أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مصطفى سامي - كيف سرقت إسرائيل التاريخ الفلسطيني؟















المزيد.....



كيف سرقت إسرائيل التاريخ الفلسطيني؟


مصطفى سامي
كاتب

(Mustafa Samy)


الحوار المتمدن-العدد: 6905 - 2021 / 5 / 21 - 08:57
المحور: القضية الفلسطينية
    


"المقال هو تلخيص لكتاب (اختلاق اسرائيل القديمة) للكاتب كيث وايتلام"


في مقدمة كتابه ينتقد "كيث وايتلام" عدم الاهتمام بالتاريخ القديم لفلسطين، فيوضح أن نشوء هوية فلسطينية حديثة والتعبير عن تقرير المصير قد ركز على التاريخ الحديث، وليس على التاريخ القديم. فالتاريخ الفلسطيني عني فقط بالقرنين الأخيرين، وبصراعه مع الحركة الصهيونية وتحقيق دولة إسرائيل الحديثة، أما التاريخ القديم فقد بقى حكراً على اسرائيل. يوضح الكاتب كذلك أن نمو الحركة الوطنية الفلسطينية لم يؤد إلى استرداد الماضي كما حصل في الهند وأفريقيا وأستراليا، والمشكلة هنا تكمن في أن مفهوم "التاريخ الفلسطيني" يقتصر على الفترة الحديثة في محاولة لتوضيح القضية الوطنية في مواجهة النفي والتشريد، كما لو كان التاريخ القديم تُركَ لاسرائيل والغرب.



نصوص منحازة وتواريخ متصدعة:

من الواضح أن أحد العوامل المهمة في محاولتنا لفهم "تاريخ اسرائيل القديم" وتواريخ الكيانات الأخرى، وإن كان هذا العامل غير مصرح به دائما، هو أن كتابة التاريخ هي عمل سياسي، وأن تلك المواقف والآراء السياسية تحدد برنامج البحث وتؤثر بشكل قوي في نتائج أبحاث المؤرخين، وأن هذا البرنامج يؤدي إلى كتابة" نصوص منحازة". أما في حالة الدراسات التوراتية فقد ركزت على - بل إنها اختلقت- كيان وذلك الكيان هو "اسرائيل القديمة" بينما تجاهلت حقيقة التاريخ الفلسطيني بشكله المتكامل.
إن أصول دراسات علم الآثار الحديث منذ تدخل نابليون في شئون مصر هي قصة المؤامرة الدولية، حيث إن التاريخ التوراتي والكشف عن الكنوز الأثرية في المنطقة قد استخدمتها القوى الغربية لمصلحتها في صراعاتها على الهيمنة السياسية، وإضفاء الشرعية على طموحاتها الاستعمارية.

إن استملاك الماضي هو جزء من سياسة الحاضر، ويمكن تطبيق هذا المبدأ على جميع دول المعمورة. في دولة إسرائيل الحديثة يلعب علم الآثار دوراً مهماً في تأكيد الصلات بين سكان دخلاء وتاريخهم القديم، وبعمله هذا فإنه يؤكد حق هؤلاء السكان الدخلاء في تلك الأرض.
إن النموذج المهيمن على كتابة التاريخ الإسرائيلي، كان، ولا يزال ذلك التاريخ الذي يتخذ شكل الكيان القومي الموحد الذي يبحث عن مساحة قومية من الأرض، وهو يكافح من أجل الإبقاء على هويته القومية وعلى الأرض من خلال الأزمات التاريخية. والحركة الصهيونية التي نشأت في القرن التاسع عشر بعد صعود حركة القوميات الأوروبية قد ادعت باستمرار أن رسالتها التاريخية هي العودة إلى أرض خالية، وصحارٍ قاحلة، تلك الأرض التي تنتظر وصول التكنولوجيا الأوروبية حتى تصبح قابلة للسكن والازدهار. إن دولة إسرائيل الحديثة تم تصويرها باستمرار على أنها جزء لايتجزأ من "العالم المتحضر" وعلى أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".

لا يعدو تصور تاريخ إسرائيل الـقـديم كـمـا ورد فـي الـقـسـم الأكـبـر مـن التوراة العبرية أن يكون قصة خيالية، وهو بمنزلة اخـتـلاق لـلـتـاريـخ شـأنـه شأن معظم رؤى الماضي التي كـونـتـهـا المجتمعات الـقـديمـة بـل والحـديـثـة أيضاً. فالمؤرخ سواء أكان يسرد التاريخ كتابـيـا أو شـفـاهـيـا يـعـمـل فـي سـيـاق اجتماعي معين في لحظة معينة من الزمان: فالرواية يتم إنتاجها في ظروف اجتماعية واقتصادية معينة بواسطة كتاب يتأثرون بقرائهم المحتملين، وهذا الإدراك يؤثر في الطريقة التي يكتب بها هؤلاء المؤرخون مادتهم. وهذا ينطبق على المجتمعات الحديثة مثلـمـا يـنـطـبـق على المجتمعات القديمة أو "التقليدية".
أما الاختلاف بين تصورات الماضي بالنسبة للمجتمعات القديمة والحديثة فهو يعرض عادة على شكل ثنائية «الأسطورة» و«التاريخ». ولكن هذه ثنائية زائفة تساعد على تأكيد ثقـة الـقـاريء فـي مـوضـوعـيـة المؤرخ الحـديـث فـي مقابل ذاتية الأسطورة. وقد نسأل: «أين تنتهي الأسطورة ويبدأ التاريخ؟» فيما يتعلق بالتوراة العبرية كما تمت الإشارة إليه بشكل متكـرر لا يـوجـد تفريق واضح بين سفر التكوين وما يليه حتى نهاية الكتاب المقدس. وهكذا يستـنـتـج هـيـوز في دراسته الحديثة حول التسلسل الزمني التوراتي أن التسلسل الزمني في سفري القضاة وصموئيل هو خيـال مـحـض اخـتـرعـه اليهود في المنفى لكي يمدونا بمشروع تاريخ عمره 1000 سنة يغطي تـاريـخ وجود إسرائيل في أرض كنعان. وهكذا لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية لتزويدنا بتسلسل تاريخ إسرائيل.



إنكار المكان والزمان على التاريخ الفلسطيني:

في الدراسات التوراتية والكتابات المتخصصة في تاريخ إسرائيل القديم تتم الإشارة للمنطقة الجغرافية على أنها فلسطين، مع عدم الإشارة مطلقاً إلى السكان على أنهم فلسطينيون، وذلك إنما هو إنكار وإسكات للتاريخ الفلسطيني. إن مايقدم دوما هو وصف للأرض ذاتها، أما سكانها فمجهولون أو غير موجودين ويبدأ تاريخ فلسطين عندهم فقط عند بدء تاريخ إسرائيل.

توصف فلسطين على أنها منطقة صغيرة وفقيرة ومعزولة في الدراسات التوراتية، ثم يتغير الوضع وتصبح فلسطين مرموقة فقط بسبب الوجود الإسرائيلي فيها. وهكذا نرى أن الخطاب التوراتي يجعل الفلسطينيين شعبا غير ذي أهمية، وفي نهاية الأمر غير موجود. ففي دراسة الماضي، وفي حقيقة الحاضر، أصبحت فلسطين هي أرض إسرائيل، وأصبح تاريخ إسرائيل هو التاريخ الشرعي الوحيد الذي يستحق الدراسة، وكل ماعداه يصنف تحت فئة دراسة خلفية إسرائيل الحاضرة، والتي تمد الحضارة الغربية بجذورها التاريخية.

لقد تم بفعالية إنكار تاريخ فلسطين وزمانها الخاص، فأصبح موضوعا لطغيان الزمان التوراتي من جراء تقسيم التوراة العبرية إلى فترات جامدة. فتم تقسيم تاريخ المنطقة بشكل متقن في "خانات"، فكانت هناك مرحلة الآباء، ثم الخروج والغزو والاستيطان، ثم تبعتها مرحلة مملكتي داوود وسليمان الموحدتين وممالك إسرائيل ويهودا المنقسمة، ثم المنفى وبعد ذلك الإصلاح. وعلى هذا الأساس يصبح تاريخ المنطقة هو تاريخ الشخصيات والأحداث الأساسية في التراث التوراتي، وإن طغيان الزمن التوراتي هذا يسكت بفعالية التاريخ الفلسطيني، وهذا مادعمته وأكدته الدراسات الغربية.



البحث عن إسرائيل القديمة:

يوضح تاريخ الجدل حول نشوء إسرائيل في فلسطين بشكـل قـاطـع أن خطاب الدراسات التوراتية قد شكـلـتـه الـصـراعـات الـسـيـاسـيـة المـعـاصـرة والمتعلقة بقضية فلسطين ومستقبلها. تبدو الفرضيات التي جاءت بها الدراسات التوراتية الألمانية والأمريكية في ظاهرها كأنها مناقشات حول طبيعة نشوء إسرائيل وجذورها التاريخية، إلا أن هذا ليس نقاشا بين الادعاءات المتـنـافـسـة حـول الـتـاريـخ الماضي كما نفهمه، ولكنه بالأحرى نقاش حول الهوية التي تمكن إسرائـيـل من المطالبة بهذا الماضي. إن الطرق المختلفة لاختلاق إسرائيل التي تقدمها تلـك الـفـرضـيـات جـمـيـعـهـا تـطـالـب بـالـزمـان والمـكـان الفلسطينيين، إنه دائما تاريخ إسرائيل أيا كان فهمنا وإدراكـنـا لإسـرائـيـل هذه، ومجمل القول إنه لا يوجد صراع حقيقي من داخل خطاب الدراسات التوراتية لأن فلسطين و الفلسطينيين لم يعترف لهم بأي حق في هـذا الماضي.

لقد تصدعت السلسلة المتصلة بين المـاضـي والحـاضـر وهـذا الـتـصـدع قوض الادعاءات المعاصرة بملكية المعرفة والـقـوة. فـالإجـمـاع الـذي أحـاط بفترات «النشوء» ومملكة داود ردحا طـويـلا مـن الـزمـان قـد انـهـار بـوتـيـرة مثيرة خلال السنوات الأخيرة الماضية، حتى أصبحت هناك حـاجـة مـاسـة إلى إعادة نظر شاملة في تاريخ العصر البرونزي المتـأخـر وبـدايـة الـعـصـر الحديدي. إن البدء في إعادة النظر هـذه هـو الـذي أدى فـي الأسـاس إلـى الإدراك المتزايد لضرورة إعادة الاعتبار للزمان والمكان للتاريخ الفلسطيني لذاته، كحق له وليس بحجة البحث عن تاريخ إسرائيل القديم.

مـن المـهـم أن نـعـرف كيف أدى البحث عن «إسرائيل القديمة» في الفترة البرونزية المتأخرة وبداية العصر الحديدي إلى هيمنة الرواية الإسرائيلية، وكيف أسكتت تلك الرواية بشكل فعال البحث عن تاريخ فلسطين القديم. وكانت أهم الفرضيات التي أدت إلى فرض الهيمنة في تحديد ماضي اسرائيل هي:
1- الهجرة إلى فلسطين: أدت دراسة ألبرخت آلت التمهيدية بعنوان "حيازة الإسرائيلي للأرض في فلسطين" والتي نشرت عام 1925 إلى تطـور مـا أصـبـح يـعـرف بـنـمـوذج الـتـسـلـل أو الهجرة لفهم جذور إسرائيل، وهو ما تم وصفه عموما بأنه تسلـل أو هـجـرة الإسـرائـيـلـيـين "الـسـلـمـيـة" إلـى فـلـسـطـين.
2- غزو فلسطين: أنتجت مدارس البحث العلمي الأمريكية بـقـيـادة ولـيـام فـوكـسـويـل أولبرايت رواية بديلة لنشوء إسرائيل في فلسطين. وقد ركز أولبرايت اهتمامه على المكتشفات الأثرية الحديثة لتدعيم تراث الدراسات التوراتية كما جاءت في سفر يشوع لإثبات وجود حملة عسكريـة المـفـتـرض أنـهـا قـضـت عـلـى المجتمعات السكانية للفلسطينيين في تجمعاتهم المدنية.
3- الصراع داخل فلسطين: يعود الفضل إلى جورج مندنهول وهو أحد تلامذة أولبرايت في جامعة جونز هوبكنز في صياغة تفسير بديل لجذور إسرائيل تحدى فيه كثيرا من المسلمات المتضمنة في نظريات آلت وأولبرايت. وكان مندنهول قد نشر دراسة عرض فيها برنامجه في البحث بـعـنـوان "الـغـزو الـعـبـرانـي لـفـلـسـطـين" في مجلة «عالم الآثار التوراتي» سنة 1962 ولـكـن الأوسـاط المـتـخـصـصـة تجـاهـلـتـهـا لـبـعـض الـوقـت ثـم أصـبـحـت فـي السبعينيات والثمانـيـنـيـات مـحـورا لجدل حامي الوطيس. وقد أصـبـح مـن الشائع النظر إلى هذه الدراسة على أنها هي التي هزت خطاب الدراسات التوراتية من أساسه فيما يتعلق بجذور إسرائـيـل الـتـاريـخـيـة، وذلـك لأنـهـا هدمت نظرية الغزو والهجرة. إلا أن هذا الرأي الذي أصبح سائدا مضلل بدوره، لأن نظريات مندنهول نفسه كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بآراء أولبرايت الأساسية، ولم تخرج عن نطاق خطاب الدراسات التوراتية بل كانت سجينة لهذا الخطاب الذي كان هدفه البحث عن إسرائيل القديمة باعتبارها منبع الحضارة الغربية، والذي اختلق إسرائيل بالـفـعـل عـلـى صـورة الـغـرب مما ساهم في إسكات التاريخ الفلسطينـي. إن المـفـارقـة فـي أعـمـال مـنـدنـهـول تكمن في أن هناك جوانب مهمة في أعماله تضفي شرعيـة عـلـى الـتـاريـخ الفلسطيني وتجعل له صوتا، إلا أن هذا الصوت سرعان مـا يـتـم الـتـراجـع عنه أو يستبعد بحكم ادعاءات المسيحية بامتلاك الحقيقة.
افترض مندنهول أن العامل الخارجي كان عبارة عن مجموعة صغيرة كـان دورها محفزا لجمهور الفلاحين الفلسطينيين المقهورين والمحتكرين. وفـي رأي مندنهول أن السمة الأساسية لهذه «الثورة التوراتية» كما سماها لـم تكن الثورة الفلاحية المحلية، وإنما الثورة الدينية. وفي الواقـع فـقـد شـكـا فيما بعد من أن تحديد فرضيته القائلة بأصول إسرائيل عـلـى أنـهـا «ثـورة فلاحية» لم يكن موفقا بل كان مضلـلا، لأن هـذا لـم يـكـن إلا وجـهـا ثـانـويـا وربما عرضيا «من الثورة التوراتية».

لقد برهنت التغيرات في المنظورات التي تقرأ بها التوراة العبرية، والتي أثارت تساؤلات مهمة حول مسلمات النقد التاريخي الشائع وكذلك استخدام التراث التوراتي لإعادة بناء الماضي، بالإضافة إلى المعلومات الأثرية المتراكمة من حفريات في مواقع متفرقة، وكذلك أعمال المسح المحلية في فلسطين برهنت على أن تلك النماذج والنظريات المختلـفـة لـيـسـت إلا اختلاقا لماضٍ متخيل. فعدم قدرة النماذج الرئـيـسـيـة الـثـلاثـة لإعـادة بـنـاء ماضي إسرائيل على التعامل مع الشواهد المؤكدة التي أخذت تـتـزايـد فـي الآونة الأخيرة، بالإضافة إلى التقليل من أهمية ما تعتبره نصا ثـابـتـا، كـل ذلك قد ألقى مزيدا من الضوء على مدى اختلاق فكرة إسرائيل.



إنشاء دولة إسرائيلية:

إن جهود الباحثين التوراتيين في البحث عن مملكة داوود ليست ذات أهمية تاريخية وأثرية فقط، فدولة إسرائيل الحديثة تبرر الحق في امتلاك الأرض على أساس تلك السابقة التاريخية، فهي مجرد إعادة بناء لما كان موجوداً في الماضي. فقد أشار إعلان الاستقلال لدولة إسرائيل الحديثة الذي أصدره مجـلـس الأمة المؤقت في تل أبيب في 14 مايو 1948 إلى "إعادة إنشاء الدولة اليهودية". وعلى الرغم من أن الأطماع الصهيونية لم تتحقق إلا في عام 1948 مع قيام دولة إسرائيل الحديثة، فإن الأحداث التي حصلت منذ بـدايـة هـذا الـقـرن تركت آثارا لاتمحى في عقول الباحثين التوراتيين وفي مخيلتهم (وهذا هو الأهم)، حيث كونوا في خيالهم صورة عن الماضي المتعلق بمملكة داوود وكأنه العصر الذهبي للتاريخ الإسرائيلي.
إن الباحـثـين الـتـوراتـيـين وكـذلـك عـلـمـاء الآثار قد بحثوا عن دولة كبرى في العـصـر الحـديـدي، قـويـة وذات سـيـادة مستقلة ومؤسسها الملك داود، وتصوروا أن هذه الدولة قد وجدت بالفعل. وقد هيمنت تلك «الحقيقة» المزعومة على خطاب الدراسات التوراتية خلال معظم القرن الحالي، وأتاحت مجالا لتطويـر كـثـيـر مـن فـرضـيـات الـتـراث التوراتي، وهذه «الحقيقة» المزعومـة أسـهـمـت أكـثـر مـن أي شـيء آخـر فـي إسكات التاريخ الفلسطيني وكانت عقبة في وجه أي روايات أخـرى بـديـلـة للماضي.

كانت فلسطين عرضـة لـلـسـيـطـرة الخارجية في معظم فترات تاريخها، وهذه حقيقة تعترف بها معظم الروايات حول تاريخ المنطقة. إلا أن معظـم المؤرخين الـتـوراتـيـين يـعـتـبـرون أن فـتـرة الانتقال بين العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي هي الاستثناء من هذه القاعدة. وهي الفترة نفسها التي شهدت انهـيـار الإمـبـراطـوريـات الميسينية والمصرية القديمة والحيثية، كما شهدت مايعرف بـ«نشوء إسرائيل». وينظر إلى عام 1200 ق. م على أنه الخط الفاصل في تاريخ المنطقة، ومؤشر على الانحطاط الكبير ثم الغياب اللافت للنظر للسيطرة الإمبريالية. أما الأهم من ذلك فهو أن هذه الفترة تقدم علـى أنها حد فاصل وعلى أنها الفترة التي شهدت نشوء الكيان المستقل «إسرائيل» في التاريخ الفلسطيني، وقد عبرت إسرائيل هذا الحد الفاصل إلى مرحلة «الدولة» في فترة زمنية قصيرة قياسيا. إن تلك الكينونة أصبحت تسيطر، حسب الرواية التوراتية، على تاريخ المنـطـقـة بـدلا مـن الـقـوى الإمـبـريـالـيـة العظمى، أي مصر القديمة، وآشـور وبـابـل وفـارس والـيـونـان ورومـا.

كانت إسرائيل حالة فريدة منفصلة عن واقعها. وكانت دولتها القومية فريدة ولكنها كانت في الوقت نفسه نتاج العمليـة الـتـاريـخـيـة. أمـا الـدلـيـل الوحيد على هذه الخصوصية فهو مستنبط من تعليق على روايات توراتية ينظر إليها على أنها صدرت عن بلاط الملك داود. وهكذا فإن إثبات الفرضيات حول وجود إمبراطورية داودية وحدودها الإقليمية قد استمد من رواية كانت فيها البيروقراطية الداودية تمجد ذاتها. أي أن المؤرخين التوراتيين لا يقدمون أي أدلة تدعم مثل هذه التصورات للماضي.

ظهرت مجموعة أعمال جديدة في الثمانينيات وهذه الأعمـال حـاولـت أن تعيد النظر في فكرة بداية الدولة الإسرائيليـة. ومـعـظـم هـذه الأعـمـال استعانت بما تقول به دراسات العلوم الاجتماعية حول موضوع تكوين الدول، وقد حاول هؤلاء تطبيق تلك المعطيات على المعلومات الجزئية المتوافرة لفهم الانتقال إلى الدولة في إسرائيل القديمة، وبالأخص أثاروا شكوكا حول المصداقية التاريخية للتراث التوراتي، وفكرة أن الـنـظـام الملكي غريب عن إسرائيل أو أنه كان شيئا لا مفر منه، ونظرية أن التهديد الفلستي كان سببا كافيا لتفسير الوصول إلى وضع دولة. وفي السنوات الأخيرة بدأ الإجماع على فكرة وجود مملكة داود يتداعى تدريجيا، وإن كانت هذه الفكرة لاتزال تهيمن على خطاب الدراسات التوراتية. فقد ساعدت بعض الدراسات التي أعادت النظر في فترة تكوين المملـكـة، والتي تحدثنا عنها من قبل على إيجاد مناخ نقدي، إلا أنها لم تتمكـن مـن القيام بنقد جذري متواصل لخطاب الدراسات التوراتية المهيمن. . وقد بدأ التصور المهيمن للماضي في التصدع نتيجة مجموعة العوامل نفسها التـي أدت إلى إعادة النظر في فكرة "نشوء" إسرائيل. والمثير للاهتمام حول تكوين دولة إسرائيلية في العصـر الحديدي هو وجود القليل جدا من الدلائل الأثرية الواضحة المتعـلـقـة بمـا يسمى فترة «المملكة الإسرائيلية». وهكذا فإن خطاب الدراسات التوراتية لم يخلق هذا الكيان إلا بناء على قراءة للتراث التوراتي، أضيفت إليها دلائل وثائقية من خارج التوراة.

إن أبرز سمات الخطاب التوراتي هو غياب أي سجل أثري يتعلق بهذه اللحظة الفاصلة في تاريخ المنطقة. هذا الغياب ساهم بقوة في تحقق الإجماع على إسقاط هذا الماضي المتخيل لأنه دعم الحكم المتحيز للمؤرخين التوراتيـين الذي يفيد أن كتابة التاريخ تعتمد على المصادر المكتوبة. لكن غـيـاب أي سجل أثري يثير أخطر الشكوك حول تصور إمبراطورية إسرائيلية كانت تعبيرا عن حضارة نهوضية مـجـيـدة بمـا يـوحـي بـأنـنـا بـصـدد مـاض متخيل. إن أي فكرة لها معنى معقول عن إمبراطورية داود وتحقيق «إسرائيل الكبرى» التي تصور باستمرار على أنها استثناء في تاريخ المنطقة يوصف بأنه غير مجرى التاريخ لابد أن تكون قد وجـدت مـا يـؤيـدهـا فـي الإنتاج البيروقراطي للحضارة المحيطة أو أن تترك شـواهـد مـلـمـوسـة فـي الآثار المادية بالمنطقة.
كثيرا ما يقال إنه على الرغم مما ورد في التـوراة مـن أن سـلـيـمـان قـد تزوج من ابنة الفرعون ـ وكان هذا إنجازا لافـتـا لـلـنـظـر إذا مـا أخـذنـا فـي الاعتبار أن مثل هذه الأمور كانت ممنوعة على الملوك الحثيين ـ فإن الوثائق الأثرية المصرية المتوافرة لم تذكـر شـيـئـا عـن هـذه الحـادثـة المـهـمـة.

لقد تضافرت عوامل متعددة ـ مثل تغير أساليب البحث في النظر إلى النص التوراتي، والافتقار إلى الشواهد الآثارية، وضعف البنى التحتية في فلسطين مقارنة مع القوى الأخرى في العالم القديم ـ هذه العـوامـل تـهـدم ادعاءات الدراسات التوراتية التي تزعم اكتشاف وجود إمبـراطـوريـة داوود ودولة إسرائيلية هيمنت على تاريخ فلسطين، وهذا يعني أن تاريخ فلسطين حرر من قبضة الماضي المتخيل الذي تدعي إسرائيل وحدها حق المطالـبـة به. لقد نجحت دولة إسرائيلية أو إمبراطورية خيالية فـي إسـكـات صـوت أي فـهـم آخر للماضي. إن «الإمبريالية» كما قال إدوارد سعيد هي عمل عدواني جغرافي يتم عمليا بواسطته اكتشاف كل جزء من العالم، ورسم خرائط له والسيطرة عليه فـي الـنـهـايـة. لـقـد سـاهـمـت الدراسات التوراتية في هذا العمل الإمبريالي من خلال الإسهام في خلـق تصور عن الماضي أنكر أي مطالبات أخرى بهذا الماضي. هذا الفهم للماضي كانت له آثار سياسية عميقة إذ أكد وأيد ادعاءات إسرائـيـل الحـديـثـة فـي الأرض في مقابل ادعاءات الفلسطينيين في الماضي وفي الأرض.

إن الخطاب المهيمن للدراسات التوراتية متورط في عملية تجـريـد الـفـلـسـطـيـنـيـين مـن ماضيهم وأرضهم بتكراره المستمر لعدد من الادعاءات التي تربط الماضـي بالحاضر: كالادعاء بامتلاك الأرض والتركيز على فساد وعدم كفاءة وفشل الأنظمة السياسية المحلية في الوصول إلى ذروة الحضارة، وتأكيد الحاجة إلى مهاجرين قادمين من خارج فلسطين لتحقيق إمكانيات الأرض، ومفهوم الإمبراطورية «الدفاعية» وكذلك فكرة «إسرائيل الكبرى». إن الإصرار على الاستمرارية بين الماضي والحاضر لا ينظر إليه إلا في إطار الاستـمـراريـة بين إسرائـيـل الـتـي حـكـمـهـا داود ودولـة إسـرائـيـل المـعـاصـرة. أمـا الـشـعـب الفلسطيني فليس هناك أي مفهوم مماثل لأي استمـراريـة لـه بـين المـاضـي والحاضر. ولن يصبح بإمكاننا بحث وتحقيق وفهم تاريخ فلسطين في العصر الحديدي إلا عندما يتم الاعتراف بأن إمبراطورية داود وهم لا أسـاس لـه من الصحة، وتحقيق إعادة تنظيم المجتمع الفلسطيني بحيث تكون إسرائيل حـزءا مـن هذا الواقع ولكنها ليست أبدا العامل المهيمن الذي يستبعد كـل الأصـوات الأخرى.



رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني:

لقد استأثرت الدراسات اللاهوتيـة والـديـنـيـة من خلال خطاب الدراسات التوراتية بحق تمثيـل التاريخ الفلسطيني القديم في فترة العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي وفترات أخرى كثيرة غيرها. ولـقـد تـزامـن اهـتـمــام أوروبــا الاستراتيجي بفلسطين مع سـعـيـهـا لمـعـرفـة جـذور حضارتها كما حددتها إسرائيل القديمة والـتـوراة. فـقـد صورت اسرائيل بأنها دولة ناشئة بحيث تبحث عن وطن قومي تستطيع أن تعبر فيه عن وعيها القومي. وفي القرن العشرين هيمن هذا الإسقاط لإسرائيل القديمة على فترة العصـر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي. وقد ازدادت أهمية هذا التمثيل للماضي وأصبح أكثر نفوذا مع صعود الحركة الصـهـيـونـيـة الـتـي هـي فـي جوهرها مشروع أوروبي، وكان تـاريـخـهـا ينظر إليه على أنه مرآة عاكسة لغزو إسرائيل القديمة للأرض الذي أعقبه إنشاء دولة قومية تمكنت بسرعة من السيطرة على المنطقة. وبشكل عام فإن مانراه هنا هو رواية أصل كانت في جوهرها جزءا من «النتائج الحتمية» للـدراسـات التوراتية، وقد ظلت حتى السبعينيات دون أن يشك أحد في صحتها على الرغم من إعادة النظر في العديد من التفاصيل. لم يكن هناك أي شك في أن هذا التاريخ هو تاريخ «إسرائيل» والأرض هي أرض «إسرائيل». أما حق الشعب الأصلي في هذه الأرض أو حقه في معرفة تاريخه فلم يكن له أي أهمية تذكر في ذلك السياق.

تدل ردود الفعل الحادة على التواريـخ الـتـي تـسـعـى إلـى تـصـحـيـح هـذا الوضع منذ أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات على أن الإجماع قد بدأ بالتصدع، وأن الرواية الأصل لم يعد من الممكن الإبقاء عليها والدفاع عنها إلا بصعوبة. إن الاتجاه منذ الثمانينيات نحو نشر مؤلفات أصغر حجما بكثير حول تاريخ إسرائيل القديم وتاريخ يهودا، وهي المؤلفات التي تتصدرها عادة مقدمات نقدية أطول، يدل على أننا وصلنا الآن إلى نقطة حرجة في تمثيل تاريخ المنطقة. وحتى يعطى صوت لتاريخ فلسطيني بديل، وإلى قراءة ما بعد استعمارية متجانسة ومنسجمة لتاريخ فلسطين القديم فإنه لا غنى عن بناء خطاب بلاغي للتاريخ الفلسطيني خاص به.

لا يـزال الصراع حول التاريخ الفلسطيني في بداياته الأولى. وحتى يكتب له النجاح، سوف يكون من الضروري تعرية المصالح السياسـيـة والـديـنـيـة الـتـي كـانـت الدافع وراء اختلاق إسرائيل القديمة في خطاب الدراسات التوراتية. سوف يحتاج التاريخ الفلسطيني أيضا إلى أن يخلق لنفسه فضاء حتى يتمكن من إنتاج روايته الخاصة للماضي، وبهذا يساعد في استـعـادة صـوت الـسـكـان الأصليين الذي تم إسكاته في خضم اختلاق إسرائيل القديمة.. إذا كان سيتسنى للتاريخ الفلسطيني أن يتحرر من قيود الدراسات التوراتية، وهذا شيء لا بد منه ولو شئنا أن يكون له صوت مسموع، فلا بد له أن يخلق فضاءه الخاص به أو الدخول في منافسة مـع المواقع الموجودة حاليا. ليس من الواضح أين سـيـكـون مـوقـع هـذا الـفـضاء الذي سيسمح بسرد تاريخ فلـسـطـين الـقـديم. ولا بـد فـي الـبـدايـة مـن أن يحدث النزاع في المواقع الأكاديمية الموجودة الآن ضمن أقسام الدراسات التوراتية والموضوعات القريبة منها. وهذا يعني في المحل الأول أنه سيحدث داخل أقسام وكليات اللاهوت. إن سبب هذا هو أن المهمة الأكـثـر إلحـاحـا هي حاجة القائمين على تلك الدراسات إلى إعادة النظر في مهمتهم فيما يتعلق بتطور الدراسات التوراتية في سياق المشروع الاستيطاني. والمهمة المطلوبة هي إيضاح الدوافع الـسياسـية لـلدراسات التوراتية وتصورها للماضي. وسوف يحتاج هذا أيضا إلى التحقيق في المادة الموجودة والمتوافرة في السجلات حتى نتيح إعادة النظر للدوافع والمصالح التي ظلت من وراء الستار في الكتابات العامة لهذا الفرع من المعرفة.
إن إنجاز هذه المهمة بجدية كافية هو وحده الذي سيجعل مـن الممكن انتزاع التاريخ الفلسطيني وتحريره من قبضة المصالح الـتي سـاهمت في إسكاته طوال هذه المدة الطويلة مـن الـزمن، ومن ثم المطالبة بموقع للتاريخ الفلسطيني ضمن الخطاب الأكاديمي في أقسام التاريخ، والـذي تجاهله هذا التاريخ على أساس أنه جزء من تاريخ إسرائيل القديمة المستند إلى التوراة. لكن التحدي الرئيسي يظل في إعادة اكتشاف التراث الحضاري والثقافي والفني لفلسطين القديمـة، والـذي نـشـهـده مـن خـلال الـنـصـوص المكتوبة وأشكال التراث الأخرى، ومنها التوراة العبرية، والأواني الفخارية والمصنوعات اليدوية، والأبنية التذكارية، والآثار المادية، وهذه كلهـا تـشـهـد على منجزات سكان فلسطين .وهذه بالتأكيد فكرة تستحق السعي وراءها.



#مصطفى_سامي (هاشتاغ)       Mustafa_Samy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طبيبة بكامل ملابسها
- ماوراء بايدن
- الثابت والمتغير
- ضحايا جوع الاضطرار
- حكاية عن الظلم (١)
- صِراعُ الفُرس والعَرب.. إلى متى؟
- مُسَافِر لايَصِل
- إله الشرّ في القرآن
- الشتات -قصة تحدث كثيرا-
- الافتخار بالجهل


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مصطفى سامي - كيف سرقت إسرائيل التاريخ الفلسطيني؟