عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6563 - 2020 / 5 / 14 - 16:56
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الاختلاف القديم بين المتفقهين والعقائديين واهل الحديث ورواته حول قضية بعث الإنسان في الأخرة (هل يبعث روح أم نفس أم جسد متكامل؟) لا تنتهي وكل منهم لديه دليل وحجة من آية أو حديث أو دليل عقلي، وفي كل الأحوال لم تنتهي مسألة الجدل مع وجود الكثير من الآيات التي تفيد بحياة متكاملة فيها من الأكل والشرب والملذات وكذلك الوظائف الضرورية له التي يحتاجها الإنسان عادة ككائن جسماني، النص الديني يؤكد جهة من ذلك (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه* بلى قادرين على أن نسوى بنانه)، فالصورة هنا شبه تأكيدية ولكنها ليست حاسمة تماما، فقد تفسر على أنها من باب التحدي لمن يقول بنفي البعث، وهنا إثبات القدرة وليس امرا ضروريا أن يكون ذلك مؤكدا.
هذا الجدال ليس معنيا البحث فيه بقدر ما تم ذكره هنا لفهم بعض الآيات التي تتناول طعام اهل الجنة مثلا أو ممارساتهم فيها، والأمر لا يقتصر على أهل الجنة فقط، بل أهل النار يأكلون ويشربون حسب النصوص القرآنية (وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون)الواقعة 21،فالأكل والشرب حقيقة في النص لكلا الفريقين (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) الأعراف (50)، وبعيدا عن النظريات التقليدية وروايات الفكر الإسلامي عن ذلك نجد أن هذه النصوص كنظرية عامة تؤكد الميعاد الجسدي الكامل للإنسان بعد البعث، وأن الحياة الأخروية حياة متشابهة من حيث الكيفية لا من حيث التكوين مع حياتنا الدنيا.
لو تأملنا هذا النص مثلا وما يثيره من تساؤلات تتعلق بذلك الوضع لعلنا نصل لفكرة قد تكون قريبة منه أو دليلا نسبيا عن تلك الصورة (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعۡرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضۡحَىٰ) طه (119)، السؤال الاول إذا كان الإنسان لا يجوع فما الفائدة من لحم اطير والفاكهة الدانية قطوفها والعسل المصفى؟ أو أن عدم الجوع ناتج من توفر الأكل بشكل دائم حتى لا يجد من في الجنة فرصة ان يجوع فيها؟ أو أنهم طبيعيا تغيروا في طريقة تعاطيهم مع الطعام والشراب وأنتزعت منهم شهوة الأكل أو غريزته؟ التساؤل الثالث هنا عملية الأشتهاء التي وردت في النص السابق مجرد تصور خالص أم أنه رغبة محكومة بحاجة الإنسان لها؟ وهو ما يعبر عنه بمفهوم الجوع الذوقي؟.
بالمقابل هل نشهد مطابقة لتصرف أهل النار كما هو عند أهل الجنة ولو أن النص الذي ذكرناه قبل قليل يشهد على أنهم في جوع وعطش دائمين بدليل طلبهم من أهل الجنة أن أفيضوا علينا، هذا يدل على أن الحياة الأخروية ليست متشابهة في جزئياتها ولا في طريقة التعامل مع الإنسان فيها، وهذا يؤدي إلى تفاوت متعمد ومقصود في ذاته كجزاء من الله للناس على عملهم، فيعامل أهل الجنة بجسمانية تختلف عن ما يتعامل به أهل النار، فالبعث الجسماني والحياة الأخرة ليست بنمط واحد ولكن بالمؤكد هو تعاطي مع جسد لا تسري عليه قوانين الوجود الحياتي.
عدم الجوع والعطش عند أهل الجنة ومثال تجدد الجلود وعدم الفناء في الجحيم أمثلة لأختلاف طبيعة الجسمانية بين الحياة الدنيا وما فيها من قوانين، وبين الحياة الأخرة وما سيجري فيها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء (56)، فهل هذا يعني تبديل كاملا بالكيفية التكوينية للمادة المكونة للجسمانية البشرية؟ وبالتالي سيكون الجسد الأخروي مختلفا عن الجسد الحياتي الأصلي، طبعا من دون أن ندخل التسليمية في الموضوع التي تقول أن الله قادر على كل شيء.
أنظر مثلا للنص هنا يقول (بدلناهم جلودا غيرها) بمعنى أن هناك أحتمالية أن يكون الجلد المحترق لا يعود أصلا للجسد المدان بالجحيم بدليل أنه قال (غيرها) والغيرية هنا لا تؤكد البدلية أو إعادة تدوير الجلد ذاته كأن يقول النص أعدناها أو جددناها، فلو كان ألجلد أصيلا وأستنادا إلى قاعدة أن الله على كل شيء قدير، فكان جعل الجلد لا يحترق ولكنه يتأثر تماما وكلية بمعاناة الحرق وهو هدف التعذيب، كذلك تكوينية الجسد الذي في الجنة وميزته ألا يجوع ولا يعطش يتنافى مع الحاجة حتى يستلذ بتلبية الغريزة من خلال الأكل والشرب، فالجسد الذي لا يجوع لا يعرف لذة الشبع والجسد الذي لا يحس بالعطش لا يستلذ بالإرتواء، وكلاهما طبع المادة بتكيفها، فهل هنا عدم الجوع والعطش تكييف جديد أم أنه مجرد عدم وجود سبب للجوع والعطش مع توفر كل مستلزمات الحياة.
قد يكون هذا البحث ليس مما يشغل بال الإنسان اليوم وهو في حياة يكتنفها طغيان التأزم وأستفحال المشكلات الوجودية التي تعاني من نقص في الحلول وعجز في المواجهة، وقد يكون بحثا ترفيا لا يقدم شيئا مهما ولا يؤخر، الحقيقة مثل هذه البحوث والدراسات قليلا ما تنجح في جذب القارئ للزاوية التي يريدها الدين منا أن نجعل كل أمر محل تدبر ومحل تفكر، فكلما نجح الإنسان في تفكيك فكرة وإعادة فهمها بأكثر من طريقة منطقية سيكون من السهل عليه الإنتقال لبحث مشكلات الوجود الأكثر أهمية والأشد حاجة لها في الفهم والإدراك.
شخصيا أعتبر هذا المبحث مجرد خطوة لتحفيز العقل ونحن في ظلال شهر رمضان، خاصة وأن الكثير من الناس سيكون قريبا من كتاب الله وأقدر على القراءة المركزة والتدبر بما الشهر من روحانية تساهم في إضفاء نوع من الصفاء العقلي المطلوب، نعم ممكن للإنسان أن يقرأ في أي وقت وبأي طريقة وهذا هو الأمر الأفتراضي وإن كان عقليا أمر فرضي، لكن هذا لا يعني أننا نترك فرصة متاحة ولا يغني عن إتاحة الفرصة في أي وقت متاح للقراءة المحترفة أو القراءة الأعتيادية.
نعود لعنوان البحث عن الصورة لحياة الإنسان في الأخرة ولو بقراءة سريعة ولكنها مركزة في بيان حدودها، فكل الدلائل والحجج المستنبطة من النصوص تشير إلى صورة ذهنية تجسد واقع جسمانية المعاد الكاملة، هذا أولا دون أن تتطرق إلى أن هذه الصورة ستكون بذهنية وواقع العالم الأخر، أي أن الذوات المعادة هناك تتصرف بكامل جسمانيتها أو تتصرف من خلال ذاكرة قد تكون صورية تشبه الذاكرة الرقمية في الخلية الحية في عالمنا، المعروف أن الخلية الحية تملك كامل الخارطة التكوينية للكائن الحي بما فيها جزء الذاكرة، أو على الأقل هناك مجموعة من الخلايا تحمل هذا النمط التكويني، الأفتراض الثاني أن الصورة الذهنية المرتسمة في عقل الإنسان الراهن والمخاطب بالنص هو المستهدف من الصورة لتقريب كينوني وتكويني لعالم الأخرة وإن لم يكن هناك جزم بوجوده بذات الصورة.
في كلا الحالتين أو الأفتراضيين نجد أن تشكيل الصورة تلك وفق النص القرآني وبتقدير شخصي هو والغرض منه الحث على تمسك الإنسان بقانون الوجود الكلي، وهو الإصلاح والإيجابية والسير مع خطة الله حتى لا يتعرض إلى إنتكاسات ونكوص وإشكاليات تزيد من صعوبة مواجهة الحياة وتعقيداتها المستمرة، مع أنني لا أفترض عدمية وجود العالم الأخر ولا أنقض الصورة التي رسمها النص القرآني، لكن من دراسة ما يريده الدين منا أن نكون أكثر قدرة وقوة ومنطقية عقلية في التعامل مع وجودنا طالما أن الجميع في النهاية سيذهبون إلى نقطة مشتركة وجماعية لا فرار منها، قد تكون التحول النوعي أو التحول المكاني للمادة التي هي جوهر أي وجود.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟