أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض رمزي - القديس مارادونا شهيدا















المزيد.....


القديس مارادونا شهيدا


رياض رمزي

الحوار المتمدن-العدد: 6764 - 2020 / 12 / 18 - 01:08
المحور: الادب والفن
    


القديس دييجو أرماندو مارادونا شهيدا. رياض رمزي
" السير باتجاه النجمة، ولا شييء إلا ذاك". هايدغر

حينما مات كرّمه أهل نابولي بأن أنزلوا بالونا من السماء يحمل صور السيد المسيح، مريم، واثنا عشر حواريا، وهناك صورة لقديس صغير يهبط معهم وبيده كتاب كل آية منه أعجوبة. كل قداسته تركزت في قدم واحدة تتألف من مشط وخمسة أصابع مربوطة بعتلة ترتبط بمركز يستلم أشارات من لا مكان تمتثل القدم لها. فتى قصير لا يتجاوز طوله المتر وستين سنتمترا رأسماله قدم واحدة تسيّره مثل عربة سباق لأميال وأميال تسبق كل العربات ولا تستهلك زيتا. أرنب صغير استخف بكل كواسر الغابة. مهمّش من ضواحي بوينس آيرس الفقيرة.
منذ ولد ونشأ وهو لا يعدو أن يكون غير عصفور يصارع، طوال حياته، صقورا متعجرفة في بلاده ثم أوربا ثم العالم كلّه. صقور سبق لها أن أقصت كل العصافير من غابات الملاعب وحرمتها حتى من أن تدنو منها. عصفور واحد أعلن عن حضوره في سماء الغابة، ليس ذلك فحسب بل هزم كل تلك الصقور التي تحولت أمامه إلى بطيئة ومسنّة، فراحت تتسائل: منذا الذي يمكنه الاقتراب من عصفور لا يمنحنا نحن أسياد الجو فرصة إضافية في التحليق. عندما هزمتهم معجزة عصفور تعذّر عليهم تصديقها؟. فاض الكيل بأسياد الجو فراحت تطرق أسماعهم أغنية أرجنتينية تقول: أين أنتم ياصقور/ هل شختم في زمن قصير/ ألا تتوفرون على حياء/ يا ملوك السماء/ بلمسة يسراه تتطايرون في الأنحاء/ تفقدون الهمة/ تتركون المهمة/ لعصفور يصليكم بنيران/ جعلكم تشيخون قبل الأوان/ تجاسر عليكم/ فتضاعفت مخاوفكم/ من سمت رؤوسكم حتى منبت أقدامكم/ بيسراه حلف اليمين/ على تجريعكم ذلا مهين.
بدأت حكاية هذا العصفور من أمه حين شكت له يوما أنها، وهي طوال حياتها، من غبش الصباح حتى حلول الظلام، تكد مثل سفينة تلقي مراسيها في بيوت الأغنياء بملابس بليت من شدة القدم وهي ترى الأغنياء يخرجون إلى سهراتهم الليلية بمعاطف الفرو. قرر أن يشتري معطف فرو لأمه ... لكنه لم يقلها بصوت عال. ضربت الفكرة جذورها فيه، حيت ظل يقسم سرا أنه سيكون أقل جدارة بالحياة إن لم يشتري معطف فرو لها. تسائل: هل شراء معطف فرو استحالة يتعذر تحقيقها؟. تحوّل معطف الفرو إلى آلة لتصنيع إرادته. كان الفتى بعمر عشر سنوات. اصبح المعطف مثل هم أطبق على صدره، هم لا يمكن لأي تسوية أن تتدخل لحلّه: أما.. أو.. تسائل وهو يشاهد الأبقار في المزارع وهي تحول الحشيش إلى لبن أبيض: هل الأبقار بأفضل مني؟. قطعت عليه الأبقار طريق الفرار من الأقدار. ظل يحس بوقع صخبها في رأسه.

ثم حدثت المعجزة. كما الهزيمة لا يمكن الصفح عنها، فأن النجاح لا يمكن أهماله. كان لكل نادي وكلاء يبحثون له عن أشبال. قرأ وكيل أحد النوادي في جريدة شعبية ترعى أخبار الفرق الشعبية أن هناك طفل بعمر العاشرة لا تمر مباراة دون أن يحرز هدفا أو أهدافا. باتت أخبار الجريدة التي ظلّ يتابعها تلوح له كبرق في السماء يظهر بوضوح سناه كل ما قرأ الجريدة. قال الوكلاء في قرارة أنفسهم: طفل مولعٌ بتسجيل أهداف أمام فرق أخرى؟. لربما بلغ هذا الطفل/ الشاب مبلغ اللاعبين الكبار. كي يعرف مدى نصيب القصة من الصحة قرر أحدهم الذهاب إلى الملعب الشعبي. حدث معه شيئ غير اعتيادي. شاهد اسطورة تنبض بالحياة على أرض ترابية، ولم يطف بتصوره أنه في العاشرة، عجز عقله عن تصديق أنه طفل من أكثر ضواحي بوينس أيرس فقرا، شبيها بأسد يجندل كل كواسر الغابة، صياد يضع شبكة الهدف كطريدة في مرمى تصويبه. يهجم على فريسته ويقوم بأفعال لا تعترف بقوانين الجاذبية. إذن هو لم يدخل مدرسة تدريب، بل ربما تدرب بكرة قدم من الخرق. عندما ذهب إليه عقلت لسانه فكرة الكلام معه، فهو لم يقل أصنع مني ما شاء له هواك، بل قال هدفي أن أحمل بيدي هذه كاس العالم وأهديها لبلادي. نعم الإرادة أدمان غير قابل للشفاء، المصاب به يمتثل له كأوامر سماية ملحّة. شاهد المندوب ما أن يدخل الصبي ساحة اللعب حتى ينصرف لواجباته فورا، مثل راقص يقع مركزه في منتصف الكورس ما أن يسمع النغمة الأولى وهي صفارة الحكم حتى يحرك كردوس الراقصين فتبدأ يسراه بارتجال سلسلة موصولة من ألحان يظل مواظبا على عزفها لتسعين دقيقة.
كيف صعد الفتى إلى مراقي الشهرة ثم العز في وقت قصير كأنما فُرض اسمه عليه بالقوة، كأن ما قام به لم يكن كثيرا عليه؟. حين تشاهد عروضه يبقى شيئٌ فيك لا يتلاشى في الحال بل يظل أكثر رسوخا. ثمة الكثير مما راح يشاهده ويُحكى عنه، لأن أرجاء الدنيا ما زالت ترتج بسبب واحد من أهداف طفولته تلك. تقدمٌ سريع قطع السبيل على تطور تدريجي، أي ما يُطلق عليه في علم السياسة والتاريخ حرق المراحل، كمن أُدخل من باب عمارة تقع في قلب العالم، وما أن دخل حتى وجد نفسه في الطابق الأخير المشرف على الكون. لا يتذكُر وجود ماض له لسرعة مروره، ولا يعرف أين يقوده مستقبلٌ سيضيع في شعابه ويرضخ لحكم واقع بعيد عن متناول تصوره،. سيذهب عقله وسيصبح مثار لعنة حين باتت الكرة والمال والشهرة والتقديس طوع قدمه، مثل طفل أغدقت عليه الدنيا المال والدلال فأذهبتا بعقله بسبب غياب تحديات يأخذها مأخذ الجد، وتعقيدات ضرورية عادة ما تقي المرء طيشا نابعا عن قلة فهم . لعدم وجود ماض يعطيه أمكانية تصور ما سيحدث، ومستقبل غاص في نجاحاته حتى الركب، فهو لم يعد موجودا في مكان ما، ناهيك غياب معارف تمنحه قدرات داخلية تسيّره. عاش في عالم كل ما فيه يفيض عن حاجته، فكل الأنباء تحمل له تخييرا وتبشيرا. بمختصر الكلام عاش بعيدا عن مركز نفسه وبات يطوف ويتنفس هواء عالم لم يكن يتخيل وجوده، فلم يجد فيه مكانا صالحا للرسو، فخطا بعزم نحو المجهول، نحو مرسى خرائطه غير موجودة حتى في عقله. وضعٌ جعل مساحة وجوده تتمدد وتتمدد. دفعته لقاءاته مع بعض من أعظم زعماء العالم إلى متاهة تفنّن في إهمال شروط سلامته في رحابها، ولم يشغله شاغل للحفاظ على سلامة يسراه مصدر رزقه. الخوف من المستقبل يحتاج إلى ذخيرة فكرية من قراءات وتجارب تحذّره من تغيّر الأحوال، مثل سائق عربة يسير بأقصى سرعة دون أن يلقي بالا لعجلات باتت رويدا رويدا تسيخ وتخرج بسرعة تخرج من الخدمة.
راح جوهر وجوده يتجلى في برك الضياء التي عشيت عينه، فراح يسير بسرعة لا يستقر في مكان غير ثواني، فلم يعد يرى المباني، الشوارع، البساتين.. التي كانت تمر مر الغمام متراجعة أمامه، وهو يسير لا يعرف ما يهرب منه ولا ما يسعى إليه. من يسير بسرعة كهذه لن يتنازل عنها لأنها باتت جوهر وجوده وخبز حياته. قال سلفادور دالي من حق كل أنسان أن يكون مجنونا، لكن مارادونا زاده أقتين. مجنون ومجرمٌ موهوب سجّل بجسارة أعظم هدف بوقاحة جعلته يمسك بيده أعظم هدية: كأس العالم. أعطى الفتى هدفا باليد لو تم التمعن فيه لقيل أن غبارا غير أخلاقي يخيّم عليه، لكنه بعد دقيقة واحدة سجّل أعظم هدف في التاريخ ولقرون ستأتي. أنها فلسفة الجمال في القبح التي كرّس بودلير عبقريته الشعرية لها. استقطر بودلير الجمال من القبح. نحن عادة ما نغلق عيوننا عندما نشاهد القبيح. لماذا أعدنا رؤية هدفه القبيح مرات ومرات؟. لأن جماله آسر يجعلنا نتمعن في مشاهدة فعل جوهر القبح فيه واضح، لكن جمال القبح يتوطد فينا فنستحضر تفاصيله المنسية. حين تشاهد الهدفين يختلط الجميل مع القبيح خالقين وهم تناغم بينهما، منظرا أروع من مشاهدة الجميل لحاله. تخالطٌ يجعل القبيح يبرق بجمال اكتسبه من جمال الجميل. مثل مصباح منير يتغذى على غاز سام، يحترق الغاز موفّرا النور الساطع المبهر. تخيّل زهرة اختلطت جذورها ونمت من سماد قذر، ولكنها انتجت عطرا يعود ضوعه لذلك السماد. أنت تعب من الرائحة وتنسى التفاصيل. هل يمكن القول، إذن، أن أهدافه لها علاقة بالحداثة؟. نعم. دعنا نستمع لما قاله سارتر عن بودلير وزمرة المبدعين. هم، كما قال الفيلسوف، يقيمون في سماء خاصة بهم وكأنهم أفلتوا من الشروط التي تحكم بقية البشر. في كتاب الفن الفرنسي للنجاح يقول المؤلف عنهم أن في داخل كل واحد منهم يقيم جزءٌ ملكي حريصٌ فقط على" متعته". تقدير جمال القبيح يتطلب إطالة التحديق فيه كي نرى جماله الداخلي بعيدا عن الزاوية الأخلاقية، حيث تزول الرؤية التي تعوّدت عيوننا عليها، فتتجلى لنا رؤية جديدة: جمال القبيح المسموح وحتى المرحّب بحدوثه.
أين تجد جذور تلك الأهداف التي سجلها هذا البطل؟. لدى نيتشه. تأخذ ذاته مسارها الحر لتصنع من ذلك المسار مادة الحدث. علينا البحث عن النموذج الذي يقود سلوك سوبرمان نيتشه الذي لديه معرفة بقدراته. عندما تقرأ نيتشة تجد أن بطله السوبرمان الذي أعطى معنى لإرادة القوة، ينطبق على هذا المؤلف العظيم لأهداف خالدة، لديه موهبة لإضفاء الشاعرية عليها حيث يتجلى في طريقة تسجيلها سلوك ألهه الأغريقي المرح الصاخب، ديونيزوس الذي بات مصدرا لكل أهدافه ذات المنحى الجمالي، الذي يسمح لنفسه بالكثير من الحرية وتقلّب الأهواء ورفض السير في مخطط مطروق، لا تجمعه شراكة بكل أهداف العالم التي تم تسجيلها. أهداف مليئة بالعظمة والجودة والحدوث غير المسبوق. الجذر الثاني: تجده لدى شوبنهاور الذي قال أن العالم إرادة وتمثّل. أظهر هذا الفيلسوف أن الأفعال العظيمة تقف خلفها دوافع غير عقلانية تأتي من نداءات داخلية مصدرها القوة العمياء والشيطانية للإرادة التي تسمح له بخلق مديات واسعة من الجرأة والأنجاز الشخصي المقترب من حدود الوقاحة. ما هو كوجيتو هذا البطل؟: أنا موجود ولا يمكن أسقاطي من الحسابّ. مثل صيّاد عظيم يخوط بعصاه أعماق البحر يجعلها مصطخبة وقبل أن تهدأ يُخرج سمكته الذهبية. إذن هو شاعر ، راقص وصيّاد. الصيّاد العظيم من يجعل حدثا عاديا كصيد سمكة فعلا استثنائيا, خذ سانتياغو بطل رواية الشيخ والبحر، الذي حول صيده لسمكة واحدة فعلا ذا دوي حصل بفضله همنغواي على جائزة نوبل. ما بالك بحادثة انتحار تحدث كل يوم مئات ربما آلاف المرات. آنّا كارينينا انتحرت، لكن تولستوي خلّد هذا الفعل وجعله حيا على مر العصور. الكل راوده شك في انتحار هتلر، لكن ذلك الكل كان متأكدا أن آنّا كاريننا انتحرت. كذلك هدف مارادونا تم تعميده كأحد أهم الأهداف في تاريخ الكرة، وقرّ قرار المنظمات الرسمية على احتسابه هدفا صحيحا. من جعل هذا الفعل العبثي صحيحا؟. البطل الذي لديه ثقة بإرادته، جين جرى نحو زاوية الملعب رافعا يده دلالة على جودة فعله، مستدرجا الحكم، الجمهور، السلطات المسؤولة في كرة القدم أنه فعل ينتمي إلى الصحيح وغير المشكوك فيه.
في دوريات كرة القدم في العالم يتم سنويا تسجيل آلاف الأهداف. عملٌ بسيط وروتيني، لكن واحدا منها فقط من تكرم عليه التاريخ وسجله في دفتر أعاجيبه. هناك نساء يلبسن اللؤلو وعقود الماس قي حفلة شهيرة، لكن واحدة فقط تضع خاتما ثمنه الملايين. أنها زوجة الشاه، أو أوناسيس.. كل الحاضرين والصحف تتكلم عن الخاتم وعقد الماس لأنهم شاهدوا من بعيد سنا ظل مرئيا لزمن لا يُعرف مداه. الأميرة تحط من قدر نبالتها إن كانت هناك من ترتدي ما يشابه جواهرها. حلّل أحد الصحفيين مسار هدف من أهدافه متخذا مسارا ملتويا جعلته يقول: أثبت هذا الفتى أن الطريق الملتوي أجدى من الخط المستقيم. هل كانت تكلّفه أعاجيبه عناء؟. نعم هو يستنفر شيئا في داخله كي يخرج تلك البراعات مثل خبز حار ومرن خرج لتوه من التنور. ليس من العسير عليه أخراجه. كيف جاء أعظم هدف في تاريخ الكرة؟. كانت هناك برهة واحدة توقف فيها، استلم عقله إشارة من لا مكان، فتح حواسه على كامل مداها ترقبا لاستلام الأوامر، لم يتوقف للتفكير حين ورد إليه، بل اختصر الوقت لتنفيذ أوامر لم تعطه مزيدا من الوقت للتنفيذ. استدار دورة صغير تفحص تموضع جنود الخصم فأجرى حكم الخالق على الانجليز مثل نابليون وهو يهاجم الأعداء في أوسترليتز.
هل سمع هذا الفتى بشوبنهاور الذي عارض العقل بالإرادة، وأن انجاز وخلاص الإنسان يأتي عن طريق الفن، وأن الذات المبدعة هي من تخلق الخير، الشر، الجمال والقبح. كلها ليست غير خيارات شخصية تحددها الذات التي هي هوية المرء: أن أصنع العالم برغبة منقادة لإرادتي. هناك طباخان يصنعان طبقا واحدا من نفس العناصر، الأول يصنع طعامه بدون توابل، الثاني يصنعها بخلطة من توابل توقظ النائم أن شمّها فيقوم مبللا بعرق حمى الرغبة. الأول كان مقدّرا له أن يكون حارسا في الغابة، الثاني فنان لا يلزمه سوى ريشة وكانفاس وحامل رسم كي يبدع. الأول ينفضُّ عنه الجوعى، الثاني يظل باسطا سلطته الحسية عليهم.
كتب وكيل الفريق المرسل من نادي الدرجة الألى، وكان كاتب التقرير قد فاصت في نفسه قراءات أدبية صادفت لديه هوى، فارتد مشدوه البصر وانتفخ زهوا لاستخدام تلك القراءات التي بقيت فيه راقدة تنتظر من يسحبها إلى العلن"... شاهدت فتى يعاني من مرض شأنه شأن الأمراض الموروثة، وهو رهاب أسمه الرعب من بقاء شبكة الهدف ساكنة لا تهتز. سكونها يسبّب له الحمى. لاحظنا أنه طوال تسعين دقيقة ينظر إلى الشبكة كمن يستكشف مواطن ضعفها، مثل لص يحوم حول مخزن ليعرف من أي مكان يتوصل لخزينة المال فيه. يحوم ويحوم ثم يهاجم بعد نفاذ صبره، وبرغم أن اللصوص يتصرفون تصرف الفهود الذين يختبئون بين الحشائش يراقبون تحركان قرون الوعل، فأن هذا الفهد الصغير لا يحسن أخفاء نفسه بل يبقى معلنا عن وجوده كمن يجد متعة في القول لكل فهود ساحة الخصم أنه أسد ومن الصعبٌ أرضائه بغير هتك شبكة الهدف.". انتشاره الواسع في المستطيل الأخضر لا يعطي خصومه فرصة لحصاره. كل مكان يجد لنفسه موقع قدم فيه يؤذن بورطة للوعول المحاصرة. قدرته على التواجد في كل مكان تبعث الدوار فيهم، إذ برغم وجوده في نطاق الرؤية، فهو غائب لأنه من شدة وجوده فهو غير موجود. أنها ظاهرة يطلق عليها اسم تأثير سترايسند" كلما حاولت أخفاء أمر ما أثرت مزيدا من الفضول حوله". الوعول تتسائل متى وأين سيضرب؟ ثم يظهر في الأرض الحرام، يظهر ثم يختفي من شدة ظهوره، لأن علّم كل المستطيل الأخضر برقم 10. ثم تقع أسوأ المخاوف، ففي غمرة مخاوفهم يصرخ المعلّق:فعلها وهو يجري نحو الزاوية رافعا يده متلبّسا بالجريمة. جرائم لا تكلفه شيئا غير دعسة بالقدم أو اليد اليسرى تجعله موجودا مدى التاريخ. أراد المعلق الانجليزي القول عن نتيجة مباراة الأرجنتين واأنجلترا في كأس العالم: أنجلترا صفر/ الأرجنتين هدفان، لكنه سرعان ما أستبدلها بعبارة مارادونا هدفان وأنجلترا صفر. انهزمت الامبراطورية أمام الفتى مارادونا. عندما فازت نابولي بكأس الدوري الأيطالي لأول مرة، في يوم ما زال النابوليتانيون يتذكرون بهجته، ذهبت مجموعة مجنونة إلى مقبرة المدينة وعلّقوا لا فتة تقول للموتى" وا أسفاه غادرتم الدنيا ولم تشهدوا كيف جلب مارادونا لنا الكأس". لم يصمت الموتى. تم في اليوم التالي رفع لافتة تسخر من الأحياء" من قال لكم أننا لا نعرف؟".


الأرجنتين كتاب لسير شعبية تحفل بأبطال ولدتهم الأرض وهم في زهو توهجهم: بيرون، إأيفيتا بيرون، تشي جيفارا. بطولات صنعتها الإتساعات الأرجنتينية، المزيج السلالي الغني. أبطال رهنوا أنفسهم لتاريخ بلاد نحتتهم أتساعاتها وهجرة مجموعات من شعوب عديدة رهنوا أنفسهم لتلك البلاد، مستنزفين احتياطيات قدراتهم البشرية لإعلاء شأنها، مثل قباطنة سفن تسير ناشرة أشرعتها على بحر تاريخ الوطن. منذا الذي يمكنه رؤية الماء/ التاريخ بمعزل عن قباطنة السفن. الواقفون على الشواطئ يشاهدون القباطنة وهم ينحرون المياه الهائجة والعواصف. من يقرأ تاريخ هذه البلاد سيقول آه على بلادي ماذا صنعوا بها قباطنتها الذين جمعتهم بأعداء الوطن شراكة حقد على تاريخه. الأبطال الذين قرأوا تاريخ بلادهم رتّبوا إيقاع حياتهم كي يتوافق مع ما تمّنوه من موقع لها في العالم.
مارادونا صنع لنفسه تاريخا تقاسمه مع أبطال دفعوه للإقدام كأنه يسعى للحصول، منهم على تربيتة على الكتف، فهو قد رسم صورة جيفارا على ذراعه، كأن واجبه، منذ تعلم رفس الكرة، صنع أعاجيب أنجزت قسما منها بمراس، وأخرى وفاء لأبطاله في فعلين جمعتهما شراكة واحدة نابتة في قلبه وأخرى في قدمه اليسرى، مرة تدفعه هذه وتارة تلك. ذلك هو معدن تمايزه: تمايز شعري مثل القريحة تجول هادئة ثم تنفجر، تريك" الأرجنتيني"، في حاليه كما يقول الجواهري، في شحه والندى.
... نصف مليون شخص قبّلوا تابوت أيفيتا بيرون. عُلّق حول المبنى الذي سجّي فيه جثمانها ثمانية عشر ألف أكليل من الزهور، وُضع النعش على عربة حربية يسحبها خمسة وثلاثون ممثلا نقابيا، أصطف سبعة عشر ألف جندي يقدّمون لها مراسم التكريم، أُلقيت من الشرفات نصف مليون زهرة.... قال بيرون" لم يعد لأيفيتا علاقة بالواقع إلا من خلال الأرقام". في الأتحاد العام للعمل كانت مسجّاة وسط قاعة فسيحة مبطّنة بقماش أسود، تقبع ممدّدة فوق منصة كريستال سميكة معلّقة إلى السقف بحبال شفافة لمنح الانطباع أنها تطفو في النشوة الأبدية. تحوّلت حياتها إلى فلم يعد أحد يعرف ما قالته أو فعلته، بل ما يُقال أنها قالته وفعلته.
جعلته قدراته البدنية، حيويته، خياله يعتاد على مزيج مبتكر صنع منه كيانا راح يطفو طافيا طليقا لتنفيذ مغامرات مبتكرة وأعجازات سيئة وحتى قبيحة، فلم يعد أحد يذكر منادمته للقبيح حتى لو لماما. السيئ والجيد أجتمعا فيه في شراكة لم يعد التمييز بينهما ممكنا، فصار ينجز القبيح بطريقة مبدعة، والجميل بأشد جمالا، لأنه أعتاد على وتيرة جريانهما فيه. يقول نيتشة" إن لم تستطيعوا أن تكونوا ملائكة، كونوا قطاع طرق غازين". أي عيشوا بطريقة خطرة كي تفتحوا انتباه العالم على الروعة في الأخطار وتدخلوا الدهشة في القلوب.

كنت في تلك السنة مبحرا نحو موسكو، مارا بنابولي. كانت المدينة عندما جائها مارادونا لاعبا في صفوف فريق المدينة، ملكا حصريا له. صوره في كل مكان، أخباره احتلت كل صفحات الجرائد. الشباب والشابات يتزاحمون لشراء فانيلات تحمل صور المعبود، شعره على شكل كتلة دخان فوق عينين ناريتين.... جلست عصرا في ذلك اليوم الحزيراني بسمائه المشرقة الضاربة إلى اللون البرتقالي في مقهى أتناول فيه الشاي. كنت أسمع من بعيد قرقعات الطبول وبدأت أشاهد شباب وشابات نابولي في مسيرات لم تتوقف حتى خروجي وعودتي ثانية إلى المقهى. كان الشباب أشبه بمجموعة فلاحين يطالبون الرب بإنزال الغيث كي يجنوا محصولا وفيرا، وهم أنفسهم في مكان آخر راحوا يطالبون نفس الرب بتسكين العواصف كي يجنوا محصول أسماك وفير. استدرجا كلاهما الخالق الذي أنزل المطر هنا وسكّن العواصف هناك، فكان حصادا أشبه بمغنم حصلوا عليه مرات من فوز بالدوري وبكأس أوربا.
هل أنجب العراق مارادوناه الخاص؟. نعم. لاعب اسمه طرزان ولسون، قضى كل حياته جنديا من رهط المكلّفين في الجيش العراقي، الذي لم يكن يحتاج لإكمال انتصاراته على أعدائه في الداخل والخارج إلا لطرزان. أين هو وأي أرض تضمّه الآن؟.



#رياض_رمزي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضحكٌ كالبكا
- لديّ ما أتحدث به
- ألله يحب عباده العلماء
- من رمزيات رياض رمزي
- حول الطقوس
- ذكرى استشهاد تشي جيفارا
- الجهل في أرض المتنبي
- تغريدة لثورة تموز خارج السرب
- العزلة في زمن الكورونا
- عفيفة لعيبي: تحويل صناعة الأحزان إلى كسبٍ مشروع، أو الحزن حا ...
- موت مواطن لا ينتمي إلى وطنه. رياض رمزي
- فائز الزبيدي مقاتل أجبر على هدنة أبدية
- الميليشيات والاغتيالات
- بعض ما يحدث في جمهورية الإسلام السياسي
- صادق الصائغ لا بر إلا ساعداك
- تصفيق لأول من قال عبارة: الدولة أهم من دماء مواطنيها
- إلى نور مروان. وجهٌ جميل لا تليق به غير البسمة.
- يا وطن سائقي التك تك احبك الان اكثر
- محدثو النعمة-العراق نموذجاً
- بديهية كجملة - يطوف البط على الماء-


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض رمزي - القديس مارادونا شهيدا