|
في مديح السيكارة
ملهم جديد
الحوار المتمدن-العدد: 6740 - 2020 / 11 / 22 - 11:52
المحور:
الادب والفن
ليس الإدمان على النيكوتين ( الذي يمكن الحصول عليه من دون تدخين )، و لا إثبات الرجولة الذي يدفع المراهقين إلى التدخين ( فقد قاربت عمر الستين ) هما ما يدفعانني إلى الإستمرار في صحبة السيكارة ، الوله يكمن في الدخان الذي يرافق التدخين . فمنذ طفولتي فتنتني السحب البيضاء التي تخرج من أفواه المدخنين في بيت جدي العتيق ، و لطالما انتظرت أيام الجمع لتأخذني أمي ، التي كانت مولعة بالنذور، و ما تزال ،إلى المزارات القريبة من ضيعتنا،لا لشيء، سوى لمراقبة الدخان المتصاعد من المباخر حيث كنت أقترب منها فاتحا فمي و محاولا دون جدوى جعل فتحتي أنفي الصغير أكثر اتساعا لاستنشاق أكبر قدر ممكن من الدخان ، لأعود و أنفثه مرة أخرى في غفلة عن المؤمنين المطأطئي الرؤوس في المزار شبه المعتم ، حيث لم يكن يُسمع فيه سوى طقطقة مسبحة الشيخ و تمتمات صلاته ، و لم أكد أبلغ العاشرة حتى صار الركض وراء السيارات التي تعمل على المازوت إحدى هواياتي المفضلة ، ولطالما شعرت بالحزن و أنا أراقب استبدالها المتدرج بالسيارات التي تعمل على البنزين ، و ما أن بلغت الثالثة عشرة حتى بدأت بتدخين ما يخلفه الضيوف في المنافض ، و كم حنقت على الضيوف الذين لا يدخنون . و إذا كان هناك من شيء شدني إلى قراءة ألف ليلة و ليلة فهو قصة علاء الدين و الفانوس السحري الذي ما إن يُمْسَح عليه حتى يتصاعد الدخان لينجلي عن الجني الذي ينفذ ما يُطْلب منه . و في دروس التاريخ ، كنت من المعجبين بنيرون الذي أحرق روما ، صحيح أنه كان عازفا فاشلا ، لكني لا أشك بأن أفضل معزوفة عزفها هي تلك التي أوحى له بها الدخان المتصاعد من المدينة ، كانت روما عظيمة لكن يبقى الفن أعظم ، و لا يوجد فن من دون تضحيات أو ضحايا ! أما في دروس الديانة ، فطالما تعجبت كيف لم يخطر على بال الله أن يعد المؤمنين بجنات لا تكاد تنتهي فيها سيكارة المؤمن حتى يبدلها الله له بواحدة أحسن منها ، يشعلها له غلمان من نور في أيديهم قدَّاحات من بلّور ، لتنتهي الآية " و كذلك نجْزِي المتقين " ، و كم حلمت بدفش الأيام إلى الأمام لأُسَرِّع الزمن و أبلغ سن الثامنة عشر من أجل أن أستطيع التدخين وقتما و أينما أشاء ، و ها أنا الآن في الثامنة و الخمسين أعاني من غبش الذكريات الغارقة في الدخان الذي خلفته ورائي و بالكاد أستطيع تبينها، نعم ، لقد خلّفت ورائي من الدخان أكثر مما كان من الممكن أن تخلّفه باخرة تعمل على الفحم الحجري بعد قطعها للمحيط الأطلسي في القرن التاسع عشر . و لأن لا شيء من دون ثمن ، فقد أتى اليوم الذي كان علي أن أقف فيه أمام الطبيب الأنيق الذي قال لي بتهذيب شديد بأنني الآن أمام مفترق وجودي يتطلب قرارا حاسما ؛ إما ترك السيكارة أو ...... ! ، نظرت إليه ، و لم أتردد في القول بأني ارتكبت الكثير من الموبقات في حياتي ، لكن هناك موبقة واحدة لم و لن أرتكبها ، و ما هي ؟، سألني ، فقلت الخيانة ، استغرب وقال : عن أي خيانة تتحدث !؟ فقلت :خيانة السيكارة ، ابتسم و قال : إذا تفضل الموت على تركها ، فأجبته نعم ، تأملني لبعض الوقت و قال : لماذا لا تجرب السيكارة الإلكترونية ، فقلت : لن يكون حال تدخين السيكارة الإلكترونية أفضل حالا من ممارسة الجنس مع لعبة جنسية من البلاستيك ، هناك شيء اسمه الحميمية يا دكتور ، وهذا شيء لا توفره السيكارة الإلكترونية ، فكيف لسيكارة مصنوعة من البلاستيك صلبة، باردة ، و جافة ، أن تحل محل الجسد الأبيض الناعم الرقيق المحشو بتبغ بلون الذهب ! و كيف يمكن للمرء أن يبدل فلتر السيكارة القطني الطري الذي يرتخي تحت ضغط الشفتين حتى لتكاد تسمع نفس السيكارة الحار و هي تتأوه ، بشيء يشبه عظمة يابسة في فم كلب ! ارتبك قليلا ، ثم سألني : و هل جربتها ؟! فسألته : من تقصد السيكارة الإلكترونية أم اللعبة البلاستيكية ! بدا عليه الحرج ، ثم أجاب على الفور: لا ،لا طبعا ، هذه أمور خاصة لا يحق لي السؤال عنها ، أقصد السيكارة الإلكترونية ! ابتسمت و قلت :لا ، ثم أضفت : وصلت إلى العمر الذي يعفيني من تجريب كل شيء لأعرف ، و إلا أين حدسي ! هز برأسه و قال :أفهم ذلك ، ثم تابع : أفهم من هذا بأن علاقتك مع السيكارة هي غرام مستعد لأن تفقد حياتك من أجله ! فأجبته : نعم ، و كانت أقوى نعم لفظتها في حياتي ! حدّق بي لبعض الوقت و قال : غريب ! فقلت : و أين الغرابة يا دكتور، فقال : أن يحب المرء شيئا يقتله . و هل هناك حب حقيقي لا يقتل ! قلت له ثم أضفت :عندنا في الشرق يقول المثل "و من الحب ما قتل" ، و في الغرب مات روميو وجولييت بسبب الحب . أنا روميو و السيكارة جولييت . هز رأسه ، و خالجني شعور بأنه كان يشعر بالأسى على الأحمق الذي كان يقف أمامه ، و بدوري هززت رأسي ، و لا أعرف إن كان قد حدس بأنني كنت أشعر بالأسى على ضيق خياله . ليس الإدمان على النيكوتين ( الذي يمكن الحصول عليه من دون تدخين )، و لا إثبات الرجولة التي تدفع المراهقين إلى التدخين ( فقد قاربت عمر الستين ) هما ما يدفعانني إلى الإستمرار في صحبة السيكارة ، الوله يكمن في الدخان الذي يرافق التدخين . فمنذ طفولتي فتنتني السحب البيضاء التي تخرج من أفواه المدخنين في بيت جدي العتيق ، و لطالما انتظرت أيام الجمع لتأخذني أمي ، التي كانت مولعة بالنذور، و ما تزال ،إلى المزارات القريبة من ضيعتنا،لا لشيء، سوى لمراقبة الدخان المتصاعد من المباخر حيث كنت أقترب منها فاتحا فمي و محاولا دون جدوى جعل فتحتي أنفي الصغير أكثر اتساعا لاستنشاق أكبر قدر ممكن من الدخان ، لأعود و أنفثه مرة أخرى في غفلة عن المؤمنين المطأطئي الرؤوس في المزار شبه المعتم ، حيث لم يكن يُسمع فيه سوى طقطقة مسبحة الشيخ و تمتمات صلاته ، و لم أكد أبلغ العاشرة حتى صار الركض وراء السيارات التي تعمل على المازوت إحدى هواياتي المفضلة ، ولطالما شعرت بالحزن و أنا أراقب استبدالها المتدرج بالسيارات التي تعمل على البنزين ، و ما أن بلغت الثالثة عشرة حتى بدأت بتدخين ما يخلفه الضيوف في المنافض ، و كم حنقت على الضيوف الذين لا يدخنون . و إذا كان هناك من شيء شدني إلى قراءة ألف ليلة و ليلة فهو قصة علاء الدين و الفانوس السحري الذي ما إن يُمْسَح عليه حتى يتصاعد الدخان لينجلي عن الجني الذي ينفذ ما يُطْلب منه . و في دروس التاريخ ، كنت من المعجبين بنيرون الذي أحرق روما ، صحيح أنه كان عازفا فاشلا ، لكني لا أشك بأن أفضل معزوفة عزفها هي تلك التي أوحى له بها الدخان المتصاعد من المدينة ، كانت روما عظيمة لكن يبقى الفن أعظم ، و لا يوجد فن من دون تضحيات أو ضحايا ! أما في دروس الديانة ، فطالما تعجبت كيف لم يخطر على بال الله أن يعد المؤمنين بجنات لا تكاد تنتهي فيها سيكارة المؤمن حتى يبدلها الله له بواحدة أحسن منها ، يشعلها له غلمان من نور في أيديهم قدَّاحات من بلّور ، لتنتهي الآية " و كذلك نجْزِي المتقين " ، و كم حلمت بدفش الأيام إلى الأمام لأُسَرِّع الزمن و أبلغ سن الثامنة عشر من أجل أن أستطيع التدخين وقتما و أينما أشاء ، و ها أنا الآن في الثامنة و الخمسين أعاني من غبش الذكريات الغارقة في الدخان الذي خلفته ورائي و بالكاد أستطيع تبينها، نعم ، لقد خلّفت ورائي من الدخان أكثر مما كان من الممكن أن تخلّفه باخرة تعمل على الفحم الحجري بعد قطعها للمحيط الأطلسي في القرن التاسع عشر . و لأن لا شيء من دون ثمن ، فقد أتى اليوم الذي كان علي أن أقف فيه أمام الطبيب الأنيق الذي قال لي بتهذيب شديد بأنني الآن أمام مفترق وجودي يتطلب قرارا حاسما ؛ إما ترك السيكارة أو ...... ! ، نظرت إليه ، و لم أتردد في القول بأني ارتكبت الكثير من الموبقات في حياتي ، لكن هناك موبقة واحدة لم و لن أرتكبها ، و ما هي ؟، سألني ، فقلت الخيانة ، استغرب وقال : عن أي خيانة تتحدث !؟ فقلت :خيانة السيكارة ، ابتسم و قال : إذا تفضل الموت على تركها ، فأجبته نعم ، تأملني لبعض الوقت و قال : لماذا لا تجرب السيكارة الإلكترونية ، فقلت : لن يكون حال تدخين السيكارة الإلكترونية أفضل حالا من ممارسة الجنس مع لعبة جنسية من البلاستيك ، هناك شيء اسمه الحميمية يا دكتور ، وهذا شيء لا توفره السيكارة الإلكترونية ، فكيف لسيكارة مصنوعة من البلاستيك صلبة، باردة ، و جافة ، أن تحل محل الجسد الأبيض الناعم الرقيق المحشو بتبغ بلون الذهب ! و كيف يمكن للمرء أن يبدل فلتر السيكارة القطني الطري الذي يرتخي تحت ضغط الشفتين حتى لتكاد تسمع نفس السيكارة الحار و هي تتأوه ، بشيء يشبه عظمة يابسة في فم كلب ! ارتبك قليلا ، ثم سألني : و هل جربتها ؟! فسألته : من تقصد السيكارة الإلكترونية أم اللعبة البلاستيكية ! بدا عليه الحرج ، ثم أجاب على الفور: لا ،لا طبعا ، هذه أمور خاصة لا يحق لي السؤال عنها ، أقصد السيكارة الإلكترونية ! ابتسمت و قلت :لا ، ثم أضفت : وصلت إلى العمر الذي يعفيني من تجريب كل شيء لأعرف ، و إلا أين حدسي ! هز برأسه و قال :أفهم ذلك ، ثم تابع : أفهم من هذا بأن علاقتك مع السيكارة هي غرام مستعد لأن تفقد حياتك من أجله ! فأجبته : نعم ، و كانت أقوى نعم لفظتها في حياتي ! حدّق بي لبعض الوقت و قال : غريب ! فقلت : و أين الغرابة يا دكتور، فقال : أن يحب المرء شيئا يقتله . و هل هناك حب حقيقي لا يقتل ! قلت له ثم أضفت :عندنا في الشرق يقول المثل "و من الحب ما قتل" ، و في الغرب مات روميو وجولييت بسبب الحب . أنا روميو و السيكارة جولييت . هز رأسه بحسرة ، و خالجني شعور بأنه كان يشعر بالأسى على الأحمق الذي كان يقف أمامه ، و بدوري هززت رأسي ، و لا أعرف إن كان قد حدس بأنني كنت أشعر بالأسى على ضيق خياله .
#ملهم_جديد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بدل ضائع
-
ندامة الأرمني
-
رجل حر ، لكن! / قصة قصيرة
-
صديقي الفأر
-
الفك
-
رجل حر ، و لكن ! / قصة قصيرة
-
هل يستحق المجد الأدبي عناء السعي إليه / ترجمة ملهم جديد عن م
...
-
صديقي الأميريكي
-
دور النخب الثقافية و السياسية في الأزمة السورية وفي صياغة أس
...
-
دور النظام السياسي الحاكم في الأزمة السورية
-
الصغيرة و الحرب
-
وداعاً يا قرطاج/ قصة قصيرة
-
في مكتب السيد الرئيس / قصة قصيرة
-
قصة قصيرة
-
حكاية ليست للروي / قصة قصيرة
-
على الجبهه الشمالية
-
على باب السيد الرئيس / قصة قصيرة جدا
-
الحبل
-
الرأس المقطوع
-
الشرق
المزيد.....
-
مترجمة وكاملة.. المؤسس عثمان الحلقة 164 بجودة HD على قناة ال
...
-
-موسم طانطان- في المغرب يحتفي بتقاليد الرُّحل وثقافة الصحراء
...
-
“احداث قوية” مسلسل قيامة عثمان الحلقة 164 عبر قناة Atv الترك
...
-
ناقد مغربي يدعو إلى تفعيل -سينما المقاومة- ويتوقع تغييرا في
...
-
بعد جدل الصفعة.. هكذا تفاعل مشاهير مع معجبين اقتحموا المسرح
...
-
-إلى القضاء-.. محامي عمرو دياب يكشف عن تعرض فنان آخر للشد من
...
-
إلغاء حبس غادة والي وتأييد الغرامة في سرقة رسومات فنان روسي
...
-
اعلان 2 الأحد ح164.. المؤسس عثمان الحلقة 164 مترجمة على قصة
...
-
المجزرة المروّعة في النصيرات.. هل هي ترجمة لوعيد غالانت بالت
...
-
-قد تنقذ مسيرته بعد صفعة الأوسكار-.. -مفاجأة- في فيلم ويل سم
...
المزيد.....
-
أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة
/ ريتا عودة
-
صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس
...
/ شاهر أحمد نصر
-
حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا
/ السيد حافظ
-
غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا
...
/ مروة محمد أبواليزيد
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
المزيد.....
|