الحسن علاج
الحوار المتمدن-العدد: 6755 - 2020 / 12 / 8 - 16:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
برنار إيدلمان
ترجمة : الحسن علاج
كتب فيلسوف القانون ، برنار إيدلمان (Bernard Edelman) واحدا من من الكتب النادرة جدا مبرزا تماسك الفكر النيتشوي ـ قارة مفقودة ( 1999 ، puf ) ـ في حين كانت الفاشية تعتبره مفكرا مفكّكا ، متناقضا ، متصرفا بواسطة جوامع الكلم . يبرز هنا ، في هذا النص الذي عهد به إلينا ، كيف سعى نيتشه إلى " التفكير في ما لا يمكن تصوره " : القبول بأن العالم لا معنى له ، رفض دجل الكينونة والإله ، قول نعم إلى المعاناة كما إلى الفرح .
من هو نيتشه ؟ ما هو رأي نيتشه ؟ إلى أين يسير ؟ ، فإذا وضعنا أفلاطون ، أرسطو ، ديكارت ، سبينوزا ، كانط ، هيغل موضع نيتشه ، فإن تلك الأسئلة تصبح غير لائقة تماما ؛ سيُقال لنا : اقرؤوهم من البداية ، وستحصلون على الأجوبة ؛ سيتضح لكم نسقهم في واضحة النهار . على أنه لما يتم الشروع في قراءة نيتشه ، كل شيء يصاب بالتشوش : بقراءة المرء ، بنفس الاهتمام ، ولادة التراجيديا ، المعرفة المرحة ، في ماوراء الخير والشر ، هكذا تكلم زرادشت ، إرادة القوة ، إلخ . ، ثم يخرج مبهورا بذلك ومشوشا . منبهر ، لأن ثمة بريق يأخذ يتلابيبكم ، تحليلات محذرة بخصوص حداثتنا ؛ مشوش ، لأن المرء يعثر فيها على هذيانات شعرية ، يأس لا حد له مثل أنين ظل زرادشت ، ظل " مغامري المثال " ، عديمي الجنسية ـ " أين هو ـ موطني ؟ ذاك هو ما أسأل عنه وأبحث ، وعنه بحثت طويلا ولم أجده . أواه أيها الأبدي في كل مكان ! أيها اللامكان الأبدي ، أواه اللاجدوى ـ الأبدية ! 1 "
نيتشه ، فيلسوف ، شاعر ، " متنور " ؟ مؤلف عمل بعيد الاحتمال يبذل قصاراه دون أن يعثر على هويته الخاصة ، من نص غير مكتمل قطعيا يقارب ، في الفوضى ، كل القضايا ، ينتقل من الكوزمولوجيا إلى الأخلاق ، من الأخلاق إلى العلم ، من العلم إلى البيولوجيا ، من البيولوجيا إلى الديموقراطية ثم إلى فاغن أو بودلير ، دون احتساب الشذرات السيرذاتية ؟ بحيث أن كل واحد بإمكانه قطف ذلك على مهل ، جني حكمة مشابهة ، " اعتبار لازمني " مشابه ، يستفيد من بريق مشابه . لأنه سيقول كل شيء ونقيضه ثم إن " تصوراتـ " ـه ـ " إرادة القوة " ، ال" ديونيزوسية " ، ال" عود الأبدي " ، العدمية ، الإنسان الأعلى ... ـ تصبح اتفاقية ، طبيعة تنسجم مع تأويلات بعيدة الاحتمال .
دعونا نترك تلك الأمكنة المشتركة ، كل تلك السلاسة . لا يعتبر نيتشه " مقروءا " بالنسبة لأولئك الذين يقرؤونه بعيون ال" عقل " ، إنه " لا يُتصور " بالنسبة لأولئك الذين يرغبون تفكره بأدوات ال" فكر " . إنه مفكر لما لا يتصور ، لما هو خارج الفكر " ـ وهناك يكمن " سر" ه : كيف يمكن " تفكر " ما " لا يتصور " ؟ ليس لجعله " مدركا " ، لأنه سيتم السقوط في فخ الفلسفة ، بل بتقدير طبيعة للامتصور حتى الهذيان ؛ مع " عيشه " في جسمه ، في لحمه ، مع عضلاته ، أعصابه ، " قلبـ" ـه ، مع وعي أن جسده ، هذه ال"أنا" الأخرى ، يدرك بشكل أفضل أن الفكر [هو] " حقيقتـ"نا الإنسانية . فلو قبلنا باقتفاء أثر نيتشه ، السير في أثر هذا المستكشف ، فإن قارة أخرى تظهر وتستضيء : التصورات التي بدت لنا غير لائقة ، التحليلات الاجتماعية التي تراءت لا تطاق ، رجعية ، شمولية ، عنصرية ، نسالية ـ احتقاره للبرلمانية ، القيم الديموقراطية ، المساواة ، والحرية ـ تنتظم وتشكل كلا متماسكا . لنفهم جيدا ؛ لنتفاهم جيدا ؛ إنها ليست ، بالنسبة لنا ، مسألة " مقاضاة " نيتشه ، الحكم إثبات خطإه أو صوابه ، أن نعمل منه وثنا أو مجنون خطير ؛ يتعلق الأمر بفهمه ، بقبوله ، التعاطف معه ـ وبعد ذلك ، على كل واحد أن يكون حرا استنتاج أن يكون أو يكون ـ نيتشويا .
إن نيتشه ، في الحقيقة ، هو هيراقليطس الأزمنة الحديثة ، هيراقليطس الذي كان سيعرف كوبرنيكوس ، كيبلير ، نيوتون ، الديناميكا الحرارية ن الذي كان سيقرأ لامارك وداروين ، وشهد ولادة البيولوجيا ، والذي كان سيضع تاريخ الغرب وراء ظهره ـ نهاية الوثنية ، المسيحية ، التصنيع ، ظهور الطبقة الكادحة ، التيوقراطية ... ـ ، هيراقليطس الذي كان سيقوم بتثمين الناس بالنسبة للكوسموس .
الذي كان قادرا على فهم الفوضى . يندرج تاريخ البشرية ، في نظر نيتشه ، ضمن هذا التناوب ؛ لقد كان ثمة لحظة مباركة ، لحظة إعجازية ، حيث قبل الناس بالفوضى ؛ إنها لحظة ما قبل السقراطية ، لحظة هيراقليطس ، ديونيزوس والأبولونية . ثم أتت الأزمنة المرعبة للمسيحية : لاذ الإنسان بالإله وانقلبت إرادة القوة ـ مبدعة ، فعالة لدى الإغريق ، ستتدنى ، أصبحت سلبية ، وعندما مات الإله موتة طبيعية في سن متقدمة ، فإن القيم السامية " تمت علمنتها " ، تحولت الطبيعة إلى يوطوبيا روسوية (نسبة إلى روسو ) وقد تمت الرغبة بداخلها بحل رموز المثال والطيبة . تحولت المحبة المسيحية إلى أخلاقية لطيفة واتخذت الديموقراطية على عاتقها المساواتية المسيحية . وفي الوقت الحالي ؟ نحن نوجد على حافة عالم يقول نيتشه ، على حافة عدمية ، وربما نحن على وشك بناء مستقبل جديد واستعادة صحة الإغريق العظيمة ، التي تتجسد في صورتين مكملتين : هيراقليطس وديونيزوس .
إن هيراقليطس متغطرس ، لهذه العجرفة الكبيرة التي يرفض باحتقار أن يتميز عن الجمهور ؛ إنه ينتقل منفردا ، لأنه لا يوجد أي مكان يستطيع استقباله ؛ فلا هو يوجد في الماضي ، ولا في الحاضر ، ولا في المستقبل ، لكن في مكان أبعد من الزمان . تصدر رباطة جأشه عن رؤيته للصيرورة : قام الأول برفع الستارة على الكون ، رأى الأول " مثول القانون في قلب الصيرورة واللعب في قلب الضرورة 2 " . لا وجود إلا لعالم واحد وهذا العالم ليس هو الكينونة لأنه في حالة صيرورة . كل ما يصير ، كل ما يصير موجود ، ثم إن الكينونة ليست شيئا آخر سوى تدمير الكينونة من تلقاء نفسها . نشوء وتدمير ، تلك هي ميزة الصيرورة التي تعتبر سلبا للكينونة .وإذا ما كانت الكينونة هي الصيرورة ، وإذا كانت الصيرورة هي سلب الكينونة ، فلأن الكينونة هي ذاتها في صراع ، تنشطر ، إنها قوة منقسمة إلى شياطين متميزين ومتعارضين واللتين تسعيان إلى الاتصال بعضهما بعضا . ثم إن النموذج ال" بشري " للفوضى ، سيتخذه هيراقليطس في المبارزة ، التي كانت في الملاعب
التي أطلقت العنان للحقد ، الشراسة ولذة الانتصار .
لم يكن هدف المبارزة هو الفوز على الخصم ، إنهاكه ، بل المنافسة ، لذة المعركة . ففي المبارزة كما هو الحال في الصيرورة ، ليس ثمة نهاية ، بل معركة تستأنف باستمرار ، ثم إن تلك المعركة تتم تحت علامة العدالة . كما أن كل واحد في المعركة ، يقاوم من أجل حقه ويقدر أن نصره مستحق ، ونفس الشيء في الفوضى ، كل قوة ترغب في التغلب على الأخرى ، لسبب وحيد للصراع الموعود ؛ لذلك فإن الصراع الداخلي هو العادل ، ضرورة عالم في طور الصيرورة يتشكل ويعاد تشكله . بعبارة أخرى ، إن قانون الصيرورة هو العدالة الوحيدة ؛ يكون النشوء والتدمير عدالة ، ال" نعم " التي تصبح " لا" ، ال"لا" التي تصبح " نعم " . دون علمهم بذلك ، كان الإغريق يلعبون الفوضى يتفلسفون لاعبين . إلى جانب هيراقليطس ، امتدح نيتشه ديونيزوس ؛ إله البطولة الإنسانية ، إله الحكمة التراجيدية ، الذي ركب خطر حث الناس على أن يعيشوا الكون في لحمهم ، في أجسادهم ، القبول بألم تلك المغالاة ، أن يسكنوا ويحبوا القدر ، fatum) ( . إله المغالاة ، يسعى ديونيزوس إلى ملاقاة القوى الديماسية يفجر قصور الأوهام إلى شظايا ، يدمر كل شيء ، بدون رحمة ، الأكثر " نبلا " مثل الأكثر انحطاطا ، بغية التماهي مع المبدإ . إنه ال" حياة العضوية " ، تلك التي لم تكن تعرف لا خيرا ولا شرا ، لا أخلاقا ولا احتراما ، بل فقط [تعرف] لذة الوجود من أجل الوجود ، لذة ما ينبغي أن يأتي ، لذة ما يعتبر مستقلا (...) ينتقل ديونيزوس من معنى إلى آخر ، من غريزة إلى أخرى ، من شكل إلى آخر ، إنه نبتة ، حيوان ، إله ، شيطان ؛ إنه المتعدد قيد الصيرورة ؛ يدخل إلى أي جلد مهما كان ، يتحول ، إنه فائض و ، وحينما يكون فائضا ، لا يكون ثمة خوف من أي شيء بما أنه يتم الابتكار باستمرار . هكذا تسير المغالاة ، هائلة ، عديمة الشفقة ، متوحشة ، مهيجة ، دائما على الطريق لكنها مؤلمة للغاية أيضا . لأن ديونيزوس نيتشه لا يعاني من ألم " ديني " ، من نوع : الله هو الذي وهبني الحياة وعلي " استرجاعـ" ـها ؛ لكن بألم لا أخلاقي ، ضروري ، لأنه يلازم الحياة . " الألم لا يعي ذاته إلا بواسطة العائق ، يعتبر الألم جزءا مكملا لكل نشاط . تصبو إرادة القوة إذن إلى العثور على مقاومات ، الألم . ثمة إرادة المعاناة في قلب كل حياة عضوية 3 " .
يعاني ديونيزوس لكن بشهوة حسية ؛ يعاني من شراسته الخاصة ، قوته الخاصة . زد على ذلك، فكيف سيكون إذا عالم بدون ألم ؟ كريه ، دميم ، تكراري ، بدون لذة . يعتبر الألم حافزا ، وكل حالات اللذة هي حالات معاناة . تقود الشراسة إلى الهدم ـ ينزل المرء ـ ، لكنها تسمح بالتجديد ـ يصعد المرء ـ ، على أنه بإمكان المرء أن ينتشي من جديد ـ يصعد المرء ـ تموت الغريزة المشبعة في المرارة ـ لكن من أجل أن تولد من جديد ، أكثر قوة ، أكثر عنفا (...) الكل يصعد ـ إنها اللذة ـ والكل ينزل من جديد ـ ثم إنه ألم الانحدار ـ من أجل الصعود مرة أخرى . لابد من المعاناة من أجل المتعة . والحياة ذاتها تصبح رقصا : ، قدم للسقوط قَدم لوثبة ، قَدم للسقوط ... كان الإيقاع ، في الموسيقى القديمة ، يتبع نبرات الزمن ؛ يصور التعاقب الألم واللذة . ماذا قال زرادشت للرجال ؟ تعلموا الرقص ، أحيوا في جسدكم اللذة والألم ، إيقاع الصيرورة والعود الأبدي في نفس الزمن الذي ترقصون فيه : " أيها الناس الراقون ، إن أسوأ ما فيكم هو أنكم لم تعبروا فوق أنفسكم راقصين ! وما ضركم إن أنتم فشلتم ! لكم ما تزال هناك من الأشياء الممكنة ! فلتتعلموا إذا أن تمضوا فوق أنفسكم ضاحكين ! لترفعوا قلوبكم أيها الراقصون ، عاليا وأعلى ! ولا تنسوا أن تضحكوا ضحكا جيدا أيضا ! ؟ .
ــ
برنار إيدلمان (1938) فيلسوف ومحامي ، كان يحاضر بالمدرسة العليا للأساتذة . من أعماله : نيتشه . قارة مفقودة puf , 1999) (
1 هكذا تكلم زرادشت ، 4 " الظل " .
2 نفس المرجع ، الصفحة 40 .
3 IV,§ 534 v.p.,
4 z, IVDe l’homme supérieur ,20 IV
مصدر النص : Le Monde , hors série 2019 : friedrich Nietzsche , L’éternel retour
#الحسن_علاج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟