أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - في أعماق الرجل البهي للروائية المصرية جمال حسّان















المزيد.....

في أعماق الرجل البهي للروائية المصرية جمال حسّان


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 6921 - 2021 / 6 / 7 - 01:30
المحور: الادب والفن
    


الولوج إلى فضاء المَحبّة الوهميّة والإمساك بالمُعجَب السِّري

يُجهِد الكثير من الروائيين أنفسهم لخلق شخصية إشكالية معقدة تنطوي على محمولات ثقافية وفكرية واجتماعية ونفسية ولكن البعض الآخر من الروائيين الذين يجمعون بين العلم والأدب يلتقطون هذه الشخصيات الإشكالية المستديرة بسهولة ويُسر وذكاء ولكنهم، بالمقابل، يُلقون على كاهل المتلّقي مسؤولية معرفة هذه الشخصية واكتشافها والتعاطي معها على أساس مرضها النفسي الذي تعاني منه، تمامًا، كما هو الحال مع شخصية منى لاشين في رواية "في أعماق الرجل البهي" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة للقاصة والروائية المصرية الدكتورة جمال حسّان التي تفاداها الكثير من النقّاد لأنهم لم يفلحوا في العثور على مفاتيحها التي تؤهلهم للولوج إلى متاهة هذا النص السردي الجميل شكلاً ومضمونًا، فتعاملوا مع الشخصية الرئيسة منى لاشين وكأنها امرأة عادية لا تختلف عن بقية الشخصيات السويّة الأخرى التي يزدان بها النسق السردي للرواية. كما أنّ الشكل في هذه الرواية مغاير ومختلف ويلحظه القارئ في العديد من الصفحات التي يهيمن عليها الخط الغامق والمحصور بين أقواس مستطيلة تتعلّق بهلاوس منى لاشين ومونولوغاتها الداخلية التي تعكس هوس العشق الذي تعاني منه كمرض نفسي يستدعي العلاج في المصحة البريطانية التي تتواجد فيها. ولابدّ للناقد والقارئ معًا أن يعرفا منذ الجزء الأول من الرواية أنّ الشخصية الرئيسة منى لاشين مُصابة بمرض "هَوَس العِشق" الذي يُطلَق عليه بالإنكَليزية Erotomania "وهو شكل من أشكال السقوط في الوهم بحيث يعتقد المريض أنّ هناك شخصًا يحبهُ، ويكون هذا الشخص غالبًا ذا منزلة اجتماعية مرموقة"، أو من النجوم والمشاهير في عوالم الأدب والفن والسينما وما إلى ذلك. ومنى لاشين في هذه الرواية مصابة بهوَس الحُب وتعتقد أن الدكتور حاتم بدران، المتخصص بجراحة طب العظام يحبها إلى درجة الجنون بحيث يستقبلها في المطار كلما وصلت إلى القاهرة، ويتجسس عليها ليلاً من نوافذ الفندق أو من فوق الأشجار المحيطة أنّى حلّت أو ارتحلت. هذه هي نواة الحكاية التي ستبني عليها الكاتبة جمال حسّان وهي استشارية بالطب النفسي رواية كاملة قوامها 158 صفحة من القطع المتوسط.

أوهام وتصورات مشوّشة

تتألف الرواية من ثلاثة أجزاء حيث يضم الجزء الأول ثلاثة فصول، بينما ينطوي الجزء الثاني على الفصلين الرابع والخامس، فيما يشتمل الجزء الثالث على الفصلين السادس والسابع. وما إن ينغمس القارئ في أحداث الجزء الأول حتى ينتابه الشعور بأنه يقرأ نصًا واقعيًا. فما الضير في أن تلتقي منى لاشين وهي تعمل مُضيّفة في شركة مصر للطيران بالدكتور حاتم بدران في إحدى الرحلات المتجهة من لندن إلى القاهرة وتقع في حُبه؟ لكننا حين نتأمل هذه القصة من كثب نجد أنّ منى مُصابة بهوَس العِشق، وأنّ ما تعيشه لا يعدو أن يكون مجرد أوهام وتصورات مشوّشة لا أساس لها في الواقع، بل أنها أضغاث أحلام لا غير، وأن المريضة بحاجة بها إلى علاج في مصحّة نفسية. ومع أنّ الأوهام والحقائق تسير بخطوط متوازية فإنّ موقف المتلقي سيظل متأرجحًا بين الطرفين ولا يميل لكفّة على حساب الأخرى في أول الأمر لكن الحقائق التي كانت مخبأة أو مشكوك فيها ستتكشف في الجزء الثالث الذي يشتمل على المحكمة وإفادات الشهود الاثني عشر. وبواسطة هذه اللعبة الفنية تتمكن الروائية جمال حسّان من تأثيث المسارات السردية لغالبية الشخصيات وإقناعنا بأن ما يقع من أحداث خلال الجزأين الأول والثاني هي أحداث واقعية، أو ممكنة الحدوث في أقل تقدير. وما يزيد من جمالية هذه المقاربة الفنية المرصّعة بعنصر التشويق أنّ الروائية تؤجل الكشف عن طبيعة هذا المرض النفسي إلى الفصل السادس حينما يدلي الشهود بإفاداتهم الصريحة والصادمة وخاصة إفادة الدكتور حاتم بدران التي يؤكد فيها أنه لم يرَ منى لاشين سوى مرتين، الأولى في الرحلة المتجهة من لندن إلى القاهرة والثانية حينما زارته في عيادته الخاصة وطلبت منه أن يسافرا خارج البلاد معًا بذريعة العلاقة العاطفية المتأججة بينهما.

حياة موشومة بالخوف والهواجس

دعونا نتابع طبيعة الأحداث التي وقعت في الفصل الأول ونرى الطريقة التي اعتمدتها الكاتبة في التمهيد لشخصية منى لاشين المُصابة بـ "هَوَس العشق" وهي تُفصح في الجُملة الافتتاحية عمّا ينتابها من مشاعر وأحاسيس داخلية حيث تقول:"غدًا يوم آخر يُكتب لي، ولن يُنسى في حياتي الموسومة بالخوف والهواجس". ومردّ هذه الخشية أو الفزع ربما يعود إلى المنطقة الضبابية التي لا تميّز فيها بين الحقيقة والوهم، بل أن كفّة الوهم هي التي تنتصر فتأخذ الأوهام مجرى الحقائق الدامغة التي تصدّق بها المريضة وتتصرّف على هذا الأساس الذي لا يرقى إليه الشكّ، ولا تتسرّب إليه الظنون. ثم تُضيف قائلة:"غدًا أقف في قاعة المحكمة المخصصة وأحكي للعيون المٌصوّبة نحوي عمّا جرى. سأسيطر على أفكاري وأمسك الكلمات الغائبة وأترك نفسي على سجيتها بكل الجموح والاختناق والمنطق". ينطوي هذا الكلام على الرغبة في البوح والإفصاح عمّا جرى، والوعد بالسيطرة على الأفكار كي تروي القصة من زاوية نظرها الشخصية ولكننا كقرّاء لسنا مُجبرين على تصديقها والإيمان بما تقوله حرفيًا فهي تعترف بوجود كلمات غائبة تحاول الإمساك بها وترتيبها على وفق النسق الصحيح. قد يبدو اللقاء الأول عاديًا بين الدكتور حاتم بدران ومنى لاشين التي تعمل مُضيّفة في شركة مصر للطيران لكن تداعيات هذا اللقاء ستفتح آفاقًا جديدة لمخيّلة المُضيّفة التي تشتط في أوهامها التي انطلقت من نتوء واقعي حيث تعرّفت بشكل سريع وخاطف على "الولد الشقي"، ابن الدكتور حاتم، كما تعرّفت على زوجته البريطانية بربارا وأخذت تضيف إلى الحكاية بعض التوابل والمنكِّهات من قبيل: "أنه سيفعل المستحيل ليحافظ على مؤسسته الزوجية بعد فشل ارتباطه الأول بمصرية تركها مع ولديها في الإسكندرية". وهنا ينبري أمامنا السؤال الآتي:"كيف عرفتْ منى لاشين بهذه المعلومة؟ ومن أينَ استقْتها؟ ولا غرابة في أن تكون الإجابة إمّا من هلاوسها وتخيّلاتها الشخصية كمصابة بهذه المتلازمة أو من ملاحقتها للشخص المحبوب الذي عشقته وتتيّمت به من طرف واحد، فالمصابة بهذا المرض النفسي تمارس غالبًا عملية الملاحقة أو التعقّب Stalking التي تعد جريمة جنائية في الكثير من البلدان. يكتظ هذا الفصل بالعديد من المواقف التي تشير إلى المتابعة والتلصلص وجمع المعلومات من بينها أنه "لا ينام أكثر من خمس ساعات . . ويأكل باعتدال. على الأقل يقضي عشر ساعات يوميًا بين غرفة العمليات والمراجعات". وهذه المعلومات لا يستطيع أن يجمعها إلا المُتعقِّب الذي يُطلق عليه اسم Stalker وهو مريض نفسي من دون شك ويعاني من اضطرابات تقوده إلى تصديق الأوهام الذهنية التي تنتابهُ في معظم الأحيان.

شخصيات من لحم ودمّ

يكشف هذا الفصل بأنّ المحكمة ستنعقد غدًا وهذه إشارة زمنية توحي للقرّاء وكأنّ أحداث الرواية تجري في يومين أو يزيد لكن الروائية برعت في تقنية الاسترجاع Flashback فتمدد الزمن ليغطي أبرز المحطات المهمة في حيوات الشخصيات الرئيسة والثانوية التي رأيناها تتحرّك أمام أعيننا كشخصيات حقيقية من لحم ودم، فالكاتبة جمال حسّان لا تنزلق إلى مطبّ الشخصيات الورقيّة المصنّعة التي تفتقر إلى الحياة وينساها القارئ ما إن ينتهي من قراءة النص السردي. تسعى منى لاشين أن تتبنى عملية الدفاع عن نفسها في المحكمة لكن المحامي رفض وأصرّ أن يكون خط الدفاع الأول من خلال الطبيب النفسي الشرعي الذي يستطيع أن يثبت اختلال قواها العقلية "حتى تُخفف تهمة القتل العمد إلى قتل بسبب نقص الأهلية".
تتوالى الأوهام في ذهن منى لاشين وكأنها حقائق دامغة فتصف طبيعة الحب الذي يربطهما إلى حدّ التماهي:"كنّا- حقيقة- جسدًا واحدًا وبيننا طفل جميل" في إشارة واضحة إلى "الولد الشقي"، كما تذهب أبعد من ذلك حين تقول بقين ثابت أنه وصل إلى صالة الفندق بعد منتصف الليل وغادر عند طلوع الفجر.
تتوسّع دائرة الأحداث في الفصل الثاني ولا تقتصر على الشخصية المحورية منى لاشين حيث نتعرّف على الدكتور بكري الذي يعمل في المصحة وهو مصري الأصل ويمكن أن يفيد هذه المريضة المُصابة بمتلازمة العشق الوهمي ببعض النصائح والإرشادات الطبية لأنهما يتوفران على خلفية مشتركة. كما نتعرف على بعض الممرضين والممرضات الذين يعملون في المصحة. وثمة نزيلة أخرى تُدعى كاثي تحاول سرقة ملفها من مكتب التمريض "لتعرف ماذا يكتب عنها هؤلاء الأغبياء". وربما يكون الحدث الأهمّ في هذا الفصل هو مقتل رجل الأعمال نادر فهمي في فندق هيلتون بارك لين وكانت منى لاشين برفقته.
تستمر الأوهام في الفصل الثالث والأخير من الجزء الأول حيث تسهب منى لاشين في الحديث عن أطفالها الثلاثة وهم ياسمينة ونور وعسل، وتدّعي بأنّ أطفالها الثلاثة ينتمون إلى ثلاثة آباء، بينما يفشل زوجها عمر صفوت الذي يعمل في شركات نادر فهمي في تخصيب زوجته لإنجاب طفل واحد يملأ حياتهما صخبًا وضجيجا. وحينما يطلب السيد فيشر أن يراها ويتحدث إليها بوصفه أخصائيًا نفسيًا تعترض وتقول غاضبة بأنه يريد أن "يجرجرني إلى اعتراف بجريمة لم أرتكبها". فيردُّ عليها بأنه ليس طبيبًا وإنما أخصائي نفسي وظيفتهُ مساعدة المرضى من خلال الاستماع إليهم، وفهم تصرفاتهم، وإدراك دوافعهم.
ينطوي الجزء الثاني على معلومات كثيرة تؤثث النص السردي لكنها لا تدفع الأحداث كثيرًا إلى الأمام. فالدكتور كامبل هو الذي يراجع الحالات المرضية في المصحة التي يرأسها يخبر الأطباء والأخصائيين النفسيين بأنه سيطلب من مكتب وزير الداخلية تمديد فترة حجز منى لاشين حتى يتسنى لهم استكمال المعلومات وتقيّيم الحالة المرضية قبل تقديم التقرير النهائي للمحكمة.

خلطة سحريّة غامضة

يُعدّ الفصل السادس بمثابة الانعطافة الثانية في الرواية التي تشبه سيناريو فيلم محكم البناء يتوفر على انعطافتين رئيستين Turning Points تحدث الأولى بعد 15 دقيقة من بداية الفيلم، بينما تحدث الثانية قبل 15 دقيقة من نهاية الفيلم الذي تنحلّ عقدته ويعرف المتلقي النهاية سواء اتفقت مع توقعاته أو خالفتها. وأتمنى أن ينبري لهذه الرواية الجادة والمختلفة سينارست متمكن من أدواته الفنية ويحوّلها إلى سيناريو لفيلم نفسي يناقش هذه الثيمة الجديدة التي لم تُطرق من قبل بهذا الشكل، ونعني بها "هَوَس العشق" الذي يدفع بالمريض أو المريضة إلى أقصى حدود الوهم وما ينجم عنه من تداعيات كثيرة.
فجريمة القتل التي نفذّتها منى لاشين وراح ضحيتها رجل الأعمال نادر فهمي هي التي استدعت عقد هذه المحكمة الوهمية التي تُوحي لنا وكأنها حقيقية بسبب براعة الروائية جمال حسّان التي تُجيد الإمساك بمعطيات الوهم والحقيقة وتقدمها للقرّاء مثل خلطة سحرية غامضة تثير الدهشة والانبهار.
يصل عدد الشهود الذين يدلون بإفاداتهم إلى 12 شاهدًا من بينهم ستة أفراد من أسرة منى لاشين إضافة إلى بعض الأطباء والاستشاريين النفسيين والممرضين. ولو تمعنّا في هذه الإفادات لوجدناها تنطوي على كل معطيات الشخصية المُصابة بهوَس العشق أو الهَوَس الشبقي التي تجسّد لنا المحبة الوهمية التي كانت تدور رحاها في مخيلة المريضة، وتنعكس في هلاوسها السمعية والبصرية. تُستهَل وقائع المحكمة بشهادة هيام بكري بعد أن تقسم اليمين على قول الحق ولا شيء سواه فنعرف أنها أم لثلاث بنات وهنّ منى وسونيا ودنيا من زوجها الأول منصور لاشين الذي كان ضابطًا في الجيش المصري، وأستشهد في معركة فاصلة وكرّمتهُ الحكومة في حينه. ثم تزوجت من اللواء مراد العُقدة الذي كان صديقًا مقرّبًا للوالد.

الوسواس القهري

تتقدم سونيا لاشين للشهادة وتعترف بأنّ شقيقتها لا تستطيع إيذاء نملة فكيف ترتكب جريمة قتل؟ تتزوج سونيا من ابن عمها، وتعلن الأم زواجها من السيد مراد الذي اقتحم حياتهم ولم ترتح له منى لذلك أقدمت على الانتحار مرتين لأنه تحرّش بها جنسيًا لكن الأم كان تنفي ذلك. فيما تؤكد شقيقتها دُنيا بأنّ المشاكل بدأت مع أختها في سن الخامسة عشرة حيث بدأت تدخن وتقيم علاقة مع ابن البواب. ثم يأتي دور الدكتور وديع شنونة الذي كان يعالجها في مرحلة التعليم الإعدادي وتيقن بأنها مصابة باكتئاب عُصابي مصحوبًا بمحاولات انتحارية، وقد عالجها بالصعقات الكهربائية والعقاقير المُضادة للاكتئاب والمهدئات. كما أشار إلى استغراقها في طقوس النظافة حتى يتسلّخ جلدها بسبب شدة الحكّ، واختتم شهادته بأنها مصابة بالوسواس القهري.
يحاول اللواء مراد العقدة أن يؤكد صداقته الحميمة لوالد منى وحفاظه على أسرة صديقه من التفكك والضياع بعد غياب الوالد والزواج من أرملته. أمّا أهم الإفادات على الإطلاق فهي إفادة الدكتور حاتم بدران بوصفه البطل الموازي لمنى لاشين حيث تناصفا البطولة في هذه الرواية منذ الجملة الاستهلالية وحتى الجملة الختامية وكنت أتمنى حقيقة أن ينتهي هذا النص السردي الإشكالي بهذه الإفادة لما تنطوي عليه من مفاجأة صادمة، وموقف يثير الدهشة حين يصرّح بأنه التقى منى لاشين مرتين لا غير، الأولى في الرحلة المتجهة من لندن إلى القاهرة وما حدث فيها من لقاءات عابرة بسبب ابن الدكتور أو "الولد الشقي" كما وصفه الأب، وتعرّفها العابر على هذه الأسرة الصغيرة، والثانية عندما زارته في العيادة الخاصة وطلبت منه أن يسافرا خارج البلاد فاستعان بمسؤول الأمن أن يطردها من مكان عمله الأمر الذي يكشف لنا عن الأخاليط والهلوسات التي تتفوّه بها نتيجة لإصابتها بهذا المرض الذي يندرج في إطار الاضطرابات الوهامية، والحب المرضي من طرف واحد. وكانت هذه الإفادة كفيلة بإسدال الستار على القصة الرئيسة، والحدّ من هيكلها المعماري الذي أطالتهُ الروائية وأضافت إليه فصلاً سابعًا سنشير إلى أبرز محتوياته المضمونية.

العبور إلى مرحلة اللاعودة

يُدلي الأب منصور لاشين بشهادته ويعترف بأنه يشعر بالخجل بسبب المشاكل المتلاحقة التي عصفت بأفراد هذه الأسرة التي عاشت ظروفًا استثنائية بعد الحرب، كما يقرّ بأنّ منى كانت دلوعته وأقرب بناته إليه لكن ذلك لم يمنعه من إغداق مشاعر الأبوة على بنتيه الأخريين سونيا ودنيا. أما إفادة رجل الأعمال نادر فهمي فهي لا تخرج عن معادلة "الدفع والقبض" فهو يدفع النقود وزوجها يقبض، بل أنها تجاسرت حينما خاطبته بجرأة غير معهودة: "أريد منكَ طفلاً". وعندما يرفض تطلب منه أن يستريح على الفراش ويغمض عينيه لتصلح مزاجه المتعكر ويقول في خاتمة المطاف:"وهكذا أستسلمتُ لتلك الوضعية المحتالة القاتلة" ثم يعقبها العبور إلى مرحلة اللاعودة. وهكذا تتوالى إفادات بقية الشهود بدءًا بالزوج عمر صفوت الذي يضبط الثانية الملائمة للإخصاب لكن جهوده كانت تذهب أدراج الرياح. أمّا فرانشيسكا، الاخصائية الاجتماعية، فقد أدلت بمعلومات دقيقة مختصرة من بينها أنها شاردة، وتعاني من الوحدة، وغير مدركة لخطورة التهمة الموجهة إليها لكنها تمتثل للأوامر ولا تثير شغبًا في المصحة. فيما ذهبت الممرضة ماندي إلى القول بأنّ المريضة وحدانية، ومهووسة بالنظافة، وحينما تسقط في حالة الهيجان لا تؤذي إلاّ نفسها. ثم تُختتم المحكمة بإفادة الدكتور فكري الذي يتوصل لاحتمال:" أنها لا تعاني من مرض عقلي، وعليه فإنها تتحمل مسؤولية الجريمة التي اقترفتها إذا توافرت الأدلة على ذلك". وطلب من الفريق العلاجي تمديد فترة التقييم للتأكد من حالتها المرضية بشكل قاطع. أمّا منى لاشين فإنها تعتقد العكس تمامًا وهي تقول:"أنا هنا لأسباب أمنية تتعلق بمذكرات بابا السريّة في فترة ما بعد الحرب ولا يعرف مكانها سواي". كما تتهم الدكتور فكري بأنه عميل مزدوج ينتحل صورة طبيب نفسي شرعي للإيقاع بها.

التقنية الاسترجاعيّة

على الرغم من أنّ الفصل السابع والأخير يشتمل على إعادة لكثير من الأحداث والوقائع الشخصية مثل استرجاع حادثة ابن البواب، أو قصة زوجها الذي أراد أن يتزوج ثانية لكنه عزف عن الفكرة لقلة موارده المالية التي لا تكفي للانفاق على بيتين، وحينما عمل في شركات نادر فهمي عقد العزم على الزواج لكن قدرته الجنسية تعطلت فأربكت خططه كلها ودفعتهُ لأن يعيد حساباته من جديد. لم تتخلّص منى من هلاوسها، وتنظيف جسدها قبل الذهاب إلى المحكمة ثم تُصاب بالنزيف ويأتي ثلاثة أو أربعة أشخاص ويأخذونها إلى الطوارئ بسبب الشرايين النازفة قبل نقلها إلى أقرب مستشفى عام لكنها تغفو وتصحو لتتأكد من حضور أمها حين تقول:"لقد دعوتها، فغفرت ولبّت النداء". يبرز في ختام الرواية شيئان أساسيان وهما أنّ النزيف سببهُ إجهاض آخر، وأن الشخص الذي تشتاق إليه قد جاء لكي يراها في هذه الساعة، فلاغرابة أن تلتفت لأمها وترسم بإصبعيها علامة الانتصار.
لابدّ من الإشارة إلى أنّ اللغة في هذه الرواية متناغمة تمامًا مع طبيعة المريضة منى لاشين ولو لم تكن الدكتورة جمال حسّان استشارية نفسية لما تدفقت الأوصاف والتعابير اللغوية بهذا الشكل السلس والمنساب على مَدار النص السردي الذي يستحق المزيد من الدراسة والاهتمام. ورواية "في أعماق الرجل البهي" هي من نسيج وحدها ولم يسبق لأحد من الروائيين العرب أن كتب عن هذه المتلازمة المرضية بهذه الدقة والمرونة والاسترسال. جدير ذكره أن القاصة والروائية جمال حسّان قد أنجزت خمس مجموعات قصصية وتسع روايات نذكر منها "سندس والملك"، و "ظمأ العيون"، و "بنات . . . بنات"،و "الطريق إلى بودابست"، و"وديعة"، و "نساء الهلباوي" وقد حظيت هذه الأعمال الأدبية باهتمام واسع داخل مصر وخارجها، وخاصة في المملكة المتحدة حيث تعيش وتعمل.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غايب، الحاضر الغائب . . شهادة بصرية أمينة لا تحتمل الرتوش
- للحمار ذيل واحد لا ذيلان . . نويفلا لا يمكن قراءتها بعيدًا ع ...
- جوائز الدورة الحادية عشرة لمهرجان مالمو للسينما العربية عام ...
- انطلاق فعّاليات الدورة 11 لمهرجان مالمو للسينما العربية
- وراء الباب الفيلم الروائي الطويل الأول لعدي مانع
- حِصار نصٌ فنتازي يُحطّم توقعات القارئ ويقترح سرديّة جديدة
- رؤوف مُسعد يشهد نُعاس البحر فيمشي فوق الماء
- المُخرج جعفر مُراد يستعين بالتجريب ويراهن على النَفَس الحداث ...
- كيف تُشاهد فيلمًا سينمائيًّا؟
- أول دراسة نقدية موسّعة لرواية مستر نوركَه لنوزت شمدين
- قصة السينما في مصر بين معايير الجودة والإخفاق
- تشرين. . نص سردي يُمجِّد الانتفاضة ويتعالق مع التاريخ
- حظر تجوِّل . . فيلم جريء يفضح المسكوت عنه، ويعرّي القضايا ال ...
- العدد 6 من مجلة السينمائي . . احتفاء بالفنانة هناء محمد واست ...
- تاركو الأثر. . حوارات مُطعّمة بالدُعابة وبلاغة التعبير
- قصي عسكر: أكتب تجربة جديدة تتلخّص في العلاقة بين الشرق والغر ...
- العدد الخامس من -السينمائي- يحتفي بالمعلّم الأول فيصل الياسر ...
- الثامنة والنصف مساءً رواية تراجيدية لا تنقصها الدُعابة وشجاع ...
- الشاب أحمد والسقوط في متاهة التعصّب الديني
- الطوفان الثاني رواية تحتفي بنبرتها الدينية المحاذية للأساطير ...


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - في أعماق الرجل البهي للروائية المصرية جمال حسّان