أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى سامي - مُسَافِر لايَصِل















المزيد.....

مُسَافِر لايَصِل


مصطفى سامي
كاتب

(Mustafa Samy)


الحوار المتمدن-العدد: 6167 - 2019 / 3 / 8 - 09:55
المحور: الادب والفن
    


١ مَلَل:
ـــــــــــــ
الساعةُ الواحدة بعد منتصف الليل بتوقيت القاهرة - جهة الإقلاع- والسابعة صباحاً بتوقيت بكين - جهة الوصول -
أشعرُ بالقلق وأنا جالسٌ في تلك الطائرة الصغيرة. الجميعُ نائمون، وأنا مستيقظٌ وحدي أراقبُ السحابَ وأنتظر لحظة الوصول.
رغم أنني أسافر كثيراً، لكنني لم أعتد السفر وحيداً. في طفولتي كنت أسافرُ مع أبي، والآن أسافرُ مع زوجتي، لكنها لم تستطع مرافقتي هذه المرة، بل لم تُرِد ذلك لأكون صريحاً.
قررتُ التسلّي بالكتابة، عادتي القديمة التي هجرتُها منذ سنين بعد أن اختفى الفراغُ تماماً من يومي، وصار الروتين يأسرني بين العمل والمنزل.
طالما سرقني الروتين، سرق الروتين أياماً وسنينَ من حياتي حتى كاد يقتلني قبل أن أموت؛ الآن أفكر في طريقةٍ لأقتله أنا قبل أن يفعل.
لقد قررتُ أن أبدأ بفعل ذلك الآن، سأضيفُ بعض الإثارةِ لحياتي، حالاً..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

٢ خَوْف:
ـــــــــــــــــ
أنا الآن محتجزٌ في أحد فنادق بانكوك - عاصمة تايلاند - ليس معي سوى قلم رصاص وبعض الأوراق التي وافق ضابط الأمن على تركها معي بعد الكثير من الإلحاح؛ أخذوا مني كل شيء، حتى هاتفي واحتجزوني بتلك الغرفة التي يقف على بابها رجُلَي شرطةٍ مسلحان.
لاأُنكر أنني أشعرُ الآن بالخوف الشديد، فربّما تنقلب تلك الدعابة التي قمتُ بها ضدّي، رُبّما أخسر بسببها سمعتي وعائلتي، ربّما أُسجَن وأفقد حريتي، بل وربّما حياتي لو تطور الأمر!
ليست هذه المرة هي الأولى التي أشعر فيها بمثل ذلك الخوف الشديد. في الواقع، حياتي مليئة بالخوف. أنا لا أتحدث في الدين خوفاً من الله، ولا أتحدث في السياسة خوفاً من رجل البوليس، ولا أتحدث عن حياتي الخاصة خوفاً من الفضيحة، ورغم أنّ الشكوك تملؤني دائماً حول كل شيء، لكنها تبقى للأبد محبوسةً داخلي.
فكرتُ في الانتحار كثيراً، لكنني لم أحاول أبداً. كنتُ أقرأ عن طرق الانتحار في شبابي، بحثتُ عن طريقةٍ للانتحارِ بلا ألم، ونجحتُ في الوصول لعدة طرقٍ لفعل ذلك، لكنني لم أفعل، منعني الخوفُ. كنتُ أخشى دخول النار، أو ربما كنت أخاف من الموت في ذاته وكانت تلك حجّتي لتعليل خوفي. لازالت تطاردني الكوابيسُ حتى اليوم، وأنا في الرابعة والخمسين، كوابيسٌ تدور معظمها حول الموت، أموتُ في الكابوس فأقوم مفزوعاً أتحسّس أجزاء جسدي وأُقلّب عيناي في أنحاء الغرفة لأتأكد أنني مازلتُ على قيد الحياة؛ أو ربّما يموتُ أحدُ معارفي فأشعر بنفس الفزع، وأتصل به لأطمئنّ عليه.
قرأت يوماً مقولةً لفولتير: "الخوف يتبع الجريمة، وهذا هو عقابها" أستطيع أن أفهم تلك المقولة تماماً الآن.
هناك صوتُ خطواتٍ تقترب من باب الغرفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

٣ حُبّ:
ــــــــــــــ
سلّمني أحد رجال الأمن رسالةً من السفارة المصرية هنا في بانكوك. لاشيء يتعلق بتفاصيل قضيتي، فقط يخبرونني أنّهم تواصلوا مع أهلي في القاهرة وحكوا لهم ماحدث.
أتساءلُ عن شعور زوجتي الآن، لابُدّ أنها في حالة ذهول، وربّما لم تصدق حين سمعت الخبر أو حتى وبّخت من أوصله لها. إنّها عصبيّةٌ جداً حين يتعلّق الأمرُ بي، فأنا كلّ حياتها تقريباً، وهي أيضاً كلّ مابقي في حياتي.
في الثالثة من عمري توفيّت أمّي أثناء ولادة أختي، وتحمّل أبي وحده عناء تربيتنا. عاش أبي بعدها مايقارب الثلاثين عاماً علمني خلالهم كل مايتعلّق بعمله، لم يتزوج ثانيةً وكان يبكي في أواخر أيّامه ويتحدث عن أمّي كثيراً، يحكي كيف كانت جميلة وأنها ماتت في عزّ شبابها وتركته قبل أن يحقّقا أحلامهما التي تخيلانها معاً، حلم شراء بيت كبير، وحلم إنجاب الكثير من الأبناء والبنات والأحفاد واجتماعهم حولهما في ذلك البيت. واليوم هاهو في بيتٍ كبير بالفعل، لكنه في غاية الضيق لأنّهُ يخلو منها، ومن أختي أيضاً التي نادراً مانراها بعد أن تزوجَت، أنا فقط كنت معه حينها، لم أكن قد تزوجْتُ بعد، ولم أَكُن قد أخبرته بعد بذلك الحبّ الجديد الذي باغتني في أوقات العمل الرسمية. كنتُ على يقينٍ أنّها وعكةٌ مؤقتة وأنه سينهض منها سريعاً كعادته وأحكي له كلّ شيء لنرتّب معاً إجراءات الزواج، لكنه لم يفعل، قبل أن يموت بعدّة أيّام قال لي سألتقي أمّك في الجنة قريباً، فقلت له: "لاتـقُـل ذلك، ربّنا يدّيك الصحة ياحاج"، فابتسم ولم يرد.
أجّلَت وفاةُ أبي أمر الزواج مايقارب العام، ثمّ تقدمت لخطبتها وتزوّجنا بعدها بخمسة أشهر. التقينا لأوّل مرة في زفاف أحد أصدقائي، كانت تجلس على الطاولة المجاورة لطاولتي، التقت أعيننا بضع مراتٍ وحدث انجذابٌ ما بيننا.
انتهت الليلة وعُدنا إلى منازلنا وانتهى الأمر - أو هكذا ظننت - لم تكن تلك المرة الأولى التي يحدث فيها موقف كهذا لكن وقتي المشغول وعقلي الناضج لم يسمحا لي بالتفكير كثيراً بالموقف أو الاهتمام بالأمر والبحث وراءه.
في المرة الثانية التي التقيتها فيها اختلف الأمر، ولم أستطع التجاهل كالمرة الأولى. سيطر ذلك الشعور بالانجذاب على جسدي وعقلي تماماً. تبين أنها ابنة أحد المديرين في شركتنا، وفي المرة الثانية التي رأيتها فيها كنا مدعوّين إلى عشاء عملٍ في منزله، كثيراً ماسألتها مداعباً إن كان لها دور في تدبير هذا العشاء ودعوتي إليه، لكنّها دائماً تُنكر ذلك.
لمْ أشعر بمثل هذا الانجذاب لأحدٍ منذ خطوبتي الأولى التي لم تكتمل، كان ذلك منذ سبع سنوات وكنتُ حينها في الخامسة والعشرين؛ اليوم أكملت الثانية والثلاثين وبدأ الناس يتعجّبون ويتسائلون كيف لم أتزوج حتى الآن! خاصةً وأنه لايوجد مايمنع ذلك من ظروفٍ مادية أو عائلية، لكنّ الأمر بالنسبة لي كان أنّني لم أجد الشخص المناسب بعد، ولم يكن يهمني متى يحين الوقت بقدر ما يهمني أن أكون مع الشخص المناسب حين يأتي ذلك الوقت.
كانت توزّع الطعام على الطاولة في حديقة فيلا والدها، والتقت أعيننا عدة مراتٍ خلال ذلك كالمرة الأولى، وشجعتني ابتسامتها اللئيمة لأخذ خطوةٍ ما، فقلت لها بصوتٍ منخفضٍ ومرتعش حين وقفت بجانب الكرسي الذي أجلسُ عليه: "غداً في ميدان القلعة الساعة الخامسة"، لم تُبدِ أيّ ردة فعل، ولم أكن متأكداً إذا ماكانت قد سمعتني أم لا؛ لكنني ذهبت لانتظارها قبل الموعد بساعة. أتت هي أيضاً قبل الموعد، وكم كنتُ سعيداً حين رأيتها أمامي! حتى الآن تسري نفس القشعريرة التي سرت بجسدي حينها كلما تذكرت ذلك الموقف أو تحدّثتُ عنه، كان مزيجاً من الإحساس بالفرحة والإثارة مع القلق والخوف.
تقابلنا بعدها كثيراً، عرفنا كل شيء عن بعضنا البعض، كل شيء عن أحداث حياتنا، أفكارنا وقناعاتنا، انتماءاتنا السياسية، أذواقنا الفنية والأدبية، وحتى تفاصيل أجسادنا. عند زواجنا كنتُ قد فقدت أمي وأبي ولم أعد أرى أختي تقريباً واكتشفتُ مؤخراً أنّني أُعاني مشكلةً طبية ستحرمني من الأبناء، لذا لم يعد لي في الحياة سواها، الزوجة والأخت والأم والإبنة والصديقة والرفيقة حتى في رحلات العمل.
أشعرُ برغبةٍ في النّوم الآن، الساعةُ المعلقة على حائط الغرفة تشيرُ إلى العاشرة وأنا لم أنم منذ صباح الأمس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

٤ جُنُون:
ــــــــــــــــ
استفقتُ للتوّ من كابوسٍ مرعب، كنتُ أقف على طاولةٍ صغيرةٍ جداً، بالكاد تكفي موضع قدماي، ويقف حولي الكثيرُ من الناس، كثيرون لاأعرفهم وبعضٌ ممن أعرفهم من الأحياء والأموات، بينهم أبي وزوجتي وحتى بائع الجرائد وحارس العمارة وآخرون، ينتظرون جميعاً لحظة إعدامي بوجوهٍ باردة لاتبدو عليها أيّ أحاسيس؛ ثم يأتي رجلٌ ضخم فيضرب بإحدى قدميه الطاولة لتطير من تحت قدماي وأسقطُ مُعلّقاً من رقبتي فقط بحبل المشنقة. أحِلّ يداي من رباطهما وأحاول فك الحبل من رقبتي وأضرب الهواء بقدماي وأحاول الصراخ وطلب النجدة فلا أستطيع، والجميعُ حولي لايزالونَ واقفين ثابتين يتفرّجون بنظراتهم الباردة. ظللتُ هكذا بين الحياة والموت حتى استيقظت مفزوعاً.
لاأعتقدُ أنّ ماقمتُ به هناك في الطائرة يستحق ّ الإعدام، لكنّني خائفٌ جداً، فمنذ طفولتي كنتُ ذلك الشخص المسالم الذي لايقوم بفعل أية مصائب أو حتى ألاعيب صغيرة خوفاً من عواقبها. لاأذكر أنّني خالفت القوانين ولو لمرة واحدة، وأنا الآن في بلادٍ لاأعرفُ شيئاً عن قوانينها حتّى.
كنتُ خائفاً من كتابة شيءٍ عمّا فعلته في الطائرة حتى لايؤخذ كدليلٍ ضدي لو وجدوا تلك الأوراق، لكنّني الآن أشعر أنّه لو قرأها أيّ أحد فسيشعر بالشفقة، وعلى أي حال فقد شاهد عشرات الركاب ماحدث وتم تسجيله بالتأكيد ولن تضيف إعادة كتابة الأحداث شيئاً. كنتُ أحبّ القراءة عن حوادث الطائرات بما أنّني كنتُ كثير السفر، ومن بين تلك القصص كانت هناك حادثة اختطاف غريبة لطائرة تمّت باستخدام مسدّسٍ على شكل قلم؛ وقد أوحت لي تلك القصّةُ اليومَ بفكرةٍ في غاية الجنون.
كانت تجلسُ بجانبي امرأةٌ جميلة تبدو في الثلاثين من عمرها وقد نامت وهي ممسكة بمجلةٍ تقرأها. أخرجتُ قلمَ رصاصٍ من حقيبةِ يدي، قرّبته من رقبتها بيداي المرتعشة وحين التصق سنّ القلم برقبتها حتى كاد ينغرس داخلها شعرَتْ به فاستيقظت، وصِحتُ فيها: "قومـي". استيقظَ الجميعُ فزعين، وأتت إحدى المضيفات مسرعةً حين سمعت صوتي لتتحرى الأمر. صِحتُ ثانية: "اثبتوا في أماكنكم"، وجذبتُ الامرأة الثلاثينية نحوي لتصبح إحدى يداي ممسكة بشعرها من الخلف واليد الأخرى ممسكة بالقلم الملتصق برقبتها، وقد ساعدني على سهولة التحكم بالأمر أن جسدها كان حجمه صغير، أصغر بكثير من جسدي الضخم. لم يبدُ الجميع خائفين جداً كما كنتُ أتوقّع، لكنّهم أيضاً لم يقوموا بأيّة حركة ونظروا جميعاً نحوي وكأنّهم يتفرجون على فيلم ما وليسوا مختطفين في طائرة، أشعرني ذلك بالإهانة فصحتُ في الجميع: "سأقتلها خلال دقائق إذا لم تنفّذ مطالبي". بمجرد إنهاء الجملة وصل شخصٌ يرتدي ملابس مدنية ويوجّه مسدساً نحوي، صِحتُ فيه بألا يقترب، فسألني بالإنجليزية: "ماهي مطالبك؟". تردّدت لحظة، ثمّ قلت له: "ألقِ السلاحَ أولاً"… في هذه اللحظة يبدو أنه شعر بترددي فقال بصوتٍ عالٍ وقد صوّب مسدسه نحو رأسي: "اترك المرأة، ألقِ القلم اللعين على الأرض، وضع يداك خلف رأسك.. الآن". شعرتُ بالذعر الشديد حينها، يمكنه أن يطلق النار على رأسي وسأموت قبل أن أستطيع فعلَ أي شيء، وحتى لو لم يطلق النار ماذا سأفعل، بالتأكيد لن أقتل أحداً! لقد كانت مجرد دعابةٍ مجنونة، لكنّ الأمر تطوّرَ سريعاً وبشكل جنوني، وقد حان الوقت لإنهاءه.
تركت المرأة وألقيت القلم على الأرض، فاتجه نحوي رجل الأمن بسرعة ودفعني لأسقطَ جالساً على الكرسي الفارغ ورائي، ثم أخرج كلابشات من الجاكت الذي يرتديه وقيّدني بها.
كانت الطائرةُ حينها قد اقتربت من محطة الترانزيت في بانكوك حيث سلمني رجلُ الأمن بالطائرة إلى رجال أمن المطار، والذين اصطحبوني إلى هنا بعد أن انتظرت مايقارب الساعة في مكتب الأمن بالمطار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

٥ أَلَمْ:
ـــــــــــ
أخيراً أستطيع الكتابة مجدّداً.. لم أكتب شيئاً منذ كنت في ذلك الفندق ببانكوك منذ ثلاثة أشهر. تم ترحيلي بعدها إلى هنا حيث استلمتني الشرطة المصرية في مطار القاهرة، وتوجهت بعدها إلى مباحث أمن الدولة ليتم التحقيق معي على مدار شهرين رأيت فيهما كل أنواع العذاب التي كنت أظنها لاتوجد إلا في الأفلام والروايات فقط، والتي لم أكن أتخيل يوما أن جسدي يستطيع تحملها.
حاولوا انتزاع اعترافات مني عن الهدف مما فعلت، ومن يقف ورائي، والمنظمة التي أنتمي لها، والكثير الكثير من الأسئلة التي لم أمتلك جواباً لها، فهم لم يصدقوا بالطبع أنني كنت أفعل ذلك فقط لكسر الملل!
أنا الآن متهمٌ رسمياً بالشروع في القتل، ومحتجز على ذمة القضية في انتظار اكتمال التحقيقات والمحاكمة. لم أعترف بأي شيء سوى الحقيقة أمام كل من حقق معي، من الظباط أو النيابة، سواء كنت تحت التعذيب أم لا.
زارتني زوجتي منذ أسبوع واعترفت لها بذات الحقيقة، قالت لي أني تغيرت كثيراً في الأيام الأخيرة وأنها بغض النظر عما ستؤول إليه تلك القضية فلن تكون مطمئنة بالعيش معي على حالتي تلك. نصحتني أخيراً بطلب علاج نفسي إذا أمكن ذلك، وطلبت مني تطليقها، فرفضت. اليوم عرفت أنها قد رفعت قضية خلع ضدي، وكم كان الأمر مؤلماً بالنسبة لي أن تسعى لإنهاء كل تلك السنين من الحب والعِشرة فقط لأنني تغيرت لأيام!
كان ذلك مادفعني للبحث عن قلم وورقة للكتابة، كلفاني علبة سجائر دفعتها لأحد حراس السجن. أردت أن أفرغ طاقة الغضب وإحساس الحزن داخلي في شيء ما، واخترت تلك الورقة المسكينة لتؤدي ذلك الدور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

٦ سَعَادَة:
ــــــــــــــــــ
يالها من مفاجأة! قابلت اليوم أحد أصدقاء الطفولة وجار الحي القديم الذي كنّا نسكن فيه وغادرناه منذ حوالي أربعين عاماً، زمن طويل للغاية لكنه لايكفي لنسيان كل تلك الذكريات السعيدة التي عشناها هناك. قابلته هنا في فناء السجن وعرفنا بعضنا مباشرةً، يقول أنه متهم في قضية نصب وأنه بريء، ولاعجب فالجميع هنا يقولون أنهم بريئون، إلا أنا أعترف بما فعلت وأحكي قصتي للجميع بكل فخر.
كنا ندعوه في طفولتنا بندق، وكان بندق هو الصديق الأقرب لي من بين كل أبناء الحي، الوحيد الذي كنت أثق فيه لدرجة السماح له بزيارتي في المنزل، ومشاركته كل أسراري. حين لعبت الكرة لأول مرة كان بندق معي، وحين دخلت أول شجار كان بجانبي، عندما أحببت أول فتاة في حياتي لم أحكِ عنها لأحد إلا له، وحين بلغت سن المراهقة وسيطر التفكير في الجنس على تفكيري لم أتحدث مع أحد عن ذلك الأمر الذي كنا لانزال نخجل منه إلا مع بندق.
لم أشعر بتلك السعادة التي جلبها بندق معه منذ زمن طويل. لقد جلب معه الماضي ببساطته والطفولة ببراءتها ورغم أننا نجلس الآن كمتهمين في ذلك السجن بأجسادنا لكننا نسينا كل ذلك وعادت أرواحنا أكثر من أربعين عاماً للخلف، حتى أن كل من في السجن سمعوا قهقاتنا ونحن نعيش معاً تلك الحكايات القديمة الجميلة.
تضائل صوت الضحكات شيئاً فشيئاً ونحن نقترب بحكاياتنا من الحاضر حتى اختفى تماماً. عرفت أنّه يعمل صحفياً الآن بأحد المجلات، وطلبت منه مداعباً أن ينشر قصتي التي أكتبها الآن لو استطاع الخروج من هنا والعودة إلى عمله، أخبرني أن مكانه في المجلة محفوظ وأنه واثق من إمكانية إثبات براءته والخروج من السجن، ووعدني أنه سيحاول بالفعل نشرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"انتهت القصة"

يقضي جمال الآن حكماً بالسجن المشدد لخمسة عشر عاماً، مرّ منهم عامان فقط، أزوره من فترةٍ لأخرى، يقول لي أنه لازال يعيد نفس القصة بفخر لكل من يقابله، وأنه يشعر بالاستخفاف في أعين كلّ من يسمعها، لكنّ ذلك لايقلل من إعجابه بنفسه حين قرّر كسر الروتين وفعل شيء مختلف. يُخبرني أنه لم يكن ينوي أبداً إيذاء أحد، وأنّ الحكم مبالغٌ جدّاً فيه، حيث عاملوه كإرهابي حاول اختطاف طائرة وارتكاب جريمة قتل. أتمنى أن يحصل يوماً ما على عفو أو تخفيف للعقوبة، فلم يبقَ في عُمره الكثير.
وعدتهُ أنّني سأنشر قصته، ووعدني أنه سيخرج وسنُزور معاً حيّنا القديم وبقية الأماكن التي كنا نتنزه بها في طفولتنا حين يخرج من سجنه، وهاأنا أوفي بوعدي وأنتظرُ منك الوفاء بوعدكَ ياصديقي يوماً ما.

مدحت صابر
مجلة أخبار الناس



#مصطفى_سامي (هاشتاغ)       Mustafa_Samy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إله الشرّ في القرآن
- الشتات -قصة تحدث كثيرا-
- الافتخار بالجهل


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى سامي - مُسَافِر لايَصِل