أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض رمزي - عفيفة لعيبي: تحويل صناعة الأحزان إلى كسبٍ مشروع، أو الحزن حالة تجعلنا أحسن حالا. رياض رمزي.















المزيد.....

عفيفة لعيبي: تحويل صناعة الأحزان إلى كسبٍ مشروع، أو الحزن حالة تجعلنا أحسن حالا. رياض رمزي.


رياض رمزي

الحوار المتمدن-العدد: 6579 - 2020 / 5 / 31 - 07:14
المحور: الادب والفن
    


عفيفة لعيبي: تحويل صناعة الأحزان إلى كسبٍ مشروع، أو الحزن حالة تجعلنا أحسن حالا. رياض رمزي.
تقييم تلقّي العمل الفني.
أوجّه همتي هنا لتأكيد وتطبيق الفكرة التالية: ليس بالأمر الصحيح قصْر تقييم العمل الفني على " ذوي الاختصاص". إذا أريد لنا أن نجذب جمهورا أوسع وجعل قاعات العرض تزخر بمتلقين جدد، لا بد من إدخال مفسّرين جدد من خارج " النقابة". لابد من استخدام منجزات نظرية الهرمنيوطيقا أو التأويل لتوسيع معاني اللوحة ومنع احتكار المتخصصين لمهمة النقد، عن طريق الاقتصار على مصطلحات تقنية وتفاصيل( اللون، مزج الألوان، ضربات الريشة، الضوء، المعمار الفني...) التي لا تحمل معاني سوى لمتخصصين يتداولون تفاصيل لا يدرك كنهها المشاهد العادي، والتي تسلب الحياة من اللوحة وتحرّم دخول معاني خارج اللوحة من الاقتراب منها، وفقا لمفهوم التأويل الذي يسعى لتطعيم اللوحة بمكتسبات علومٍ أخرى، أي استنطاق العمل الفني وفق مفهوم التأويل، ( أنظر أعمال الايطالي أمبرتو أيكو). ما أسعى لقوله أننا يجب أن نعيد السيطرة للمشاهد وليس المتخصّص، بتوسيع الأفق الفكري للمتلقّي، وزيادة حصيلته الجمالية عن طريق إضافة معاني وتفسيرات جديدة. عندما قال المتنبي بيت شعره الشهير" أحادٌ أم سداسٌ في أحادِ/ ليلتُنا المنوطة بالتنادِ" لم يقم بشرحها برغم كثرة السائلين. لماذا؟. الأمر برمته يتلخّص في أنه كان يسعى لدفع القارئ لمتعة الكشف وبالتالي استدراجه لمملكته كي يرفع من وعيه الفكري والجمالي، عن طريق تعبئة العمل الفني بمعاني يكتشفها القارئ والسامع بنفسه بما فيها خبرته، قراءاته، موقفه من أحداث زمنه، مزاجه لحظة السماع.... فهم السامعون، بدون تدخل بن جني، أن الشاعر العظيم يلجأ إلى المغالاة في وصف ليلة واحدة تفضُل ستة ليالي، ليلة قامت خير قيام بعمل جهّزت نفسها ليستمر دوامها حتى يوم التنادي، أي حتى قيام الساعة. وكما يقال ليلة تستحق وزنها ذهبا. آه يا أبا الطيب كيف أمكن لمعاصريك العيش وهو يسمعون خبر قتلك؟ هل عرف معاصروك أن الحياة تقاس جودتها بحياتك، وهل تساءلوا أن كان يوم الدينونة هو اليوم الذي سُفك فيه دمك أيها الشاعر النبي؟. يقال يومها أن النهار تغطى بضباب كثيف، وأن غيوما حانقة منعت الشمس من الظهور فلم تستطع أن تُدفأ المقرورين.

اللوحات مثل الخيول ذوات السلالة الأصيلة لا تقبل بنصف رؤية لمن يراها ولا تحتمل رؤية سريعة ومزيّفة. أنها تطالب الرائي برفع الإبهام دلالة على جودة صنيع خالق تترتّب له حقوق على الناظر، فهو سيصاب بإحباط إن لم تتناسب النظرة مع مقدار جهده ومع الآمال التي ظلّ يشحنُ خياله من خلالها، مستنزفا احتياطياته من الصبر، وهو يمضي بثبات نحو أنجاز صنيعه كفنان. هو لا يدع الناظر يأخذ مساره ويغادر، إن لم يعود ويقف ثانية ليتعقبها بعينيه، وحين يغادر فستعكٍّر ذكراها صفوه. يتمنى الناظر لو كانت لديه عينان أضافيتان. يعيد في ذهنه تشكيل ما حدث فيصبح شاهدا على رؤية جريمة تتأجج مثل نار لا تُتلف شيئا بل مقدرٌ لها أنم تستمر مستعرة بقوة دونها ضرام السعير مجدّدا تواصله مع اللوحة بما لديه من معارف وذكريات. مثل حفلة ما أن تترك قاعتها حتى تبقى رائحة الرياحين عالقة بخيشومك. هذه هي الرسالة السرية للفنان الخالق الذي يصنع لوحة صامتة ترسل رسائل كما يقول مظفر النواب " يالساكت والتحجي طيوفك، وأتدافع آنه وكل كلبي نريد أنشوفك". ستظل تلك الصورة تتغذى مثل نبتة في الذاكرة. ترسل صورُ عفيفة رسائل سرية هي نقاط ارتكاز بدونها ستكون معانيها منطقة يتعذّر بلوغها. في لوحة سيزان" لاعبو القمار"، على سبيل المثال، يشير الوجوم والحزن على الوجوه إلى متطلبات لعب الورق وكأنها معركة خيضت وستخلّف منتصرا ومهزوما.

لكي لا يكون كلامي غفلا عن أسم الفنان فأنا أكتب عن الفنانة العراقية عفيفة لعيبي. أحاول نقل مضامين لوحاتها التي اختصرتها بواحدة تمثّلها( صمت المنازل)، تنتمي لفصيلة الأعمال التي تحمل رسائل سرية. أتراني أدركتُ النوايا المبيّتة في لوحتها والتي رحتُ أنقّب عنها بعينين زائغتين من الحيرة، حيرة عقلٍ لا يعرف الاسترخاء. لوحاتها تشبه فتاة تصل بقربك ويفصح وجهها عن ابتسامة تظل تستوضح سبب ظهورها المباغت وهي قريبة منك؟. سأقول ما أقول بثقة تفوق النصف وأكثر بكثير، الدليل أنني وأنا أشاهد تلك اللوحة، محاولا استقراء المضمون، لم يمد شحٌ لسانه في عقلي ولم تظهر محدّدات تشلُّ فمي عن القول.
إذن أنا أتكلّم عن لوحة" صمت المنازل" كمثال . لا تقتصر اللوحة على الوجه بل تعدّته إلى كامل الجسد المختفي تحت الرداء. الوجه الحزين يصبح نقطة جذب مثل وهج شمس ترسل نورها على مواضع غير مرئية، على شبكة علاقات محجوبة، نورٌ مثل ذكاءٍ قاسٍ يوجّه تقصيه نحو ماضٍ منسي ينتظر فرصة للإنعتاق من النسيان.
امرأة لوحة صمت المنازل، تذكّر بصورة الملكة شبعاد في كتاب القراءة في المدرسة الابتدائية: ملكة حزينة على رأسها تاج، وجهها مغمورٌ بالحزن. لكنه حزنٌ يمارس فتنة على الوجه لا يتماشى مع التاج، كأن ليس لها مزاج بحمل التاج الذي تعيّن عليها كملكة متوّجة أن تنطلق بعيدا بسرورها لحمله. نجحت الفنان في أنجاز عملٍ مستحيل: حزن على الوجه لا يقارن بمتعة حمل التاج. أتذكر كيف نسخ أستاذ الرسم نفس اللوحة وعرضها في ساحة المدرسة الابتدائية. عند نهاية السنة الدراسية هجم الطلاب على اللوحة واقتسموها بينهم على شكل شرائط طوّقت معاصمهم وهم يصرخون فرحا نحن في خدمة ملكتنا . بدون أن يعلموا فهم طوّبوها كقديسة، وكأنهم يمتدون بنسبهم لها، كأنهم يمسكون عشبة خلود وطنهم من خلالها، وهي عادة متوارثة تضع الأمهات خرقا خضراء على معاصم أولادهن كأنهن يسلّمن مصيرهم لذلك الولي ليبعد عنهم المصائب. أنه الشعور الحبيس داخل اللاوعي الذي تفجّره صورٌ ساخنة لشهداء، صورٌ تعيد التذكير بكوارث عظيمة حدثت لرجال ونساء وأطفال... هكذا فأن عفيفة لا ترسم بل تجعل الرائي يدير رأسه من خلال امرأة اللوحة نحو تاريخ البلاد القديم والحديث، تفتحه على مصراعيه من خلال وجه لا يمكن له أن يحرّر أوصاله من كوارث التاريخ، مثل لحافٍ مشغول باليد يتدثرون به كل يوم، يقعون تحت مدى تأثيره في يقظتهم والمنام. حين ترفع غطاء لوحات عفيفة ستجد ندوبا سريّة على أجساد ساكني لوحاتها، مثل تلك السهام التي غُرزت في صدر الرضيع الهالك، فتغدو لوحات عفيفة أشبه بنار تشب في دغلٍ يابس، تُخرج عند اشتعالها موجٌا طوفانيا على هيئة أكداس من صور تاريخية تظل تعمر خيال الفرد والأمهات، حتى يوم الحشر، كأن عفيفة تزعم أن عراقيات الجنوب اللواتي أطلن السهر على قتلاهن وانكببن في البكاء عليهم، سيكنّ من أول الأقوام اللذين سيسمعون نداء الحشر لوجود تفضيل للخالق لهن، لأنه هو من خبر أحزانهن عن قرب، أو هو من أمر بإنزالها بهن ليجعلهن صاحبات الحزن الأطول أمدا في التاريخ.
لا توجد في اللوحة تفاصيل تشتّت الرؤية، بل هي مغمورة بروح الفنانة ومزاجها الذين يلاحقان فكرة الصمت المركزية الناتجة عن توالي المصائب. كل علامة في اللوحة تدل على مدلول، لكن شفرة العلاقات بين التفاصيل معطّلة. لا تنظر امرأة اللوحة إلى هدفٍ معيّن، فالنظر نحو نقطة محدّدة يجمّد الموضوع في مكان سيتابعه الرائي بعناد، فلا يفصح الوجه عن شيء. هو يلاحق هدفا غائبا برغم غيابه يُستشعر عن بعد. لا يجب النظر إلى اللوحة كفن بصري محض، وهي الحالة التي اختزل الانطباعيون اللوحة إليها. يجب أن تُجنّد اللوحة كل مصادر المعنى لخدمة ما يمكن تسميته القفزة التي تعطي اللوحة القوة لذهن وعين المشاهدللّبث فيها، كي لا يتنكب طريق الصواب الذي خطّطت الفنانة للمشاهد كي يصل إليه. يجري الناظر يده على شعره ويتساءل: من هي هذه المرأة؟، هل هي زوجة؟، أم؟، أخت؟، بنت؟، خطيبة...؟ وجهها يفصح عن غياب لا نعرف من هو الغائب عن اللوحة. اللوحة إذن موضوعة لخدمة غائب تنظر إليه امرأةٌ وحيدة تلاحق مساره ملتمسةً منه الرفق بها. تلك هي محاسن رؤية ما وراء اللوحة، معنىً يجعلك لا تديم النظر في الوجه فحسب، بل تقول ليت عيني ترى ما خفيَ. ما يحافظ على عنصر التشويق في اللوحة التالي: امرأة وحيدة دون إعياء بادٍ على الوجه. صمتها يشي كأنها غارقة في حلم يأتي من مصدر جهة النافذة، من خلال الجدران، من أي مكان... كل تفصيل في اللوحة يدل على معنى، لكن شفرة العلاقات بين التفاصيل معطّلة. في لوحة غويا 3 ماي هناك شيء يوحي بشيء مريع برغم غياب أي جرح. كذلك في لوحة صمت المنازل للفنانة عفيفة. امرأة تقف وحيدة لا يوجد بجنبها رجل، طفل... هل ذهبوا بدون عودة؟، هل هذا هو المكان أين كانوا يلتقون؟.
عندما ترسم شخصا في سبيله إلى الهلاك بسبب مرضٍ ما لا ترسمه والأسلاك تحرج من أنفه، بل أرسمه نحيلا، شديد الحساسية، وجهه يتجلد ليمتنع عن البكاء برغم شدة الألم. لا بأس دعه أنيقا كما امرأة اللوحة: آذانها جميلة، فمها مغلق.. وأية علامة أو تفصيل يجعل حكاية اللوحة أشد تشويقا، كي تمثّل حالة فيها تفرّدٍ في الطباع والهندام كي تذكّرك بتفاصيل تتواطأ لتسهيل مهمة الفنانة التي تسعى للقول أن المرأة لم تكن تقف هكذا قبل زمن، فقد كانت تأكل الفواكه، تلبس ملابس مبهرجة.. ما الذي حدا بها أن تقلع عن كل ذلك. بهذه الأسئلة تبدأ شفرة التفاصيل التي لم تكن تحمل معنى سوى لمحقق في جريمة قتل بالوضوح. في لوحة أبولو ودافني لأنتوني بوليفوني يقع أبولو في حب دافني. يلاحقها وعندما يوشك على الإمساك بها ينجدها والدها النهر يحوّلها إلى شجرة تنبت جذورها عميقا في الأرض متحوّلة إلى ساكن أبدي قرب والدها الماء. حين يبحث عنها أبولو يجد أن للنهر يدٌ في اختفائها. عندما تُلاحق امرأة اللوحة بغية التعرّف على سرّها، عليك أن تصوّب بصرك نحو المنزل/ بيت والدها النهر، الذي مدّت جذورها فيه بعد غياب من يحميها، تجد ذلك في انتشاءه خفيفة برغم الحزن الممتد على الوجه.
أسمع، وأنا أشاهد لوحاتها، صوت انزلاق الفرشاة على قماش سيطوّب تلك المرأة إلى قديسة، بحزن يماثل أو حتى يفوق حزن شبعاد. أتصوّرها، عندما تنجز اللوحة، كأنها تجلس منتظرة مرور محنة سدّدت نفقاتها عرقا ومكابدات نيابة عن نساء مستغيثات من غياب أحبابهن على أديم تلك الأرض. تنظر عفيفة إلى اللوحة وتعرف أن الذي شحذ قدراتها وأوصل ريقها إلى الجفاف ملقيا بثقله على القماش، قد بلغ مرحلة الحزن الخالص، من خلال تواصلِ صامت مع المرأة. ستستريح عفيفة، برغم أنها لا تستطيع تحرير أوصالها مما سبّبته اللوحة لها من أذى. الحزن ليس حزنا وليس رثاء المرأة لذاتها، بل هو نوع من كرب خالص، هو غليان نال كلٌ من الصانع والمشاهد قسطا متساويا من حروق لا يمكن تفاديها. غليان انتهى وبات جزءً من نسيج الوجه، وليس حالة طارئة.
وجهٌ حزين يكشف عن حياة غنية بالحزن. حزنٌ تجاوز قدرات حاملة الوجه، الموت مجالٌ حصري لنشاطه. حزن قديم بعد أن شبع منه الوجه، آن له أن يرتاح. يقول الشاعر الفرنسي غيللفك في قصيدة من ديوان نحّات الصمت ترجمة شوفي عبد الأمير
" أكان لا بد من إحداث ضجّةٍ
حول كرسي؟
ليس هو بجريمة.
أنه خشبٌ قديم يرتاح.
نسي الغابة.
نسي حقده.
ولا سلطة له.
لم يعد يرغب بشيء.
وليس مُدانا بشيء.
له غليانه الخاص
وقد اكتفى...
حزن وجوه عفيفة قديم، أقصى مطمحٍ له أن يرتاح على وجه من عانت منه. حينما ترسمه عفيفة سيقال عنه: وجوه نسائها مجالٌ حصري لنشاطه. كما الجدران التي تزدان بزهور وطيور، تزدان وجوه لوحاتها بأحزان من تتعفّن بحدتها، ولكن نظراتها لا تحمل وعودا بفرجٍ قريب.
ما هي مواصفات هذا الحزن؟ وكيف حوّلته عفيفة إلى حزنٍ مُعْدٍ ومُشِعْ يمكن استقصاء كل نكبة مرّت بالبلاد من خلاله. كيف؟. عن طريق تحويله إلى رمز؟. نعم، هذا هو منطق الخلود الذي هو رمز يواصل ترصّده على شكل ذكرى تأتي من كل جانب، ولا تنتهي مدة صلاحيته. هو ليس حزنَ أُم في فترة حداد تبلغ منتهى أساها على الفقيد، ثم تريح رأسها وتفتح ستائرها المسدولة بعد انقضاء زمن العزاء. هو حزن مجتهد، لكل من يراه نصيبٌ منه، مثل مطلع أغنية ما أن يسمعها السامع حتى ينخرط في الجوقة. هل هو حزن موجهٌ لأحد؟. كلا. هل اغتصب الوجه؟. كلا. هو حزن تربى الوجه عليه لعقود وربما لقرون( ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع) وبات يشكّل جوهر وجوده. هذا ما نقصده بالخلود من خلال دوام رؤية وجه الحزين.
قال الذي حنّط ايفا بيرون أن جميع الفنون تتطلع إلى الخلود، أنا الوحيد الذي حوّلت الخلود إلى شيء مرئي. عندما جاءت الأم وشاهدت ابنتها أُغمي عليها لأنها رأت الميّتة تتنفس. قام نفس المحنّط بتحنيط يدي الموسيقي مانويل دي نايا كما لو أنهما ما زالتا تعزفان. كل من رأى يدي الموسيقي راح يسمع موسيقاه من خلال رؤية حركات يديه،. كذلك هنا الأمر لا يشذ عن الموسيقى فاللوحة تنقلنا إلى حزنٍ صِرْف مكتفٍ بذاته، لأنه لا يخشى من محنة جديدة، فما سيمرُّ ليس بأشد شناعةٍ مما مضى. لذا فهي سيدة حزنها حين توّجته سلطانا غير منازع على محيّاها، ليس همّها إثارة الشفقة. فهي لم تأكل شيئا منذ زمن، فالطعام ورائها لم تعره بالاً، بل راحت تتطلع إلى الأفق دون أن تنتابها لسعة جوع وعطش، بعد آخر عشاءٍ تناولته مع الغائب.
الفنان المنسحب والصامت ألقى حجرا على ماءٍ ساكن، مثل ريح هبّت أحدثت دوامات في النهر دفعت بصخور ترسّبت في القاع، أحدثت فارقا. انسحبت الفنانة بصمت بعد انجاز العمل مثل مالكة عقارات ليس لها من وارث محدّد، الكل يدّعي أنه أحدُ ورثته.
بهذه الطريقة يتخذ حزن المرأة مظهرا نشطا يتمثل في تعبير فني يأتي من زاوية النظر، الدرجة اللونية، التفاصيل... هذا ما يقوله كانت عن الشيء في ذاته، أو ما يعنيه بيكاسو بالواقع الأعظم supper reality. فأنت حين ترسم رجلا فأنت ترسم الرجولة، حين ترسم الحزن فأنت تمتلئ غبطة ، وليس حزنا، لرؤية جوهر الحزن، لأنه يمنحك قدرا من الارتياح وأنت ترى هذا جوهر الشامل وليس حالة حزن زائلة جاءت من سوْرة عمّت وجه حزين ثم تلاشت، أي الحزن ليس كاستثناءٍ يثير صرخة، بل كقاعدة تندمج فيها كل صنوف أحزان الثكالى. حين ترسم الفنانة عفيفة الحزن فهي تجعل خطوطها لا تتجه إلى أعلى بل إلى الأسفل بدرجات لونية باردة، وحتى مهدّئة. لو رأت أمي اللوحة لنسجت على نفس منوال المرأة التي تعالت على مصيبتها حين قُتل ولدُها، لأن الحزن هنا مصنوع ليس حسب طلب الثكلى الباكية بل حسب الحزينات الوقورات. لو ألتقين لتعارفن من أول نظرة. الثكلى لا تحزن لأنها هي حزنٌ خالص في ذاتها، على ما حدث قبل أن يحط عليها حزن عابر. وكما يقول غيللفك" تتفتح الوردة/ تحت صرخات/ الألوان التي تخبئُها". لا يمكننا رسم الحزن إلا وفقا لطريقة عفيفة: نجمع حطبا نشعله، ندع الريح تُذكي النار، نستمع لهسيسها مثل زملاء في المهنة، يعرفون إيماءات بعضهم. ما الذي يتبقى من هذه العشرة؟. صرخة النار التي تتبخر في الهواء لا يتبقى غير وهجها الساطع الذي يصعب نسيانه. يُشيع منظره السرور، برغم أنه أحرق مئات من أغصان كانت الأرض قد عملت بدوام كامل لإنمائها.



#رياض_رمزي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موت مواطن لا ينتمي إلى وطنه. رياض رمزي
- فائز الزبيدي مقاتل أجبر على هدنة أبدية
- الميليشيات والاغتيالات
- بعض ما يحدث في جمهورية الإسلام السياسي
- صادق الصائغ لا بر إلا ساعداك
- تصفيق لأول من قال عبارة: الدولة أهم من دماء مواطنيها
- إلى نور مروان. وجهٌ جميل لا تليق به غير البسمة.
- يا وطن سائقي التك تك احبك الان اكثر
- محدثو النعمة-العراق نموذجاً
- بديهية كجملة - يطوف البط على الماء-
- فتوى صادقة
- رسالة مفتوحة إلى لجنة البوكرز العربية


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض رمزي - عفيفة لعيبي: تحويل صناعة الأحزان إلى كسبٍ مشروع، أو الحزن حالة تجعلنا أحسن حالا. رياض رمزي.