أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - السياسة















المزيد.....


السياسة


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 6838 - 2021 / 3 / 12 - 14:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عندما نتكلم عن السياسة ، فالمقصود ليس مجرد التفلسف لإبداع اشكال النظم ، والحكم كترف فكري ، لكن المقصود هو التفكير في طريق الوصول الى الحكم والتحكم فيه .. وهنا فان المقصود كذلك ، ليس المشاركة السياسية في ظل قوانين رجعية ، ومتخلفة ، وجبرية قاهرة ، لا تُستساغ الاّ في الأنظمة الاستبدادية ، والطاغية ، والدكتاتورية ... لكن المقصود هو كيف الوصول الى الحكم لتطبيق برنامج الحزب ، او الأحزاب التي تحضر لاستلام الحكم ، لان أي حزب مهمته الأولى والاساسية هي السيطرة على الحكم ، لإلغاء نظام الحكم السابق الذي استأثر لوحده بالسلطة ، والجاه ، والنفود .. لكن هذه السيطرة كيف ...
ان طرح سؤال ال (كيف ) ، يفرض أوتوماتيكيا طرح السؤال الأساس : من هم هؤلاء الذين يفكرون ، ويحضرون لاستلام الحكم ، بالإطاحة بالحكم القائم ، وبناء حكم جديد يستجيب لرغبات ومطامح الشعب ، والجماهير ، او يستجيب لمطامح ورغبات طبقة يمثلها الحزب ، او الأحزاب التي تتنافس ليس على المقاعد النيابية ، لكنها تتنافس في السبق لأداء ضريبة الوصول للسيطرة على الحكم ...
واذا عدنا الى التاريخ كما صنعه الثوار والمفكرون ، سنجد ان فلاسفة السياسة ، هم المنظرون الاساسيون .. ، والمثقفون العارفون ، هم الموجهون والقائدون .. ، وبقية الشعب الكادح ، هم أمواج الاكتساح العام ، للحسم مع مرحلة ، والشروع في أخرى ، ولو بمسميات مختلفة ..
إذن . فاذا كان الفلاسفة على قلتهم هم الموجهون ، فان المثقفين على مستوى عددهم هم المندفعون ، والمحرضون للأمواج العاتية ، كي تجرف في طريقها كل حثالة طاغية ، او أشياء متحللة ، او اطلال راشية ... لذا فالمثقفون هم عصب التغيير الذين يُنشطّون السياسة للوصول الى الحكم .. لخدمة البرنامج والمشروع ، المفروض ان يقام على أساس بناء فكري جديد ..
وهنا نتساءل : لماذا فشل ما يسمى ب ( الربيع العربي ) ؟
هل لان انطلاقته لم يرسمها فلاسفة ، ولم يفعل فيها مثقفون ، وغابت عنها جماهير الحسم ، التي وحدها تستطيع فرز الجديد في الساحة ، وفي الكون ...
يبدو ان ازمة السياسة ، وأزمة الحكم في البلاد العربية ، وعندنا في المغرب ، هي ازمة غياب فلاسفة ، وأزمة مثقفين عاجزين ، افتقدوا آليات الوصول الى القضية التي رغم انهم آمنوا بها ، فانّ ايمانهم لم يكن يقينيا ، بل كان على درجات مختلفة ، حتى ان الأكثرية استعملت القضية كبضاعة ، للمتاجرة بها مع حكام المعبد ، الذين نجحوا في افراغهم من شعاراتهم واناشيدهم ، وحتى عندما عصروهم على طريقة تعصير الحامض ، رموا بهم في الجانب ، بعد ان اضاعوا شيئا كان يسمى قضية ، وعندما اصبحوا بدون قضية ، تحولوا من مثقفين ثوريين همهم القضية ، ليصبحوا مجرد مدّاحين ، طبالين ، وزمارين ، يرقصون على نغمات وسمفونيات الحكم ، الذي سهروا الليالي يفكرون ويدردشون طريقة الانقضاض عليه ، فاصبحوا عن طيب خاطرهم ، وبإرادتهم من اكبر خدامه .. فعندما يفقد المثقف القضية ، يفقد معها صفة المثقف الذي لن يكون الاّ مدافعا عن القضية ...
ان هذا يدفع بنا الى البحث في أسباب ازمة المثقفين في البلاد العربية قاطبة ، لان ما نطلق عليهم اليوم اسم المثقفين في العالم العربي ، وقد فشلوا ، هو تلك المجموعة من الناس ، التي تحاول ان تتميز عن غيرها ، من القاعدة العامة / الرعاع ، بانها تجعل من التفكير في الشأن العام الذي هو السياسة ، احد همومها الرئيسية ، وتشارك في الصراع الاجتماعي والسياسي ، من اجل دفع هذا الواقع حسب الرؤى التي تراها .. ، مشاركة قد تتخذ اشكالا مختلفة ، سياسية ، وفكرية .. وهو ما يتفق و مفهوم الانتلجانسيا الكلاسيكي ، ويعني ، ان هذه المجموعة ليست بالضرورة طبقة واحدة ، ولا فئة مثقفة الأهداف والآراء ، ولا مجموعة حزبية ، او سياسية ، او فكرية .. كما انها لا تعني أولئك الذين يمارسون مهنة الكتابة ، او الادب ، او أصحاب القلم الذي يستفز.. ، وانما هي مكانة اجتماعية سياسية ، او وظيفة في النظام الاجتماعي ، يقوم بها جمع متميز من حيث الأهداف ، والعقائد ، والأصول الاجتماعية ، من مفكرين وغير مفكرين .. وهذا يعني بالضرورة ، انّ لهذه المجموعة المتنوعة ، موقفا سياسيا ، وممارسة ( سياسية ) إيجابية ، سواء اتمت هذه الممارسة من خلال العمل الحزبي ، ام من خارجه ..
ان المثقف الساكن الذي لا يهتم بالشأن العام ، لا يدخل ضمن هذه الفئة ، ولا يسمح لنا بالحديث عن المثقفين كفئة متميزة . بل ان شروط هذا الحديث ،هو وجود الاهتمام بالسياسة عند هؤلاء . سواء كانوا مفكرين ، او مديرين ، او سياسيين ، او مهنيين ، مثل المحامين ، والأطباء الخ .. هذا هو بالضبط المعنى الكلاسيكي لكلمة المثقف ، التي تترجم بالانجليزية والفرنسية الى انتلجانسيا ، لكنها في دارنا معطوبة ، خاملة ، وانتهازية ، ووصولية ، لكن بمطابقاتها مع مفهوم العمل الفكري ، والثقافي كميدان نشاط وصولي وانتهازي ..
ان أي مثقف مهما كان كبيرا في الأنظمة الديمقراطية الغربية ، ليس بالضرورة ان يكون عضوا في الانتلجانسيا العاهرة كما عندنا ، فهو لا يصبح كذلك مثقفا حقيقيا ، الاّ اذا حقق شرطين : القيام بممارسة منتظمة للتفكير في الواقع الاجتماعي السياسي ، والمشاركة في تغييره ، وهما مترابطان .. وهذا الهمّ الواحد الغائب ، وليس المغيب عندنا ، وليس التكوين الواحد ، هو الذي يوحد هذه الفئة المقسمة ماديا وسياسيا ، ويجعلها مركز تداول قوي للأفكار ، والرؤى فيما بينها ، ويخلق لها مع الوقت اطارا واحدا في التفكير ، وطرح المسائل ، ومواجهة المشكلات ، وهذا ما ينتفي في المجتمعات التي لا يزال فيها المثقف العانس ، يتناغم مع افرازات دولة نموذجية في التسلط ، والاستبداد ، والطغيان ، وفي تركيز التخلف والانحدار درجات الى الوراء ، بحيث يصبح المثقف الراكض ، منتجا لما يملى عليه من قبل حكام ومنظومة جهلة ..وفي هذه اللحظة يبدو الفرق بين نخبة مثقفة بالاسم ، تكرس التبريرية ، والانهزامية ، وبين المثقف في الغرب الديمقراطي ، الذي يتعايش مع جون لوك ، ومونسيكيو ، وهوبز ، وسارتر، وسيمون دوبفوار ، ومكسيم رودنسون ... بحيث في هذه الحالة الأخيرة ، تكون النخبة قد وصلت الى قمة الدور الذي يمكن ان تلعبه في المجتمع الحيوي ، والمتحرك ، وليس المجتمع الخامل الجاهل كما عندنا .. وبهذا المعنى في الغرب ، فان الدور الأكبر لها هي ان تبلور الرؤى ، والأفكار ، والخطط ، والاستراتيجيات الممكنة لكل اطراف الصراع الاجتماعي معا .. ففرق بين مثقف ينتج للتغيير ، وبين مثقف شَبَه يجتر ما يملى عليه ، فيساهم في العجز ، والعقم ، والعقر ، وفي تكريس مذهب المرجئة، في انتظار الذي قد يأتي او لا يأتي ، حتى يلقى الفرصة الانتهازية للانغماس وسط مجتمع لا علاقة له بهذا الشبه مثقف ، الحربائي ، البارع في التبريرية ، وإيجاد الحلول المتأزمة .. لواقع يتناقض مع الجديد ، والتطور الفكري في العالم الغربي الديمقراطي ..
ان قوة النخبة المثقفة في الغرب ، وليس عندنا ، نابعة اذن بالضبط من انها فئة مستقلة عن الطبقات ، والأحزاب ، والمصالح المتعددة المتعارضة التي تقسم المجتمع ، وليست مقطوعة الصلاة فيما بينها ( النخبة المثقفة ) في الوقت نفسه .. انها تجسيد لمفصل من مفاصل المجتمع ، او هي في الهيئة الاجتماعية بمكانة الغضروف في الاجسام المتعضية ، الذي يحتل مكانة متميزة بين العظم واللحم ، ويعطي للجسم المتعضي خواصه في المرونة ، التي تعني هنا سرعة الحركة ، والانتقال ، والتغيير .
وفي المجتمع تشكل هذه المفاصل نوعا من البرازخ التي تكُون ملتقى التناقضات ، والتركيبات المتباينة ، وتسمح للمجتمع بالتفاعل ، والتجاوز العضوي لهذه التناقضات . انها الميدان الذي يتيح لجميع المصالح ، ان تكون مفكرة ، وان تتصارع وتتحاور، وفي الوقت نفسه ان تلتقي ليتألف منها الموقف الجمعي العام . فهي لا بد ان تكون مرتبطة بالمصالح المتميزة الخاصة ، و" الطبقية " من جهة ، ومستقلة عنها في الوقت نفسه ، نتيجة لما يشكله الشأن العام / السياسة عندها من همّ سياسي .
فلو كانت النخبة المثقفة طبقة مستقلة ، لأصحبت مجموعة مصالح مثلها مثل المجموعات الأخرى ، ولفقد المجتمع ميدان انعكاس جميع المصالح الجزئية في منظور الكل ، وفقد الأداة التي تسمح بتداول الأفكار ، والقيم الضرورية ، لتوحيد هذه المصالح في الوقت نفسه ..
ولو كانت غير ذات استقلالية فكرية عن هذه الطبقات ، أي لو لم يكن تداول الأفكار فيما بينها اقوى من تبادل المنافع داخل الطبقة التي تنتمي اليها ، لما امكن لها ان تخرج من جلدها ، وتصعِّد المصالح الجزئية في المجتمع، وتخرجها من اطار الانغلاق الضيق على نفسها . ولهذا ، فان القضاء على هذه المفاصل الحيوية التي تشكل الروح بالنسبة للبدن الاجتماعي ، يحرم المجتمع من القدرة على انتاج نفسه من جديد ، ويعطي لحركته طابع الميكانيكية القاسية .. والقضاء عليها كان وما يزال الهدف الأول للنظم المتسلطة الطاغية ، والاستبدادية ، والقروسطوية ، بما يؤمنه لها من حرمان المجتمع من آلية التوازن الأولى والتفاعل ، وبالتالي وقف الحركة الاجتماعية ، واغلاق افق أي تغيير ..
ويؤكد التاريخ ان المرتبطين بالسياسة ، وبالشأن العام من المثقفين التقدميين في البلاد الديمقراطية الغربية ، وبخلاف اصنافهم عندنا ، يزداد في المجتمع بقدر ما تكون المصالح الطبقية ضعيفة التبلور سياسيا . والمثقفون هم الذين يقومون في هذه الحالة ، بالجزء الأكبر من العمل التنظيمي السياسي ، وهم الذين يبنون الأحزاب ، ويخططون للتغيير ، كما حصل في روسيا ، والصين ، وايران ، ومعظم ثورات العالم الثالث ..
في المجتمع العربي ، لعب المثقفون دورا بارزا في العمل السياسي في العقود الماضية ، وكونوا هم انفسهم معظم الأحزاب الجديدة القومية ، والثورية ، واليسارية ... ، ثم أخيرا ، وفي سياق مختلف اليوم ، الاسلاموية .. وقد أدى ذلك الى اضعاف اكثر لموقع الأحزاب التقليدية المحافظة ، التي كانت تقوم على قاعدة قوية من ملاّك الأرض ، والتجار الأقوياء .. وقد استمر هذا الوضع تحت قيادة الأنظمة العسكرتارية الثورية ، التي لم يكن ضباطها الاحرار ينظرون الى انفسهم نظرة مختلفة، وانما كانوا أعضاء في هذه النخبة المثقفة ، سواء احتفظوا بلباسهم العسكري ، او تخلوا عنه .. ونفس الشيء حصل في الأنظمة الملكية التقليدية المطلقة ، كالمغرب والأردن ..
لقد كانت العسكرتارية مهنة كغيرها من المهن ، لا تقف حائلا امام القيام بدور المثقف ... لكن للأسف فان هذا الوضع لم يدم طويلا . ويبدو لي ان ازمة المثقفين قد بدأت ونمت تدريجيا مع تحول الأنظمة الجديدة ، الى تكتلات مصالح حقيقية ، ملتفة حول الدولة كضرع للترياق ، من اجل الاستمرار، والانتعاش المادي والمعنوي ، لا هدف لها سوى الحفاظ على هذه المصالح التي نفخ فيها عندنا جبر الضرر ، وفتح العنابر للسيلان ، وقد أدى هذا التحول في نظري الى عدة أمور :
--- أولها انقسام وتقسيم النخبة المثقفة ، وتشتيتها العملي ، وافقادها البوصلة التي كانت تمثلها المواقف ، والخيارات ، والرؤى الأيديولوجية التي صاغتها من قبل . انّ ما حصل ، هو نوع من الفطام قبل الأوان ، او التيتّم الاجباري للنخبة ، وسقوط اوهامها القومية ، والاشتراكية ، واليسارية . وقد شكل هذا ضربة حقيقية لمعنوياتها ..
--- وثانيها ، ومع تفاقم الطباع الدكتاتوري ، الاستبدادي ، والطاغي للأنظمة السياسية ، وبقدر ما قادها تبلور قاعدتها الطبقية اكثر ، والامساك بها من قبل أصحاب المصلحة الحقيقية فيها ، فقد ضيقت من هامش مبادرة النخبة والمثقفين ، وفرضت عليهم الاختيار ، بين التحول الى ادوات ، كراكيز ، ووسائل في يد الطبقة الجديدة والنظام ، او الخروج على النظام ، والتحول الى بناة لأحزاب معارضة غير مشروعة ، والقبول اذن بالتخلي عن كل شيء ، والتعرض لشتى أنواع القهر ، والقمع ، والاضطهاد ، بما في ذلك الشهادة المجانية ، دون امل بشيء او قدرة على تحريك شيء ..
وفي مغربنا بلد التناقضات الأساسية ، والاستثناءات المفضوحة ، فان ازمة النخب المهتمة بالسياسة ، نابعة في نظري من نجاح النظام البتريمونيالي ، الكمبرادوري ، البتريركي ، الثيوقراطي ، الاثوقراطي ، العتيق ... في تجميد وتكسير تلك الدينامية الاجتماعية السياسية ، التي حفرت التاريخ المغربي المزور طيلة الستينات والسبعينات ، التي تتركز في هذه المفاصل الاجتماعية السياسية الحساسة جدا ، او هذه البرازخ والتي لا قيمة للمثقفين الاّ بلعب دور " الدينامو " فيها . فقد فرض عليها النظام الطاغي ، الاستبدادي القطيعة ، اتجاه السلطة التي تريد ، ونجحت في استخدامهم كأدوات ، وجزءً من القطيع ، لا يختلف الاّ في الملبس ، ونوعية الاستهلاك ، والبورطابل الغالي الثمن ، وركوب السيارات .... واتجاه الكتلة الكبرى من الشعب ، التي بسبب فقدانها الايمان بنفسها وقدراتها ، تنتظر منهم الشهادة والقيادة ، وتنظر اليهم نظرتها الى المهدي المنتظر القادر بعلمه ، ومعرفته ، ونوره على تحقيق التغيير ، ومقاومة السلطة الطاغية ، وحل مشكل البؤس ، والفقر ، والقهر ..في حين انّ هذه النخبة التي اندمجت طواعية في طقوس النظام ، وجذبته البُوهالية التي يحرك نغماتها البوليس الفاشي ، أصبحت ليست جزءا من نظام الحكم كما قد يعتقد البعض ، بل أضحت ذيلا للنظام يستعملها لشرعنة تصرفاته المضرة بحقوق الانسان ، وبتزليج ، وتبييض وجهه البشع ، باسم ديمقراطية مفضوحة عند الغرب ، كل مفاصلها مبنية على القمع ، والقهر ،والاضطهاد ...
ومع دوام هذه القطيعة ، واستمرارها خاصة منذ سنة 1999 ، حيث نجح النظام في شراء الأصوات المزنجرة ، والمبحوحة ، بإطلاق الصنابر لها ، وتمكينها من الفتاة لسد فمها ، وانعدام اية فرصة للعب دور في السلطة بسبب احتياط السلطة ، او في المعارضة التي لم تبق معارضة حين تحولت المعارضة الى معارضة جلالة الملك ، ومع تحول كل تفكير جدي بالسياسة والشأن العام ، وكل عمل سياسي ، الى محرمات وجريمة ، ولم يعد امام المثقفين ، او امام القسم الأكبر منهم ، الاّ الالتئام والالتفاف على انفسهم ، والانغلاق عليها ، وتكوين نوع من الطائفة الصغيرة المضطهدة ، والمحبطة التي لا تطمح في لعب أي دور هام ، وليس لها من أمل اكثر من ان تحقق وجودها ، وتهتم بشؤونها الخاصة خاصة بالكتابة ..تماما كبقية طوائف المجتمع الأخرى .
ان النظام القروسطوي ، وفي مثل هكذا أوضاع مشفقة ، يطلب منها ان تتحول عن الشأن العام ، لانها انهزمت في معركته ، بسبب الخيانة ، وبسبب القمع ، لتصبح مثل الحدادين ، والنجارين ، وأصحاب مهن أخرى .. ، طائفة مهنية محترفة للكتابة ، في مجتمع مركب على الأصناف ، والطوائف ، وعلى رأسهم طائفة أصدقاء سيدنا ، الذين فتح لهم المجال للاغتناء السريع ، ومن ضوابط مشروعة ، منذ ان كانوا يشتغلون بوزارة الداخلية كورثة مناصب في عهد محمد السادس ، الذي مكنهم من المغاربة ومن المغرب .. وبنظرة ثاقبة فإننا نعيش مجتمعا على منوال مجتمعات القرون الوسطى .. السياسة فيه ليست شانا عاما ، وانما هي من الشؤون الخاصة ، حتى وان كان أصحاب سيدنا دون المستوى المطلوب ... وقس على البرلمان ، وباقي مؤسسات ، ورجالات سيدنا ، الامام ، الأمير، والراعي الكبير .. فالحكم هنا تشريف وليس تكليف ، ومصالح الشعب المغيب ، اخر ما يمكن ان يفكر فيه هؤلاء القوم ، لأنها مصالح تزعج ، ولأنهم أصدقاء سيدنا يكرهون الشعب .. لان ليس لهم ما يجودون به عليه ..
ولو تأملنا قليلا في هذا الوضع الشاد والمرفوض ، لوجدنا ان المشكلة الكبيرة الراهنة للمثقفين الحداثيين ، وماهم بحداثيين حقيقيين ، لانهم يحسنون اجترار شعارات الحداثوية ، بشكل يغرق في طقوس اكثر من الجاهلية ، ولان المشكلة في الدم ، وفي الجينات ، والعرق .. ، لا تكمن ابدا في نقص انتاجهم الفكري ، او الادبي ، او في غياب الابداع ، او روح التجديد عنه .. ، ولا تكمن كذلك في حرفة الكتابة ، او في الكتابة كمهنة أدبية ، او كحرفة معيشية عند الأكثرية .. بل يمكن القول هؤلاء الكتاب ، لم يكونوا في اية مرحلة اكثر غنى وازدهارا مما هم عليه اليوم ، بسبب انعدام القيم ، ونظام محمد السادس الذي يعرف الطينة ، ولا يتوانى في اهانتهم عندما يقدم الاوسمة لسعد لمجرد وبطما وحاتم .. ولم يسبق ان قدم وساما لاحد ، باسم النخبة المثقفة ، او باسم من مشى يوما في المسيرة .... وانما تكمن أولا وأخيرا ، فيما يمكن ان نسميه " خصي " ( النخبة المثقفة السياسي ) على شاكلة خصي عبيد القصور خوفا على حوريات البلاط ، وجواري القصور ، وهو الذي يزيد من الحجم والصحة العامة للحيوان مع افقاده في الوقت نفسه كل شوكته ، وحيويته ، ومعنوياته ...
ان سياسة النظام البتريركي ، الكمبرادوري ، الاوليغارشي في حرمان المثقفين الحقيقيين المرتبطين بالسياسة ، ارتباط فم الصبي برأس بزولة امه ، أي تمكينهم من الارتفاع الى مستوى العمل العام والعمومي ، يعني كسر ( سمهم ) ، وجعلهم كالأفعى التي انتزع نابيْها ، او الذئب الذي ازالوا كل اضراسه ، وسيلة للعب ، والتسلية ، وتخويف الصغار الصاعدة ، التي تحاول التفكير في اقتحام السياسة التي يحتكرها النظام وحده .. وهذا يعني ، حرمانهم من تحقيق انفسهم في المستوى الأهم من وجودهم باعتباره بالأساس ، وبعكس ما هو سائد في المهن والحرف الأخرى ، مركز تكوين العام ، وتأمله لنفسه ، وبلورته لروحه العميقة ، أي بوصفهم همزة وصل ، او العصب الرئيسي في المجتمع تفكريا وردود أفعال ... ان الوضع يكاد يشبه في هذا الميدان الشلل الناجم عن فقدان الجسم لأي حافز مادي ومعنوي .. انه يكبر بيولوجيا ، ويتضاءل نفسيا ، ومعنويا ، واخلاقيا . ذلك ان السياسة هي ميدان التحقق ، والكِبْر الأخلاقي والمعنوي الوحيد ..
هذا هو الاطار النظري ، والتاريخي لازمة المثقفين العرب ، وأزمة ( المثقفين ) المغاربة ، وهي جزء من الازمة العامة للسياسة والمجتمع المريض .. لقد زاد الحديث منذ سنة 1995 ، وبالضبط منذ 1999 عن خيانة النخبة ، وخيانة المثقفين الكبرى ، عندما ارتموا من اجل الفتاة في حضن النظام ، يزينون جماله البشع ، ويطبلون لإنجازاته التي تتوقف لحظة مغادرة الوفد المدشن ، بالرئاسة الفعلية لصاحب الامر والنهي ، ومن ثم ابتعاد النخبة الخائنة ، واشباه المثقفين بشكل عام ، وزاد بالمقابل الحديث عن ضرورة فصل الثقافة عن السلطة ، وابتعاد المثقفين بشكل عام عن السلطة ... وفي اعتقادي ان هذا ليس هو الطريق للخروج من الازمة .. ان النخبة والمثقفين ليسوا خارج المجتمع ، ولا فوقه ، ولا تحته ولكنهم نتاجه ، وهم لا يعانون كمجموعة شديدة الحساسية في الجسم الاجتماعي المريض والمنحل ، اقل مما يعانيهم غيرهم من الفئات كالمحامين ، والأطباء ، والمهندسين .. بل ان وضع المثقف في المغرب ، اكثر هشاشة بكثير من وضع حتى الحرفي كالحداد ، والنجار ، وصالح الدرجات النارية المهترئة .. لأنه موجود في قلب السياسة ، وفي قلب الشأن العام ، من دون حماية ، حتى فيما يتعلق بتامين ضرورات الحياة الأولية .. وهذا ما يجعل إمكانيات ضغط النظام البتريركي الكمبرادوري عليه قوية وسهلة .. والهدف ، انه لا ينبغي طرح موضوع المثقفين من وجهة النظر الأخلاقية الفردية فقط ، بالرغم من أهمية هذه الناحية الأخلاقية عموما ، وفي كل الأوضاع ، ولا من زاوية الاستقالة المعنوية للعمل الفكري ، او للمثقفين من السياسة .. فالأمر يتجاوز الأوضاع العادية التي يمكن البحث فيها عن العلة في الفرد ، لتتحول الى مسألة اجتماعية تخص النظام العام كله ، وطريقة عمله ، والمجالات المفتوحة فيه للعمل السياسي والفكري معا ، وللعمل والإنتاج بشكل عام .. ، بل تتعلق في الإجابة على سؤال فيما اذا كان ما نتحدث عنه يشكل نظاما مدنيا بالمعنى الحرفي للكلمة ... أي نظاما مستندا الى حد ادنى من المواضعة ،والنظر العقلي الإنساني ، وليس ثمرة مباشرة وطبيعية لسيطرة الأقوى كما في الاجتماع الغريزي ..
انه من غير الممكن والمشروع ان نعتقد ان المثقفين يمكنهم الخروج عن النظام او تجاوزه ، ومن ثم ان نعتقد باستثنائهم من الخضوع ، مثلهم مثل غيرهم لقوانين هذا النظام القمعية ... بل ان وضعهم الدقيق جدا يجعلهم اول من يتأثر بتدهور الطابع القانوني والعلائقي ، أي المدني ، للنظام الاجتماعي ، وذلك تماما بعكس ما يعتقد الناس ، من ان قوة مركزهم الاجتماعي تحميهم من اضطهاد النظام الجبري والقهري .. انهم يصبحون عرضة لقمع النظام الشديد ، بقدر ارتفاع مكانتهم الاجتماعية ، وبالتالي إمكانية تأثيرهم في المجتمع .. وربما ظهر ذلك بشكل اقل اليوم ، ولكن فقط بسبب بعض الظروف التي يكون فيها النظام السياسي ضعيفا جدا ، مع اعتماده على شرعية خارجية ، وخوفه من موقف الراي العام الغربي ..
اما في حالة شعور النظام بقوته الداخلية ، او عدم اهتمامه بالراي العام الخارجي ، او ضلوع هذا الراي معه ، فأي اغتيال وقتل المعارضين بطرق مختلفة وملتوية ، وكما تدل على ذلك فترة الحسن الثاني ومحمد السادس ، يصبح الهواية المفضلة لأنظمة الطغيان ، كما في اسيا ، وامريكا اللاتينية ، وافريقيا ...
وهكذا راينا مرارا كيف انه في كل مرة كانت تضرب فيها الحريات ، يصبح المثقفون اول من يتعرض للقتل . وبالمثل في كل مرة تتدهور فيها الأوضاع المادية للمجتمع ، ويصبح فيها من الصعب تامين العيش ، يكون المثقفون في طليعة المحتاجين ، والمعوزين ، باستثناء من خان منهم ، وارتبط وارتمى في حضن السلطة والسلطان ..
ان الفرق بين المثقفين في الغرب الديمقراطي ، وبين اشباه المثقفين عندنا ، ان المثقف الغربي ينتصر الى الأفكار ، ومن ثم يروجها في استقلالية عن التنظيمات التي يؤثر فيها ، والحاضر فيها كفكر وليس كجسد ، وتعبر هذا الحالة عن الثقة في النفس ، في رسم التوجهات ، ونشر الأفكار الهادفة المنتجة للتغيير، ومن ربط الحركة بالمصالح الشخصية ، فالقيمة يستمدها من الوسط ، وليس من خارجه ... بخلاف المثقف الشّبهُ عندنا ، فبسبب انعدامه الثقة في نفسه ، فهو لا يستطيع الحركة الاّ ضمن تنظيم يستعمله لبلوغ اغراضه ، وفي في نفس الوقت تحقيق المكاسب المصلحية الشخصية ، باسم ثقافة تمتح من قشور الحداثوية ، وتغرق في التقليدانية باسم الخصوصية المفترى عليها ، خدمة لصاحب الفتاة الذي يتحكم في فتح وسد العنابر ، وتوزيع الصدقات كيفما شاء واراد ، لمزيد من الاذلال ، ولمزيد من التسبيح بفضله الذي لا يشق له غبار ...
فعندما ينزلق الشّبه مثقف ، وهم الأكثرية الكثيرة التي تلوث المشهد ، وتضبب الرؤية ، وتصبح المصلحة هي هدف الهرولة والركض ، لبلوغ مقاصد باسم القضية المعطوبة ، او باسم الغيرة والحسرة .. تنعدم القيم وتشوه الأصول .. ويصبح شعار المرحلة البحث عن المصلحة غير المصلحة .. هنا النظام الجبري العارف بحقيقة الأصناف ، التي تتراقص في شطحات منافقة كاذبة .. لا يسعه الاّ ان يتصرف بما يقتديه قانون الحاجة ، ليضع الجميع في سلته التي لم تعد مهملة ، عندما امتلأت بجميع الأصناف ، وبجميع الطحالب التي ما جاد بها زمان ، ولا عرفت طينتها اوطان ..
ان ازمة النخب الخائنة ، واشباه المثقفين ، هم اذن احد وجوه ازمة المجتمع المتحلل المريض ، وأزمة الغياب الموضوعي لأي مكانة للتفكير الجدي ، والرؤية ، والالتزام الجماعي ، والمصلحة العامة ، في النظام الاجتماعي / السياسي القائم على الطقوس المرفوضة ، المحطة سخرية من قبل مثقفي العالم الديمقراطي الحر .. وهو ما يفسر تدهور النظام هذا ، وانحطاطه المادي ، والمعنوي ، والأخلاقي ، والسياسي ، بما في ذلك تدهور دور المثقفين ، ومن ثم اخلاقيتهم هم انفسهم ، باعتبارهم مركز هذا التفكير العام ، والالتزام الجماعي ، ومرآته ، واداته ..
فالمثقفون كغيرهم لا يستطيعون مقاومة الانحدار، والتقهقر القانوني ، والسياسي ، والأخلاقي للمجتمع ، ولا يمكنهم الاّ ان يتأثروا به ، بل ويكونون أيضا في طليعته ... فالسمكة تفسد أولا من رأسها ... وأول ما يصاب بالتفسخ ، هو المنطقة الأكثر حساسية ، وبالتالي هشاشة ..



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الناطق الرسمي باسم الامين العام للامم المتحدة السيد ستيفان د ...
- الاعلام الفرنسي يعترف بجبهة البوليساريو
- هل جبهة البوليساريو منظمة ارهابية ؟
- تشنج العلاقات بين النظام المغربي وألمانيا الديمقراطية
- ذكرى تأسيس ( الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية )
- بين رشيد الغنوشي الإخواني رئيس البرلمان ، وقيس سعيد رئيس الج ...
- القضاء الكوني يبدأ النظر في جرائم التعذيب وانتهاكات حقوق الا ...
- هل حددت إدارة جون بايدن موقفها من اعتراف دونالد ترامب بمغربي ...
- خطاب الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون
- إتحاد المغرب العربي
- ذكرى انتفاضة يناير 1984
- ذكرى حركة 20 فبراير / بأية عيد عدت يا عيد / بما مضى ام في ام ...
- إختطاف شفيق العمراني من المطار
- اختطاف معارض من مطار الرباط سلا
- المعارضة
- ماذا يحضر للصحراء ؟ - وثيقة عقيدة الاتحاد الافريقي - ..
- هل ستندلع حرب امريكية ، اسرائيلية ، ايرانية ؟
- توزيع وتشتيت سجناء حراك الريف الستة
- المناضل الديمقراطي
- المؤامرة الكبرى ضد الشعب المغربي


المزيد.....




- مهرجان الصورة عمّان..حكايا عن اللجوء والحروب والبحث عن الذكر ...
- المجلس الرئاسي الليبي يتسلم دعوة رسمية لحضور القمة العربية ف ...
- الخارجية الروسية تحذر من شبح النازية وتقدم تقييما لوضع العال ...
- إصابة 29 شخصا بزلزال شمال شرقي إيران
- وزير الداخلية الإسرائيلي: المشاهد القادمة من سوريا تشير إلى ...
- والتز يؤكد استمرار المباحثات بين موسكو وواشنطن
- -حماس- تعلق على قرار سويسرا حظر الحركة
- مادورو: رفع -راية النصر- على مبنى الرايخستاغ عام 1945 تحول إ ...
- بريطانيا تبحث استخدام أموال ليبيا المجمدة لتعويض ضحايا -إرها ...
- بريطانيا ترحب بتوقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف


المزيد.....

- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - السياسة