزور الأماكن التي اختبرت فيها أشدّ أنواع الوجع.
قال لي وهو ينظر في وجهي لا ينتظر منّي أيّ جواب بالإيجاب أو السلب، واستمرّ يقول: من يفتح باباً مغلقاً في مدينة مهجورة، ومن يفتح باباً خلفه تكوّمت الأرواح المتوجّعة ليطلقها، هو ذلك الإنسان الذي اتّحدت روحه بتلك الأرواح، وعاش مصابها، وتألّم لوجعها، وانصهرا معاً في لحظة علويّة مقدّسة.
إنّ الألم هو الذي يقدّس الروح، هو الطريق إلى الإبداع، هو اليد الخفيّة وراء كلّ ما ترين الآن في هذه اللوحة.
حدّقت طويلاً أحاول أن أفهم تاريخ اللوحة، لم يكن بعيداً بعد، وما زالت الأتربة والغبار الأسود يعلوها، وما زال الركام يغطّي الأشياء. لوحة تحرّك الدواخل بقوة عجيبة، وتجعلك تصمت من الانبهار والدهشة، ليس الإعجاب العاديّ ولا الدهشة التي يفغر لها الفم بل تلك الدهشة التي تمتصّك من الداخل، تفتّت فيك أصغر عناصرك الإنسانيّة، حيث لا تعود قادراً على أن تتنفّس، تشعر بالاختناق كأنّك في عاصفة صحراويّة، تحاول أن تكمّ فاك، وتغلقه كي لا تبتلع تلك الحبيبات الرمليّة. عبثاً يذهب الجهد، وتبلعك الرمال المتحرّكة، وتخنقك، وأنت أمام لوحة بدت كأنّها من أزمنة غابرة. ما عدت قادراً على الكلام قال، وجلس على كرسي قريب بعد أن نفض عنه الغبار الذي علا في جوّ الغرفة، والتفّ حولي يخنقني، فركضت نحو النافذة. احذر، فضرفة النافذة معلّقة بمسمار واحد لم يتح لي الوقت بعد كي أصلحه. حاولت أن أسترخي قليلاً، ألتقط أنفاسي، وعدت إلى مضيفي، وإلى اللوحة التي أمامه، فقال: كانت تنام هنا على هذا السرير، وكانت البنات يلعبن في غرفهنّ، وكانت أصوات ضحكاتهنّ أعلى من راديو الجيران، وصوت ضجيج الشارع. مررت بهنّ في طريقي لغرفة النوم للسلام، ولم يكن أيّ سلام.
لقد بدأت الذكريات المرّة تهطل عليه. تشنّجت يداه اللتان تنامان في حضنه، وبحركات لا إراديّة تعلو، وتهبط ترسم وصف شعر كلّ واحدة منهنّ، أنوفهنّ وعيونهنّ. إحداهنّ كانت قمحيّة، ذات عيون واسعة تشبه أمّها كثيراً، والأخرى كانت بلون بياض الثلج مع الشعر الأسود الذي كانت تشبه جدّتها أمّي إلى حدّ كبير حتى إنّها كانت تحمل نفس الاسم. الأسماء كالكلمات نهبها لأطفالنا، ومعها نهبهم الصفات والأشكال لمن سبقهم في حملها.
قال وهو ينظر باتّجاه اللوحة المخنوقة بالغبار السميك، لم أحمل من الجرأة الكافية كي أسأل، بل بدا لي كأنّه يتنفّس الحنين والشوق والألم من عينيه، وبأنّ هناك جبلاً جاثماً على صدره، وثقلاً على كتفيه.
حاولت أن أجد طريقي وسط المصطبة المليئة بحطام الأشياء والزجاج المكسّر، اعتقدت للوهلة الأولى أنّ قوة الانفجار دفعتها خارج النافذة. تلك النافذة، مشيراً بيده. ناديت، لم أسمع أيّ صوت، كان الغبار والدخان يحجب الرؤيا. تحسّست طريقي وسط هول الانفجار، الغبار والذهول نحو النافذة، أنين من تحت قدمي، لم أكن أرى الغبار والدخان والركام والحطام، والأنين أفقدني صوابي، هنا واحدة، أين الأخرى؟ كومة سوداء على السرير يا إلهي، لم تكن هناك بل تكوّمت الأتربة والأغطية، كان لا بدّ من مستشفى، حملتها بين ذراعي، وركضت في الشوارع أستغيث.
وضع وجهه بين يديه مردّداً: نسيت ابنتي الأخرى، نسيت ابنتي الأخرى، بصوت مخنوق يردّد، ويتلوّى أمامي ثمّ قام واتّجه مسرعاً نحو اللوحة التي على الطاولة.
لقد التقط هذه الصورة واحد ممّن أتوا للنجدة بعد الانفجار بدقائق معدودة، وجدتها فيما بعد على مواقع التواصل الاجتماعيّ، أخذها في حضنه. لم أسأل عن الضحيّة التي تحت هيكل سيارة محطّمة، ترتدي قميصاً كان بالأمس أبيض، تغطّت ملامحها بالأتربة الممزوجة بالدماء، الزجاج خارج من جسدها الغضّ.
اجلسي قال، لقد تركت لك النافذة مشرعة كي تعودي من حيث خرجت، ها أنا أعدّ لك طعام الفطور وحقيبة المدرسة، أحاول أن أمسح الدم عن وجهك، لكن لا أستطيع، عالقة أنت داخل الوجع في هذا البرواز. يمسح بيده دون جدوى، حملت حقيبتي، وخرجت إلى الشارع مخلّفة ورائي كيان رجل مخلّعة نوافذ روحه، يحتضن الركام، يبحث عن ابنته، ينتظرها كلّ صباح ليعدّ لها الفطور دون ملل ولا كلل.



#اخلاص_موسى_فرنسيس (هاشتاغ)       Eklas_Francis#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لأنّ الشمسَ هنا الآنَ والحياة
- قراءتي في -الرواية العمياء- للكاتب الدكتور شاكر نوري
- الأجنحة
- قراءة د. مريم الهاشمي في ديوان وأمضي في جنوني للشاعرة اخلاص ...
- لسنا قصّة عابرة.
- وسادة التيه
- قراءة في ديوان الشاعر جميل داري -لا جناح لي-
- أشجانِ الخلودِ
- الأفعى
- قراءة في القصة القصيرة -تحت المظلة- للكاتب نجيب محفوظ
- -حبة مطر-
- ما نكتبُ هو صدًى لأفكارِنا ورؤانا
- تناقضات...من المجموعة القصصية -على مرمى قٌبلة-
- قراءة في رواية اخلاص فرنسيس “رغبات مهشّمة- عرض ونقد مصطفى ال ...
- مثقلين بالوجع
- البيوتُ، الأماكنُ، والذّكرياتُ
- “علاوي” على موعد مع الحياة
- فستان أزرق فارغ منّي.
- فيروز فعل الإيمان والغبطة
- يوم الطفل العالمي


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اخلاص موسى فرنسيس - نحت في الأزقّة القديمة