|
المثقف / الحزب / السلطة
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 6552 - 2020 / 5 / 2 - 17:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لن يكون هدفنا في هذه الدراسة ان نتطرق الى الموضوع من وجهة نظر أكاديمية ، ونظرية قائمة على التجريد ، ولكن محاولة معالجة ذلك فقط ، انطلاقا من وقائع وممارسات نعايشها يوميا على ارض الواقع . فمع الحالة المأساوية التي وصلت اليها جميع الأحزاب المرخص لها من قبل وزارة الداخلية ، بحيث لم تعد تمثل شيئا مما يسمى بالمجتمع الذي سيطرت عليه القوة الأولى التي هي القصر ، وقد تجنبنا استعمال كلمة نظام ، لان جميع الأحزاب هي جزء من النظام لا خارجه ، ونظرا للاستعدادات التي يحضر لها لترتيب الوضع بالانتخاب / المسرحية التشريعية القادمة ، للمزيد من رسم وبلقنة الخريطة، للتحكم وضبط المجتمع المهدد بالانفلات الذي قد يؤدي الى الفتن الكبرى ، حتى طرحنا على نفسنا سؤالا ، عن دور المثقف في المشهد السياسي الباهت ، الذي تستعمل فيه الحزبوية للمزيد من التجميد ، للمزيد من تفقير المفقرين ، وللمزيد اثراء الثريين . وبما ان دينامو السياسة الذي يؤثث للمشهد الحزبي ، يبقى هم المثقفون ، سواء بانضمامهم للأحزاب كمدافعين عن مشروع ، او تصرفهم كمستقلين يدافعون عن مبادئ ، وقيم تشبعوا فيها في وقت من الأوقات ، فان المثقفين الذين لعبوا ادوارا في الماضي ، تحولوا اليوم الى زمّارين ، وطبالين ، ومصفقين وراقصين ، اصبح دورهم في الأحزاب التي هي جزء من النظام ، تابعا للنظام لا ضده . وبما ان المثقف قضية ، فانه بانتهاء القضية ، وتطليق المثقف لتلك القضية ، يكون قد تحول دوره من مثقف عضوي ، الى شَبهِ مثقف ، او مًثيْقفْ متخصص في المدح لأولياء نعمته ، الذين يطعمونه من مأكول ، ومن فتاة الموائد المحضرة بأموال الشعب ، ليس الفقير بل الشعب المُفقر . طبعا وفي هذه العجالة ، فليس من الضروري ان نذكر بجل اللحظات السياسية العميقة التي هزت النظام ، وكان يقف وراءها في الحقيقة المثقفون ، ولو ان بعضهم كان يقف من بعيد ، حيث كان لهم الفضل والاسبقية ، بما يملكون من حساسية تاريخية ، في التقاط الإشارة الأولى لهذه اللحظات ، واستشعار قبل أي كان ، لنوعية التحولات التي كانت تلوح في الأفق . لكن قبل الغوص في تحليل هذه الوظيفة الافتراضية للمثقف ، وظيفة استشراف تطورات المستقبل ، علينا ان نحدد أولا ، ماذا نقصد بالمثقف الذي ليس هو مثقف الستينات ، والسبعينات ، وحتى النصف الأول من الثمانينات . ان التعريفات في هذا المجال متنوعة ، ومتباينة فيما بينها ، فهل نأخذ بالتعريف الأكثر تعميما ، وندخل ضمن خانة المثقفين ، كل من امتلك رصيدا من التعليم في أي مجال كان ، وبالتالي يصبح المثقف هو كل شخص متعلم ، ام نأخذ بالتعريف الأكثر تخصيصا ، بحيث لا ندرج ضمن هذه الخانة ، سوى تلك الفئة القليلة من الافراد الذين ينتجون أفكارا جديدة ، وينشرون ابحاثا خاصة بهم ؟ وحتى في هذه الحالة الأخيرة ، فضمن أي مجال يمكن ان نحصر المثقف ؟ فهل الذي يبدع في مجال الفن والادب ؟ او في مجال العلوم الإنسانية ، مثله مثل من يبرز في مجال العلوم الطبيعية والتقنية ؟ بمعنى اخر ، فمَنْ مِنْ بين هؤلاء يمكن ان نعتبره مثقفا : الشاعر ، او الأستاذ ، او عالم الاجتماع ، او المهندس ، او الطبيب ، او مسير المقاولات ، او رجل السياسة ...لخ ؟ اذن من الصعب ان نحسم في هذه الأسئلة ، ونحدد بدقة من هو المثقف . لكن رغم الصعوبة ، يمكن لنا ان نقترح تعريفا يحدد الفئة التي نريد ان نتكلم عنها في هذه العجالة . وبناء عليه يصبح المثقف هو صاحب قضية ، وهو من ينتج الأفكار المؤثرة في المجتمع ، بغض النظر عن تخصصه ، ففرق بين من ينتج الأفكار وبين من يستهلكها ، أي فرق بين المنتج وبين القارئ . بعد هذا التحديد ، يمكن ان ننظر الى العلاقة التي تجمع المثقف المرتبط بالمجتمع ، بكل من السلطة السياسية ممثلة في جهاز الدولة ، وبالاحزاب السياسية . فنلاحظ منذ الوهلة الأولى انّ من اعتبرناهم مثقفين يُصنّفون على أساس هذه العلاقة الثلاثية ، الى فئات أساسية : --- الفئة الأولى : وهي السابقة من الناحية التاريخية الى الوجود ، وهي التي تنتمي او تتعاطف مع الأحزاب السياسية ، والوطنية ، او التيارات المعارضة ، وهنا المقصود بالأحزاب السياسية ، ليس أحزاب اليوم . --- الفئة الثانية : وهي التي اندمجت داخل أجهزة الدولة المختلفة ، ليس فقط عبر رابطة التوظيف ، لان هذا النوع من الارتباط قد يهم حتى بعض العناصر داخل الفئة الأولى ، كأساتذة التعليم العالي مثلا ، ولكن بالخصوص عبر القيام بوظيفة اجتماعية ، او أيديولوجية لصالح ( وانطلاقا من وجهة نظر ) المتحكمين في جهاز الدولة . --- الفئة الثالثة : هي التي اختارت الابتعاد عن الميدان السياسي المباشر ، وفضلت ان تغلق على نفسها في مجال اختصاصها الاكاديمي ، وذلك لاعتبارات متعددة ، منها ما يرجع كما سنرى الى الدولة القامعة ، ومنها ما يرجع الى ممارسات الأحزاب الوطنية نفسها . ان المثقف باعتبار الحساسية الخاصة التي يمتلكها ، فكرية كانت او أيديولوجية ، يكون دائما بمثابة ضمير المجتمع ، والمعبر عن الخلجات العميقة التي يمكن ان تحرك هذا الأخير . لذلك نجده دائما يستبق الاحداث التاريخية ، وينطق بلسان المستقبل ، في الوقت الذي تكون فيه الأغلبية من مواطنيه ، لا تزال متشبثة بكل ما هو ماضٍ ومتعارف عليه بين الناس . أي ان المثقف في بداية نشاطه بالخصوص ، من طبعه ان يكون تقدميا ومتجاوزا لزمانه ، وبالتالي داعية لهدم الماضي وللتجديد . فلا غرابة اذن ان تكون اول دفعة من مثقفينا العصريين في السنوات الأولى من الاستعمار ، هي التي التقطت إشارة المستقبل ، ووضعت بذلك الأرضية لقيام الحركة الوطنية ، واستعادة الاستقلال الوطني .. ولا غرابة أيضا ان يميل جل المثقفين من الجيل الثاني لصالح المغربة الاجتماعية ، بعد ان حسمت المعركة الوطنية ، وينحازون خلال الستينات ، الى جانب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، الذي جعل من هذه المعركة شعاره المركزي . وفي مرحلة السبعينات ، شاهدنا كيف ان المسالة الأيديولوجية ، جذبت اليها كثيرا من المثقفين الجدد ، الذين وجدوا في الماركسية مبتغاهم على هذا المستوى . وحاليا نشاهد كيف ان المسالة الثقافية تتجاذب الجيل الجديد من المثقفين ، وتدفع بهم الى التصنيف في اتجاهين معاكسين : اتجاه اصولي ، واتجاه ديمقراطي حداثي . ان لكل مرحلة مؤشراتها ، وتصوراتها الخاصة عن المستقبل ، تتحدد من خلال معطيات موضوعية ، وذاتية ، لا مجال للغوص فيها هنا . وحين يلتقط المثقف الشاب والجديد هذه الإشارات عن المستقبل ، فانه ينخرط بالضرورة في العمل السياسي ، ويعمل على تحويل قناعاته الى ممارسة فعلية ، ويصبح بالتالي مثقفا ومناضلا سياسيا في نفس الوقت ، أي انه ينتمي الى الفئة الأولى من المثقفين . لكن حين يكون هناك تفاوت بين زمن التقاط الإشارات المستقبلية من طرف المثقف ، وبين واقع العمل السياسي الموجود في البلاد ، مع العلم ان للعمل السياسي منطقه الخاص ، تتحكم فيه الى جانب ما هو موضوعي ، الذوات ، والمعطيات التاريخية الأخرى، فان كثيرا من المشاكل تحدث بهذه المناسبة ، كأن تكون هناك محاولة لتجاوز إطارات العمل السياسي الموجودة ، تتكلل بالفشل ، وبالإحباط لأصحابها ، كما حدث مع تجربة الماركسيين سابقا ، او يتم تهميش المثقف ومحاصرته ، فيكون مدفوعا في هذه الحالة الى الانعزال ، والتقوقع على ذاته ، وامّا الارتماء في أحضان اول قادم ، وخصوصا اذا كان العرض مغريا . ان المثقف هو بطبيعة الحال مواطن كالأخرين ، له طموحاته الشخصية ، وحاجياته المادية والمعنوية ، فهو إنْ استطاع تحقيق الاشباع المادي ، أي تلبية حاجياته المادية والمعنوية ، أي احترام اصداراته ، وانتاجه الفكري ، فذلك هو اقصى ما يمكن ان ينتظره ، لكن إذا ما اخفق على المستوى الثاني ، ولم يعترف له بأهمية ما ينتجه ، سواء كان ذلك لأنه جاء بعد فوات الوقت ، او قبل وقته ، او لانّ ما يقترحه لا يستحق الاهتمام بالفعل ، فانه سيضطر على الأقل الى التشبث بالمطالب الأول ، أي محاولة تلبية حاجياته المادية بكل الطرق الممكنة ، وان اقتضى ذلك التخلي عن قناعاته ، والعمل ربما ضدها ، والقليلون جدا هم المثقفون الذين يستطيعون الصمود ، وتجاوز الحصار المضروب عليهم ، وذلك امّا بالتضحية بالجانب المادي لصالح القناعة الفكرية ، وهو الاستثناء ، او البحث عن سبل أخرى ملتوية لتصريف قناعاتهم ، ولو باللعب على حبال متعددة في نفس الوقت . وهنا نستحضر نموذجين من المثقفين على سبيل المثال لا الحصر ، لم يأتيا في وقتهما ، وقد تعرضا للتهميش من المجال السياسي ، او انهما اختارا ذلك طواعية . الأول هو مختار السوسي الذي وصل ربما متأخرا الى جامع القرويين بفاس في أواخر العشرينات ، حيث وجد الفكر السلفي المناهض للطرقية في اوجهه ، وهو ابن الزاوية ووريث سرها ، فاضطر مبكرا الى اعتزال العمل السياسي ، رغم التقاءه الفكري مع منظري الحركة الوطنية ، والاكتفاء بالتدريس والتأليف . والثاني هو عبدالله العروي الذي تقدم بأطروحة تحديثية متقدمة على عصرها ، لم تجد لذا سياسي عصره ما يكفي من الاستجابة ، فاضطر الى البحث عن صيغ أخرى لتصريف قناعاته ، ومن ذلك ان يتقرب من السلطة ، وان يحاول لعب دور مكيافيلي المغرب ، مع العلم ان هذا الأخير كان قد ساهم كما هو معروف في تنوير الفكر السياسي في الغرب ، عن طريق النصائح البراغماتية التي كان يقدمها للأمير . اننا اذا انطلقنا من واقع العمل السياسي في البلاد ، وتتبعنا اطواره ، فإننا سنعرف ربما لماذا انقلبت حالة المثقفين حاليا ، واضطرار جزء كبير منهم للانتقال من الفئة الأولى التي كانت سائدة خلال مرحلة الستينات ، واواخر السبعينات ، الى الفئة الثانية ، والثالثة خاصة في السنوات الأخيرة . ان هذا الواقع كان يتميز في البداية بهيمنة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، وتجاوب اغلب المثقفين مع اطروحاته ، باعتبار انه كان حديث العهد بالتأسيس ، ومنفتحا اكثر من غيره على المستقبل . لكن بعد اصطدام طموح المثقفين الجدد ، ببعض قوى الماضي المتغلغلة داخل الحزب نفسه ، والعصية على التجاوز ، اختار طرف منهم تجاوز الاطار نفسه ، وخلق حركة لليسار الجديد لتصريف قناعاتهم الأيديولوجية ، في الوقت الذي فضل طرف اخر العمل من داخل الحزب لتغييره من الداخل . والخلاصة فالمثقف قضية ، وما دامت القضية حية ، فالمثقف سيكون مثقفا ينتج ، ويبدع ، ولا يتوقف ، وهذه كانت حالة مثقفي الستينات والسبعينات الذين لا يزال البعض منهم يواصل على نفس الدرب ، كما ان المثقف هو من ينتج الأفكار التي تؤثر في المجتمع ، وترتبط بالهموم ، وبالمشاكل المختلفة ، والمتنوعة ، وهو بذلك ، ومن مبادئه ، ومن قناعاته الصلبة ، لا يستسلم ، ولا يخضع ، لأنه مستقبلي لا ماضوي ، مجدد ومتجدد ، وليس متحجر ، وهو الوحيد الذي يملك القوة ، والشجاعة للوقوف في وجه الحاكم الطاغية ، والمستبد ، وهو الوحيد من يملك الشجاعة ليقول للحاكم لا ، لذلك فان كل المحاكمات السياسية التي شهدها المغرب ، كانت محاكمات للثقافة ، ومحاكمة للمثقفين ..
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اَلْمَغَرْبي دِيمَ فِينْ مَا مْشَ مَغْبُونْ وْ مَحْگورْ / مَ
...
-
حركة - صحراويون من اجل السلام -
-
الشيخ عبدالكريم مطيع اللاّجئ السياسي ببريطانيا العظمى
-
الديمقراطيات التحتية الشعْبوية خطرٌ على الانظمة الديمقراطية
...
-
مجلس الامن واجتماع الاحاطة حول نزاع الصحراء الغربية
-
الشبيبة المغربية صانعة الحدث في الماضي
-
ياسر العبادي
-
العفو الملكي
-
الاسلام السياسي
-
البربر
-
جايْحت كرونا ونزاع الصحراء
-
ماذا بعد كورونا / فيروس
-
منذ متى كان قرار وزير الداخلية قرارا ملكيا صرفا ؟
-
جايْحتْ كورونا
-
الأمين العام للأمم المتحدة ونزاع الصحراء
-
تفكيك وتحليل الدولة المغربية
-
المرأة والجنس في المجتمع الرأسمالي
-
حرب الراية
-
أمريكا / حماقة
-
جبهة البوليساريو تتمتع بتمثيلية قانونية بسويسرا
المزيد.....
-
-الملك استل سيفه-.. تفاعل على لقطة للعاهل الأردني بـ-اليوبيل
...
-
-لم أشهد مثل هذا من قبل-.. أحد سكان النصيرات يروي ما رآه الس
...
-
هل تود زيارة مطار فوستوتشني الفضائي؟.. RT قادرة على تحقيق رغ
...
-
ساليفان: قد لا نتمكن أبدا من تحديد عدد القتلى الفلسطينيين خل
...
-
بلينكن يبدأ جولة في الشرق الأوسط لدفع مشروع مقترح الهدنة في
...
-
انتخابات الاتحاد الأوروبي: تعرف على أبرز الفائزين والخاسرين
...
-
واشنطن تدعو مجلس الأمن إلى التصويت على مشروع قرار يدعم مقترح
...
-
مراسلتنا: صافرات الإنذار تدوي في مدينة عكا (فيديوهات)
-
-أم سيتي-.. والعلاقة المحرمة بوالد رمسيس الثاني!
-
وفد من -طالبان- يصل إلى قازان بروسيا للمشاركة في أعمال منتدى
...
المزيد.....
-
هواجس ثقافية 188
/ آرام كربيت
-
قبو الثلاثين
/ السماح عبد الله
-
والتر رودني: السلطة للشعب لا للديكتاتور
/ وليد الخشاب
-
ورقات من دفاتر ناظم العربي - الكتاب الأول
/ بشير الحامدي
-
ورقات من دفترناظم العربي - الكتاب الأول
/ بشير الحامدي
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|