عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6560 - 2020 / 5 / 10 - 18:00
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
أمركم ويأمركم وأمرنا مصطلحات جاءت كثيرا وبشكل متكرر ومحدد في العديد من النصوص القرآنية التي تعني في حقيقتها الإلزام الوجوبي القطعي، وبذلك نالت تلك الأحكام قدرتها على الفرض القوي ليس لأنها فقط حكم تشريعي من الله واجب الأتباع، لكن ما تتضمنه صيغة الإلزام هذه من قوة الأمر المقضي به، هناك أوامر وأحكام أخرى ألتزم بها المسلمون وأعتبروها من أركان الدين وقوامه وهو بالفرض لا تصل لمعنى الأمر القطعي كما في هذه النصوص (إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) (90)، فمن هذا النص يمكن تحديد ما هو واجب بأعلى درجات الإلزام (العدل، الإحسان، وإيتاء ذي القربى)، ونهى عن جملة ممارسات وأعطاها ذات الدرجة العليا من الملزومية (الفحشاء، المنكر، البغي).
هذه الأحكام الوجوبية بصيغة الأمر الملزم لو تفحصنا مدلولاتها في النصوص القرأنية المحرمة والمحللة على وجه الأمر النوعي، نجدها تحتوي كل تلك الأحكام كصور وكمصاديق، ولكن ما حرم وحلل في النصوص لا يمثل كل الأمر تماما، فالقاعدة التي يجب أن تتبع أن تكون قواعد الأمر والنهي هي الكلية وأعتبار ما جاء بصيغة التحريم جزئية منها، فمثلا لو قرأنا النص التالي (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) (115)، فتحريم هذه الأصناف الأربعة على وجه التحديد تنظم أولا تحت مفهوم (عدم الطيبة)، فالحلال هو الطيب والخبيث هو المحرم والله تعالى يقول (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) ١٠٠ المائدة، والخبيث تعريفا وفهما في القرآن الكريم هو (وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) ٥٨ الأعراف، هذا هو سر التحريم لأن ما يخرج وما ينتج من الخبيث هو النكد المؤذي للإنسان في أي مستوى منه.
إذن التحريم السابق هو من باب العدل الطبيعي الذي يجعل من الأمر الذي يحمي الإنسان في كفه والتحريم والتحليل في كفة أخرى، وأيضا من باب الإحسان للإنسان أن يبين الله له ما يوجب التمييز والأختيار بناء عليه (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)١٧٩ آل عمران، فهل فهم الإنسان معادلة الحلال والحرام بناء على هذه المقدمة، أم أنه تبنى قاعدة أخرى في ذلك (وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ) (116).
الغريب والعجيب أن المسلمون عامة ومن تصدى للفتية من الفقهاء والمتشرعين لم يجعلوا (أمر الله) في محله غالبا، فالعدل والإحسان والوفاء بالعهود وكل أمر جاء بهذه الصيغة أعتبروه من محاسن الأخلاق وليس من كليات التحريم والتحليل الوجوبي المقدم على أي حكم أخر ولا يسبقه بالإلزام، هذه ملة الأنبياء والرسل وملة الناس تختلف بشكل أو بأخر عنها (ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (123)، فملة إبراهيم في باب حلال الطعام وحرامه كان مطلق ومقصور بأسبابه الخاصة (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ)٩٣ آل عمران، فالأصل التحليل العام والمقيد له ما حرمه النبي على نفسه من باب علمه الخاص، وما حرم الله عليهم بعد ذلك إلا جزاء الظلم الذي هو من باب المنكر الذي يقود إلى الطغيان (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)١٦٠ النساء.
لقد بين الله تعالى هذا الأمر بصورة واضحة وجلية حين وصف من يستجيب لأمر الله بأنهم مفسدون وأنهم لم يراعوا حكمة الأمر بما فيه روحا وجوهرا (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)٢٧ البقرة، فليس من دين الله أن نبدل بالأحكام بناء على أعتبارات خاصة نقطع ما يوجب الوصل حتما ونقول نحن متقون أو محسنون، فالإحسان مأمور بالامتثال لأمر الله (إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ) (128)، فقد جاهد بنو إسرائيل كثيرا في محاولتهم التملص من أمر الله حتى أذعنوا ولكن بعد أن أرهقوا أنفسهم وصعبوا على أمرهم، فالتسليم والإسلام يعني أن تستجيب لأمر الله بدرجته حتى لو كنت غائبا عن العله فالله لا يأمر إلا بالعدل والإحسان (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ٦٧ البقرة.
خذ هذا المثال من نص ملزم وتقدير المسلمين له (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا)٥٨ النساء، هل أعتبر الفقهاء وأهل الفتوى أن واجب أداء الأمانات من مستلزمات الإيمان الصحيح، وبخلافة يكون عدم الألتزام بهذا الأمر من المحرمات وجوبا، الغالب منهم يعتبر تلك من موجبات المروءة ومن مكارم الأخلاق، لكنه في الوقت ذاته يحرم الخروج على السلطان الباغي والجائر بعنوان طاعة أولي الأمر (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)٩٣ البقرة، هذه المفارقة الحكمية ليست الوحيدة التي تثير الشبهات على مرتكبيها من سادات المعبد وأهل الكهنوت.
الصحيح والمنطقي والعقلاني ترتيب الإلزام الحكمي والتقيد بالإلتزام به يجب أن يبنى على قاعدة أساسية تستمد مشروعيتها من الكيف الصياغي، عندما يقول الله (يأمركم) يعني أن يعلى ويقدم على صيغة النصح والإرشاد وطلب الخير (ذلكم أزكى لكم) أو (لعلكم تتقون)، والقرآن ملئ بالأحكام المتدرجة في مدى قوة إلزاميتها حسب موضوع الأمر أو النهي، مثلا الله تعالى يقول (وأذنوا بحرب من الله ورسوله) فيما يخص الربا، هذا النص شديد القوة في الإلزام حين يكون تعاطي الربا فيه حرب من الله وليس فقط تهديد ووعيد، ولكن واقع الحال يشير إلى تساهل كبير في موضوع التعاطي مع الربا، وهناك مفاهيم مستجدة في موضوعة في محاولة منها باللعب على أصل الموضوع .
إذا لا بد للفكر الإسلامي حتى يكون متماهيا وحقيقيا وجديرا بحمل اسم الإسلام كدين أخلاقي أن يعيد ترتيب الأحكام وفقا لماهيات الأمر وجوهر الأمر، وليس التقيد بأقوال السلف ممن كان يتعمد أو بلة إدراك على تصنيف المحرمات وتقديم ما لا يلزم الإلزام بما ليس فيه موجب، الدي وأمر الله لعبة الكهنة وعبيد المعبد وباد المظاهر ومغيبي ومتغيبي العقل المنطقي، علينا الآن واجب التفريق المنطقي بما هو صحيح ومؤكد والأبتعاد على الأحكام الضنية والأحتمالية وأعادة الأعتبار للفظ القرآني وفق نسقية منطقية مقوننة بقانون عام ومجرد ومتكامل.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟