الحسن علاج
الحوار المتمدن-العدد: 6285 - 2019 / 7 / 9 - 02:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد تكهن نيتشه بفظاعات القرن العشرين ، ال" حقائق التناوبية " وازداد نمو البشر ، غير أن فكره ، تعرض أيضا لكل الاستعمالات الخاطئة .
دوريان أستور1
ترجمة : الحسن علاج
ينبغي الاحتراس من الحكمة الحضرية للنقوش الأثرية ، وهذه واحدة منها ذائعة الصيت : " لقد مات الإله " ، من توقيع نيتشه . " لقد مات نيتشه " ، من توقيع الإله . " انتصر الإله عليه ، لا مجال للشك في ذلك . إذا كان هناك من شيء يعود باستمرار ، فهو انتصار ال" قوى الارتكاسية " ، الانتقام الأعظم للقساوسة ( من كل الأنواع ) والمتعصبين للمثال الذي يستحضره [كتاب] جنيالوجيا الأخلاق . صحيح أن روح نيتشه ، ارتقت سلم الخلاص بهدوء : جحيم الجنون ، المطهر الذي تبع الاسترجاع الفاشي ، بعث المدونة ( التي يعطيها الجامعيون اسم نهضة نيتشه ) ومكافأة الفردوس ـ أو مدفن " عظماء الفلاسفة " .
منذ ذلك الحين ، كان يتم الاعتقاد أنه لا ينبغي فقط اتخاذ الحيطة والحذر من " أحكام الفلاسفة المسبقة " التي يفضحها الجزء الأول من [كتاب] ما وراء الخير والشر ، على أنه يظل تعظيم نيتشه نفسه مشبوها : " إنني أحيا على الرصيد الخاص الذي كونته لنفسي ، بل لعل الاعتقاد بأنني أحيا ليس سوى مجرد فكرة مسبقة لا غير ... وأنه ليكفي أن أتحدث لأحد من هؤلاء " المتعلمين " الذين يأتون لقضاء الصيف في أنغادين العليا لكي أدرك أنني لست حيا ... " ( هذا هو الإنسان )2 .
دعونا نتكلم بصراحة : لقد حاولت عبثا الابتهاج بنجاح نيتشه ، لنكن حذرين بأن عودته الأبدية ، المضمنة في المجلات ، كي لا تتحول إلى أغنية مكرورة . ذلك بالضبط ما كان يخشاه زرادشت وهو يعلِّم مذهبه المهيب والمرعب : ألا يحدث التكرار أي اختلاف .
أي قارئ تفترضونه بداخلكم ؟
لتجنب هذا الخطر ، أجيز لنفسي تقديم نصيحتين للقارئ ، وهما ذواتي نفع يعود علينا أيضا ، كصحافيين ( " نشالو الجثث " ) وجامعيين " عمال الفلسفة " . 1 . اشرعوا في قراءة أو إعادة قراءة هذا هو الإنسان ، سيرة ذاتية ذهنية وهو العمل الأخير لنيتشه على الإطلاق ، الذي ينفتح على تلك العبارات : [...] في مثل هذه الأحوال يغدو من الواجب علي القيام بعمل هو في الواقع مما يستثير عاداتي السلوكية وأكثر من ذلك كبريائي ، وهو أن أقول : اسمعوني ! فانا فلان الفلاني . لا تخلطوا بيني وبين شخص آخر "" 3 . تذكروا أن نيتشه كان يتطلع إلى قراء لم يوجدوا بعد ، وحيث أننا نجهل ، على الدوام ، ما إذا كان زمنهم قد أتى : " حينما أحاول أن أتصور صورة قارئ نموذجي ، إن ذلك يمنح شجاعة هائلة وفضولا ، بالإضافة إلى ذلك نوعا من المرونة والدهاء والحصافة ، مغامر ومستكشف ناشئ " ( هذا هو الإنسان ) . أو ، بدلا من النصائح ، دعونا نقول أنها شروط السوق : تشرعون في الاستماع إلى نيتشه ثم تتساءلون: أي نوع من القراء ينبغي عليكم افتراضه بداخلكم من أجل فهمه . بالمقابل ، نبذل قصارى جهدنا من أجل إحداث قليل من الاختلاف في التكرار ، بغية بعث نيتشه ليس مثل واحد من " كتابنا الدائمين " ، بل عبر ما يعتبر ، في الوقت الراهن ، قابلا على صناعة الاختلاف : الاستخدامات التي من الممكن أن تنبثق عنه ، والتي من شأنها أن تشكل موضوعا لهذا الملف . لكن ، قبل ذلك ، كنت أتعهد بمواجهة التحدي الذي سارع يقذف نفسه فيه لما صمم على الحديث عن ما قبل السقراطيين : " سأروي قصة هؤلاء الفلاسفة مع تقديم تبسيط لها : لا أرغب في أن أستخرج من كل نسق سوى هذه النقطة التي هي شذرة شخصية وتنتمي إلى هذا الجزء الذي يتعذر دحضه والذي لا جدال فيه ، الذي يجب على القصة الحفاظ عليه " الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي ) . لنحاول .
شذرات يقينية للشخصية
لم يسبق لنيتشه أن كان أستاذ فلسفة : فقد قام بتدريس الفيلولوجيا الكلاسيكية ، بجامعة بال . إن كتابه الأول نشأة التراجيديا ( 1872) ، الذي كان ينبغي أن يكون كتاب علم ، قد ألقى بحجرة في بركة : أصل ومعنى التراجيدي الإغريقي ، ميتافيزيقا شوبنهاور والدراما الموسيقية لفاغنر تنصهر في زوج ميثولوجي ، أبولون وديونيزوس ، حيث يكمن الهدف ـ بشكل متناقض ، في التغلب على كل ثنائية ميتافيزيقية للوجود والظاهر ، واستبدال الإدانة الأخلاقية للوجود بالتبرير الإستثيقي للعالم، وتخليص الماضي مما لما يتم حدوثه أبدا : إن قوى الإبداع قادرة على الارتقاء بالثقافة في المستقبل . شرعت لا زمنية نيتشه في العمل على عزله . إن الأعمال الأربعة من اعتبارات في غير أوانها (1873 ـ 1876) ، تم تخصيصها على التوالي للمرض التاريخي ، ولمتعلمي الثقافة ، شوبنهاور ، وأخيرا فاغنر ( وبالرغم من أخطاء بعضهما البعض ، ماكان يمكن دحضهما ) ، سجلا استعراض سلاح نيتشه : نازلا إلى حلبة الحداثة ، يفضح حقبة غير قادرة على ترك بصمتها في التاريخ ، ذاكرته المتضخمة وأعصابه المفرطة الانفعال ، عجزه على تقديم وعد للمستقبل . مع كتابات هجومية عنيفة مشابهة ، أنهى صلته بالجامعة التاريخانية ، لألمانيا القومية ، وكذلك بالفاغنيرية المثالية : وانطلاقا من 1877 ، قاد نيتشه حياة " هاربا مترحلا " ، بين إيطاليا وجنوب فرنسا .
متحررا من كل تلك الأثقال ، وبالرغم من التفاقم القاسي لاعتلالات جسده ( الدماغية والمعدية ) ، فقد أصبح نيتشه أخلاقيا على الطريقة الفرنسية ، عالم نفس على الطريقة الإنجليزية ، وفنانا على الطريقة الإيطالية : سجل كتاب إنسان ، مفرط في إنسانيته ( 1878 ـ 1879) سمو " الروح الحرة " ، التي تمت تغذيتها في " مدرسة الشك " ، كاشفا وراء كل المثل ، الأخلاقية ، الدينية ، العلمية أو الإستثيقية ، عن غرائز متلهفة ، دناءات سرية ، أكاذيب صريحة . كشف كل من كتاب فجر (1881 ) والمعرفة المرحة (1882) ، عن التقلب المقلق لرغبتنا في الحقيقة : عطش لتقوية الإحساس بالقوة ، الذي سوف يدعوه نيتشه عما قليل ب" إرادة القوة " ، مبدأ تنظيم تعدد غرائزنا و، أخيرا ، وكل الحقيقة المدركة كعالم قوى . وإذا كانت كل قوة مثل " وجهة نظر " حول العالم ، فإن " شغف المعرفة " يتضمن المغامرة بركوب المحيط اللامتناهي للتأويلات البصرية .
ليس هذا فحسب ، بالإمكان تقييم الثقافة وفقا للمميزات المختلفة لإرادة القوة : تارة بإثبات الحياة والعافية ، وتارة أخرى بتبخيسها والرغبة في الانتقام منها . ومع ذلك ، فإن نيتشه يرى روح الانتقام والضغينة تنتصر ، إرادة العدم ، لمن هم أكثر وهنا من أجل الإثبات ؛ ففي هكذا تكلم زرادشت (1883 ـ 1885) ، حذر نيتشه من " الأناس الأخيرين " : على الإنسان ، مرة أخرى ، تعلم قول نعم ، الرغبة في تجاوز ذاته لصالح قيم جديدة إيجابية ـ على سبيل المثال ، الرغبة في عودة كل شيء ، حبا في كل ما هو موجود . إن طريقة مشابهة في التفكير والحياة سوف تسمو بنا إلى ما هو فوق إنساني .
بعد أن اختبر الأشكال الشعرية ل"إنجيل " جديد ، لن يتخلى نيتشه عن النقد المتصلب للقيم العدمية وشروط قلبها ، ففي ماوراء الخير والشر (1886 ) ، جنيالوجيا الأخلاق (1887) وطيلة السنة المثمرة (1888) ، السنة الأخيرة من حياته الواعية ( قضية فاغنر ، غسق الأوثان ، ضد المسيح ، هذا هو الإنسان ) . كان الزمن يعجل من أجل وضع أسس " سياسة كبيرة " وإتاحة ظهور " فلاسفة المستقبل " . لكن ، في يناير 1889 ، كان الانهيار الجسدي ، متبوعا بسنوات حياة خاملة . ومع ذلك ، فحذار أن نجعل منه شهيدا : " إني أرغب في أن أكون مهرجا على أن أكون قديسا ... " ( هذا هو الإنسان ) . يرى دولوز أن كل من لم يصب بالضحك أثناء قراءته لنيتشه لم يكن قد قرأه إطلاقا .
استعمال ، إنهاك ، إن لم يكن اغتصابا
" إن من يتكلم هنا ليس "نبيا " ، ولا واحدا من أولئك الشنيعين الخلاسيين من المرض وإرادة القوة ، الذين يدعون بمؤسسي الدين " ، يحذر نيتشه في هذا هو الإنسان . ليس هناك ما هو أكثر فظاعة أن يكون المرء مدركا أنه على خطإ . شن نيتشه " حروبا كما لم يسبق لذلك أن حدث من قبل على الأرض " ، ثم إن القرن العشرين قدم له البرهان على ذلك ـ على أنه من يتذكر أن الأمر يتعلق ب"حروب الروح " ؟ استحضر نيتشه " سلالة أسياد " ، وألمان منحطين قدموا له التبرير ـ على أنه يقول أنهم كانوا أسوأ ثأر للعبيد ؟ شرح نيتشه أنه لا وجود لحقائق ، توجد تأويلات فقط ، ثم إن القوى العالمية ، بواسطة حقائق تناوبية وأخبار مزيفة ، تثبت أنه على صواب ـ لكن من سيفسر طغيان الأمر الواقع ؟ مجد نيتشه قدوم الإنسان الأعلى ، والطليعة الرأسمالية ترميق للإنسان المتحول ـ على أنه من سوف يحمله على الفهم أنها تصغِّر من شأن الإنسان ؟
وفي الواقع ، فإن نيتشه كان مخطئا في المنطق . لقد اعتقد أن الحداثة المنهكة ستنزلق نحو نوع من البوذية الغربية ، متطلعا إلى تعطل العدم ؛ اعتقد أن الديموقراطيات القطيعية ستصبح حتمية مثل قطيع النعاج المسيحية ؛ لقد اعتقد أخيرا أن موت الإله سيشكل مفترق طرق بين السخافة والمعنى الجديد ؛ لقد اعتقد أخيرا بأن الشكوكية ، التعدد ، المنظورية ستكون فرصة لانعتاق العقل وشغف المعرفة . حسنا ، لقد كان نيتشه على حق في أن يكون مخطئا .
لقد قام هذا الفيلسوف الطبيب بكشف كل الأعراض وحضَّر فارماكونا كاملا ـ هو في الوقت نفسه سم وترياق : " سوف يشكل وصفة ضد الفلاسفة المتشائمين والحساسية المصابة بالتضخم ، والتي تبدو لي " قلقا للعصر " الحقيقي : ولكن ربما قد تكون وصفة مفرطة في القسوة والتي يمكن اعتبارها ، من القرائن التي يستند إليها هذا الحكم : " الوجود شيء فظيع . " طيب ! ها هي ذي الوصفة ضد " القلق " : إنه القلق " ( المعرفة المرحة ) . من يدري إذا كان ما يزال في حوزتنا ما يكفي من القوى ، كي نجعل من قلقنا علاجا ، أو ما إذا كان وهننا الأقصى لا يصنع من ذلك سما ؟
ثمة عباقرة منسيون ودجالون ذاع صيتهم . من الممكن جدا أن عبقرية نيتشه تعتبر لعنة أسوأ بكثير . إن استعمالات نيتشه لا حصر لها ، فغالبا ما يفضي الاستعمال إلى الإنهاك ، إن لم يكن الاغتصاب . إن غاية هذا الملف ، هو أخذ وتحليل بعض قطرات الدم ، وتقييم مُعايرة للعلاج والسم الذي عمل فكره على حقننا به . من المحتمل أن المرء يكون في حوزته على الدوام نيتشه الذي يستحقه .
ـــ
مصدر النص : المجلة الجديدة الأدبية الفرنسية عد 16 ، أبريل 2019 .
1 ـ دوريان أستور Dorian Astor) ( : فيلسوف ومتخصص في اللغة والثقافة الألمانيتين . له على الخصوص : نيتشه . محنة الحاضر ( 2014) ، كما أنه قام بنشر معجم نيتشه ( 2017) . في الوقت الراهن يشغل أستاذا بجامعة مارك ـ بلوخ باستراسبورغ .
2 ـ هذا هو الإنسان ، ترجمة علي مصباح ، منشورات الجمل ، الطبعة الأولى 2003 ص 7 .
3 ـ نفس المرجع ص 7 .
#الحسن_علاج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟